من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

ويبدو ان شروط الرسالة الكريمة قد اجتمعت في كتاب سليمان لبلقيس ، أو ليس كتاب المرء رسول عقله؟!

لقد افتتح الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم مما عكس روح التوحيد ، ومعاني العطف والرحمة عند صاحب الكتاب ، وقد كان من سليمان ذلك الذي طبقت شهرته الطيبة الافاق ، وكان مختوما ، وقد حمله طير السعد من الفضاء ، ووضعه بهدوء على نحرها ، مما دل على مزيد من الاحترام لها.

[٣١] (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)

لا تحاولوا ان تحاربوني ، انما تعالوا مسلمين. ولا ريب ان كتابا بهذا الإيجاز والأسلوب يحمل في طيّاته الوعيد.

[٣٢] (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)

افتوني : اي طلبت منهم الفتيا ، وهي في الواقع حكم نابع من القواعد والأصول العامة التي يلتزم بها ، فلو طبّقنا القاعدة المسمّاة بقاعدة البراءة الفقهية على حادثة معينة أو على حكم خاص فإنّا نسمّي هذا التطبيق بالفتوى ، وملكة سبأ طلبت من الملأ المستشارين البتّ في المسألة وفق القواعد والتقاليد والأفكار السائدة ، وتطبيق تلك القيم على واقع الحياة.

(ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)

إنني لا أستطيع أنّ أتخذ قرارا حازما وقطعيّا ، ما لم تكونوا شهودا معي في اتخاذه. انها كانت تتخذ القرار بعد ان تستفتيهم وتشهدهم عليه.

[٣٣] (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ)

١٨١

نحن نملك القوة والارادة للمقاومة ، وهاتان هما الصفتان اللتان يجب توفرهما في الأمة ، يقول ربنا سبحانه وتعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ). (٢)

ان القوة التي لا ينتفع بها في إنجاز عمل ما لا تنفع شيئا ، وان القوة بدون الاستعداد الفعلي للحرب تظل عقيمة ، هناك مليارد إنسان مسلم يلتزمون ظاهرا بواجب الجهاد في العالم ، ولكن حينما تعتدي إسرائيل على المسلمين لا نحشد القوة لمواجهتها لاننا نعاني من عدم الاستعداد.

(وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ)

الرأي رأيك ، والأمر إليك. إنك لا تحكمين بالهوى ، ولكن فكّري جيدا ثم أمري.

[٣٤] (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً)

لقد عبّرت عن وجهة نظرها في الأمر قائلة : لو ذهبنا الى مملكة سليمان لسلمت بلادنا منهم ، ولكن لو جاءنا بجنوده لدمرت بلادنا تحت سنابك خيلهم ، ذلك ان الملوك حينما يدخلون بلادا ما يحاولون الاستفادة من خيراتها ، وبذلك يستنزفون مواردها لمصلحتهم فتخرب ، فصاحب الأرض وأبناء البلاد بطبعهم يحرصون على موارد بلادهم وخيراتها ، ويحزّ في أنفسهم ان يروا خيرات بلادهم نهبا للأجنبي المستغل ، فالفلاح ـ مثلا ـ يحافظ على أرضه ، ويهتم بها ، ولا ينهكها بالزراعة ، فيزرعها سنة ويتركها في السنة التي تليها لتستعيد التربة قوتها وخصوبتها ، وحين

__________________

(٢) الأنفال / (٦٠).

١٨٢

يزرع الأرض يحتفظ بقسم من الحنطة ـ مثلا ـ كبذور ، ويشتري بقسم منها سمادا للأرض ، وهذا هو الأسلوب المعتاد ، ولكن حين يغزو الاجنبي البلاد ينتزع كلّ الحنطة ، ويترك الأرض يبابا ، غير قابلة للإنتاج حتى ولو بعد عشر سنين.

إذا لو ابتعدنا عن قوى الشرق والغرب لاستطعنا ان نخطط لأنفسنا تخطيطا سليما ، فنستخرج من النفط بقدر ما يحتاجه بلدنا من نفقات ، فنخصص قسما من الموارد التي تدرّها علينا الصادرات النفطية للزراعة ، وآخر للصناعة وعمارة الأرض ، وقسما للمواصلات ولسائر نفقات البلاد ، ولكن حينما تكون مواردنا البترولية مرتبطة بالغرب والشرق فلن نحصل منها على شيء ، لان هذه الموارد تذهب الى خزائن الأموال الاجنبية لتصدر لنا السلاح والسلع ، ومنتجاتها الى ان تغرق الأسواق ، بالاضافة الى امتصاصها ما نحصل عليه من أتعاب.

إنّ نفقات التسليح تفرض علينا فرضا ، والسلع الكمالية وأسباب الإفساد تغزو بلادنا وأسواقها ، لان الاجنبي لا تهمه مصلحة البلد وشعبه ، ولهذا فهو يفسد أهل البلاد وأرضها ، فمزارع القطن في مصر دمرت من قبل المستعمرين ، والإصلاح الزراعي الاستعماري في إيران في زمن الشاه المقبور جعل من إيران ـ المكتفية زراعيا والتي كانت تصدر منتوجاتها الزراعية والصناعية ـ بلدا بلا زراعة ، وتحوّلت من دولة مصدّرة الى دولة تستورد كافة المحاصيل الزراعية الاستهلاكية من الخارج ، بعكس ما يحصل الآن بعد ان تحرّرت إيران على يد القيادة الرشيدة والجماهير المستضعفة.

ولطالما سعى المستعمرون في سبيل إفساد المجتمع عن طريق أفراد المجتمع ذاته ، وذلك بأن يبحثوا عن مجموعة من المنبوذين بسبب ابتعادهم عن قيم المجتمع ، فيستخدمونهم لبث الفرقة والفساد بين أبناء الشعب الواحد ، ولو بحثت عن أصول

١٨٣

الأسر الحاكمة لوجدت أنهم ينتمون الى أسوأ وأحط الأسر والعشائر ، فالمستعمرون يبحثون عن هؤلاء تحت كل حجر ومدر ، ويحكّمونهم في رقاب أبناء البلد.

إنّهم لا يبحثون عن الشرفاء ، لان الشريف لا يرضى ان يسلّم مقادير بلده للأجنبي ، ويرفض التعاون معه ، ولا يستسيغ رؤية بلاده وقد نهبت من قبل الغربيين والشرقيين.

ولو خرج الاجنبي من البلاد فسيحكمها أبناؤها الملتزمون بالقيم الاسلامية ، ويتحوّل المجتمع الى مجتمع ملتزم بالإسلام وأحكامه ، وشرائعه ، وأخلاقياته ، وبالتالي يصبح مجتمع الفضيلة ، ولكن الاجنبي يفعل العكس ، وكما يقول القرآن الحكيم : «وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً».

حينما دخل البريطانيون العراق مستعمرين نشر إعلان في النجف الأشرف بأنّ الحكومة الاستعمارية بحاجة الى شرطة ، ويجب ان يكون عمر من يتقدم الى الخدمة في الشرطة بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين من العمر ، فاجتمع بعض الناس ممن كانوا بحاجة الى العمل ، ولمّا رأى الحاكم البريطاني كثرة من جاء في طلب العمل في سلك الشرطة ، ولم تكن الحكومة المستعمرة بحاجة الى أكثر من عشرة ، قام الحاكم فيهم خطيبا ، وقال لهم : إنني لست بحاجة إليكم ، ولكن لو كان فيكم عدد من أولاد الزنا فليبقوا ، فأخذ كلّ واحد من الحاضرين ينظر الى صاحبه ، ثم تفرّق الجميع الّا عدة قليلة ممن لفظهم المجتمع ، وممّن لا يأثم لو نسب الى الزنا ، وربما لم يكونوا أبناء زنا ، ولكنهم كانوا سفلة ، لا تهمهم التضحية بشرفهم ليصبحوا خدما للاجنبي ، والشريف لا يرضى أن يكون شرطيّا يخدم الاجنبي ضد أبناء وطنه ، ولا يرضى التضحية بقيم مجتمعة.

١٨٤

(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ)

وفي هذا المقطع من الآية تأكيد من قبل الله على الحقيقة التي طرحتها بلقيس عن الملوك.

١٨٥

وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ

١٨٦

(٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)

١٨٧

وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

هدى من الآيات :

بعد ان استشارت بلقيس قومها في أمر الرسالة التي جاء بها الهدهد ، قالوا : إنّنا أولوا بأس وقوة ، ومستعدّون للحرب ، لكنّها قالت : إنّنا سنشتري رضى سليمان بالهدايا الثمينة ، فان كان من الذين تستهويهم الدنيا قبل ، وان لم يكن كذلك وكان نبيّا فالأمر يختلف ، ولا مجال لدينا يومئذ لمعارضته.

والذي نستفيده من هذه العملية ـ حين بعثت بلقيس بالهدايا ـ ان من عقل هذه الملكة ـ واعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله ـ انها لم تحزم في القرار بالحرب أو السلم ، انما تركت لنفسها فرصة ـ حتى يعود الرسول ـ تفكّر فيها ، حتى لو اتخذت قرارا يكون قرارها سليما ، وهكذا فان القرار الناجح هو الذي يتخذه صاحبه بعد توافر كل مكوناته : (المعلومات والخبرات والتفكير السليم).

وهكذا تحرك رسول بلقيس حتى وصل الى سليمان ، فلمّا سلّمه الهدايا

١٨٨

استصغرها واستصغرهم أيضا ، ولمّا عاد الرسول الى بلقيس وأخبرها بما جرى عرفت أنّ سليمان ليس كسائر الملوك ، ولمّا كان الرسول يحمل تهديدا بالزحف نحو مملكتها إن لم تأت بلقيس وقومها مسلمين ، جمعت أمرها على المسير الى سليمان ، وقبل أن تتحرك من اليمن كان سليمان يبحث عمن يأتيه بعرشها الذي يبلغ (٢٥) ذراعا طولا وعرضا وارتفاعا وكان ذهبا ، فقام عفريت من الجن وقال : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) ، فقام (آصف بن برخيا) وصيّ سليمان ، وكان عنده علم الاسم الأعظم ، فقال : انا آتيك بعرشها قبل ان يرتدّ إليك طرفك ، فأمره سليمان بذلك ، فرأى العرش أمامه في لحظة ، وآنئذ أمر سليمان بإجراء تغيير بسيط فيه ، وذلك بأن تجعل مقدمته فضة بدل الذهب ، وسأل بلقيس ان كان هذا عرشها ، فنظرت اليه نظرة تفكّر ، ثم قالت : كأنه هو ، وتدلّ إجابتها على رجاحة عقلها ، إذ تعرّفت على عرشها رغم تنكيره ، ولم تتعجب من انتقاله من تلك المسافة البعيدة الى قصر سليمان ، ولكن الذي أثار دهشتها ، أنّ عرشها كان في سبعة أروقة متداخلة ، وكلها مغلقة ، ويحيطها الخدم ، والجيش ، ولم يكن قد طرأ تغيير في ملكها سوى انتقالها هي الى مملكة سليمان (ع) فكيف انتقل عرشها؟! فعرفت أنّه انتقل بقدرة قادر عظيم.

إنّ هدف سليمان من إحضار العرش هو تذكير بلقيس بأن معرفتها لم تنفعها ، وإنّ قوتها ليست بكبيرة ، وان ما بنته ليس سوى نسج للعنكبوت ، لأنه لا يستند على قوة الإيمان ، ولكنها لم تفهم المغزى إذ كانت تفقد بصيرة الايمان التي تهديها الى بواطن الأمور ـ كما هو حال الكثير من المثقفين في عالم اليوم ـ ولكي يختبرها ويعرفها على الحقيقة أكثر أمر سليمان بأن يوضع عرشه في مكان ما ، وأجرى بين عرشه والباب ماء ، ووضع على الماء جسرا من الزجاج ، جعل تحته بعض الأسماك ، والأحياء المائية ، ثم أمر بإدخال بلقيس ، فلمّا فوجئت بالماء ، ظنّت أنّ

١٨٩

سليمان يريد إهلاكها غرقا ، لكنها قررت اقتحام اللجّة ، فكشفت عن ساقيها تهيؤا للعبور ، وإذا بها تصطكان بجسر الزجاج ، الأمر الذي جعلها تنتبه الى أنها لا تملك علما بكل شيء ، وأنّ كبرياءها خادع ومزيّف ، وأنّها من الناحية العقائدية على خطأ ، فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

بينات من الآيات :

[٣٥] (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)

قالت : انني سأرسل الى سليمان وحاشيته بهدية ، وانتظر ردّ الموفدين.

[٣٦] (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)

وعند ما وصل المرسلون الى سليمان وقدموا هداياهم لم يأبه بها ، وقال لهم : إنّكم تريدون ان تغروني بالمال ، وأنا لست بحاجة إليه ، فالله منحني من الملك والمال ما هو خير من هديتكم التي لا قيمة لها. إنّ المال لا يفرحني ولا يسرّني ، ولكنّكم أنتم الذين تفرحون بالمال ، لأنكم عبيد الدنيا ، ومتاع الدنيا لا قيمة له عندي ، وإنما يفرح بالمال من اتخذه هدفا وغاية ومعبودا.

بلى. إنّه لم يغترّ بزخارف زينة الحياة الدنيا ، وفدى نفسه من أسرها ، ولهذا فقد استصغر إغراءات الملكة وتابعيها لسببين :

١ ـ فما يملكه أفضل من هدايا بلقيس بكثير ، إذ أعطي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ولم يبلغه أحد قبله.

٢ ـ ولأنّه لم يكن يبحث عن الملك ، بل كان يسعى لنشر الرسالة والوعي ،

١٩٠

لذلك أجابهم : بأنكم أنتم الذين تفرحون بالهديّة ، أمّا نحن فلا نفرح بالدنيا وما فيها ، وإنّما هدفنا نشر الرسالة ، وإقامة الحق.

[٣٧] (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها)

لم تكن غاية سليمان المال ، وإنّما كانت غايته إرشاد الضّالين إلى الطريق الصحيح ، فلذلك أمر رئيس الوفد البلقيسي بالعودة إلى ملكته ، وهدّدهم بالحرب ، وتسيير جيش جرّار إلى بلادهم لا يستطيعون مقاومته.

(وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ)

ونخرجهم من أرضهم وهم مهانون ومحقّرون ، وهنا لك فارق كبير بين بلد يفتح عنوة فيمتلكه الفاتحون بقيمة الدم الذي أراقوه ، وبين بلد يصطلح أهله عليه ، حينئذ تترك البلاد بيد أهلها فيتمتعون بحريتهم وكرامتهم أيضا.

هكذا عرفت بلقيس أنّ عليها أن تسير الى سليمان طوعا قبل ان تساق إليه كرها ، فلمّا حزمت حقائبها ، وعلم سليمان ذلك طلب ممن حوله إحضار عرشها.

[٣٨] (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)

ثم التفت الى من بحضرته من حاشيته ، طالبا أن يتبرع أحدهم بإحضار عرش بلقيس قبل أن تأتي مستسلمة مع جماعتها.

[٣٩] (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)

١٩١

قال جنّيّ قوي بأنه يستطيع أن يحمل عرش بلقيس إليه قبل أن ينقضي مجلسه ، الذي اعتاد أن يجلسه للقضاء بين الناس ، أي في غضون ساعات ، وإنه سيأتي بالعرش بعظمته دون أن يسرق من مجوهراته وزينته شيئا.

كيف يقتدر الجنّ على حمل هذا العرش العظيم خلال ساعات من اليمن إلى فلسطين؟! هذا مما لم يتعرض له السياق القرآني ، ولعلّ الأمثل بنا أن نتركه بعد أن نؤمن به إجمالا لعدم وجود ما يدلّنا على استحالته.

[٤٠] (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)

وقال الذي عنده علم من الكتاب ـ والكتاب هنا اللوح المحفوظ عند الله سبحانه ـ بأنه سيحضره قبل طرفة عين واحدة ، وأحضره في الحال باسم الله الأعظم ، وجاء في حديث مأثور عن الامام الباقر عليه السلام ـ انه قال :

«إنّ آصف بن برخيا قال لسليمان (ع) : مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ عينيه فنظر نحو اليمن ، ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يردّ طرفه» (١)

ويبقى سؤال : هل كان سليمان أعلم أم وزيره آصف بن برخيا؟ ويجيب عن ذلك الإمام الهادي (ع) في الحديث التالي :

روى العيّاشي في تفسيره قال : التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ، ويحيى بن أكثم فسأله ، قال : فدخلت على أخي علي بن محمد عليهما السلام ـ إذ دار ـ

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٨٧).

١٩٢

بيني وبينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته ، فقلت له : جعلت فداك إنّ ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها ، فضحك ثم قال : هل أفتيته فيها؟ قلت : لا ، قال : ولم؟ قلت : لم أعرفها ، قال هو : ما هي؟ قلت : قال : أخبرني عن سليمان أ كان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟ ثم ذكرت المسائل قال :

أكتب يا أخي : بسم الله الرحمن الرحيم ، سألت عن قول الله تعالى في كتابه : «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان عن معونة ما عرف آصف ، لكنّه ـ صلوات الله عليه ـ أحبّ أن يعرف من الجن والانس أنه الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ، ففهّمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته ، كما فهم سليمان في حيوة داود ، ولتعرف إمامته ونبّوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق (٢)

بلى. إنّ سليمان (ع) اختار آصف بن برخيا للقيام بذلك الدور من أجل أن يبيّن للناس أنّه الوصي من بعده ، وحين نقرأ تاريخ الأنبياء (ع) نجد أنّهم يختارون مواقف معينة يظهرون فيها أوصياءهم ، حتى يكون واضحا عند الناس من هو الخليفة من بعدهم ، وهكذا لا يرحلون إلّا بعد أن يجعلوا لمستقبل الرسالة ضمانا.

ونستوحي من سورة النمل بأن الملك يقوم على ثلاثة أركان هي : العلم ، وأعلى مراتبه أن يستفيد الإنسان من خبرات الآخرين وعقولهم «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» والحزم «فَإِذا عَزَمْتَ» والتوكل «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ» ولقد اجتمع لسليمان (ع) الملك والقوة والطاعة من رعيته ، وكان في جنده من يستطيع أن يحمل عرشا كعرش بلقيس ، ويأتي به من بلد بعيد كاليمن ـ خلال طرفة عين ـ ولكن ذلك كله لم يكن أساسا حقيقيا لملكه ، بل ان القوة الحقيقية التي استند عليها هي الأمداد

__________________

(٢) المصدر ص (٩١).

١٩٣

الغيبي من الله ، قال تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (٣) والملاحظ أنّ القرآن قدّم نصر الله على عون المؤمنين ، لأنّ الاوّل هو الأهم.

ونحن حين نبدأ بأيّ عمل ترانا نستعين ببسم الله الرحمن الرحيم ، وسليمان بدوره استعان بقدرة الله وقوته ـ حين أرسل كتابه الى بلقيس ـ إذ قال : «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ليبين لها أنّ سلطانه ليس ماديا ، وهكذا نجد نوحا يخاطب أصحابه قائلا : «ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها» (٤) لأنّ كل شيء لا يتم إلّا باسم الله ، ولو لا اسم الله لم يستطع آصف بن برخيا إحضار عرش بلقيس في لحظة من اليمن الى أرض فلسطين.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)

فلما رأى سليمان عرش بلقيس أمامه ، قال : إنّ إحضار العرش لم يتم بقوّة ماديّة أو أرضيّة ، ثم إنّ نعم الله على المرء ليست دليلا على سلامة النية بل إنّها ابتلاء ، فسلامة الجسم والغنى والأمان كلّها نعم للابتلاء ، واختبار الإرادة ، والفتنة ، فلا ينبغي للمرء أن يغترّ بها ، إنما يجب أن يؤدّي حقّها بشكرها.

(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)

ومن شكر نعم الله ، فإنّ فائدة الشكر تعود عليه.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)

__________________

(٣) الأنفال / (٦٢).

(٤) هود / (٤١).

١٩٤

فلو أنّ جميع العالم كفر بالله ، فإنّه لا يضرّه من كفرهم شيئا ، وتبقى رحمته تسعهم ، ويظل يلطف بالكافرين ، ويعطيهم الفرصة بعد الأخرى ، لأنّ رحمته وسعت كل شيء.

[٤١] (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ)

أي غيّروا شكل عرشها ومظهره حتى يبدو مختلفا لنختبر عقلها ، ونتعرف على طبيعتها ، ونهديها الى الحق والرسالة.

[٤٢] (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)

وعند ما جاء بلقيس سئلت عن السرير الذي أتى به آصف بن برخيا ، وهل أنّه يشبه سرير ملكها ، فقالت : كأنه هو بعينه ، ثم يقول سليمان (ع) : أنه تفوّق على هذه المرأة بدرجتين : العلم وهي خلوّ منه ، والإيمان وهي تفقده ، وأساس الملك هو العلم المقرون بالإيمان.

[٤٣] (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ)

إنّ بلقيس كانت وثنيّة على دين آبائها وقومها ، ولذلك عبدت الشمس والنجوم ، ولم تعبد الله الذي خلقهنّ ، وضربت تلك العبادة الخاطئة بينها وبين العلم حجابا منعها عن معرفة الله التي هي أوّل العلم.

[٤٤] (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها)

١٩٥

الصرح : القصر الكبير الواسع ، حسبته لجة : أي مياه عميقة ، ورفعت ذيل ثيابها لئلا تبتلّ حين تخوض فيه.

(قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ)

ممرّد : مستوي ، وهي لفظة مأخوذة من الأمرد ، والأمرد الذي ليس عليه شعر ، وبلغت الأرض الزجاجية حدا من الإستواء بحيث لا يبدو فيها أثر للتعرج ، ويبدو أنّ الزجاج كان معروف الصناعة على عهد سليمان (ع) وكانت صناعته متقدمة كالكثير من الصناعات الأخرى.

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

وهنا عرفت بلقيس الحقيقة ، وتبدّد الضباب الذي كان يلفّ عقلها ويحجبها عن رؤية الحق ومعرفته ، وأخذت تنظر إلى الحياة بمنظار جديد ليس فيه مكان للكبرياء.

لماذا حدث هذا التحول التام الذي يشبه لحظة الاعتراف عند المجرمين بعد طول المراوغة؟

حينما يصطدم الإنسان بقضية مّا كان يجهلها فإنّ هذه القضية تثير عقله ، فيبدأ بإعادة النظر في أفكاره ومعتقداته ، وتؤدي إعادة النظر هذه الى انهيار النظام الفكري الذي كان يعتمد عليه ، فيتحرر عقله من الأغلال القديمة ، ويأخذ بالتفكير من جديد حتى ينتهي الى الحقيقة .. هكذا آمن السحرة بموسى حين هزموا ، وهذا ما حدث لبلقيس حين اصطدمت بما أعدّه لها سليمان من اختبار ، حيث أخذت تجدد نظرتها للحياة ، بعد أن وجدت أنّ نظرتها السابقة لها كانت غير صحيحة ، فقررت

١٩٦

ان تتبنّى الفكر الصحيح الذي يستند على الإيمان بالله ، ونبذ عبادة الأنداد ، فآمنت وأسلمت وجهها لله رب العالمين.

١٩٧

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ

___________________

٤٧ [اطيّرنا بك] : أي تشاءمنا منك.

١٩٨

لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)

١٩٩

أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ

هدى من الآيات :

لقد تحدّث القرآن الكريم في سورة الشعراء السابقة عن قصة نبيّ الله صالح (ع) وقومه ثمود ، وهنا يذكر تلك القصة مرّة أخرى وظاهرة التكرار واضحة في القرآن ، فمثلا قصة موسى (ع) مع فرعون ذكرت سبعين مرّة ، وإنّما تتكرّر قصص الأنبياء في القرآن حسب المناسبات ، وفي كل مرّة بهدف متميّز يختلف عن المرة السابقة ، والهدف العام من ذكر القصص هو بث الروح الإيمانية فينا من خلال الحوار والصراع الجاري بين الأنبياء والجاهلين من قومهم ، وتكرار الفكرة ذاتها يفيد التذكرة ، لأنّ غفلة الإنسان وشهواته لا تنفكّ تحجبه عن الحقيقة حينا بعد حين ، وحينما لا يتذكر الإنسان يغفل ، فتهجم عليه حجب الشّهوات لتحجب عقله ، فهو بحاجة إلى التذكرة باستمرار.

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، والإنسان لا يكتفي بصلاة واحدة في اليوم والليلة ، وإنّما يجب أن يصلّي خمس مرات في اليوم ليمحي آثار الشهوات ،

٢٠٠