من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

ان فطرة الإنسان وعقله يهديانه الى ان مالك الشيء هو الذي يحق له التصرف فيه ، ومالك الخليقة هو الذي يصح له التصرف فيها لأنه خالقها ، ولان الإنسان جزء من الخليقة فلا بد ان ينتظر إذن الله في اتباع القيادة التي يعينها سبحانه ، فليس من المقبول ـ وجدانا ـ ان يخلقني الله ثم اختار لنفسي دونه القيادة السليمة والولاية الضرورية.

قال الامام الصادق (ع) في تفسير هذه الآية :

«يختار الله عز وجل الامام ، وليس لهم ان يختاروا» (٣)

وفي أصول الكافي عن الامام الرضا (ع) في فضل الامام وصفاته قال :

لقد راموا صعبا ، وقالوا إفكا ، وضلوا ضلالا بعيدا ، ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة «زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله الى اختيارهم ، والقرآن يناديهم : «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» وقال عز وجل : «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (٤)

(سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)

وفي الآية تأكيد على ان اختيار قيادة غير إلهية ، والتي تعرف بالتعيين المباشر ، أو من خلال المقاييس المبدئية يعتبر نوعا من الشرك.

__________________

(٣) نور الثقلين / ج (٤) ص (١٣٦).

(٤) أصول الكافي ج (١) باب فضل الامام وحجته.

٣٦١

[٦٩] ولا يحق لنا حينما نعرف القيادة الحقيقية ان نتركها الى غيرها بمختلف التبريرات ، أو بالهوى في مقابل النص والمقياس الإلهي ، فإننا مهما أخفينا الأسباب والدوافع ، الا أن الله يعلمها.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ)

الأسباب الباطنية.

(وَما يُعْلِنُونَ)

الأسباب الظاهرية.

[٧٠] فاذا أردنا اختيار قيادة فلا نختار غير ما يريده الله لأنه إلهنا ، فهو أولى بنا من أنفسنا ، وهذا معنى التوحيد.

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

فالذي خلق وأحاط علمه بالغيب والشهادة أحاطت رحمته الخلق في المبدأ والمصير ، وهو المهيمن على شؤون الخليقة. انه الحميد الذي يختار لنا إمامنا الذي نطيعه.

٣٦٢

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ

___________________

٧١ [سرمدا] : أي دائما.

٧٦ [تنوء] : تثقل.

٣٦٣

أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)

٣٦٤

وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ

هدى من الآيات :

الإله في اللغة هو ما يتأله اليه بالبكاء (١) ويرجع اليه عند الشدائد ، وبالتالي هو الذي ينبغي ان يتّخذ وليّا ، وفي هذا الدرس الذي يذكرنا بربنا عسى ان نسقط الشركاء من حسابنا ، ونخلص العبودية لربنا ، ونطيع من أمرنا بطاعته من رسله وأوليائه ، ونتمرد ضد الطغاة ، والظالمين الذين اتّخذوا من دون الله أندادا ، ويتساءل السياق عن الإله الحقيقي ، الذي يجب ان يتّخذه الإنسان وليّا ونصيرا ، وقائدا ومولى ، ثم يقول مباشرة : «أَفَلا تَسْمَعُونَ» «أَفَلا تُبْصِرُونَ».

وكثيرا ما تتكرر هذه الصيغ وشبيهاتها «أَفَلا تَعْقِلُونَ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ ... إلخ» في القرآن ، وفي ذلك تأكيد لفكرة مهمة هي : ان وجود الآيات وحدها في الكون لا

__________________

(١) قال ابن الاعرابي الألّ كل سبب بين اثنين وقال ابن الفارسي : الألّ : الربوبية ، وقال الفراء : الألّ رفع الصوت بالدعاء والبكاء ، ويبدو ان ما ذكرناه آنفا يجمع المعاني المختلفة للكلمة. راجع معجم مقايس اللغة ج (١) ص (٢٠ / ٢١).

٣٦٥

يكفي ، بل لا بد من وجود جهاز استقبال عند البشر حتى ينتفع البشر منها ، فهل ينفع نور الشمس من أغمض عينيه؟!

ان الله هو الذي جعل الليل سكنا ، والنهار ميدانا للسعي والنشاط ، وهو الذي يقدّر حياة الخلق وموتهم ، والمطلوب منّا ان نتخذه إلها حقّا ، وذلك بان نستمع لرسله ، ونبصر آياته ، ثم نعقلها لنعرف الحقائق.

نجد في الآيات الاخيرة من هذا الدرس اشارة بل توضيحا لفكرة القوّة المالية في الحياة ، فما هو الهدف من النعم الالهية على البشر؟

ان الهدف من النعم هو الوصول الى الكمال الروحي ، والعروج بقيم الإنسان وروحه في مدارج المجد والعظمة عبر الشكر لله ، والذي يمثل الأثر الإيجابي المنبعث عن وجود النعم ، وذلك أسمى من الرفاه والرخاء المادي ، ومن لا يشكر النعم تتحول لديه الى نقمة من الناحية النفسية ، فترى نعمة الفراغ تتحول عنده الى قلق وضياع ، تجده بدل ان يصرف الملايين التي يمتلكها في سبيل راحة نفسه وعائلته وأمته ، يذهب بها للفساد فيحطم شبابه ، ثم يعود صفر اليدين.

وشكر النعمة هو الذي يجعلها نافعة ، بينما الكفر بها يحولها نقمة على صاحبها ، ويتمثل الشكر في الانتفاع بها ضمن الحدود المشروعة لأهداف خيّرة ، وقارون كان بعكس ذلك تماما ، فقد أعطاه الله من الكنوز ما تنوء مفاتحها بالعصبة الأقوياء ، لكنه بدل ان يستفيد منها ، وهو من شعب مستضعف كفر بها وبربّها كما يذكر القرآن ذلك في الدرس القادم ، ولكن السؤال : ما هي مناسبة الحديث عن قصة قارون ، وبالضبط عند الحديث عن القيادة؟

الجواب : ان الانحراف البشري عن القيادة الصحيحة ، يتم بسبب ضغط

٣٦٦

أحدى القوتين :

فأما قوة الإرهاب والسيف ، أو قوة المال والثروة ، وإذا كان فرعون مثلا للقوة الاولى ، فان قارون مثل للقوة الثانية ، وإذ يضرب الله لنا هذه الأمثال فلكي يقيم الحجة علينا ، فلا نلتف حول صاحب الثروة لماله ، ولا حول من يملك الحكم لقوته.

بينات من الآيات :

[٧١] لا ينكر أحد بأن الذي أضاه بنوره الأرض وما فيها هو الله ، ويعرف الكل انّه الأحق بالطاعة ممن لا يملك نفعا ولا ضرا ، ولا ضياء ولا هدى من جبابرة الأرض ومترفيها.

بلى .. يعرف الناس جميعا هذه الحقيقة ، ولكنهم لا يعقلونها ، فتراهم يركضون وراء الطغاة والمفسدين طمعا في بعض الثروة ، أو خشية من أذاهم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً)

دائما ومستمرا.

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)

وهذا هيّن على الله ، فهو يستطيع ان يحجب نور الشمس لتتحول الأرض ظلاما دامسا ، ولو فعل ذلك لما استطاع أحد ان يعيد النور مرة أخرى.

(مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ)

[٧٢] ثم لو جعل الله أبدا سرمدا ، هل يقدر من نعبدهم من دونه على المجيء بالليل لنسكن فيه ، وننعم بهدوئه الذي ينفذ حتى في عظامنا. ، وأنسجة أعصابنا.

٣٦٧

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ)

وبالمقارنة بين الإثنين نستفيد فكرتين مهمتين :

الاولى : ان الله قال في الآية (٧١) : «يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ» من دون ان يبين فائدة الضياء ، بينما قال في الآية (٧٢) : «يأتيكم بليل» وبيّن إحدى فوائده «تسكنون فيه» ولعل ذلك لان الإنسان ينام بالليل ، فلا يتفكر في أهميته فاقتضى التنبيه.

الثانية : انه عز وجل قال في حديثه عن الليل : «أَفَلا تَسْمَعُونَ» بينما قال في حديثه عن النهار : «أَفَلا تُبْصِرُونَ» لأن الحاسة التي يمكن للإنسان الاستفادة منها في الظلام هي السمع ، لأنه لا يرى فيه ، بينما يعتمد أكبر شيء في النهار على حاسة البصر.

ويبدو ان معنى الآية : أ فلا تسمعون عن نعمة الليل ، وأ فلا تبصرون نعمة النهار.

[٧٣] (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)

اي في الليل.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)

في النهار ، كأمر طبيعي بالنسبة للإنسان ، والليل والنهار يبعثان حالة الشكر والرضى في البشر.

٣٦٨

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

وذلك ل :

١ ـ لان نفس الإنسان لا ترتاح على نمط واحد ، بينما التنوع يرضيها ويبعثها على الشكر.

٢ ـ الذي يعمل بالنهار وينام بالليل يحصل على وقت للتفكير في إنجازاته فيرتاح ، وللتفكير في مستقبله فيخطط له ، وحينما يأتي لعمله في النهار يكون قد أخذ قسطا من الراحة والاستعداد لبذل جهد ونشاط أفضل.

٣ ـ ثم ان هدف المؤمن من الحياة أسمى من الماديات ، فهو من وراء النعم يسعى للشكر ، لذلك تراه في حالة من الرضى والاطمئنان مهما كانت الظروف معاكسة للطموحات المادية المغروزة فيه ، لأنه ينظر الى الجوانب الايجابية في الحياة.

وفي الحديث عن ابن عباس :

«ان امرأة أيوب قالت له يوما : لو دعوت الله ان يشفيك ، فقال : ويحك! كنا في النعماء سبعين عاما ، فهلّم بضر في الضراء مثلها» (٢)

فعلموا ان الحق لله :

[٧٤] الله هو الخالق وصاحب الفضل والنعمة على البشر ، وله وحده يصرف الشكر ، الا ان البعض بدل ان يفعل ذلك تراه يشرك بالله ، فيعتقد ان السلطة أو أصحاب القوى المختلفة هم مصدر النعم والفضل عليه ، فيعبدهم من دونه تعالى ، وحساب هؤلاء عسير عند الله.

__________________

(٢) بح ج (١٢) ص (٣٤٨).

٣٦٩

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)

فلا يجيبون ، وقد سبقت آية مشابهة تماما لهذه الآية وهي آية (٦٢) مما يدل بان النداء الالهي مرة يكون أمام قادة المشركين من أئمة الضلال ، ومرة في حضور الرسل وخلفائهم من أئمة الهدى.

[٧٥] ويتم الحجة عليهم عند ما يستدعي الشهود على كل امة منها :

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)

وهم الأنبياء والأئمة. جاء في آية كريمة : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (٣)

وجاء في حديث شريف في تفسير هذه الآية :

«ومن هذه الامة امامها» (٤)

(فَقُلْنا)

للمشركين :

(هاتُوا بُرْهانَكُمْ)

ان كانت لديكم حجة على طاعتكم للأنداد ، واتباعكم لذوي الثروة والسطوة ، ولكنهم لا يجدون جوابا. إذن علينا ان نفكر مرتين قبل ان نتبع قائدا ، لننظر هل نملك على طاعته برهانا يوم القيامة ، حيث لا ينفع الجدل والتظني

__________________

(٣) النساء / (٤١).

(٤) عن تفسير الميزان ج (١٦) ص (٢٠).

٣٧٠

والتبرير.

(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

يوم القيامة تبلى السرائر ، وتظهر الحقائق ، ويتلاشى الباطل والكذب ، كما تتبدد الأعمال المنافقة ، ولعل فاتحة الآية تشير الى ضلال وضياع عبادتهم للأنداد ، وأيضا أعمالهم التي مارسوها في الإطار الشركي.

[٧٦] ومن جملة ما يفتري الإنسان على الله هو اتباع مالكي المال والثروة.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ)

انحرف عنهم ، وصار يظلمهم.

(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)

والعصبة كما في تفسير علي بن إبراهيم :

«ما بين العشرة الى خمسة عشر» (٥)

لقد رزقه الله كنوزا ذات مفاتيح (صناديق وخزائن) لو حملتها العصبة أولوا القوة لأرهقتها ، وكان الهدف من إعطائه الثروة امتحانه. ذلك ان المؤمن الحقيقي تزيده الثروة قربا الى الله ، وتواضعا في خدمة الناس ، ولهذا جاء في الحديث :

«الغني الشاكر خير من الفقير الصابر»

أما ضعيف الايمان أو المنافق فانها لا تزيده من الله إلّا بعدا ، وفي الناس إلّا

__________________

(٥) بح ج (١٣) ص (٢٤٩).

٣٧١

تكبرا وغرورا ، ولم يكن قارون من النوع الاول ، فبادر المؤمنون لنصيحته :

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ)

والفرح في هذه الآية بمعنى الغرور ، وهو انعدام الهدف ، وإحساس الإنسان بحالة الإشباع (انعدام المسؤولية) وكثير هم الذي يصابون بهذا الداء بسبب الجاه والثروة ، قال تعالى : «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (٦)

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)

لأنهم ينسون الله فينساهم ، بل كثير ما يجرّهم الفرح لمبارزة الله.

[٧٧] الدنيا سلاح ذو حدين فإمّا تؤدي بصاحبها الى النار وذلك حين يتصورها هدفا بذاتها ، وأما ان تؤدي به الى الجنة وذلك حينما يتّخذها مطية لعمل الصالحات ، فالغنى يصير فضيلة إذا استخدمه صاحبه في سبيل الله.

هكذا يقول الامام أمير المؤمنين عن الدنيا :

«من أبصر بها بصّرته ، ومن أبصر إليها أعمته» (٧)

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ)

بإخراج حق الله وحق المحتاجين ، وصرف المال في عمل الصالحات كبناء المساجد ، ومساعدة الحركات الاسلامية ، والإسلام لا يطالب الإنسان بإعطاء كل ماله في سبيل الله ثم يجلس خالي اليد ، بل يطالبه بالاعتدال في الإنفاق بقوله

__________________

(٦) العلق / (٦ ـ ٧).

(٧) عن نهج البلاغة الخطبة رقم (٨٢).

٣٧٢

تعالى في سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٨)

(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا)

وهذه الآية دليل على هذا التفسير ، وعلى خطأ النظرة القائلة بفصل الدين عن الدنيا. إذ بإمكان الإنسان ان يبني مسجدا الى جانب بيت فخم. الا ان للإمام علي (ع) تفسيرا آخر للآية ينسجم ـ مع سياق الآيات ـ ونفسيّة شحيحة ، كما كانت عند قارون أمثولة الترف والفساد ، يقول الامام (ع):

«لا تنس صحتك ، وقدرتك ، وفراغك ، وشبابك ، ونشاطك ان تطلب بها الآخرة» (٩)

ذلك ان ما يبقى من الدنيا ليس سوى ما يبعثه الإنسان الى الآخرة.

ثم أكد السياق ضرورة الإحسان إلى النّاس ، والإحسان هو بذل المزيد من الأموال مضافة الى الحقوق المالية المفروضة ، ولا ريب ان الثروة المكدّسة لا تهنئ لصاحبها من دون الإحسان ، وان لذّة روح الإنسان من الإحسان أعظم بكثير من لذّة بدنه بالترف ، كما أن الإحسان يمتص نقمة المحرومين على صاحب الثروة ، ويحولها الى ذكر حسن ، وثواب عند الله عظيم ، بينما الشح يودي الى الفساد والاستكبار في الأرض.

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ

__________________

(٨) الفرقان / (٦٧).

(٩) تفسير نمونه ج (١٦) ص (١٥٦).

٣٧٣

لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

ولعل نهاية الآية (٧٦) (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) تلتقي مع هذه الآية في ان الغرور (الفرح) يؤدي للفساد في الأرض.

٣٧٤

قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)

٣٧٥

ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً

هدى من الآيات :

بالاضافة الى الجوانب العلمية في القرآن هناك جوانب بالغة الأثر في الحكمة ، تمثل مفتاحا لشخصية الفرد ، وشفاء لأمراضها وعقدها ، فعند ما نقرأ قصة قارون فان الذي نعتبر به من هذه القصّة يساوي أو يفوق ما نتعلمه منها ، فنحن نتعلم منها أثر الثروة وميكانيكيتها في المجتمع (قانون الثروة) وهذا وحده لا يكفي إذا لم نعتبر منها في إصلاح أنفسنا عند مواجهة زينة الحياة الدنيا بتجاوز ظاهر الأحداث الى لبها ، وتفاصيل القصة الى هدفها وذلك من خلال وعي الآية القرآنية :

«يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

والحديث الشريف عن الدنيا انها :

٣٧٦

«تغر وتضر وتمر» (١)

وكثير هم الذين تخدعهم الدنيا ، فيحسبونها غاية المنى ، ولكنهم حينما يجربونها يجدونها كالحية ظاهرها أملس ، وباطنها السم الزعاف ، وهي كماء البحر كلما يشرب العطشى منه كلما يزدادون ظمأ ، وهكذا كلما لهث الإنسان وراء زينة الدنيا ، يحسبها تحقق اهدافه ، كلما ازداد بعدا عنها ، وصدق الامام علي (ع) إذ قال :

«منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب دنيا» (٢)

وأهم ما نستفيده من هذه القصة التالية :

١ ـ من الناحية النفسية يجب ان لا تخدعنا الثروة ، وتبعدنا عن هدفنا الأكبر وهو الآخرة ، فلقد كان بإمكان قارون الذي يعجز عن حمل مفاتح خزائنه الرجال الأقوياء ، ان يجمع آخرته الى دنياه ، ولكنه حينما قيل له ذلك رفض وقال : ان الأموال التي حصلت عليها كانت نتيجة جهدي وعملي وأنكر فضل الله ، بينما لم يكن علمه سوى وسيلة بسيطة في جمع هذا المال الذي أعطي له لاختباره ، وامتحان إرادته ، لذلك فشل في الامتحان ، فخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

٢ ـ من الناحية الاجتماعية يجب ان نلتف حول الأشخاص لما يحملونه من رسالة صالحة ، وما يجسدونه من صفات سامية ، وليس لأموالهم وسلطتهم ، والذي جعل الكثير من الطواغيت يتسلطون على رقاب الناس هو تقديس الناس للثروة ، واحترامهم لأصحابها ، وجعلها مقياسا بدل ان تكون القيم هي المحور ، والإسلام

__________________

(١) نهج البلاغة / ح (٤١٩).

(٢) نهج البلاغة / ح (٢٢٨).

٣٧٧

يحسّس الإنسان بكرامته ، وأنها أكبر من المال والجاه حتى لا يقع فريسة للرأسماليين. رجالا كانوا كما في الغرب ، أو أحزابا في الشرق ، وفي الحديث الشريف :

«من أتى غنيّا فتواضع له ذهب ثلثا دينه» (٣)

٣ ـ ان الذي يستفيد من الثروة في غير أهدافها ، كما لو استخدمها للتّباهي والتّفاخر يخسر الآخرة ، كما لا يتنعم بثروته في الدنيا ، بل يخسرها. ان هدف الثروة هو عمارة الأرض ، فإذا استخدمناها للتعالي على الناس ، والفساد في الأرض فسوف يكون مصيرنا ما انتهى اليه قارون ، الذي خسف به في الدنيا ، وهو في الآخرة من الخاسرين.

بينات من الآيات :

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) :

[٧٨] عند ما نصح المؤمنون من قوم موسى قارون ، بان لا يفرح بماله ، وان يسعى به نحو أهدافه الحقيقيّة ، وهو جعل الدنيا وسيلة للآخرة ، وليس هدفا بذاتها.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)

الثروة كانت نتيجة لجهودي ، وبالتالي فليس لزاما أن تعطى في سبيل الله لأنها ليست من عنده ، هكذا لم ير أيّ اثر للغيب في حصوله على الثورة ، بل لم يجد الغيب قادرا على ان يذهب به وبثروته جميعا ، هكذا طغى ، وأضحى من الفرحين بما أوتي ، لقد كانت نفسه ضيّقة غمرها حب الثروة ، فحجبها عن سائر

__________________

(٣) بحار الأنوار / ج (١) / ص (١٨٢).

٣٧٨

الكمالات المعنوية ، بل وحجبه عن رؤية المستقبل ، واحتمال زوال هذه الثروة ، بل وهلاكه هو معها ، وحتى عن رؤية سائر نعم الله عليه التي لا أثر للثروة فيها.

ويعالج القرآن هذه النفسية المريضة بتوسيع أفقها لتنظر إلى التّاريخ ، ويتساءل أين أولئك الذين كانوا يملكون القوة والثروة؟! ويقول :

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً)

في الأنصار.

(وَأَكْثَرُ جَمْعاً)

في المال ، وذلك بسبب فسادهم ، ولن يمنع الله الغنى أن يهلك أحدا.

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)

البعض يتصور أن بإمكانه تبرير انحرافه ، ولكن حينما ينزل العذاب فليس ثمة مجال لسماع التبريرات. هكذا يكون السير في الأرض ، والنظر في عواقب الأمم الغابرة ، وزيارة المقابر ، ودراسة حياة الأثرياء والسلاطين الهالكين أفضل نجاة من غرور النعم وطغيانها.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) :

[٧٩] كان قارون يسعى لفرض سلطته على الناس من خلال ثروته ، مما كان يدفعه للتباهي والظهور بمظهر العظمة ، وقد ورد في الأخبار : انه لم يكن يخرج إلّا مع أربعين فارسا ، قد لبسوا زيّا واحدا.

٣٧٩

وفي الأثر أيضا : وخرج على موسى (ع) في زينته على بغلة شهباء ، ومعه اربعة آلاف مقاتل ، وثلاثمائة وصيفة عليهن الحلّي (٤)

وفي خبر ثالث : خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان ، وعليهم المعصفرات (٥)

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)

ولا شك ان في المجتمع من تقع هذه المظاهر الدنيوية موقعا في نفسه لضعف ايمانه ، ولأنّه يلتقي مع أمثال قارون في نقطة واحدة هي حب الدنيا.

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)

هكذا أفسد قارون بالثروة المجتمع الاسرائيلي ، حيث ضللهم عن قيم الرسالة الى القيم المادية.

[٨٠] أما المؤمنون الذين ينظرون للحياة من خلال بصيرة الإيمان ، فقد تحملوا مسئوليتهم تجاه هذا الانحراف ، فبادروا الى النهي عن المنكر.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)

وبالتالي عبروا الظواهر إلى ألبابها ، والدنيا الى الآخرة ، بل وعرفوا عاقبة هذا الموقف ، وهكذا ينبغي للمؤمن ان يتحمل مسئوليته حينما يتأثر الناس بمظاهر الثروة الباذخة.

__________________

(٤) بحار الأنوار / ج (١٣) / ص (٢٥٣).

(٥) المصدر / ص (٢٥٤).

٣٨٠