من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

وتستدرجنا الى عذاب الله الأليم ، فإننا نجد إبراهيم (ع) يبين فكرة هامة هنا هي : ان اتخاذ الأوثان انما تم بهدف المودة المتبادلة بين المشركين ، وان هذا الهدف باطل ، إذ يكفر المشركون ببعضهم يوم القيامة.

ان البشر خلق اجتماعيا ، ولعل اسم الإنسان والناس مستوحى من هذه الفطرة الراسخة فيه ، اما كلمة الحضارة أو المدنية فانها تشير الى حضور الإنسان عند نظيره ، وهو بعيد عن ذات الفطرة ، الا ان هذه النزعة الاجتماعية تضل سبيلها وهي كسائر الغرائز البشرية بحاجة الى توجيه وتزكية ، فكما غريزة الجنس يهذّبها الإسلام ويهديها الى السبيل القويم لها بالزواج ، كذلك النزعة الاجتماعية ، ولكن بسبب انفلات هذه النزعة عن قنواتها المحددة ، جرّت ، البشرية الى مآسي مروعة.

كيف ذلك؟

قبل ان نجيب عن هذا السؤال نوضح حقيقتين :

الف : النزعات الفاسدة في قلب البشر هي التي تضحى علاقات اجتماعية شاذة في حياته ، فحب المال حبّا جمّا يفرز الطبقية ، والتكبر يولد الاستكبار والعلو في الأرض ، والجبن يسبب الاستضعاف ، والحرص يجر الى الفساد الاقتصادي. و.. و.

ولذلك كان الجبت والطاغوت وجهان لعملة فاسدة واحدة ، فعبادة المال والتسليم للصولجان هو جبت القلب ، بينما الديكتاتورية والاستبداد طاغوت المجتمع.

باء : ان الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأوثان لم يكونوا ناقصي العقول الى هذه الدرجة ليزعموا ان هذه الأحجار التي يصنعونها بأيديهم هي التي خلقتهم

٤٤١

فعلا.

كلا .. انما كانت الأوثان رمزا لتجمعهم ، وتعبيرا عن نوع العلاقة التي ارتضوها لأنفسهم ، ولذلك كانت الأصنام تكبر وتصغر حسب حجم القبيلة ، فهناك صنم قريش (هبل) يعتبر أكبر الأصنام في الجزيرة ، لان تلك القبيلة كانت تزعم انها كبري قبائل العرب ، وأصغر منها حجما كان صنم ثقيف (مناة) لان تلك القبيلة كانت أقل مستوى من قريش ، وكلما صغرت القبيلة تضاءلت اهمية أوثانها ، حتى بلغ بتجمع صغير حقير ان صنع لنفسه صنما من التمر ، فاذا أصابتهم مخمصة وقعوا على إلههم المزعوم والتهموه عن آخره.

بعد بيان هاتين الفكرتين نجيب عن السؤال السابق :

باستثناء التجمعات التوحيدية انحدرت البشرية الى درك الوثنية بطريقة أو بأخرى ، إذ انها ارتبطت ببعضها عبر المصالح والعصبيات والخرافات البعيدة عن العلاقة التوحيدية. ما الذي جمع طبقة المترفين الى بعضهم؟ أو ليس الحرص على تكديس الثروة؟! إذا المحور هنا حبّ المال ، والعلاقة بالإنسان تمر عبر قناة جمع الثروة ، ولا يحترم الإنسان كإنسان بل بصفته صاحب ثروة ، إذ ان الاحترام هو للثروة ذاتا ولم يملكها بالتبع أ ليس كذلك؟! إذا الثروة معبودة ، وهي محور العلاقة ، ولا بد ان يختار وإلها رمزا يحترمونه ويكرمونه ويقدسونه ، وبالتالي يعبدونه. ذلك الرمز قد يكون صنما من ذهب أو فضة أو أحجار كريمة ـ كما كان يصنعه الإنسان البدائي ـ ولكن قد يكون رمزا متطورا يسمونه ب (العلم) كما تصنعه امريكا ، أو بتمثال الحرية ، وبرج ايفل ، أو تمثال النيل أو التمساح.

وقد يختار تجمع المترفين شخصا يسمونه بالملك ويصبغون عليه قدرا من القداسة المزعومة ، والجلالة المزيفة ، فيجعلونه رمزا لتجمعهم.

٤٤٢

وكما محور الثروة كذلك محور القومية والوطنية وما أشبه ، تنفلت من اطارها السليم ، وتتحول الى صنم يعبد من دون الله.

أما والآن وقد عرفنا ان هذه الأوثان التي كانت تعبيرا عن نزعات نفسية شاذة ومنحرفة جرت المزيد من الويلات على البشرية ، فكم ارتكبت باسمها الجرائم وكم سوغت باسمها المجازر ، وكم اشعلت نار الحروب الضاربة ولا تزال.

وقد بين ربنا على لسان محطم الأصنام إبراهيم (ع) ان اتخاذ الأصنام انما تم «مودة بينكم» فالهدف هو إيجاد العلاقة ، ثم أوضح أن الكفار سوف يتبرءون من بعضهم يوم القيامة.

ومن هنا نعرف العلاقة بين الآية الاولى والثانية في هذا السياق ، إذ ان رفض الإسلام للمودة الوثنية يقابله تشجيعه على المودة الرحمانية ، القائمة على أساس التوحيد. فكما حارب إبراهيم الوثنية آمن به لوط ، ورزقه الله اسحق ويعقوب ، ومن ورائهما الأسباط ، والتجمع الايماني ، ذلك التجمع الذي باركه الله في الدنيا ، حيث أعطي جزاء إبراهيم (ع) وافيا ، وفي الآخرة ادخله في الصالحين. أولئك الذين لا يتبرأ بعضهم من بعض.

اي تجمع يباركه الإسلام؟ وهل كل تجمع مفيد؟ وعلى اي أساس؟

ان التجمعات اليوم قائمة على محاور وثنية ، كالتجمع حول (وثن الوطنية ، أو صنم الاقليمية ، أو القومية ، أو العنصرية ، أو الطبقية) هذه الأوثان التي قد يرمز لها بعلم ، أو شخص (طاغوت) أو مسميات اخرى (كالجندي المجهول ، أو تمثال الحرية ، أو تمثال الفيل ، أو التمساح ، أو أبي الهول ، أو شجرة الأرز).

ولا تعني هذه الرموز سوى النزعة الصنمية ، ذلك لأن أولئك الذين كانوا

٤٤٣

يقدسون الأصنام في الجاهلية ، التي كانوا يصنعونها من التمر ثم يأكلونها إذا جاعوا ، هل كانوا يعتقدون فعلا أنّها آلهتهم؟!

كلا .. فلو كانوا يعتقدون حقيقة أنّها آلهتهم لم يأكلوها عند ما يجوعون. انهم كانوا يزعمون أنّها رمز تجمعهم ، لذلك كانت كل قبيلة لها صنمها الخاص.

بينات من الآيات :

[٢٥] (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

حيث اتخذتم وثنا يكون رمزا لعلاقاتكم في الحياة الدنيا ، بيد ان هذه العلاقات غير ثابتة لأنها منبثقة عن النزعات النفسية التي تتبخر عند الموت ، فحينما ينزل ابن آدم الى قبره يودعه على حافته ماله ، وعياله ، وذويه ، وانتماءاته الحزبية ، وولاءاته السياسية ، ليواجه مصيره وحده.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

ورد في مواضع أخرى من القرآن تجسيد حي لبعض مشاهد الآخرة ، وهذه الآية تعرض واحدة من تلك الصور التي تجسّم النزاع الذي يدور بين الجماعات التي كانت متوحدة في الدنيا على بعض القيم المزيفة ، إذا بهم يتلاعنون يوم القيامة ، أما المؤمنون فيقول عنهم ربنا سبحانه : «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (١)

وجاء في حديث مأثور عن أبي عبد الله الصادق عليه السّلام في تفسير الآية :

__________________

(١) الحجر / (٧٣).

٤٤٤

عن مالك الجهنمي قال : قال لي ابو عبد الله :

«يا مالك انه ليس من قوم ائتمّوا بإمام في الدنيا الا جاء يوم القيامة يلعنهم ويلعنونه الا أنتم ، ومن كان على مثل حالكم» (٢)

[٢٦] كلا الفريقين يعكسان طبيعة ما كانوا يعيشونه في الدنيا من زيف أو حقيقة ، ولكن على الرغم من تكذيب القوم لإبراهيم (ع) وجوابه لهم بهذا المنطق الصارم ، الا ان دعوته لم تذهب سدى حيث آمن به لوط (ع).

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

ولوط (ع) بإيمانه قد حقق هجرتين لا هجرة واحدة ، فالاولى هجرة معنوية حيث هجر المجتمع الفاسد رافضا تمحوره حول الأوثان ، ليتصل بالمجتمع الصالح المتمحور حول الايمان الحق ، والهجرة الثانية هجرته الجغرافية حيث ترك مدينة بابل ليرحل الى مصر ففلسطين مع إبراهيم (ع) لكي يقوم ببناء محور جديد لتجمع يقوم على أساس الايمان بالله ، وليقوم بدوره في تبليغ رسالات ربه.

[٢٧] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

ويشير القرآن هنا الى امتداد إبراهيم عبر الزمن عن طريق اسحق ويعقوب ، بينما كان أولاده بالفعل (إسماعيل واسحق) ولكن الله سبحانه وتعالى ركز على اسحق ، ولم ينف إسماعيل وذلك لان التجمع الرسالي امتدّ عبر الزمن عن طريق اسحق ، ووراءه يعقوب ، ومن بعده ذرية طيبة كانت فيهم النبوة والكتاب ،

__________________

(٢) تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٥١).

٤٤٥

فتصدوا بذلك مسرح الاحداث ، وكل أولئك كانوا من ذرية اسحق (ع) في الوقت الذي كانت فيه ذرية إسماعيل (ع) تغط في سبات وجهل وخمول الى ان بزغ نور رسول الله (ص) فيهم ، فكان رحمة للعالمين ، وسيد المرسلين ، وهكذا بارك الله في امة إبراهيم بحيث أصبح ذكره اليوم محمودا عند أكثر من ملياري إنسان. هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فهو عند الله من الصالحين وكفى بذلك مقاما كريما.

[٢٨] (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)

بدأ لوط (عليه السلام) باستنكاره على قومه الإتيان بالفاحشة ، فقال لهم : يا قوم انكم ترتكبون من الفواحش ما لم يسبقكم إليها أحد من العالمين ، فأنتم أعظم خطرا ، وأسوء شرا لأنكم ابتدعتم جرائم عديدة.

وجاء في حديث مروي عن الامام الصادق (عليه السّلام):

«ان إبليس أتاهم في صورة حسنة ، فيه تأنيث ، عليه ثياب حسنة ، فجاء الى شبان منهم فأمرهم ان يقعوا به ، ولو طلب منهم ان يقع بهم لأبوا عليه ، ولكن طلب منهم ان يقعوا به ، فلما وقعوا به التذوه ، ثم ذهب عنهم وتركهم فأحال بعضهم على بعض» (٣)

[٢٩] (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ)

اضافة الى فاحشة اللواط كانوا يقطعون الطرق الآمنة على الناس ، لأن قراهم كانت في مركز جغرافي حساس ، فلا يسمحون بمرور القوافل.

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)

__________________

(٣) المصدر / ص (١٥٧).

٤٤٦

اي تجاهرون بالمنكرات ، وتقترفونها في نواديكم التي تجتمعون فيها بكل صراحة ، فمن يعمل المنكر ويخفيه عن أعين الناس فان أمره هيّن وقد يغفر الله له ، أما ان يفعل المنكر أمام الناس فذلك تعد على الحرمات والقيم.

وذكر في بعض الروايات : «انهم كانوا يحذفون الحصاة على بعضهم ، وانهم كانوا يتضارطون في مجالسهم» (٤)

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

فوق ما اقترفوا راحوا يستكبرون ، ويتوغلون في التحدي ، إذ أنّ من يعمل السيئات ثم يندم عسى الله ان يتوب عليه ، اما ان يعمل السيئات ، ثم يتحدى الله ، فهو مخلد في النار.

[٣٠] (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ)

هناك انهى لوط (ع) رسالته ، وأوكل الأمر الى الله ، متوكلا عليه ، طالبا منه النصرة. وقد بقي ينصحهم ثلاثين عاما فلم يقبلوا.

[٣١] (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ)

الحسم لا يتم الا بمعرفة القيادة العليا ، فالملائكة الرسل الذين جاؤوا لنصرة لوط ، وإهلاك قومه مروا في طريقهم على إبراهيم لكي يوعز ربنا سبحانه لإبراهيم : بأنك أنت القائد الأعلى للتجمع الايماني في الأرض ، وقد كان بإمكان هؤلاء

__________________

(٤) المصدر.

٤٤٧

الملائكة ان يذهبوا رأسا ناحية لوط ، ولكنهم مروا على إبراهيم جزاء من الله له على ايمانه الصادق وإخلاصه.

وهؤلاء الرسل لم يبدءوا إبراهيم بالإنذار ، وانما ابتدأوه بالبشرى بان الله سيهب له اسحق ومن ورائه يعقوب والذرية الصالحة ، رغم انهم يحملون العذاب لقوم لوط ، ولا تخلو هذه اللفتة من مفارقة كريمة وهي : ان ربنا سبحانه وتعالى قبل ان يهلك قوما كفروا وعاندوا بشر رئيس ذلك المجتمع إبراهيم (ع) بأنه سيعطيه ذرية صالحة ، تحمل راية الحق ، وتنشر كلمة الله في الأرض ، فتلك هي المفارقة ، يبشره بالعطاء أولا ، ثم ينذره بأنه سوف يهلك الظالمين ، ولكن إبراهيم (ع) حينما عرف ان الله مهلك قوم لوط فزع.

[٣٢] (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً)

وذلك هو سلوك المؤمنين الصادقين ، فمن صفات الأنبياء (ع) انهم رحماء بالبشر غيورون على المؤمنين ، بحيث لم يتمالك نفسه ، واندفع قائلا : وما هو مصير لوط؟!

وجاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السّلام : ان إبراهيم كان يسعى لدرء العذاب عن قوم لوط ، يقول الحديث (بعد بيان جوانب من قصة لوط):

«فقال لهم إبراهيم : لماذا جئتم؟ قالوا في إهلاك قوم لوط ، فقال لهم : ان كان فيها مأة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ فقال جبرئيل عليه السّلام : لا ، قال : فان كان فيها خمسون؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها ثلاثون؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها عشرون؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها عشرة؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها خمسة؟ قال : لا ، قال : فان كان فيها واحد؟ قال : لا ، قال : فان فيها لوط ، (قالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)»

٤٤٨

قال الحسن بن علي (ع):

لا اعلم هذا القول الا وهو يستبقيهم وهو قول الله عز وجل : «يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ»(٥)

(قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)

وفي هذه الآية عودة للتذكر : بأن التجمع الاسري مطلوب ، ولكن في حدود الايمان الحقيقي ، ولان امرأة لوط كانت سيئة فقد أصبحت من الغابرين واستبعدت من الصالحين.

[٣٣] (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً)

كان لوط يحرث الأرض ، وإذا به يرى مجموعة من الرجال يأتون اليه ، فاستقبلهم بحفاوة وطلب منهم النزول عليه في بيته ضيوفا ، ولكن ما ان سمع القوم بقصتهم حتى هرعوا اليه يريدون ان يفعلوا الفاحشة ، فضاق بهم ذرعا ، ولم يدر ما يصنع ، ولكن حينما رأى الضيوف حيرة لوط طمأنوه ..

(وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ)

لا تخف على المستقبل ، ولا تحزن على الماضي ، فنحن رسل السماء إليك ..

(إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ)

[٣٤] (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما

__________________

(٥) المصدر / ص (١٥٨).

٤٤٩

كانُوا يَفْسُقُونَ)

ولا بد من ملاحظة الفرق بين «منزلين» بالتخفيف و «منزّلين» بالتشديد ، الاولى من (انزل) اي دفعة واحدة ، بينما الثانية من (نزّل) اي على فترات شيئا فشيئا ، والملائكة هنا أخبروا لوطا ان العذاب سينزل من السماء رجزا على الفاسقين دفعة واحدة.

أما كيف نزل بهم العذاب؟ فقد روى ابو حمزة الثمالي قصة ذلك مفصلا في رواية

عن أبي جعفر عليه السّلام قال :

ان رسول الله صلى الله عليه وآله سأل جبرئيل كيف كان مهلك قوم لوط؟ فقال : ان قوم لوط كانوا أهل قرية لا ينتظفون من البول والغائط ولا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء أشحاء على الطعام ، وان لوطا لبث فيهم ثلاثين سنة ، وانما كان نازلا عليهم ولم يكن منهم ولا عشيرة له فيهم ثلاثين سنة ولا قوم ، وانه دعاهم الى الله عز وجل والى الايمان واتباعه ، ونهاهم عن الفواحش وحثهم على طاعة الله فلم يجيبوه ولم يطيعوه ، وان الله عز وجل لما أراد عذابهم بعث إليهم رسلا منذرين عذرا نذرا ، فلما عتوا عن امره بعث إليهم ملائكة ليخرجوا من كان في قريتهم من المؤمنين ، فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين فاخرجوهم منها ، وقالوا للوط : «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ» من هذه القرية الليلة «بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» فلما انتصف الليل سار لوط ببناته ، وتولت امرأته مدبرة فانقطعت الى قومها تسعى بلوط ، وتخبرهم ان لوطا قد سار ببناته ، واني نوديت من تلقاء العرش لما طلع الفجر : يا جبرئيل حق القول من الله تحتم عذاب قوم لوط ، فاهبط الى قرية قوم لوط وما حوت فاقلبها من تحت سبع أرضين ، ثم أعرج بها الى

٤٥٠

السماء فأوقفها حتى يأتيك امر الجبار في قلبها ، ودع منها اية بينة من منزل لوط عبرة للسيارة ، فهبطت على أهل القرية الظالمين فضربت بجناحي الأيمن على ما حوى عليه شرقها ، وضربت بجناحي الأيسر على ما حوى عليها غربها ، فاقتلعتها يا محمد من تحت سبع أرضين الا منزل لوط اية للسيارة ، ثم عرجت بها في حوافي جناحي حتى أوقفتها حيث يسمع أهل السماء زقاء ديوكها ونباح كلابها فلما طلعت الشمس نوديت من تلقاء العرش : يا جبرئيل! اقلب القرية على القوم ، فقلبتها عليهم حتى صار أسفلها أعلاها وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل مسومة عند ربك وما هي من الظالمين من أمتك ببعيد (٦)

[٣٥] (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

تركناهم عبرة لمن يستفيد من التجارب والدروس التاريخية. وقد أكّد الله سبحانه هذه الحقيقة في آية متقدمة من هذه السورة : «وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ» ثم قال : «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ».

فعلينا أن نسير في الأرض ، وننقّب في الآثار ، ونكتشف الى أيّ مدى من التحضّر أو التخلف وصلوا ، حتى نفهم كيف كان هؤلاء ، ولماذا هلكوا.

وما أحوج البشرية اليوم للاعتبار بمصير قوم لوط وهي تنزلق في وحل الرذيلة والفحشاء ، وتراها استمرأت الخلاعة واستباحت الزنا وانتشر فيها الشذوذ الجنسي وبدأ يكتسب وضعا قانونيّا في بلاد عديدة ، وبالرغم من تحذير الحكماء ، وإنذار الربّ بانتشار مرض الايدز فإنهم لا يزالون يهبطون نحو الهاوية ، حيث غضب الله الذي لا يقدرون على ردّه ـ أنجانا الله منه ـ.

__________________

(٦) المصدر / ص (١٥٨ ـ ١٥٩).

٤٥١

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً

___________________

٣٦ [ولا تعثوا] : يقال عثى إذا أفسد فسادا كثيرا.

٤٠ [حاصبا] : الحاصب هو الريح العاصفة التي فيها الحصاء وهي الحصى الصغار.

٤٥٢

وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)

٤٥٣

وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ

هدى من الآيات :

أوهن العلاقات الاجتماعية ، وأوهن الحضارات البشرية هي التي تقوم على أساس باطل ، لأنّ هذه العلاقات والحضارات وان كانت قوية في الظاهر ، إلّا أنها ضعيفة في الواقع ، لأنها لا تتفق ورسالات الله ، وسنن الحياة ، وعبر التاريخ ، ويرفضها العقل والفطرة ، مما يجعلها عرضة للزوال ، لان من طبيعة الباطل الزوال والزهوق ، تماما كبيت العنكبوت الذي قد يخدع الإنسان بمداخله ومخارجه وهندسته ، ولكنه سرعان ما يطير مع هبات الريح ، وكذا هو عذاب الله بالنسبة لتلك الحضارات.

وتذكرنا هذه الآيات المباركة ببعض دروس التاريخ ، وعبره الحضارية ، حيث تستعرض الأسباب التي أنهت مدنيات عديدة ، وتأتي بعدة شواهد على ذلك ، من مجتمعات متباعدة زمنيّا ، متباينة في السلوك والتوجّهات ، فمن قوم نوح إلى قوم إبراهيم الى قوم لوط الى قوم شعيب الى قوم عاد وثمود ، وبعد ذلك النموذج الأشهر

٤٥٤

وهو قصة موسى وفرعون ، متعرضا لقصة قارون.

ولنهاية الحضارات أسباب ذاتية وخارجية في منظور القرآن ، إلّا أنّ السياق يبيّن الأسباب الذاتية ، لان العوامل الخارجية لا تنهي الحضارات من دون وجود أسباب داخلية لانهيارها ، وحتى لو بدت بعض العوامل الخارجية ذات أثر فعّال فلا بد أن نبحث في أساس بنيان الحضارات مما أضعفها وجعل زوالها ممكنا ، وتبين الآيات الممارسات الخاطئة التي تختلف من تجمع الى آخر ، ولكنها تنتهي بالتالي الى ثلاثة عوامل ـ فيما يبدو لي ـ :

١ ـ الثقافة الجاهلية :

حيث يلعب انحراف الثقافة دورا بارزا في تبرير أخطاء الإنسان مما يجعله يفقد المناعة ضد الخطأ ، ويغدو متراكم السلبيات عرضة للبوار ، ثم ان الثقافة الباطلة تحوّل القيم فتنحرف مسيرة الحضارة الصاعدة الى طريق هابط ، وأخيرا تشوش الثقافة الفاسدة الرؤية فيتخذ البشر مواقف خاطئة ، ولان الثقافة بمثابة البنيان التحتي لأيّ كيان ، فمتى كان الأساس غير سليم ، فان البنيان ينهار سريعا.

٢ ـ الانحراف عن الصراط :

فالانحراف يذهب بطاقات الامة والفرد بعيدا عن اهدافه الرئيسية ، كالذي يسير بعيدا عن الجادة ، لا تزيده السرعة الا بعدا ، وكلما ابتعد الإنسان عن الطريق الذي ارتضاه الله له كلما قرب من نهايته ، سواء كان الإنسان الفرد أم الحضارة.

٣ ـ الاعتماد على القوة المادية :

ثقافة الإنسان الجاهلية ، وانحرافه عن الصراط يدفعانه الى تجاهل قدرة الله ، والاعتماد أكثر فأكثر على حسابات مادية بحتة ، سواء كان يمتلكها هو أو تحيط به ،

٤٥٥

ناسيا ان من يسيّر الحياة هو رب العباد ، وانه سبحانه هو الذي يشاء لا غيره ، وهذه خاتمة المطاف في مسيرة التدهور البشري ، وحين تصل البشرية الى هذا المطلب ، فقد اذن لها بالزوال.

ومع ان الله قدم لنا ادلة واقعية على أسباب سقوط الحضارات ، الا أننا نرى الآن البرهان تلو البرهان على جاهلية هذا القرن ، وزيف حقائقه ، ففي هذا الزمان صار الهوى صنما ، وصارت المظاهر المادية قوت الإنسان اليومي ، والشواهد والأرقام تبين مدى الاخطار التي تهدد البشرية ، ولا ريب ان التصاعد الجنوني في ميزانيات التسلح في العالم ، واتساع الفجوة العظيمة بين الدول المستكبرة والمستضعفين ، وانتشار الفساد الخلقي والإرهاب والنفاق ، هو بعض مظاهر الكفر في الجاهلية الحديثة التي تهدّد مكاسب الانسانية جمعاء.

بينات من الآيات :

[٣٦] (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

بعث شعيب (ع) الى مدين من أجل الإصلاح ، وقد كانوا مفسدين ، وذكرهم شعيب (ع) بثلاث مسائل :

١ / عبادة الله ، والتي تعني إخلاص العبودية له ، والتوجه إليه.

٢ / وارجوا اليوم الآخر الذي يعني الخوف من النار والرجاء للجنة ، بمعنى ان يضعوا اليوم الآخر في حسبانهم ، ويعرفوا انهم محاسبون على أعمالهم ، ومتى ما عرف الإنسان ذلك صلحت أعماله.

٣ / ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، وفي آي القرآن الكريم في سورتي الأعراف

٤٥٦

والشعراء فسادهم الاقتصادي.

[٣٧] (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)

كعادة سائر الأقوام كذبت مدين نبيها شعيبا ، وجرت فيهم سنة الله سبحانه ، إذ أخذهم بالرجفة ، فأصبحوا جاثمين في بيوتهم ، بعد ان صرعهم العذاب.

وهنا سبحانه يختصر السياق ببيان الصراع بين نبي الله وبينهم ، الذي فصل القول فيه في سور مختلفة ، فقال سبحانه : «فكذبوه» ولكنه في المقابل يصف عذابه وصفا بليغا ، ولعل ذلك للاستخفاف بتكذيبهم ، وان تكذيبهم لم يكن ليضرّ الله ، أو ينقص في حكمه ، وبيان ان الله سبحانه عند ما ينتقم فان انتقامه سيكون رهيبا.

[٣٨] ولم يكن العذاب ليحيق بمدين أو قوم لوط فحسب ، بل ان العذاب على من كذّب وتولى.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ)

انظروا الى مساكنهم وآثارهم ، لتعرفوا رهبة العذاب ، وقدرة الله سبحانه وتعالى ، وفي المقابل انظروا الى أيّ مدى وصلوا في التحضر ، وهل كل ذاك التمدن منع عنهم عذابه.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)

عبادة الشيطان كان السبب الرئيسي في ضلالهم ، فقد زين لهم اعمال السوء التي كانوا يعملون ، وصدهم عن السبيل ، وقد أخذ الله سبحانه من البشر عهدا بعدم عبادة الشيطان عند ما قال لهم : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (١)

__________________

(١) يس / (٦٠ ـ ٦١).

٤٥٧

ولكنهم نكثوا عهدهم مع الله فحاق بهم نكثهم.

(وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)

ولعل الآية تهدينا الى ان استبصار الأمم عند نشوئها لا يشفع لهم عند الله إذا انحرفوا ، وان على الأمم المستبصرة ألّا تستهين بمكر الشيطان الذي يزين اعمال السوء في أعين الغافلين ويصدهم عن السبيل.

وهنا فكرة أخرى نستوحيها من هذه الخاتمة هي فكرة الدورات الحضارية ، وان الأمم الفتية يغلب صلاحها على فسادها ، إلّا أنّها لا تلبث ان يتغلب عليها جانب الفساد ، وان الله سبحانه يبعث الرسل لمنع تدهورها ، الا ان كثيرا منها تتخذ طريقها الى النهاية المدمرة.

[٣٩] وكما سائر الأقوام كذلك قارون وفرعون وهامان الذين استكبروا ، ولكن هل كانوا قادرين على مواجهة عذاب الله؟!

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ)

تشير الآية الى الاعمدة الثلاث للفساد وهي :

١ ـ السلطة الاقتصادية (قارون).

٢ ـ السلطة السياسية (فرعون).

٣ ـ السلطة الاعلامية (هامان).

فقد كان يمثل قارون الفساد الاقتصادي ـ الاحتكار ، عدم دفع

٤٥٨

الاستحقاقات ، الطغيان على المجتمع ، اتهام القيادة ـ بينما كان فرعون يجسد الإرهاب السياسي والعسكري ، أما هامان فقد كان المستشار الاعلامي لفرعون وموضع سرّه ، ولا يتجسد الفساد في المال ، أو السلطتين السياسية والعسكرية ولا في الاعلام ، فهي مجرد وسائط اجتماعية ، وانما الفساد في الرؤوس المدبّرة لهذه السلطات الثلاث.

[٤٠] لقد كان حصيلة تمسك هؤلاء بالفساد استكبارا في الأرض الدمار ، ولم يكن هلاكهم بدعا أو صدفة ، انما كان سنة جارية تكررت في مختلف الظروف ، وعند أمم متباينة تاريخيا وقوميا وفسادا.

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ)

وهذا جزاء قوم عاد وثمود.

(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ)

قارون.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا)

فرعون وهامان.

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

لم يكن الله ليظلم عباده ، بيد ان عذابه للكافرين تجسيد لأعمالهم أنفسهم ، وظلمهم لها ، وان عذاب الله انما هو صورة لعدل الله سبحانه.

٤٥٩

ونحن نعرف ان الجزاء من جنس العمل ، وعذاب الله سبحانه ـ دنيا وآخرة ـ انما هو صورة أخرى لأفعالهم ، فمن قدس الماء غرق فيه ، ومن حفر الصخر عذب به .. وهكذا.

قال الحجاج لسعيد بن حبير (رض) لما أراد قتله : اختر قتلتك ، فأجابه سعيد بكل ثقة واطمئنان : بل اختر أنت قتلتك التي سأقتلك بها في الآخرة.

[٤١] (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

ان من اعتمد على غير الله ، فان حضارته كبيت العنكبوت ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.

فمهما كانت قوة الإنسان وقدرته ، فانها لن تجدي نفعا امام قدرة الله ، بيد ان الضمان الوحيد لاستمرار الطاقات ، ونمو الحضارات هو تبلور المفاهيم التوحيدية في الواقع ، وأداء واجب الشكر ، وحق الطاعة ، واقتلاع جذور الشرك والعبودية لغير الله.

[٤٢] (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

ان الله يعلم حقائق الشرك الخفية في النفوس ، ومصاديقها في الواقع ، مهما تعددت أشكالها ، وتنوعت حقائقها ، والله عزيز قادر على الأخذ كيفما يشاء متى يشاء ، ولكنه حكيم لا يأخذهم حتى يتم الحجة عليهم.

[٤٣] (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)

٤٦٠