من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

(وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)

هؤلاء لم يتأثروا بزينة الحياة لأن هدفهم هو الآخرة التي لا تقاس بالدنيا ، وهذه الكلمات تكشف عن النفسية العالية التي تتحدى إغراءات الدنيا بقوة الايمان ، ولا ريب ان هذه التحدي يحتاج الى الصبر ، أو ليس الصبر ينمي في الإنسان النظرة المستقبلية؟!

(وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ)

لقد تقدم في الدروس السابقة : ان من مشاكل النفس البشرية هي العجلة ، والميل لما هو حاضر ، وحتى يتجاوز الإنسان هذه المشاكل ، فانه بحاجة الى الصبر حتى يحصل على ما في المستقبل وهو العاقبة الحسنة في الدنيا ، والجنة في الآخرة.

[٨١] (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ)

ولكن لماذا يخسف الله بداره الأرض؟

لعل ذلك حتى لا تغر بما فيها من زينة أحد غيره.

ان مقام الظالمين يكتسب نحوسته منهم فيستحق الهلاك ، هكذا أهلك الله القرى لما ظلم أهلها.

(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ)

حتى الذين تجمعوا حوله ، كانوا يريدون شيئا من دنياه ، أما وقد ذهبت من يده فهو لا يسوى عندهم شيئا ، بل لو حاولوا نصره لما استطاعوا أبدا.

(وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ)

٣٨١

وهذه الآية مثل على الحقيقة الآنفة «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ».

وقد نهى النبي (ص) ان يختال الرجل في مشيته فقال :

«من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنم ، وكان قرين قارون ، لأنه أوّل من اختال فخسف الله به وبداره الأرض» (٦)

[٨٢] وبعد ما خسف بقارون ، وانتهى كل ملكه تبيّنت للذين تمنوا مكانه حقيقتان :

الاولى : عرفوا كذب ما قاله لهم قارون من ان هذه الأموال من عنده ، منكرا أنّ الله هو الذي يوّسع ويضيّق على من يشاء ، والدليل أنّ الله هو الذي سلب منه ماله ، والذي يقدر على سلب المال بهذه الكيفية لهو قادر على إعطائه.

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ)

ثم حمدوا الله انهم ما انحرفوا مع قارون ، والا لشملهم العذاب.

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا)

الثانية : عرفوا أن الكافر الذي يكابر الله ، ولا يستفيد من نعمه في أهدافها الحقيقية يفشل في الحياة ، وأنّ المفلح هو المؤمن الذي يعمل الصالحات ، كما أكّد على ذلك أهل العلم الإلهي في الآية (٨٠).

__________________

(٦) نور الثقلين / ج (٤) ص (١٤٠).

٣٨٢

(وَيْكَأَنَّهُ)

اي ويل لك يا قارون انه ...

(لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)

والعاقبة للمتقين.

[٨٣] وجاءت في خاتمة الدرس آية توجز عبرها وحكمها : ان رسالات الله نزلت حتى تزكّي أفئدة الناس من دنس الاستكبار والفساد ، وتطهر جنبات المجتمع من المستكبرين والمفسدين ، فهذا فرعون علا في الأرض واستكبر ، فقصم الله ظهره حين بعث موسى برسالاته وآياته ، ثم نبذ فرعون وجنوده في اليم ، وقارون إذ بغى على بني جلدته ، ففسد في الأرض خسف الله به وبداره الأرض بدعوة موسى (ع).

ان فرعون لهو الامثولة الظاهرة للاستكبار ، وان قارون لهو الأحدوثة البيّنة للفساد.

وإذ يضرب الله بهما مثلا فلان الأمثال تضرب بأوضح المصاديق ، وأشدّها إثارة ، بينما تتسع عبرتها لكل من يكون مثلهما بنسبة وجود صفتهما فيه.

ان القلب الذي ينزع نحو العلو في الأرض ينطوي على فرعون صغير ، والفؤاد الذي يهوى الفساد يحمل في ذاته قارونا بقدره ، ورد في الحديث :

«طوبى لمن أطاع موسى تقواه ، وعصى فرعون هواه»

وكما ان النار تحرق ما حولها بقدرها ، كذلك الانحراف يؤثر بقدره ، ولا يمكن

٣٨٣

ان ننكر طبيعة الحرق في النار حتى ولو كانت قبسا ، كذلك لا يجوز ان نستهين بخطر الاستكبار والفساد حتى ولو كان بقدر ذرة ، والدنيا دار ابتلاء وتمحيص ، ولا بد ان يتطهر القلب من أثار التكبر والفساد حتى يضحى أهلا للجنة. دار ضيافة الله ، ومقام كرامته ، ومأوى أوليائه وأحبائه.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)

أما الطغاة وأولياؤهم فان لهم دارا أخرى ، حيث يساقون الى النار وساءت مصيرا.

وأيّ امتحان عسير يتعرض له أهل الولاية والسياسة ، حيث يطالبهم الرب بان ينزعوا عن قلوبهم رداء التكبر ، ويعيشوا للناس ومع الناس ، وفي مستوى المحرومين من الناس؟! واين تجد مثل هؤلاء؟!

بلى ، كان ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حيث يروي عنه راذان :

«انه كان يمشي في الأسواق وهو وال يرشد الضال ، ويعين الضعيف ، ويمّر بالبياع والبقّال ، فيفتح عليه القرآن ويقرأ هذه الآية ، ويقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل القدرة من سائر الناس» (٧)

وكل من طلب الرئاسة بغير حقها في كل حقل حتى ولو كان ضمن قيادة حزب أو تجمع أو هيئة ، بل وحتى رئاسة عشيرته وأسرته تشمله هذه الآية.

يقول الامام علي (ع): وهو يصف الذين شقوا عصى الأمّة في عصره ، وفرقوها يقول :

__________________

(٧) نور الثقلين / ج (٤) ص (١٤٤).

٣٨٤

«فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وفسق آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه إذ يقول : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» بلى .. والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها» (٨)

ونقرأ حديثا يجعل كل حب للاستعلاء حاجزا بين الإنسان ودخول الجنة ، يقول الامام علي (ع):

«الرجل يعجبه شراك نعله ، فيدخل في هذه الآية» (٩)

(وَلا فَساداً)

إنّ اجلى مصاديقه : تخريب قيم المجتمع ومحاولة السيطرة عليه عبر الثروة ، والسعي وراء إفساد ضمير أبنائه بالرشوة.

ومن مصاديقه : إفساد اقتصاده بالغش ، وسرقة جهود الفقراء بوسائل غير شريفة ، والتلاعب بأرزاق العباد بالاحتكار ، ولكن لا يتوقف الفساد عند هذا الحد ، بل شهوات الدنيا جميعا تدعوك الى الفساد إذا لم تضبطها في حدود العقل والشرع. أو ليس الإسراف في استهلاك الموارد الطبيعية ينشر الفساد فيها ، كذلك الإكثار في الطعام والجنس يرهق جسمك ، وهو بدوره يعتبر ضربا من الفساد؟!

أو ليس طلب المزيد من الحقوق في مقابل القليل من الواجبات يرجح كفة الفساد في حياتك؟! بلى .. لذلك جاء في الحديث في صفة المؤمن :

__________________

(٨) المصدر / ص (١٤٣).

(٩) المصدر / ص (١٤٤).

٣٨٥

«المؤمن حسن المعونة ، خفيف المؤنة»

وأقولها بصراحه : ان منهج الاستهلاك والشره والحرص على الدنيا في أبناء المجتمع هو الذي يؤدي ـ بالتالي ـ الى سيطرة المترفين من أولي الثروة علينا ، ومن خلالهم تحكمنا الإمبريالية الدولية. ان المترفين هم الجزء الظاهر من جبل الثلج في فساد الاقتصاد. انهم فروع شجرة ضربت بعروقها بعيدا في أعراض المجتمع.

ان الركض وراء الربح السريع ، والتهاون في العمل ، والبحث عن الرفاه والرخاء المجانيين ، وترك الإتقان ، والتطفيف في العمل. كل هذه عوامل للانحطاط الاقتصادي ، الذي يؤدي بدوره الى الفقر والتبعية.

متع الدنيا وسائل بلوغ الآخرة ، وأفضل المناهج للتحرز من الفساد الزهد في الدنيا ، دعنا نتلوا معا الحديث التالي في تفسير الآية ، وبيان المصاديق الخفيّة منه. الحديث يقول

روى حفص بن غياث قال ابو عبد الله (ع):

ما منزلة الدنيا من نفسي الا بمنزلة الميتة. إذا اضطررت إليها أكلت منها ، يا حفص! ان الله تبارك وتعالى علم ما العباد عاملون ، وإلى ما هم صائرون ، فحلم عنهم عند أعمالهم السيئة لعلمه السابق فيهم ، فلا يغرنك حسن الطلب ممن لا يخاف الفوت ، ثم تلا قوله : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ....» الآية ، وجعل يبكي ويقول : ذهبت ـ والله ـ الأماني عند هذه الآية

قلت جعلت فداك ، فما حد الزهد في الدنيا؟

٣٨٦

فقال :

قد حدّ الله ـ عز وجل ـ في كتابه فقال : «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ»(١٠)

وإذا كان الامام الصادق (ع) يبكي عند تلاوة هذه الآية خشية الا يكون ممن تشملهم فكيف بمثلي ممن استبد بقلبه حب الدنيا ، وحليت في عينه الضيّقة ، واستهوته الرئاسات وطلبها بكل وسيلة؟! أعاذنا الله جميعا منها ومن شرورها.

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)

الذين يحفظون أنفسهم من نار جهنم بالتزام نهج الحق ، وتعاليم الشرع في كل صغيرة وكبيرة.

__________________

(١٠) نور الثقلين / ج (٤) / ص (١٤٣).

٣٨٧

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

٣٨٨

كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ

هدى من الآيات :

كما في خواتيم السور نتلو في الدرس الأخير من هذه السورة أهم ما جاء فيها من بصائر نشير إليها :

١ ـ تختلف الحسنات عن السيئات في أن جزاءها مضاعف ، فبينما يجازى أصحاب السيئات بقدرها ، يعطى أصحاب الحسنات عشرة أضعاف ما عملوا من الأجر ، ومثل السيئات والصالحات في الدنيا ما يلي : لو أردت حرق بيدر من القمح يكفيك ان تشعل النار فيه حتى تأتي عليه وتحوله رمادا ، ولكن هل يقدر الرماد على حرق بيدر آخر. كلا .. أما لو زرعت حبة قمح فانها تتحول الى سنبلة ، وتصير عشرات الحبوب ، التي إذا زرعت تحولت الى سنابل جديدة ، ومن ثم الى بيدر آخر ، وهكذا سنة الله في الحياة ، فقد بنى الله الكون على أساس نمو الصالحات ، وتحديد السيئات ، ذلك لان كل ما في الكون من قوانين وسنن يساعد بفعالية على البناء ،

٣٨٩

بينما لا تساعد الهدم الا في ظل قوانين الهلاك الفطرية.

الذي يبني يعمل معه كل ما في الكون لأنه الآخر يبني ، ونستوحي من هذا فكرة هامة وهي : ان أفضل وسيلة لنمو الإنسان وتكامله ليس هدم الآخرين وانما بناء ذاته ، لأنه بالبناء سوف تتفاعل معه قوى الطبيعة وسننها ، أما عن طريق الهدم فهو يخسر كل ذلك.

٢ ـ ان الحركات القسرية التي لا تنسجم وطبيعة الحياة يحكمها الفشل ، فبالرغم من ان الظلم والبغي وما أشبه ، قد فسح له ربنا المجال ليختبر ارادة البشر ، الا انه لا يدوم باعتباره حركة قسرية فالذين يخرجون من بلادهم بالظلم لا بد ان يعودوا اليه ولو بعد حين ، وفي التاريخ تمت هجرات قسرية كثيرة ، بعضها من أجل الرسالة ، وبعضها من أجل الكلأ والماء ، وبعضها بسبب الإرهاب الحاكم ، ولكن أصحابها كانوا يعودون ولو بعد قرون منتصرين.

وهذا يدل على ان تلك الأعمال التي جرت على الرغم من العدالة والحق في الكون ، محكومة بالفشل وقد انتهت بالفعل ، وهذا ما تؤكده الآية الثانية في هذا الدرس ، والتي نزلت على المهاجرين في المدينة ، في الوقت الذي كان أكثرهم لا يحلمون بالعودة الى وطنهم الاول.

٣ ـ على الإنسان الذي يحمل مشعل العلم والرسالة ان لا يتصور بأن ذلك له بل انه من الله القي اليه ، وبالتالي يجب أن لا يسعى للحفاظ عليها وعلى مركزه فيها حتى لو كان ذلك على حساب قيمه ومبادئه ، فالرسول لو لا رسالة الله لكان فردا عاديا. اذن فالذي منحه الرسالة هو القادر ان يبقيه في علو الشأن الذي بلغه بسببها ، ويجب ان لا يفكر بأن يكون ظهرا للكافرين ، ليكتسب منهم القدرة ، أو يتنازل عن بعض ما أنزل اليه طمعا في تأييدهم (كما فعل النصارى بدينهم

٣٩٠

فافسدوه) وهذا يجري في علماء الدين ، لأن القرآن نزل كمافي الحديث على لغة :

«ايّاك أعني ، واسمعي يا جاره»

الخطاب موجه للرسول ، ولكن الذي يجب ان يسمع هم الذين يسيرون على خطّه ، ويعملون بمنهجه وهم علماء الدين ، فسرّ عظمتهم هو الرسالة التي يتحملون مسئوليتها ، فلو فكّروا أن يكتسبوا الشهرة والعظمة من مصدر آخر كالكفار ، أو السلطات الفاسدة ، أو الجماهير المنحرفة ، فإنّ ذلك يكون خرقا لسنن الله في الحياة ، ومن ثم عاملا في انحطاط منزلتهم ، وربما نهايتهم ، فليحترموا أنفسهم والعلم الذي تحملوا أمانته ، وليستقيموا ، وليتحدّوا الصّعاب ، وليتجاوزوا العقبات بالتوكل على الله ، والعمل بهدى الرسالة.

وفي الأخير تختم السورة بالتذكرة بالتوحيد ، وهو لا يعني الإيمان بالله ، وانه فاطر السموات والأرض فقط ـ فهذا أمر لا ريب فيه ـ قال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) ولكن مشكلة البشر الشرك ، حيث يخلط بين القيم الإلهية السامية ، والاخرى المادية الجاهلية. الأمر الذي لا يجعله يخلص العبادة لله.

وأكثر الذين ضلّوا منذ خلق الله آدم حتى اليوم انما ضلّوا بسبب شركهم ، ومشركي العرب انما عبدوا الأصنام تصوّرا منهم بأنها تقربهم الى الله زلفى : «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى» (٣)

__________________

(١) إبراهيم / (١٠).

(٢) لقمان / (٢٥) ، الزمر / (٣٨).

(٣) الزمر / (٣٧).

٣٩١

وهذه الفكرة تتناسب مع الفكرة السابقة ، انما يعبد القوى التي تملك ذلك كالاغنياء ، والحكومات ، والناس ، بينما ينبغي له أن يعبد إله الناس وليس الناس أو كبراؤهم واغنياؤهم.

بينات من الآيات :

[٨٤] ان عامل البناء يسبق عامل الهدم في الحياة :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها)

وفي الحديث القدسي :

«لما اعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة ، قال آدم : يا رب! قد سلّطت إبليس على ولدي ، وأجريته منهم مجرى الدم من العروق ، وأعطيته ما أعطيت فمالي ولولدي؟ قال : لك ولولدك السيّئة بواحدة ، والحسنة بعشر أمثالها ، قال : يا رب زدني ، قال : التوبة مبسوطة حتى تبلغ النفس الحلقوم ، قال : يا رب زدني ، قال : أغفر ولا أبالي» (٤)

وقال عز وجل : «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (٥) وعلى العكس من ذلك تقوم الحياة على محدودية السيئة (الهدم).

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

__________________

(٤) كلمة الله ص (٣٥٤).

(٥) البقرة / (٢٦١).

٣٩٢

وهذا وذاك من نعم الله على الإنسان ، والشقي الشقي هو الذي لا يستفيد من بحر رحمة الله ، فتزيد سيئاته على حسناته مع ان تلك بواحدة ، وهذه بعشر أمثالها.

قال ابو عبد الله (ع) : كان علي بن الحسين (ع) يقول :

«ويل لمن غلبت آحاده» فقلت له : وكيف هذا؟! فقال : «أما سمعت الله عز وجل يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) فالحسنة الواحدة إذا عملها كتبت له عشرا ، والسيئة الواحدة إذا عملها كتبت له واحدة ، فنعوذ بالله ممن يرتكب في يوم واحد عشر سيئات ، ولا يكون له حسنة واحدة فتغلب حسناته سيئاته» (٦)

وتشير خاتمة الآية إلى أنّ جزاء العمل في الآخرة ذات العمل بعد ان يتجسد في صورة مادية بشعة ، فالظلم في الدنيا ذاته هي الظلمات التي تحيط بصاحبها في الآخرة ، ومن أكل اموال اليتامى ظلما فانما يأكلون في بطونهم نارا ، وسيصلون سعيرا ، اما النتن الذي يخرج من أفواه الفاسقين فانه ذاته الكذب الذي افكوه أو الغيبة والتهمة والفرية التي مارسوها في دار الدنيا. دعنا نستغفر ربنا حتى يقينا شر السيئات التي اقترفناها ، والذنوب التي احتطبناها.

[٨٥] الحياة قائمة على أساس سبق البناء لا الهدم ، وأن الحركات القسرية نهايتها الفشل ، بينما الحركات التي تجري وفق سنن الله في الخلق تنجح وتثمر ، لأن عامل الزمن يكون في صالحها ، وهذه الفكرة هي منطلق لفكرة أخرى وهي ضرورة انتصار الحركات الإلهية عبر الأجيال.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ)

__________________

(٦) نور الثقلين ج (١) ص (٧٨٥).

٣٩٣

اي ان الذي أنزل القرآن وفرضه عليك يردك الى وطنك الذي هجرك منه الكفار والمشركون.

ولكن لماذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ولم يقل ان الله العزيز مثلا؟

الجواب : هناك قاعدة بلاغية تقتضي انسجام المفردات مع السياق ، وهنا نجد ترابطا وثيقا بين فرض القرآن وعودة الرسول الى بلده ، فما دام الله هو الذي أعطى الرسول منهج العمل ، وفرض عليه الالتزام به ، فانه يجعل هذه الأداة فعالة وكفيلة بأخذ حقه ، وبلوغ أهدافه كعودته إلى بلاده منتصرا بعد الهجرة ، وهذا ينطوي على فكرة حضارية هي : ان المهاجر لا يمكن أن يعود الى بلده ، إلّا إذا طبّق البرنامج الالهي وهو القرآن الحكيم.

ثم يشير القرآن الى ما يبدو انه تعليل للحكم السابق إذ يقول :

(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

ان الهدى ينسجم مع سنن الله في الخلق ، بينما يتنافر الانحراف معها ، وبالتالي فالذي يتّبع الهدى اعتقادا وعملا سيصل إلى أهدافه ، لأن الله المهيمن على الخلق هو العليم بالمهتدين فينصرهم ، بينما أصحاب الضلال يحبط أعمالهم.

[٨٦] والضمانة الرئيسية لوصول الإنسان الى الجادّة هي الاستقامة على الهدى ، وبدونها لا يزداد إلا بعدا عنها ، فلو استجاب للضغوط أو الإغراءات التي تحف طريقه نحو تطلعاته واهدافه فهل يصل إليها؟ بالطبع كلا ..

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)

٣٩٤

اذن فلا تطلب الجاه أو الشهرة والعلو من عند غير الله.

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ)

والظهير هو المعين.

[٨٧] ويؤكد القرآن هذه الفكرة مرة أخرى ويقول :

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ)

ويثنيك عنها الكفار بوسائلهم المختلفة ، فمن اتبعهم أو نصرهم لا ينتفع من آيات الله في الخلق ، ولا آيات الله في الكتاب.

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ)

اي استمر في الدعوة الى الله وحده.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

بخضوعك لهم.

[٨٨] (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)

لقد تقدم القول بأن الشرك هو مشكلة الإنسان الأولى ، فترى الكثير من الناس يخضعون لله ظاهرا ، ولكنهم يخضعون في قسم كبير ومهم من حياتهم للسلطة ، أو المال ، أو الشهرة ، أو .. أو .. ، وإذ يدعو الله للتوحيد المخلص فلأن الواقع ينسجم مع هذه الدعوة ، حيث لا يوجد إله سواه.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

٣٩٥

الإنسان مفطور على الخضوع للقوة ، والجاه ، والثروة ، ولكنه يضل الطريق فيخضع لغير الله ، بينما الله هو مطلق القوة ، والثروة ، و.. و.. ، فتراه تارة يتصور والده هو مصدر المال ، أو أنّ السلطة هي منتهى القوة ، فيخضع لهما مخالفا هدى الله وأوليائه.

كما ان من طبيعة الإنسان البحث بين متغيرات الحياة عن شيء ثابت يعتصم به ، والله يؤكد له ان لا شيء ثابت غير الله.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)

لا ريب ان الله باق ، لكن الآية تؤكد على ان ما يتعلق به سبحانه هي الأخرى باقية ، فكلّ شيء هالك إلّا ما كان لوجه الله تعالى ، فوجه الشيء هو الظاهر منه ، ووجه الله هو سبيله ونهجه.

(لَهُ الْحُكْمُ)

السلطة.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

فله العاقبة واليه المنتهى.

٣٩٦

سورة العنكبوت

٣٩٧
٣٩٨

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

١ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم :

«من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين»

تفسير نور الثقلين ج ٤ / ص ١٤٧

٢ ـ عن أبي عبد الله الحسين ـ عليه السلام ـ أنّه قال :

«من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو ـ والله يا أبا محمد ـ من أهل الجنة ، لا أستثني فيه أبدا ، ولا أخاف أن يكتب الله عليّ في يميني إثما ، وانّ لهاتين السورتين من الله مكانا».

تفسير مجمع البيان ج ٨ / ص ٢٧١

٣٩٩
٤٠٠