من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

فيه.

وعلى المهاجر ان يفكر في الحفاظ على قيمه ، وتحصين شخصيّته قبل التفكير في توفير مأكله ومشربه ، فقد رفض موسى (ع) ان يأكل الا بعد ما تأكد من ان هذا الطعام لا تستتبعه ذلة ولا انتماء معينا.

[٢٦] (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)

وهذا الاقتراح يكشف لنا عن أمرين :

الاول : إحساس المرأة بالحاجة الى رجل يقوم بمهام البيت ، وان ما يشبع طموح المرأة في الرجل ان يكون قويا يجبر ضعفها ، وأمينا تطمئن للعيش في كنفه. هذا من الناحية الخاصة ـ بالنظر الى المرأة كامرأة ـ أما من الناحية العامة حيث الظروف المحيطة ببيت شعيب فهاتان الصفتان مهمتان ، فمن الضروري ان يكون قويّا حتى يؤدي المهام والأعمال بشكل أفضل ، وأمينا حفظا لعرض البيت.

قال الامام علي (ع):

«لما قالت المرأة هذا ، قال شعيب (ع) : وما علمك بأمانته وقوته؟ قالت : أما قوته فانه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا بكذا ، وأمّا أمانته فانه قال لي : امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك ، فتصف لي جسدك» (٢)

الثاني : ربما يكشف هذا الاقتراح عن رغبتها في الزواج منه ، فقد ورد في الروايات أن التي تزوّجها موسى هي صاحبة الاقتراح ، بل وإنها هي التي أشارت

__________________

(٢) المصدر / ص (١٢٣).

٣٠١

على أبيها بالزواج منه ، والذي يدل على هذا الأمر الآية اللاحقة ، حيث يطرح فيها شعيب موضوع الزواج على موسى (ع) لقاء عمله معه ثمان أو عشر سنوات ، مما يدل على وجود بحث مسبق ، في هذا الموضوع بينه وبين أبنته ، ولا ريب انها كانت تعرف بأن أجور عمله هو الزواج.

[٢٧] وقبل شعيب باقتراح ابنته فاقبل على موسى (عليه السّلام).

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ)

واشترط عليه العمل ثماني سنين.

(عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ)

إلزاما ، وخيّره في سنتين إذا أراد هو.

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ)

باختيارك وأرادتك ، وإحسانا منك.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)

[٢٨] فأجابه موسى :

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)

وبقي موسى (ع) يعمل عند شعيب (ع) وقد جعل الله ذلك كرامة لنبيه شعيب لما هو عليه من التقوى والزهد.

٣٠٢

قال رسول الله (ص):

«بكى شعيب (ع) من حب الله عز وجل حتى عمي ، فرد الله عز وجل عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي ، فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، فلما كانت الرابعة أوحى الله اليه : يا شعيب! الى متى يكون هذا أبدا منك؟ إن يكن هذا خوفا من النار فقد أجرتك ، وان يكن شوقا الى الجنة فقد أبحتك ، فقال : إلهي وسيّدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفا من نارك ، ولا شوقا إلى جنتك ، ولكن عقد حبك على قلبي فلست أصبر أو أراك ، فأوحى الله جل جلاله إليه : أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى ابن عمران» (٣)

وهكذا كان حيث زوج شعيب ابنته لموسى لقاء العمل عنده لمدة ثمان سنوات أو عشر ، وعلى هامش هذا الزواج هناك حقائق نشير إليها :

الاولى : من الممكن ان تختار المرأة الزوج المناسب لها ، لأن الزواج قضية مصيريّة ، ذات أثر عميق على حياة المرأة ومستقبلها ، ولكن هذا الإختيار يجب ان يكون بطريقة لائقة ، تتناسب مع حشمة المرأة ، والقيم الإلهية ، فهذه بنت شعيب انما اختارت موسى لما وجدت فيه من الصفات والمؤهلات ، من قوة وامانة ، والتزام بمفاهيم الرسالة ، ثم عرضت اختيارها بأدب على أبيها.

الثانية : قبل ان يتقدم موسى (ع) بطلب الزواج ، بادر شعيب الى ذلك ، حيث وجده كفؤا ، ووجد في زواجه من ابنته ضمانا لمستقبلها ، وسعادة لها في الحياة ، وهذا خلاف ما نجده الآن في المجتمعات التي صار فيها عرض الأب بناته للزواج ممن يجده أهلا لها عيبا كبيرا.

__________________

(٣) المصدر / ص (١٢٤).

٣٠٣

الثالثة : ان البنت الصغرى هي التي تزوجت وليست الكبرى. على عكس بعض التقاليد الخاطئة التي ترى ضرورة زواج الكبرى أوّلا.

[٢٩] وبقي موسى عند نبي الله شعيب (ع) عشر سنوات ، وهي أقصى الأجلين قبل ان يقرر العودة من جديد.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ)

وكان هذا إيذانا بدخول الحركة الرسالية مرحلة جديدة ، هي مرحلة العودة للتحرير ، وقد سبق أن أشرنا بأن الهجرة عند الرساليين لا تعني الهروب من الواقع وتحمل المسؤولية ، إنما تعني الإعداد الأفضل لخوض الصراع الحاسم ، ولا ريب ان موسى كان يفكر في مستقبل شعبه ، ويخطط للمعركة القادمة وهو في طريق العودة.

كان الوقت ليلا ، والفصل شتاء ، والمسير في صحراء مترامية الأطراف ، ولم تكن هذه الطريق معهودة عند موسى ، فضاع وماتت مواشيه ، فصار يلتمس عونا له على هذه الظروف ، وفي هذه الأثناء :

(آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ)

وهو الجبل.

(ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً)

وآنس من الاستئناس ، وبالفعل أعطت هذه الشعلة شيئا من الأمل للنبي موسى وهو يعاني تلك الظروف القاسية ، فأمر أهله بالبقاء ، حيث أبقاهم في مكانهم ريثما يعود ، وكانت أصعبها عليه الضياع ، وبقاء أهله في البرد ، كذلك قال :

٣٠٤

(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ)

كان يتصور (ع) ان بجانب النار جماعة ما ، يسألهم عن الطريق ، ويعود لأهله بخبر مفيد.

(أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)

والاصطلاء : هو التدفؤ.

[٣٠] كان هذا أبعد ما ذهب اليه موسى حينما رأى النار ، ولكنه كان يحمل في داخله همّا أكبر من ذلك كله ، هم تحرير شعبه وسوقه نحو توحيد الله وعبادته ، بعيدا عن العبوديات المزيفة ، ولو وصل في هذا المضمار الى نتيجة لا بد انه كان ينسى كل شيء سوى ذلك الهم.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)

وفي غمرة هذا القرب الالهي امره الله ان يقطع عنه كل علاقاته الأخرى ، وينسى أهله وضياعه ، وهلاك مواشيه ، لأنه وجد ربه ، وهنا التفاتة مهمة تعني المجاهدين أكثر من غيرهم وهي : ان عليهم الاطمئنان الى نصر الله وعونه ، وان ذلك كله لا يتأتى لأحد إلّا بعد السعي والجهاد : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (٤)

وثمّة فكرة نجدها في تفسير الامام الصادق (ع) لهذه الآية. إذ يقول :

__________________

(٤) العنكبوت / (٦٩).

٣٠٥

«كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو ، فان موسى ابن عمران ذهب يقتبس نارا لأهله ، فانصرف إليهم وهو نبيّ مرسل» (٥)

__________________

(٥) نور الثقلين ج (٤) / ص (١٢٧).

٣٠٦

وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا

___________________

٣٢ [أسلك] : أدخل.

[جناحك] : يدك.

[الرهب] : الخوف.

٣٤ [ردء] : أي معينا.

٣٠٧

يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧)

٣٠٨

بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ

هدى من الآيات :

لحظة الوحي هي لحظة حساسة في تاريخ البشرية ، لأنها لحظة الاتصال الخارق للعادة ، بين رب السماء والأرض عبر مشكاة طاهرة تتجسد في قلوب الرسل الذين يستقبلون الوحي ، ثم يبلّغونه للناس دون زيارة أو نقصان ، وهذه اللحظة لا تتكرر كثيرا في حياة البشر ، إلا وفق حكمة الله البالغة ، وقد تحققت لأمة بني إسرائيل عند ما كلم الله نبيه موسى (ع) في طور سيناء ، كما تحققت للأمة الاسلامية في ليلة القدر ، حينما نزل القرآن كلّه على قلب النبي محمد (ص) ولعظمة هذه اللحظة كانت ليلة القدر خيرا من الف شهر.

لقد كلّم الله نبيه موسى تكليما ، ولكنه أجلّ من ان يكون له لسان ، انما يخلق الصوت خلقا وبذلك تغيرت صفحة الحياة ، وبدأت المسيرة الحقيقيّة لبناء الأمة المؤمنة.

٣٠٩

ولقد زود الله نبيه موسى (ع) بآيتين عظيمتين هما العصا ، ويده التي تصير بيضاء حينما يضمها الى جيبه ، ثم أمره بالتوجه إلى رأس الفساد والانحراف في المجتمع وهو الطاغوت ، ذلك أنّ من خصائص الرسالات الإلهية عبر التاريخ أنها شجاعة مقدامة ، لهذا نجد موسى (ع) حينما يأمره الله بالتوجه إلى قلب الكفر يفعل ذلك ويترك العمل السري دون ان يخشى من فرعون ، ولماذا يهاب أحدا وقد اتصل بالوحي وبخالق الكون كله؟!

وفي مقابل موسى يقف فرعون وهو تركيز لشتّى أنواع الفساد ، إنسان ظالم ، تحوطه الأهواء والشهوات والكبرياء المزيفة ، وبالطبع لا يمكن أن يتخلّى عن ذلك كله في لحظة واحدة ، ويتجه الى عبادة الله ، ويسلم لقيادة رسوله ، إلّا أنّ موسى يبقى ثابتا أمام ذلك ، واثقا من «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» وانهم مهما فعلوا ، ومهما استمروا ، وتشبثوا بأسباب القوة فان عاقبتهم الخسران.

ان العبر التي نستوحيها من هذا الدرس كثيرة ، وتنفعنا في حياتنا ونحن ندعوا الى الله ، ولكن أبرزها ان يعرف الفرد الرسالي بان النقطة المحورية لتحركه هو تقربه من الله ، فليدع وليعمل وليعارض ولكن انطلاقا من هذه النقطة وانتهاء إليها.

هل رأيت المحارب ينطلق من خندقه ، ثم يعود اليه ليغير سلاحه ، ويحكم خطته ، ثم يهجم مرة أخرى؟ كذلك المؤمن يواجه السلبيات والمشاكل والتحديات ، فيضعف سلاحه ، وينفذ زاده ، وتتعب نفسه فيعود الى خندقه ليجبر ضعفه ، ويحمل زاده ، ويستعيد نشاطه ، ولكنه اين هو خندق المؤمن؟ انه المحراب يقف فيه للصلاة ، والقرآن يستوحي منه خطط العمل والتحرك ، والصوم يشد به أزره ، والتبتل يستفيد منه العزم والإرادة والإصرار عبر اتصاله بالله.

٣١٠

انّا لو فصلنا الحركة الرسالية عن الروحيات (الصلاة ، والصوم ، تلاوة القرآن ، الايمان بالغيب و.. و) فانها تصبح كأيّة حركة مادية أخرى لا قيمة لها ، كما الإنسان لو أخذنا منه عقله ، أو الحيوان نسلب روحه. انه يتحول الى كتلة لحم تتعفن بمرور الأيام ، فالحركة الرسالية يجب ان تكون من الله ، والى الله ، وبالله ، وفي سبيل الله ، وليس من الله الى غيره ، أو من غيره تعالى اليه.

وحينما تتخلى أمّة عن الوحي تضحى كبني إسرائيل كانوا حركة رسالية ، فتحولوا الى حركة مادية بحتة أفرزت دويلة إسرائيل (فلسطين اليوم) أما المسلمون فقد تقدموا لما اتصلوا بالرسالة ، ولما تركوا الرسالة سلب منهم كل شيء.

بينات من الآيات :

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) :

[٣١] لقد زود ربنا سبحانه ، نبيه موسى بآيتين عظيمتين هما أولا : العصا التي إذا ألقاها صارت حيّة تسعى ، وإذا أخرج يده من جيبه ، فإذا هي بيضاء للناظرين :

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ)

لان موسى لا زال يحتفظ بخاصيته البشرية ، فهو لا يزال وسيبقى بشرا ، يملك من العواطف والمشاعر ما يملكه الآخرون ، وهذا دليل على أن الأنبياء لا يتحولون بالوحي إلى آلهة ، وأنّ الوحي ليس من عند أنفسهم ، بل هو مسئولية الهية الى من يختاره الله.

٣١١

وكثيرا ما يوحي الله الى أنبيائه ليقولوا هذه الحقيقة للناس صراحة ، كما قال سبحانه : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ». (١)

لذلك ولّى موسى فرارا ، ولم يلتفت خلفه لما رأى الجان وهو ـ كما يقول البعض ـ الحيّة الصغيرة المتحركة.

ولعل العصا صارت جانّا في تلك المرة ، أما في المرات التالية فقد صارت ثعبانا مبينا.

(يا مُوسى أَقْبِلْ)

أنت الذي يراد لك ان تحمل رسالة الله ، يجب ان تكون مقداما لا تخاف.

(وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)

فهذا هو أول الطريق ، وأمامك صعوبات ومشاكل ، فسكن قلب موسى من هذا النداء الرباني ، وتشجع فأخذ الحية فاذا هي عصا كما كانت.

[٣٢] وتواصل النداء الإلهي :

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)

فالبياض لم يكن بسبب مرض البرص مثلا ، وإنما كان آية إلهيّة لموسى.

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)

__________________

(١) الكهف / (١١٠).

٣١٢

والفسق هو الخروج عن الخط الصحيح نحو الانحراف.

[٣٣] هكذا جاءت الرسالة تأمر موسى بمقاومة الانحراف ورأسه فرعون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)

وربما كان موسى يعني ذلك القبطي الذي وكزه فقضى عليه.

[٣٤] (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)

ونستفيد من هاتين الآيتين التاليتين أمران :

١ ـ ان خوف موسى (ع) لم يكن على نفسه ، فقد باعها برضوان ربه والجنة ، ولم يعد من مدين الا ليجاهد الطاغوت ، ولكن خوفه كان على الرسالة ، لأن قتله يعني عدم وصولها إلى بني إسرائيل ، كما تكذيبه يعني فشله في تبليغها أو لا أقل تأثيره عليهم بها.

٢ انه عند ما طرح هذه المشاكل أو العقبات التي تعترضه ، لم يكن هدفه التبرير والتملص من تحمل المسؤولية ، وانما البحث عن الحل.

وهكذا ينبغي للإنسان الرسالي حينما يبعث الى مهمة ما ، في أيّ بلد ان يستعرض العقبات والمشاكل بحثا عن الحل لا التبرير.

[٣٥] (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)

اي سنقوّي كيانك بهارون.

٣١٣

(وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما)

قد يقول البعض ان ذلك نبي الله ، أما نحن فكيف يكون لنا هذا السلطان ونحن لا نملك عصا موسى (ع)؟!

بلى .. ولكن الله يقول :

(بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ)

ان الذي يلتزم بالرسالة هو الذي ينتصر ، وما دام المسلمون يتبعون آيات الله فإنهم الغالبون ، كما انتصر موسى وهارون ومن اتبعهما من بني إسرائيل ، عند ما التزموا برسالة موسى (ع).

[٣٦] (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ)

لا تقبل التشكيك ، ولا تشبه السحر.

(قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ)

ان مشكلة هؤلاء هي النفس البشرية التي تعوّدت على عادات معينة ، وتريد الاستمرار عليها ، وبالتالي ترفض كل جديد لأنه جديد ، وفي مطلع سورة الشعراء نجد اشارة الى هذه الكلمة : «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ». (٢)

[٣٧] ولكن امام هذا الاعراض ماذا كان موقف موسى (ع)؟

__________________

(٢) الشعراء / (٥).

٣١٤

ان الأنبياء والأولياء ، وكل من يسير في خطّهم يتوكلون على الله ، ويرجعون كل شيء إليه ، فلا يقول أحدهم أنا ، بل يقول : الله ، فتراه كلما عرضت له مشكلة أو مصيبة قال : لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم. (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

انهم يجعلون الله شاهدا على الواقع.

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ)

ما دمت أيها الرسالي تعلم بأنك تعمل في سبيل الله ، وتعلم ان هذا السبيل ينتهي بك الى الجنة فما يضيرك من حديث الآخرين ومن ضغوطهم.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

الفلاح هو الوصول الى الهدف ، والرسالة هي الطريق اليه ، والظالم أو الفاسق الذي انحرف عن الرسالة لا يفلح في دنياه لأنه لا يملك الهدى لا في دنياه ولا في آخرته ، لأن عاقبته ستكون النار.

ان الذي يصلح التربة ، ويزرع الأرض ـ وهذا هو السبيل السليم ـ يحصد القمح في نهاية الموسم ، أما الذي يعيش على الاحتيال والسرقة ـ وهذا هو السبيل الخطأ ـ فانه لا يصل الى هدفه ، فقد لا يقدر على السرقة ، وإذا سرق قد لا يستطيع ان يبيع ما سرقه ، وإذا باعه لن يتوفق بأمواله ، والنتيجة انه بسبب من الأسباب لا يفلح في هذه الحياة.

ان حقوق الآخرين حقائق واقعية ، لا يمكن تجاوزها دون جزاء ، أو إزالتها من

٣١٥

خريطة الحياة بمجرد الادعاء بأنها غير موجودة ، فلا يستطيع الجائع ان ينفي الجوع عن نفسه بمجرد إنكاره له ، والظالم لا يستطيع ان ينكر حق الفقير في الشبع ، فهو حق ثابت أجريت سنن الحياة على أساسه ، فعقل الفقير وحاجته وتطلعاته ، مضافا الى تركيبة الحياة ، وسنن الله فيها سوف تجعل من ظلمه مادة لإدانة الظالم وهلاكه.

٣١٦

وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢)

___________________

٣٨ [صرحا] : الصرح هو القصر الواسع.

٤٠ [نبذناهم] : النبذ هو الإلقاء والطرح.

[اليم] : البحر وقد تطلق على النهر الواسع.

٤٢ [المقبوحين] : القبح الابعاد وقبّحه الله أي أبعده.

٣١٧

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ

هدى من الآيات :

انتهت آيات الدرس السابق بالحديث عن الظلم ، وأنه يسبب الخسران لصاحبه ، وفي هذه الآيات نجد مثالا واقعيّا على هذا الفكرة القرآنية التي تلخص سنة إلهية في الحياة ، مستمدة من قصة فرعون ، حيث أغرقه الله وجنوده في اليمّ.

ربما يستطيع الإنسان أن يغيّر سنّة الحياة لفترة من الزمن ـ بما أعطاه الرب من حرية في ذلك ـ ولكن ليس للأبد ، لأن طاقاته محدودة ، بينما الحياة مستمرة ، وسننها تجريها إرادة الله المطلقة. إن فرعون حكم الناس ، وسيطر على البلاد والعباد ، وتكبر حتى بلغ الأمر به أن ادّعى الألوهية ، وأعتقد بأنه قادر على مقاومة الحق ، وأنّ الحياة لا يحكمها قانون ، لكن الواقع كان خلاف ذلك ، فقد اصطدم بالواقع ، إذ تبين له ان فيها سننا ، وان هناك من يجري هذه السنن.

٣١٨

بينات من الآيات :

(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) :

[٣٨] يبدو ان موسى (ع) صعق الملأ بكلامه ، فاهتزت قناعاتهم بفرعون ، واضطره الى الدفاع عن خرافاته بأساليب جديدة ، حيث قال :

أولا : انه يريد مصلحة الملأ ، وانه لم يجد إلها غيره يحققها ، وتظاهر ثانيا : بأنه سوف يبحث عن ذلك الإله الذي يدعو اليه موسى.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)

فما دام هو لا يعلم من اله غيره ، فالآخرين لا يعلمون أيضا ، بل يجب أن لا يعلموا ، وهو يقول : «لكم» لإيهامهم أنّه ينفعهم ، وهو يخاطب الملأ ، لأنه كان قد سلطهم على الناس ، وأعطاهم امتيازات كثيرة.

(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً)

قال : «لي» وليس للشعب ، أو من أجل القيم ، والصرح هو العرش أو القصر المرتفع ، الذي كان قديما يبنى من الآجر ، وهذا بدوره يصنع من الطين بعد تعريضه للنار ، وما هو هدفه من بناء هذا الصرح؟

(لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ)

الهدف الأول : إظهار القوة ، فلكما شعرت السلطات الفاسدة ، عبر التاريخ ، بأنها ضعيفة ، وانها سوف تنهار ، سعت للبحث عن مظهر من مظاهر القوة ، حتى ولو كان هذا المظهر هو بناء العمارات أو الجسور ، التي تشملها عمليات ما يسمى

٣١٩

بالتحديث.

ولا ريب ان قسما من الناس السذج يعجبون بمثل هذه الأعمال ، فيتصورون الطاغوت بقوتها وضخامتها ، وفرعون عند ما يبني هذا الصرح أو تلك الأهرامات فلكي يغطي بها الاهتزاز الذي أصاب كيانه الجاهلي بسبب رسالة موسى (ع).

واليوم نجد كثيرا من الانظمة الفاسدة تكدس الأسلحة ، وتعقد الصفقات الواحدة بعد الاخرى لتتظاهر أمام شعبها بالقوة ، ولعل الآية توحي بنظرية في علم الاجتماع تقول : ان التضخم المادي ينبأ بخلل داخلي يعاني منه المجتمع أو النظام السائد فيه ، وكما المتكبر يستعلي عند ما يحس بعقدة الضعة في نفسه ، كذلك المجتمع المغرور داخليا يهتم بمظاهر الأبهّة كبناء القصور الضخمة ، أو المعابد الكبيرة ، أو ما أشبه لتأخير حالة الانهيار.

الهدف الثاني : الهاء الناس ، وسدّ فراغهم بقضايا هامشيّة ، فترى الحكومات عند ما تشعر بالفشل ، وانها أقل من طموحات الشعب تشجع لعب الكرة ، وفي الارجنتين حينما حدث الانقلاب العسكري ، وخرجت الناس الى الشوارع مطالبة بالحكم المدني استدعت الحكومة العسكرية الدورة العالمية لكرة القدم ، ومن خطط ال (سي. آي. أ) التي عملت الانقلاب ، ان جعلت الكأس للارجنتين. وكأنهم يريدون القول للشعب : إذا فشلنا في بناء دولة ديمقراطية حرة ، واقتصاد وطني ، فقد جلبنا لكم كأس العالم.

ان الشعب الذي يكون أكبر طموحاته اللعب بالكرة ، وأفضل رموزه لاعبيها ، لا يفكر في الثورة على طواغيته.

أئمة النار :

[٣٩] والطاغوت حينما ينبي القصور ، أو يجمع المال والسلاح ، يتصور أنه صار

٣٢٠