من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣)

___________________

٧٢ [ردف] : دنا.

٢٢١

تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

هدى من الآيات :

في هذه الآيات نجد خلاصة للعبر التي استوحيناها من قصص السورة ، وهي التذكرة بالحق ، ففي القسم الأوّل يذكّرنا الله بنفسه ، بينما يذكّرنا في القسم الآخر بيوم القيامة ، ولكي نعرف الحقائق لا يكفي أن نثير عقولنا فقط ، بل يجب أيضا استثارة الوجدان ، لأنّ العقل يحجب أحيانا بالغفلة والعناد ، أمّا حين يهتّز الوجدان فإنّ الحجب تتساقط عنه ، ويعود الإنسان الى ربّه ، من هنا كان علينا عند تلاوة آيات الذكر الحكيم أن نتفاعل معها نفسيّا لكي نصل إلى معرفة الله حقّا ، وفي ذات الوقت يجب أن نعرض كلّ ذلك على العقل ، إذ من الخطأ تصديق أيّ فكرة دون عرضها على العقل ، ذلك أنّ الذي يستسلم دون العودة للعقل قد يستسلم للباطل ، وهكذا يجب على الإنسان أن يستثير عقله ووجدانه عند كل قضيّة حتى يتعرّف على الحق أو الباطل فيها ، والمقصود بالوجدان تلك الجوانب الخيّرة من نفس الإنسان فهو ـ مثلا ـ يحبّ من أحسن اليه ، ويخشى من هو عظيم ، والذي بيده

٢٢٢

نفعه وضره ، فعند ما نعبد الله فلأننا نجد فيه مصدر العظمة والقوة ، وإنّه حسبنا الذي نأنس إليه ، وفي الوقت ذاته يجب أن نخشاه لأنّه شديد العقاب والانتقام ، ويمكن أن يصل إلينا من عنده عذاب عظيم.

وإنّ من طبيعة الإنسان إبعاد الحقائق الكبرى عن ذهنه ، فكما أنه لا يستطيع التركيز بنظره ولفترة طويلة في قرص الشمس كذلك لا يستطيع أن يركّز فكره وعقله في الحقائق الكبرى كالتفكير في الله أو الموت أو القيامة ، وعند ما يجلس الإنسان في مجالس الذكر فيستمع إلى هذه الحقائق أو يقرأ كتابا يذكّره بها فإنّه يخشع قلبه ، ويتذكّر القيامة ، ولكنّه لا يبقى على هذا الحال طويلا ، فبعد فترة تجده وقد أنساه الشيطان تلك الحقائق وعاد إلى الغفلة مرة أخرى ، وهكذا يبقى الإنسان في جدل مع نفسه ، فتارة يتذكر الحقيقة وتارة يبتعد عنها ، ولذلك سمّي مكان الصلاة محرابا (بينما المحراب هو موقع الحرب) لأنّه يبقى في صراع باطن مع الأهواء والشيطان ، ويشبه في مسيره إلى معرفة الله الطائرة حين تحلّق في السماء ، فبمجرد أن تعطب المحركات تهبط وربما تتحطم ، وهكذا يسقط البشر في وحل الرذيلة والشقاء حين يغفل عن الله والحق.

والآخرة باعتبارها مستقبلا وليس حاضرا ، ولكونها مرحلة أخرى من حياة الإنسان ، فإنّ علمه يصطدم بجدارها ، كما يجتمع الماء خلف السد ، وهكذا يتجمع علم البشر خلف هذا الجدار فيدرك الواحد الآخر ، ولأنّ أمامه حواجز من الشك والجحود والكفر بالآخرة فإنّ علمه يتوقّف عند حدود الدنيا ، أما المؤمن فإنّ علمه ينفذ من الدنيا إلى الآخرة ، ولعلّنا نفهم حواجز الوصول إلى الحقائق من خلال التدبر في نهايات الآيات ، يقول تعالى في الآية (٦٠) : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) وفي الآية (٦١) : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وفي الآية (٦٢) : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) وفي الآية (٦٤) : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وفي الآية (٦٦) : (بَلِ ادَّارَكَ

٢٢٣

عِلْمُهُمْ) فأولى مصيباتهم أنهم يعدلون بغيره ، وتختلط عندهم مقاييس الحق والباطل ، بالرغم من أنّ أعظم صفات العقل تمييز الحق عن الباطل ، والخير عن الشر ، والنفع عن الضرر ، أما المصيبة الثانية : الجهل وعدم العلم ، وجهلهم آت من غفلتهم ، وعدم تذكرهم ذلك ، والطريق إلى العلم هو التذكّر ، والإنسان إمّا يحصل عليه عن طريق الآخرين وإمّا عن طريق التجارب ، والذي لا يتذكر لا يستطيع الحصول على العلم لا من الآخرين ولا عبر التجارب ، ثم يطالبنا القرآن الكريم بالبرهان ، ومن لا يملك البرهان لا يتمكّن أن يقول شيئا ، وأخيرا يبيّن لنا أنّ علمهم قد توقّف عند حدود الدنيا.

بينات من الآيات :

[٦٥] لو عاد الإنسان إلى وجدانه لرفض الخضوع للأنداد. ومن أبرز ما يخشاه البشر المستقبل وما يخبّئه له من مفاجئات قد لا تكون سارة.

ومن الذي يعلم الغيب إلّا الله ، وهل يقدر أحد أن يتحكّم في المستقبل إلّا الله؟!

فهل كان كارتر يعلم بأنّ زوبعة سوف تدمّر طائراته في طبس ، وهل المخابرات تعلم أنّ مركبة الفضاء (تشالنجر) سوف تتحطم بعد لحظات من إطلاقها؟! لو كانوا يعلمون لما أقدموا على كل ذلك.

وكلمة أخيرة :

إنّ علم الغيب ليس كلّ ما يعلم الإنسان عن المستقبل ، بل معرفة الأشياء بصورة ذاتية ، فقد ذكر الامام أمير المؤمنين أنباء عن المستقبل ، فزعم البعض أنّه علم الغيب ، فأوضح لهم الفارق بين علم الغيب ومعرفة حوادث المستقبل ، فقال متحدّثا

٢٢٤

لرجل كلبيّ زعم ذلك :

«يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدّده الله سبحانه بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ... الآية فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون للنار حطبا ، وفي الجنان للنبيين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي أن يعيه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي» (١)

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)

إنّ هؤلاء لا يشعرون حتى مجرّد شعور متى يكون بعثهم.

[٦٦] (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ)

لقد توقف علمهم وانتهى عند حدود الدنيا لنظرتهم المادية ، وكفرهم بالله تعالى ، والمؤمن يسأل الله أن يتجاوز علمه وإدراكه الدنيا إلى الآخرة ، ففي الدعاء :

«ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا» (٢)

ولا ريب أنّ الذي يفكّر في الدنيا فقط فإنّ مصيبته ستكون في دينه.

__________________

(١) نهج البلاغة / خ (١٢٨) / ص (١٨٦).

(٢) مفاتيح الجنان / في أعمال ليلة النصف من شعبان.

٢٢٥

والسبب من اقتصار علمهم على الدنيا هو شكّهم في الآخرة.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها)

بل أكثر من ذلك :

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)

فلا يذكرون الآخرة ، كالأعمى الذي لا يعرف النور ولا اللون. ويبدو أنّ في السياق تدرجا في مراحل جهلهم ، فقد توقّف علمهم فلا يعرفون أيّ شيء من شؤون الآخرة ، وهذا وحده سبب كاف لنبذهم من قبل اتباعهم ، ثم بيّن ربّنا أنهم أساسا يشكّون في الآخرة ، فكيف ينفعون أحدا في دار يشكّون في وجودها ، ثم بيّن أنّهم فقدوا ما كان يمكنهم معرفة الآخرة به وهو عين البصيرة ، ومن لا يملك جهازا للإدراك فهل يتصدّر إدراكه لشيء.

[٦٧] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ)

إنّهم يشكون في البعث والجزاء لجهلهم بالله وقدرته ، وأيضا لجهلهم بالخلق.

[٦٨] (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

والأساطير هي الخرافات التي تشيع داخل المجتمع ، ولا واقع لها. ولو أنّ هؤلاء تعمّقوا قليلا لعرفوا أنّ الحكمة تقف وراء كلّ شيء في هذه الحياة ، ثم لعرفوا من خلال ذلك حقيقة المسؤولية ، وأنّ هناك دارا للجزاء هي الآخرة ، ولعل هذه الآية تفسر الآية السابقة وتبيّن أنّ سبب عمه هؤلاء الأنداد ، ومن يشرك بهم من الجاهلين هو استبعادهم البعث وزعمهم بأنّه لا يكون ، لأنّهم لا يعرفون كيف يمكن أن

٢٢٦

يكون ، وهل يجوز أن تنكر وجود شيء لمجرد أنّك لا تعرف كيف وجد ، وما هي عوامل وجوده أو تفاصيله؟!

[٦٩] (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)

وماذا نشاهد حينما نسير في الأرض وننظر إلى التاريخ؟

إنّنا نشاهد آثار تلك الحضارات التي بادت بسبب انحراف أهلها ، ورفضهم لرسالات الله ، وبالتالي نشاهد آثار الجزاء الدنيوي الذي يدلنّا على الجزاء في الآخرة.

[٧٠] وأنت الذي تؤمن بالآخرة لا تحزن عند ما ترى العاقبة التي حلّت بالمجرمين ، ولا تفكّر فيهم :

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)

ولا تغتّم على المجرمين الذين ينتظرهم نفس المصير.

ولا تخش مكرهم ، لأنّ مكرهم عند الله ، وفي إطار سلطانه سبحانه ، وأنّ الذين سبقوهم كانوا أمكر منهم ، فلم يغنهم مكرهم شيئا حين قضى الله بتدميرهم.

(وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)

ويوحي التعبير القرآني بأن علينا ألّا نأبه أبدا بمكرهم ، بل حتى لا يؤثر خوف مكرهم في خططنا الرامية لتبليغ الرسالة.

[٧١] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

٢٢٧

دليل هؤلاء على عدم وجود الآخرة أنّها قد تأخّرت ، ولكن هل إنّ عدم وقوع شيء بالأمس أو اليوم دليل على أنّه لن يقع في المستقبل؟

[٧٢] (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)

إنّكم تستبعدون يوم الجزاء ، ولكن ما يدريكم ربما يحلّ بكم قريبا ، وكلمة «ردف» تدلّ على القرب ، إذ ليس ثمّة مسافة بين المترادفين على دابّة واحدة ، ثم إنّ العذاب الأشد هو عذاب القيامة ، ومن الغباء استعجال مثل هذا العذاب!

[٧٣] وتسأل : لماذا يؤخر الله العذاب؟

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)

إنّ التأخير تفضّل من الله ، ولكنّ الناس لا يستفيدون من هذه الفرصة بالتوبة ، بل لا يزالون يزدادون كفرا على كفر حتى يحلّ بهم الأجل ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

٢٢٨

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)

٢٢٩

وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ

هدى من الآيات :

في إطار بيان خصائص الوحي الإلهي ، وبعد التذكرة بالله الذي أوحى بالكتاب ، وإنّه لا يعلم الغيب في الخليقة سواه .. يذكّرنا ربّنا بأنّه سبحانه يعلم ما تكنّ صدورهم من هواجس ونيّات ، وما يعلنون من قول ، وأنّه ما يغيب عن علمهم من حوادث وظواهر مكتوبة في كتاب مبين (اللوح المحفوظ ، والقرآن ، وعلم الأنبياء والأئمة منه).

وإنّ القرآن يبيّن لبني إسرائيل الحق فيما هم فيه يختلفون ، مما يشهد بأنّه قد نزل من لدن حكيم عليم.

والقرآن يحمل الهدى والرحمة إلى من يؤمن به وهذا شاهد صدقه ، ويقضي بحكمه العادل وهو العزيز العليم.

ويأمر الرسول والمؤمنين بالتوكّل عليه ، وعدم التردّد لأنهم على صراط حقّ

٢٣٠

وواضح ، وألّا يأبهوا بأولئك الجاحدين الذين لم يجعل الله لهم نورا. أو يمكن أن تسمع الموتى أو تسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين؟! كذلك أعمى القلب لا يهتدي عن ضلالته ، إنّما يهتدي من يسلم وجهه لله.

وإذا ذكرنا الربّ تعالى بيوم الجزاء ، فلا بد أن يذكّرنا بالرسالة التي هي إعداد للإنسان ليوم الحساب. وهكذا لا نجد جانبا من العقائد الاسلامية في القرآن مبتورا عن سائر الجوانب ، لأنّها كلّها تدور حول محور واحد هو الايمان بالله ، فبعمق الإيمان وبسعته ، وبالتالي بمعرفة الله عبر أسمائه الحسنى ، نتعرّف على سائر أبعاد العقائد الاسلامية.

لماذا جاءت الرسالة الالهية؟

والجواب : جاءت الرسالة لتحقيق الأهداف التالية :

١ ـ رفع الاختلاف. إذ وفّر الله سبحانه فرصة الوحدة بين الناس عبر الرسالة ، أمّا إذا لم يروا الاستفادة منها لرفع الخلاف بينهم فهذا شأنهم.

٢ ـ الهداية. ولها مرحلتان :

أ) حلّ الالغاز. وأدنى قدر من الهداية أن يعرف الإنسان الإجابة على الأسئلة الحائرة في ذهنه : من الذي خلق هذا الكون ، ولماذا؟ ومن خلقني ، ولماذا؟ ومن أين أتيت ، وإلى أين أصير؟ ، حتى لا يتيه البشر ، ويقول كما قال إيليا أبو ماضي في قصيدته المعروفة الطلاسم :

جئت لا أعلم من أين ولكنّي أتيت

ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت

وسأبقى سائرا إن شئت هذا أو أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري

٢٣١

ومن دون بعث الرسالة تبقى كثيرا من الألغاز حائرة ، يدور الإنسان حول الكون ولكنه لا يصل الى مفتاح حلّ الالغاز ، وفي النهاية يمسك القلم ليكتب «الإنسان ذلك المجهول» فاللّغز يبقى كما هو من دون الإيمان بالله ، وتظلّ المعادلة ناقصة.

والذين يتحوّلون من الكفر إلى الإيمان يشبهون التائه في الصحراء ، والذي يأتيه شخص ما ليرشده على الطريق فيجد السكون والاطمئنان ، وتذهب عنه الحيرة ، إن هذا هو الهدى.

ب) مرحلة التكامل. وهي مرحلة العروج بروح الإنسان في مدارج كمالات المعرفة ، حتى يبلغ به الأمر أن يقول :

«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»

أو إلى أن يقول له الله : «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» (١)

من مظاهر رحمة الله بالإنسان ان ربنا وفر فرصة الكمال في الهداية للبشر.

٣ ـ الرحمة. وهي هدف بعث الرسل ، ونعني بها انّه ينبغي للناس أن يعيشوا في هذه الدنيا مطمئنين ، ومرحومين لا محرومين ، وقد وفّر الله فرصة الرحمة للإنسان إن شاء استفاد منها.

بينات من الآيات :

[٧٤] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ)

__________________

(١) سورة طه / (١٢).

٢٣٢

من نوايا وتوجيهات وأفكار.

(وَما يُعْلِنُونَ)

وهو أولى بالنسبة لمن يحيط بالسرّ ، ولعل الآية تشير إلى مخالفة قولهم لنياتهم.

[٧٥] (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

ما من شيء يغيب عن أنظارنا أو علمنا وخيالنا إلّا ويحيط به كتاب ربّنا ، وهو القرآن الذي أودعه الله مفاتيح الغيب واسمه الأعظم ، ومعارف الحياة ، ولكنّه خصّ بعلم تأويله الراسخين في العلم فقال : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» وكان الرسول وأئمة الهدى من أهل بيته هم الذين اصطفاهم وارتضاهم الرّب سبحانه ، وبذلك جاءت نصوص عديدة (٢)

[٧٦] (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

[٧٧] كما أنّ القرآن يحمل في طياته الهدى والبصيرة.

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)

والهدى هنا بمعنيين : الأوّل : هو المرحلة التي تعني مجرد فكّ اللغز ، والثاني : هو أن تصل الى ما تريد الوصول اليه من المعارف المعنوية ، ومن بناء الذات والعروج بالروح الى سماء الإيمان.

فالقرآن سعادة وفلاح ـ ولكن بشرط أن يفهمه المؤمنون ـ برنامج عمل ،

__________________

(٢) راجع تفسير نور الثقلين / ج (٤) ص (٩٦).

٢٣٣

ومنهاج حياة ، يحصلوا من خلال تطبيقهم له على السعادة والرحمة.

[٧٨] ويقضي الربّ سبحانه وتعالى بين الحق والباطل في مواقف شتى :

الف : عند الميزان في يوم الحساب ، حيث آخر الموازين القسط لذلك اليوم وهم لا يظلمون.

باء : عند ما يختلف الناس ، ويريدون فضّ خلافاتهم على أساس عادل يجدون القرآن الكريم الذي هو القضاء الفصل ، كما يجدون الإمام العادل الذي يفقه الكتاب ويحكم به وقد استحفظ كتاب ربه.

جيم : عند ما يقضي بهلاك الباطل ونصرة الحق. ولا راد لقضائه سبحانه.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)

[٧٩] وما دام الأمر كذلك ، فلا تخشى أحدا :

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)

ما دام الحق ينصر ، وأنت على الحق ، فتوكل على الله ، وثق بالنصر والغلبة.

[٨٠] ولا تأبه بجحود المعاندين ، وما عليك الا البلاغ.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)

يستحيل أن يسمع الإنسان ميتا النداء ، ليس لإشكال فيه بل لأنّ الميت فاقد لجهاز الاستقبال ، وقد قال الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

٢٣٤

أمّا الأصم الذي لا يسمع فانه قد يفهمك من خلال حاسة البصر ، عبر الإشارات وبعض حركات الفم ، أما إذا أدبر فكيف يفهم ما تقول له؟!

[٨١] وهؤلاء الذين لا يستقبلون كلامك ـ أيّها الرسالي ـ ينبغي أن لا يؤثّروا عليك ، فتصاب بردّة فعل أو تشكك في خطّك ورسالتك ، لأنّ الإشكال الحقيقي فيهم ، حيث أنّهم لا يملكون جهاز استقبال.

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)

الذي أسلم نفسه للحق ، وهيّأها لاستقبال الهداية يمكن أن يستمع إليك ، لا الذين عميت بصائرهم ، وماتت قلوبهم.

٢٣٥

وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ

___________________

٨٢ [دابة] : أي حيوان ، من دبّ أي سعى على سطح الأرض.

٨٣ [يوزعون] : أي يدفعون ، وقيل : يحبسون وهو الأقرب.

٨٧ [داخرين] : أذلاء صاغرين ، من دخر بمعنى ذل.

٢٣٦

صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

٢٣٧

وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ

هدى من الآيات :

ربما تلخّص لنا الآية الاخيرة من هذا الدرس مفهوم السورة كلّها ، فهي من جهة تعرّفنا بالله سبحانه ، وبأسمائه الحسنى ، مما يثير فينا الإحساس بالحمد ، فتجري على ألستنا كلمة الحمد عفويّا ودونما تكلّف ، ونحن لا نستطيع إلّا ذم أنفسنا التي اختارت الشقاء ، أما ربّنا فإنّه يستحق الحمد بكل تأكيد ، فقد خلق الكون برحمته ، وأجرى فيه سننه ، كما أجرى في قلوبنا تيارا من العقل والعلم والإرادة لكي نستفيد مما في الحياة من سنن.

ولكن تبقى مشكلتنا نحن الذين لا نستفيد من تلك السنن ، ولا من هذا التيّار الخيّر ، ولذلك فإنّ سنة إلهيّة أخرى سوف تقضي علينا وهي سنة الجزاء التي يؤكّدها هذا الدرس.

وحينما يفسد الناس فلا يبقى فيهم من بركات الرسالات الإلهية شيء ، فينتشر

٢٣٨

الفساد في الأرض ، ولا يبقى إلّا لكع أبن لكع ، كما قال الرسول (ص) آنئذ يحين موعد الساعة ، وتقوم القيامة ، والتي من علاماتها وأشراطها خروج دابّة من الأرض تكلّم الناس ، الذين يحشرون يومها على صورة مجاميع ، طيّبين وخبيثين ، فنشهد على الخبيثين بأنّهم معرضون عن آيات الله كما يشهدون على أنفسهم ، فيبدأ الحساب ثم الجزاء.

ويلاحظ أنّ القرآن يذكّرنا بحكمة الله عند ما يتعرّض لذكر القيامة ويوم البعث ، فما هي العلاقة بين ذكر الآخرة ، والتذكرة بحكمة الله؟

إنّنا عن طريق الإيمان بحكمة الله لما نراه من آثارها في كلّ أجزاء الكون ، نؤمن بالآخرة ، فما دام لكلّ شيء غاية ينتهي إليها ، إذن فلا بد أن يكون خلق الإنسان لهدف مّا ، ولو فكّرنا لوجدنا أنه البعث من بعد الموت.

ثم يحدّثنا ربنا عن بعض آثار الحكمة في الخلق ، فلو نظرنا الى الجبال لظننّا أنها ساكنة لا تتحرك بينما هي تمر في حركتها كالسحاب ، والذي يخلق عالما بهذه الدقة المتناهية ، هل خلقه بعلم أم بجهل؟!

بالطبع خلقه بعلم ، فهو يعلم أيضا ما نعمله نحن البشر.

ثم تستعرض الآيات بعض مشاهد يوم القيامة ، وتشير إلى جزاء المحسنين الذين يؤمنهم الله من فزع ذلك اليوم ـ الذي لا يستثني أحدا غيرهم ـ أما الكفّار فإنّهم يلقون على وجوههم في جهنم خالدين.

ويخبرهم الرسول (ص) بأنّ الله أمره بأن يعبده وهو ربّ مكة الذي حرّمها وله كلّ شيء ، وأن يتلو القرآن (الذي كفاه هاديا) فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضلّ فعليها ، وليس الرسول (ص) وكيلا عنه ، إنّما هو نذير ، والحمد لله أبدا.

٢٣٩

ويختم السورة بإنذارهم بالآيات التي سيريهم ، ويبدو أنّها آيات العذاب.

بينات من الآيات :

[٨٢] (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)

أي انتهى أجلهم ، وصار يوم الجزاء.

(أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)

ولأنّهم لم يؤمنوا تمّ القضاء عليهم قضاء مبرما ، وهذا هو بيان المحكمة الإلهية الذي تقرأه الدابة.

ولقد أختلف المفسرون في معنى الدابة على قولين :

الأوّل : إنّ الدابّة التي تكلّم الناس حيوان يختلف عن سائر الدواب ، كأن يكون رأسها رأس فيل ، وجسدها جسد وحيد القرن.

الثاني : إنّ الدابة إنسان ، فكل ما يدبّ على الأرض يسمى دابّة في اللغة ، وكلامها مع الناس يؤكد هذا المعنى ، إذ لا يتكلّم من الدوابّ غير الإنسان ، وقد أكد الله سبحانه في كتابه هذا المعنى في موضعين ، إذ قال ـ عز من قائل ـ : «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» وقال تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ونقل بعض المفسرين رواية مأثورة عن عمار بن ياسر (رض): أن المراد بهذه الدابة هو الامام علي (ع) الذي يخرجه الله حيّا من

__________________

(١) الأنفال / (٢٢ ـ ٥٥).

٢٤٠