من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

ومن طرائف التاريخ : ان الامام موسى الكاظم ـ عليه السّلام ـ دخل يوما على الرشيد ، فأجلّه واحترمه بصورة أدهشت الجالسين حوله ، ولما أراد الإمام أن يقوم من مجلسه ، قام الرشيد وأقبل على الأمين والمأمون قال : يا محمد ويا إبراهيم! سيروا بين يدي عمكم ، وسيدكم ، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه.

فاستغرب المأمون من أبيه هذا الصنيع ، فسأله عن سبب هذا الاحترام والتقدير ، فقال الرشيد : يا بني انه صاحب الحق ، فقال له المأمون : إذا كنت تعلم ذلك فرد عليه حقه ، فنظر اليه والده وقال : الملك عقيم ، والله لو نازعتني الذي انا فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

وهذه صورة من التاريخ عن الإنسان حينما يضحى الحكم عنده هدفا ، فهو يتشبث به حتى لو خالف العقل والشرع في وسائله للوصول اليه ، وفرق كبير بين الذي يريد الحق والآخر الذي يريد العلو والتسلط.

وفرعون كان يريد العلو ، لذلك أفسد في الأرض ، وأعظم إفساده التمييز الطائفي ، حيث جعل فريقا من الناس متسلطا على الفريق الاخر ، ويبدو أن هذه طريقة كل نظام فاسد وهو تقسيم الناس إلى فريقين ، فريق يحكم وفريق يستضعف ، وقد يكون هذا التقسيم على أساس طائفي ، أو عنصري ، أو حزبي أو غيرها ، حيث تتعدد الصور ولا يختلف الجوهر ، وهو صنع أداة للسلطة الفاسدة يتحكم بها الطاغوت على الناس.

(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ)

إذا كانت الأمة متحدة ، فان الطاغوت لا يستطيع التسلطة عليها ، لذلك سعى فرعون لتفريق بني إسرائيل أحزابا ، عملا بالقاعدة الجهنمية (فرق تسد) التي هي

٢٦١

أداة السلاطين في جرائمهم ، إلّا أنّ فرعون لم يكتف بالتفرقة وحدها ، وانما أضاف لها سياسة أخرى هي الإرهاب.

(يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ)

لو كان فرعون يذبح الأطفال الرضع الذين عادة ما تكون عواطف البشر مركزة فيهم. في هذا البرعم الصغير ، وفي هذه البراءة النقية.

لكن الذي يريد السلطة ، تتبلد مشاعره ويموت فيه الضمير.

(وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ)

اي يبقيهن أحياء للخدمة في البيوت.

(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)

هذا هو الفساد والذي يلخصه القرآن في ثلاثة أمور :

١ ـ التفرقة ، وبالتالي تحطيم الكيان الاجتماعي الموحد.

٢ ـ القضاء على النفوس البريئة.

٣ ـ الاستثمار الطاقات البشرية بطريقة غير مشروعة.

وهذه سنة القدر ، أن يأتي فرعون ، ويستخدم هذه الوسائل المنكرة في تدعيم نظامه وهي : إفساد المجتمع بعدم وحدته ، والإخلال بالأمن ، وتحطيم أسس الإقتصاد.

[٥] (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ

٢٦٢

أَئِمَّةً)

ان يشافى بسبب الطبيب مريض أمر معروف ، أما أن يدعي بأنه سوف يجعل هذا المريض الذي يرتجف من مرضه أقوى رجل في العالم ، فذلك أمر مستبعد ، والقرآن يقول إن إرادة الله لا ترفع عن المستضعفين استضعافهم وحسب ، بل تجعلهم أئمة وقادة للبشر ، وهذا هو الهدف الأسمى لحركة التاريخ.

انهم سوف يغنمون كلّ ما لدى المستكبرين من نعم ، ورياش ، وأمتعة.

(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)

[٦] وحينما يصل المستضعفون الى السلطة فإنّهم يتمكنون في الأرض ، ويثبتون سلطتهم ، وذلك حينما يقتلعون جذور الفساد ، وينبذون المستكبرين في العراء كما فعل الله بفرعون وملئه.

ومن حقائق التاريخ : أن الأقباط الذين تحكمّوا في بني إسرائيل ، ظلّوا محكومين إلى يومنا هذا ، ولم ترجع السلطة مرة أخرى إليهم أبدا.

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما)

وسائر المستكبرين على مر العصور.

(مِنْهُمْ)

اي من المستضعفين.

(ما كانُوا يَحْذَرُونَ)

٢٦٣

حينما يصل المستضعفون إلى السلطة فسيذيقون المستكبرين العذاب الشديد ، وسيرون منهم كل ما كانوا يحذرونه.

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

[٧] ولكن كيف يتم ذلك؟

يتم عند ما يوجد إمام وقائد رسالي ، يتحمل المسؤولية ، ويفجر الثورة في الجماهير ، لننظر كيف أنبت الله شجرة هذا القائد الكريم في ارض صالحة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)

لقد سبق الذكر بأن قضاء الله بغلبة المستضعفين ، واندحار المستكبرين يتحقق غيبيّا وبشريّا ، أما غيبيا : فان الله لم يرسل رجلا من وزراء فرعون ليقوم بانقلاب عسكري ، مع انه ممكن عند الله ، بل أرسل طفلا من بني إسرائيل ، في ظروف كان فرعون يذبح الأبناء فيها. وكيف أرسله؟

أوحى الله إلى أمّه أن تلقيه في اليّم ، ليتربى في قصر فرعون ، وانتهى هذا الأمر بانتصار بني إسرائيل على فرعون بسببه ، وأساسا كلمة (موسى) في اللغة العبرية تعني ابن الماء والشجر (فمو) : تعني الماء (وشي) : تعني الشجر.

ان هذا الولد الذي لا يملك شيئا هو الذي يحطم سلطة الطاغوت.

وأما بشريا : فالله لم يرسل الملائكة ، ولا الرياح لتقضي على فرعون ، بل أرسل بشرا قائدا هو موسى (ع).

٢٦٤

[٨] وبالفعل استجابت أمّ موسى الى وحي الله ، كما وألقت بابنها في اليم الذي حمله الى سواحل قصر فرعون.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ)

في المستقبل :

(عَدُوًّا)

ينهض ضدهم ويقود المعارضة ، وإنما يكون عدوّا لهم لأنه يحمل قيم الحق التي تتناقض ونهجهم الباطل والمنحرف.

(وَحَزَناً)

يسبب لهم القلق الشديد ، وسوف يأخذهم الأسف على قرارهم بعدم ذبحه ، وهكذا نجد الأمور تسير كما يشاء الله ـ بإرادته ـ لا حسب ما يريد الفراعنة ، فهم التقطوا موسى ليكون لهم ولدا ، بينما أراد الله أن يجعله عدوّا ، وأرادوه ان يدخل السرور على فرعون الذي ربما كان يقلقه عقمه ، فجعله الله حزنا ومصدرا للقلق بالنسبة إليهم.

ونجد لهذه الإرادة صورا هنا وهناك حينما نقلب صفحات التاريخ على الحقائق.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ)

الظلم خطأ لا تقتصر آثاره على المحرومين وحسب ، بل تطال الظالم نفسه.

[٩] فلقد أحضروا موسى إلى فرعون ، فلما عرف انه من بني إسرائيل ـ إذ

٢٦٥

كانت ملامحهم واضحة ـ قال : خذوه واقتلوه.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ)

الحق يتجسد مرة في امرأة هي أم موسى (ع) ومرة أخرى في امرأة فرعون (آسية بنت مزاحم) حيث أصرّت على فرعون الّا يقتله ، واستجاب لها فعلا :

(لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا)

عند ما يكبر.

(أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)

فقد كان فرعون عقيما ، ليس له ولد.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

ولا يحسون بقدر الله وقضائه في مستقبل هذا الطفل ، الذي يريدونه ولدا لهم.

هم يخططون لهدف ، بينما يجعله الله أماما يزيل سلطانهم على يديه ، وأيدي المؤمنين تحت قيادته.

٢٦٦

وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى

___________________

١٥ [وكزه] : الوكز الدفع وقيل اللكم بجمع الكف.

٢٦٧

فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)

٢٦٨

فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ

هدى من الآيات :

يذكرنا هذا الدرس بجانب مهم من سيرة الأنبياء (ع) حيث الصراع المستمر بين الرسالة الإلهية واتباعها من طرف ، والجاهلية المادية ومؤيديها من طرف آخر ، والذي تحسمه الإرادة الالهية لصالح جبهة الحق ، الا أن ذلك لا يعني ان الغيب يحرك مراحل الصراع مباشرة ، بل انه قد يمضي سننه عبر إرادة الإنسان ونشاطه ، ومن هذا المنطلق يتعرض السياق في هذه الآيات لدور الإنسان ، المرأة والرجل.

والدور الهام الذي قامت به أم موسى (ع) يؤكد دور المرأة في الصراع الرسالي الجاهلي ، كأم ، وكزوجة ، وكشحنة عاطفية ، وهذه قضية أساسية وهامة.

فمن جهة نقرأ عما قامت به أم موسى في تأسيس هذا الصراع وانطلاقه ، وما قامت به أخته من تتبع مصيره ، ومن جهة أخرى تحدثنا الآيات عما قامت به زوجة فرعون من عمل حافظت به على حياة هذا القائد. إذ أشارت على زوجها بالإبقاء

٢٦٩

على موسى (ع) حيّا ، وبالرغم من اختلاف الأدوار ، إلّا أنها تلتقي في نقطة واحدة هي مساهمة المرأة في الصراع.

وهذه المساهمة لا تقتصر على الأدوار الجانبية ، بل نجدها في صميم المسؤوليات الخطيرة ، فأم موسى (ع) وان كانت مؤمنة وملتزمة بالأمر الإلهي إلا أنها كأم كانت لها عواطف الأمومة ، فكيف تقبل ان تلقي بولدها ـ الذي عملت المستحيل حتى لا تصل اليه يد السلطة ـ في اليم لتبتلعه أمواجه الغاضبة ، خاصة وان المرأة مهيأة نفسيّا وجسديّا للاهتمام برضيعها بعد الولادة ، فكل اهتماماتها الفطرية وجوانب تفكيرها مركزة نحو ذلك الوليد!

وفي البين يذكرنا الذكر بأحد العوامل الأساسية لانتصار الحركات الرسالية في الصراع ، وهو عامل الكتمان والسرية في العمل الرسالي والذي يبدو بعض الأحيان الأهم في العمل ، فلو أن أمّ موسى أبدت عواطفها وباحت بسرها ، لتسببت في القضاء على الحضارة التي أسسها وليدها المبارك ، ولهذا قال الامام الصادق (ع):

«كتمان سرنا جهاد في سبيل الله» (١)

ثم تذكر الآيات بدور عامل آخر في الانتصار ، وهو عامل البحث والتحقيق ، وحسب التعبير الحديث التجسس ، فالحركة الاسلامية وان كانت حركة إلهية إلّا أن عليها التسلح بكل العوامل المشروعة التي تقرب إليها النصر ، كعامل التجسس لمعرفة خطط النظام الفاسد والواقع المحيط ، ثم تستفيد من ذلك في تحركها ، ومن هذا المنطلق أمرت أم موسى (ع) أخته ان تقص أثره ، وتتعرف على مصيره ، فمشت خلفه حتى رسى على مقربة من قصر فرعون ، فالتقطه آل فرعون ، واجتمعوا حوله

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (٧٥) / ص (٧٠).

٢٧٠

يتشاورون ، وهنا تدخل الغيب لإنقاذ موسى (ع) ولكن بعد أن هيأت أمه الظروف المناسبة ، وبذلت قصارى جهدها. إذ استجابت لنداء الوحي ، وصبرت على فراق وليدها ، كما أرسلت أخته خلفه ، فأعاده الله إليها ، ولكن كيف؟

لما حرم الله على موسى المراضع ، وألقى محبته في قلبي فرعون وزوجه ، وجعلهم يستجيبون لاقتراح أخته بان تدلهم على مرضعة يقبلها هي أمّه.

وفعلا تحركت أخته لتخبر أمها بالأمر ، وجاءت أم موسى (ع) صابرة متجلدة ، وملتزمة بكامل السرية ، فارتضع موسى منها ، وعاد إليها سالما كما وعد الله ، والدرس الذي نستفيده من هذا الحدث هو : ان الرساليين لو صبروا والتزموا بالمنهج السليم ، الذي يرسمه لهم الله عبر آياته ووحيه ، وهدى عقولهم فان الله سينصرهم كما وعد ، ومن أصدق من الله قيلا؟!

وفي آخر الدرس نجد صورة من الصراع بين المستضعفين والمستكبرين.

بينات من الآيات :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) :

[١٠] (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً)

أفرغته من كل اهتمام وانصب تفكيرها على مصير ولدها الصغير ، وهكذا يكون الإنسان حينما يواجه مشكلة أو أمر هام في حياته ، ويقال : فارغا اي مهموما وحزينا ، وربما فسرت الآية «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ» اي إذا حزنت وغممت ، وهذا التفسير يتناسب وموضوع سورة الإنشراح.

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها)

٢٧١

أي أعطيناها الصبر والمقدرة على كتمان السر.

(لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

والقرآن يبيّن في هذا المقطع من الآية أهمية الكتمان في انتصار الثورات ، وكيف أنه شرط الإيمان. إذ لو أبدت أمّ موسى مشاعرها تجاه ولدها اذن لما كانت من المؤمنين.

وفي الحديث عن الرسول (ص):

«استعينوا على أموركم بالصبر والكتمان»

[١١] وبعد أن القت أم موسى (ع) بوليدها لم تترك الأمر هكذا تنتظر وليدها حتى يعود إليها ، بل أمرت أخته أن تلحق بالتابوت ، ولكن بسرية تامة.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

حتى لا تكون العلاقات بينهما وبينه واضحة ، فلا يقبل منها اقتراحها بأن تدلهم على من يرضعه مثلا ، لو عرفوا أنها أخته ، وربما يقتلونه.

[١٢] وهكذا عملت أم موسى كل ما في وسعها ، فكان ذلك تهيئة لتدخل الإرادة الإلهية في الأمر ، أما لو كانت تنتظر كل شيء يأتي من عند الله ، دون أن تقوم هي بدور معين ، فلربما لم يرجع لها وليدها ، لأن سنة الله في الحياة قائمة ـ في التغيير ـ على السعي من جهة الإنسان نفسه اولا «إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ». (٢)

__________________

(٢) الرعد / (١١).

٢٧٢

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ)

وكلمة «يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ» تدل على أن أخت موسى حاولت جهدها أن تخفي علاقتها به أمام الآخرين ، فلم تقل أنه أخوها ، بل ملّكته فرعون بكلمة «لكم» كما نستفيد من الآية الشريفة أهمية المتابعة للأعمال والقرارات الرسالية حتى لا تموت في الأثناء ، بل تظل يد الرساليين ترعاها. لحظة بلحظة إلى أن تصل الى نهايتها.

ان موسى الذي حرم الله عليه المراضع ربما كان يموت جوعا وعطشا لو لم تتدارك أخته الأمر بالمتابعة ، وعلى أحسن الأحوال يصبح مصيره مجهولا عندهم.

[١٣] في آية سابقة قال تعالى :

«وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»

وفي هذه الآية يقول :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ)

تطمئن ، ويذهب عنها الخوف والوجل.

(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

الآية الاولى تبيّن أن هناك وعدا من قبل الله ، أما الثانية فهي تشير الى تحقق هذا الوعد وهنا نستفيد أمرين :

١ ـ صحيح ان الله يعد المؤمنين بالنصر ولكنه يطالبهم بالعمل لا ان يكون

٢٧٣

وعده لهم مدعاة للكسل ، والتوقف عن العطاء والسعي ، بل منطلقا للسعي الحثيث والجهاد.

ان أم موسى أعطت من جهدها المادي والمعنوي حتى تكون أهلا لوعد الله.

٢ ـ حينما يعد الله بشيء ما يجب ان نطمئن الى وعده ، فهو تعالى ان يخلف وعده ، ولماذا يخلف وعده وهو القوي العزيز ، الحكيم القاهر؟! فلا يعجزه شيء ، وهو الصادق ، ومن أصدق من الله قيلا؟!

لو كان الناس يعلمون بان وعد الله حق ، ويتحسسون بأمل الانتصار لما تسلط عليهم الطغاة أمثال فرعون ، لكن مشكلتنا هو ضعف اعتقادنا بالله ، فاذا بأحدنا يقول : وماذا أستطيع ان أعمل ، وأغيّر مقابل هذا الإرهاب ، والنظام القائم ، وأنا شخص واحد؟ بلى .. الله يؤيدك ويسدد خطاك.

ان الثقة بنصر الله ، والتوكل عليه هو وقود الحركة ، والذي يفقده يفقد كل شيء.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) :

[١٤] لقد عاد موسى كما وعد الله الى أمه ، وترعرع في حجرها.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ)

صار بالغا من الناحية الشرعية بتكامله العضوي.

(وَاسْتَوى)

تكامل عقله.

٢٧٤

(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً)

حيث صار نبيا ، وليس رسولا.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

ليس هناك قرابة بين الله وموسى حين أعطاه النبوة ، وانما استحقها موسى بعمله وإحسانه وكل إنسان يعمل من أجل الآخرين يجازيه الله خيرا ، وهذه الحقيقة نجدها في التاريخ وبالذات في تاريخ الأنبياء ، بل وفي حياتنا اليوميّة أيضا ، كما أن أفضل ما يتعبد به الإنسان ربّه ، ويستدر به رحمته هو الإحسان للناس.

وهذه الآية نجدها في أكثر من موضع من القرآن الحكيم ، ففي سورة يوسف يقول تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ونحن يمكننا أن نجرب هذه الحقيقة : لنحسن الى الناس ، ثم لننظر كيف يعاملنا الله. إن الصدقة تزيد في العمر ، وتدفع البلاء ، وتزيد في المال حتى لو كانت الصدقة هي إماطة الأذى عن الطريق ، أو مساعدة الأعمى والطفل على عبور الشارع ، إذ ليس شرطا ان تكون الصدقة مالا.

انّ اي خدمة يقوم بها الإنسان للآخرين يجد جزاءها سريعا فكيف إذا كرّس حياته من أجل خير الناس وصلاحهم. ان الأنبياء لا يفكرون في مصالحهم الشخصية في الدنيا ، وانما يفكرون في خير الناس ومصلحة الرسالة التي يحملونها ، ونقرأ في سيرة نبينا الأكرم محمد (ص): أنه عند ما حضرته الوفاة ، وجاءه ملك الموت ليقبض روحه سأل ملك الموت : وهل تلقى أمتي أذى في مثل هذا الأمر فأجابه : بلى ولكن الله أمرني ان اقبض روحك بأسهل ما يكون فيه قبض الروح ، قال له رسول الله (ص):

٢٧٥

«شدد عليّ وخفف على أمتي»

وهذه سنة الأنبياء ، كما يجب ان يكون هذا ديدن من يسير على خطّهم في الحياة.

[١٥] ومن علامات إحسان موسى (ع) ان كان يبحث عن الخير ، ولا يبالي بعدها بما يمكن أن يجرّه ذلك عليه من أذى إذا كان يرضي الله ، لقد كان يبحث عن المحرومين حتى ينتصر لهم.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)

والذي يحمل قضية رسالية حينما يدخل بلدا يسيطر عليها الطاغوت بالخصوص. إذا كان يريد القيام بعمل كعملية عسكرية ، أو توزيع منشور ، أو عملية استطلاع وتجسس يجب ان لا يكون ساذجا بل حذرا نبها ، ويختار الوقت الأنسب الذي يعينه في إخفاء نفسه ، وكتمان أمره ، وربما كان دخول موسى للمدينة ليلا أو في أول الصبح ، وربما كان في مناسبة انشغل بها أزلام النظام عن الوضع.

(فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ)

بسبب ما قامت به الحركة الرسالية من أعمال سياسية وثقافية ، وربما ميدانية في عمليّة الصراع بينها وبين فرعون حينذاك ، استطاعت أن توجد في المجتمع تيّار مناهضا للسلطة ، بل وأكثر من ذلك أن ترفع مستوى الصراع بين تيّارها والتيار الآخر الى حد المواجهة المباشرة ، ومن أهم مسئوليات وواجبات الحركة الرسالية حين تصعد بمستوى جماهيرها في الصراع ان تسيطر على الساحة حتى لا يكون للصراع مردود سلبي على خططها وتحركها.

٢٧٦

ويبدو من الآية الكريمة : ان موسى (ع) منذ البداية كوّن الحركة الرسالية ، فكان له حزب وشيعة ، حيث استطاع ان يجمع شمل بني إسرائيل تحت لوائه ، ويتصدى للنظام الطاغوتي.

وربما يكون معنى يقتتلان يتضاربان ، ولكن ظاهر الأمر يدلّ على أن أحدهما يريد قتل الآخر.

(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)

وأمام هذه الإستغاثة وجد موسى (ع) نفسه مضطرّا للدفاع عن الذي من شيعته. لهذا بادر لدفع ضرر القبطي.

(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)

الفرد الرسالي يريد الخير لحركته وشيعته ، ولكن لا يعني ذلك أنه يريد الانتقام من الناس ، وقد يصل الأمر أن يقوم الرساليون بحرب فدائية ولكن عن اضطرار وليس بهدف التخريب أو الإرهاب ذاته ، بل لإزالة العوائق التي تعترض طريقهم.

لهذا قال موسى (ع) حينما وقع القبطي ميتا : «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ».

يقصد بذلك العمل الذي دعا هذين (الاسرائيلي والقبطي) للاقتتال ، وإذ ضربته فانما للدفاع عن المظلوم والمستضعف ، وقد قال بعض المفسرين : ان سبب الاقتتال هو محاولة القبطي تسخير الإسرائيلي ليحتمل شيء بلا أجر.

وعند ما قتل موسى القبطي ولم يكن يريد قتله ، بل ردعه قال :

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)

٢٧٧

[١٦] لقد انتصر موسى على عدوه الا أنّ ذلك لم يدعه للاغترار بهذا النصر ، بل أراد أن يقتل الغرور الذي عادة ما يصيب المنتصرين ، وذلك عبر الاستغفار ، واتهام النفس بالتقصير ، وربما لذلك أمر الله رسوله محمد (ص) بالاستغفار بعد النصر. إذ قال : «إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً».

وهنا نجد نبي الله موسى (ع) يستغفر الله بعد انتصاره على عدو الله وعدوه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)

وجاء في التفاسير : ان موسى (ع) قد اخطأ فعلا بدخوله المدينة ، حيث كان لا يزال في طور الاختفاء ، لأن فرعون كان قد علم بأنه يخالفه ، وقد اجتمع اليه شيعته من بني إسرائيل فهّم بقتله ، فلما دخل المدينة على حين غفلة كان ذلك خطأ منه استغفر الله منه ، ومعنى المغفرة هنا ان يستر عليه الله سبحانه.

وقد روي مثل هذا التفسير عن الامام الرضا (ع) (٣) ونستوحي من هذا التفسير مدى أهمية الكتمان في العمل الرسالي.

[١٧] ثم عاهد الله ان لا يستخدم القوة والعلم والحكمة التي وهبها الا من أجل الخير وفي سبيل الله والدفاع عن المستضعفين.

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)

وكانت هذه الحادثة بالإضافة إلى مواقف أخرى سبقتها ، أدّت بموسى الى الهجرة عن بلده ، لتبدأ الحركة الرسالية مرحلة جديدة من الصراع والجهاد.

__________________

(٣) راجع نور الثقلين ج (٤) ص (١١٩).

٢٧٨

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ

___________________

٢١ [يترقب] : الترقب الانتظار.

٢٧٩

قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤)

___________________

٢٣ [تذودان] : ذاد بمعنى منع وتذودان أي تمنعان أغنامهما عن الورود على الحوض.

[يصدر الرعاء] : من أصدر إذا رجع عن الماء ماشيته.

٢٨٠