من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

ج ـ لإضفاء الشرعية الكاذبة على حكمه ، كذلك تراهم يبادرون الى الانتخابات إذا بلغ بهم الخوف مداه ، وعلى الرساليين ان يعوا هذه اللعبة ، وان يقوموا بتوعية الناس سلفا بما يقوم به الطغاة لخداعهم ، والاستمرار في التسلط عليهم.

[٣٦] كانت الثقافة الفاسدة ، والاعلام المضلل ولا زالت أعظم ركيزة لسيطرة الطغاة ، ولقد كانت آثار الإغواء والفتنة والتضليل أبلغ بكثير من آثار السجن والقتل والتعذيب.

ويبدو ان نظام فرعون كان يستخدم السحر ووسيلة لتكريس سلطته ، وقد كان السحر منتشرا بين الاقباط يومئذ ، والسحر نهاية مطاف الحضارة ، وانتشاره يدل على وصول الناس الى أدنى مستوى من العلم والمعرفة. أنه ليس إلّا اثارة للخيال عبر مجموعة حركات وأصوات والعاب خادعة ، ولا يتأثر به إلا من سلّم نفسه لتأثيراته.

ويبدو ان مركز تأثير السحر هو أعصاب الناس عبر منبهات صوتية ، وحركات متناغمة ، وحركات بهلوانية.

هكذا أشار الملأ من حول فرعون عليه ان يستغل السحرة لمواجهة آية موسى بعد اعتقاله وأخاه.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ)

اي ابقهما رهن الاعتقال ، وبالرغم من أن مستشاري فرعون لم ينصفوا رسولهم ، ولكنهم كانوا أقرب رشدا من مستشاري نمرود حيث أمروه رأسا بحرق نبيهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ وفي الحديث : أن أولئك كانوا أولاد زنا بينما كان هؤلاء رشدة.

٤١

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال :

كان فرعون إبراهيم وأصحابه لغير رشدة ، فإنهم قالوا لنمرود : «حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» وكان فرعون موسى وأصحابه لرشدة ، فإنّه لما استشار أصحابه في موسى قالوا : «أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ»(١)

(وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ)

أرسل إلى أطراف البلاد من يجمع السحرة ، وهكذا أعلن فرعون ـ حسب هذا الرأي ـ حالة الاستنفار القصوى لجهازه الثقافي والاعلامي لإحساسه بمدى خطورة التحدي.

[٣٧] وهكذا أمروه بتعبئة كل المهرة من السحرة.

(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)

فوقع السحرة ساجدين :

[٣٨] (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)

ولعله كان يوم عيد قوميّ لهم.

[٣٩] كان بإمكان فرعون أن يجري الصراع على حلبة قصره ، بين النبي موسى والسحرة من أنصاره ، ولكنه دعا الناس جميعا ليشهدوا المنافسة ، كما فعل من قبل نمرود حيث لم يكتف حين أراد حرق إبراهيم ـ عليه السلام ـ بقليل من الحطب ،

__________________

(١) بحار الأنوار / ج (١٢) / ص (٣٢).

٤٢

بل أشعل نارا كانت تلتهم الطير على بعد أميال. لماذا؟

لأن الطغاة يعيشون أبدا حالة الهلع ، فإن قلوبهم تهتز من أدنى معارضة ، فيتظاهرون بالقوة لتعديل توازن أنفسهم ، ولكي يرهبوا الناس أن يتأثروا بإعلام المعارضة ، وهكذا فعل فرعون :

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ)

كان التعبير ـ هذه المرة ـ رقيقا ، لما أحس به فرعون من خطر محدق ، فأراد استمالة الجماهير.

بلى .. ان الطغاة يريدون تمرير قراراتهم من خلال رأي الناس ، لكي يوهموهم أنهم هم أصحاب القرار ، ومسكينة هذه الشعوب الجاهلة كم وكم تمر عليها هذه اللعبة وحتى هذا اليوم.

[٤٠] لم يكن هدف حشد الناس جعلهم الحكم بين النظام والمعارضة ، ليختاروا ما يرونه حقا. كلا .. انما كان الهدف تكريس سلطة فرعون ، لذلك قالوا :

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ)

ولعل هذه الآية تشير الى الهجمة الإعلامية التي قامت بها أجهزة السلطة ضد موسى ـ عليه السلام ـ وصنعت أجواء رفض رسالة الله ، واتباع السحرة حتى قبل نزولهم الى حلبة التنافس.

[٤١] وجاء السحرة ، واجتمع الناس ، وعبّئت الأجواء لتأييد فرعون ، وتكونت فرق التشجيع على أطراف الحلبة لصالح السحرة ، ودقّت الطبول ، واستعد الجلادون

٤٣

لإنزال أقسى العقوبات بموسى وأخيه ، والتنكيل ببني إسرائيل ، وخنق كل صوت للمعارضة ، وتمثل السحرة أمام فرعون يطلبون أجرا. أو ليسوا قد سخروا طوال الفترة للعمل في البلاط بلا أجر ، أو لم يكن عمل السخرة شائعا في عهد فرعون. أو لم تنتشر على أطراف أهرامات مصر التي بناها الفراعنة قبور المحرومين على امتداد أميال ، من أولئك الذين كان يجمعهم النظام من أطراف مصر ليبنوا مقابر لأركانه ، وليعلو بذلك مجده ، ثم يسخرهم بلا أجر في ظروف قاسية ، فاذا ماتوا أهال عليهم حفنة من التراب وجاء بغيرهم؟! آه كم استخف الظالمون بأرواح البشر ، والى اليوم ، والى متى؟!

كلّا .. هذه المرة نطالبه بأجر. فرعون هذا اليوم يختلف عنه بالأمس ، انه مضطرب. دعنا نستغل ذلك لمطالبته بأجر على الأقلّ.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ)

فاذا كان الأمر كذلك فسوف نبذل المزيد من الجهد للغلبة.

لقد اهتز ضميرهم منذ اللحظة الأولى التي واجهوا فيها موسى.

فمن هذا الراعي الذي جاء بعصاه يتحدى أكبر طاغوت ، وأعظم امبراطور ، ولماذا عجز فرعون عن التنكيل به كما ينكل بألوف الناس من بني قومه؟!

وجاء في تفسير علي ابن إبراهيم : «ان السحرة حين بصروا بموسى ، رأوه ينظر إلى السماء ، قالوا لفرعون : انا نرى رجلا ينظر الى السماء ، ولن يبلغ سحرنا الى السماء». (٢)

__________________

(٢) تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (٥١).

٤٤

[٤٢] فرعون يعرف ـ كما سائر الطغاة ـ بان العرش انما يصنعه هؤلاء (ادعياء الدين والعلم) الذين يسرقون سلاح الرفض من أيدي المحرومين ، ويزرعون فيهم الخوف والخنوع ، وانه لا بد من شراء ضمائر هذه الطائفة المخاسرة بأي ثمن لذلك ...

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

ان القيمة الحقيقية لهذه الضمائر الخائنة هي المشاركة في الملك ، وهذا ما تبرع به فرعون ، ووعد به السحرة ، أو ليسوا قد شاركوا في صنع العرش وفي كل الجرائم التي يرتكبها صاحبه ، فلما ذا لا يشاركونه في غنائمه.

ولكن العلماء الفسقة لا يعرفون عادة القيمة الحقيقية لما يبيعونه ، فتراهم يرضون بالثمن الزهيد ، فيخسرون (الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

[٤٣] من أعظم صفات الأنبياء (ع) التي تشهد بصدقهم : تحديهم لقوى أعظم منهم ـ كبشر ـ أضعافا مضاعفة ، مما يشهد باعتمادهم على رب القدرة والعظمة سبحانه.

هكذا تحداهم موسى.

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)

وما عسى ان ينفعكم ما تلقون أمام قدرة الرب؟!

[٤٤] ولم يكن يملك أولئك البؤساء غير مجموعة حبال وعصي فألقوها.

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ)

٤٥

وقد استنفدوا كل جهدهم بذلك ، وأضافوا اليه القول قسما :

(وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ)

كانت عزة فرعون ـ في زعمهم ـ منتهى القوة الموجودة في الأرض ، فأقسموا بها ، وحين يصل الإنسان الى الاعتزاز بقوة مادية بهذه الدرجة التي يحلف بها فان نهايته قد آنت. أو ليس من أعتز بغير الله ذلك؟!

جاء في الحديث القدسي :

«العظمة ردائي والكبرياء ازاري فمن نازعني فيها لعنته»

[٤٥] هنالك أمر الله موسى بأن يلقي عصاه.

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ)

[٤٦ ـ ٤٧] خلق الإنسان على الفطرة التي تتجلى فيها آيات الله ، ولو لم تلوث الصفحة البيضاء ، التي يتكون منها قلب البشر بالتربية الفاسدة ، والنظام الفاسد ، والشهوات و.. و.. فسوف تنعكس عليها تجليات الرب.

وحتى لو تورط الإنسان في الذنوب فإن نفسه تظل تلومه ، وفي لحظات خاصة يتعرض القلب لشلال من نور الحقيقة يكاد ينصدع به ، حيث يستيقظ فيه ذلك الوجدان ، وينهض متحديا حجب الذنوب ، وإذا وفقه الله حدث فيه تحول مبارك وعظيم.

وهكذا خرّ السحرة ساجدين لله ، في وسط دهشة الجميع.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

٤٦

هكذا ينبغي على من يحمل مشعل الثقافة الرسالية الا يهن ، ولا يني يهاجم الظلام الشيطاني. ذلك أن النور سيطوي الظلام أنّى كان متراكبا.

[٤٨] ولأن السحرة آمنوا بالله بدلالة موسى ، وحيث تجلت آية الله على يده ، فإنهم ذكروه ، ولأن هارون ـ بدوره ـ كان وزيرا لموسى فقد جاء ذكره عند هذه اللحظة. لحظة المفاجئة الكبرى.

(رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)

هكذا يقدّر الرب أعمال عباده الصالحين.

[٤٩] كان فرعون موغلا في الضلالة والجحود ، فلم يهتد بكل تلك الآيات ، بل ظل يعاند بما أوتي من قوة.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

وتوعدهم بالعذاب الأليم ، حيث لم يبق أمامه حجة يبرر بها مخالفته للرسالة ، فقال :

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ)

يدا من اليسار ، ورجلا من اليمين.

(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)

[٥٠] كان العقاب شديدا ، ولكن التقدير قضى ان يستقبله أولئك الذين كانوا الى عهد قريب من ركائز النظام ، لكي لا يرتاب أحد في صدق إيمانهم ، وبالتالي

٤٧

صدق الرسالة ، وتتم حجته على الناس.

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ)

كيف بلغ السحرة هذه الذروة من الإيمان بالله ورسالاته في لحظة ، كيف أيقنوا بالنشور الى درجة استساغوا الشهادة ، واعتبروها عودة الى الله؟!

حين تتساقط حجب حب الذات ، وعبادة الأهواء ، والخضوع للطاغوت ، فان الحقائق تتجلى مباشرة للقلب ، ويكون للعلم بها علما شهوديّا ، واليقين صادقا.

[٥١] ثم لأن السحرة طالما مشوا في ارض الله ، وانقلبوا في نعمه ، يأكلون رزقه ، ويعبدون غيره ، فلما تذكروا كانت الصدمة في نفوسهم قوية فأرادوا تكفير ذنوبهم التي أحسوا الآن بثقلها على كواهلهم ، وتطهير صفحة حياتهم بدم الشهادة ، فقالوا :

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)

ونستوحي من هذه الآية ان هناك مؤمنين آخرين اتبعوا نهج السحرة التائبين ، وانما كان هؤلاء طلائع في مسيرة الايمان.

٤٨

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)

___________________

٥٤ [لشرذمة] : الشرذمة العصبة الباقية ، من عصب كثيرة ، وشرذمة كلّ شيء بقيته القليلة.

٦٤ [وأزلفنا] : والازدلاف الادناء والتقريب ، ومنه المزدلفة.

٤٩

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)

٥٠

كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ

هدى من الآيات :

تتابع آيات سورة الشعراء في بيان الصراع الحضاري الذي كسبه رسل الله بأيدي الرب ، لما تتجلى فيه صفتا العزة والرحمة الالهيتان.

هكذا أوحى الله إلى موسى بالهجرة الجماعية ، فقاد بني إسرائيل ناحية البحر ، وانبأهم بان فرعون يتّبعهم.

أما فرعون فقد عبّأ كلّ قواه ، حيث حشر جنوده من مدائنه ، وأضلهم بالقول :

ان بني إسرائيل خليط مختلف وقليل ، وانهم أغضبونا بتصرفاتهم (سرقوا أموالنا ، وخرجوا عن ديننا) فأخرجناهم من بلادنا التي تتمتع بالبساتين والعيون وموارد ومساكن محترمة. بلى .. ولكن الله أعاد بني إسرائيل إليها ، وأورثهم إيّاها.

فزحف جيش فرعون تلقاء بني إسرائيل عند الشروق ، فلما اقترب الجمعان قال أصحاب موسى : انهم سيدركوننا بقواتهم العظيمة ، قال لهم موسى : كلا .. ان الله

٥١

معي ، وهو سيهديني طريق النجاة ، فأوحى الله الى موسى أن اضرب بعصاك البحر الذي وصلوا اليه ، فلما ضربه بعصاه انقسم البحر ، وانكشفت فيه طرق يابسة ، فاستدرج الرب آل فرعون في البحر أيضا ، ولكنه أنجى بني إسرائيل (الذين خرجوا من الطرف الآخر) وأغرق الآخرين (الذين لم يزالوا فيه حين عادت المياه الى طبيعتها).

ان في هذا الإعجاز آية لعظمة الرب وقدرته ، كما لرحمته وعطفه ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.

وان الله عزيز ينتقم من الجبارين ، ورحيم ينصر المستضعفين.

بينات من الآيات :

وكانوا هم الوارثين :

[٥٢] لقد فشل فرعون في مواجهة الرسالة بتضليله ، وبالرغم من تعبئة كل إمكاناته الاعلامية لذلك ، فعقد العزم على التنكيل بهم ، ولكن هدى الله سبق كيده ، وهزم مكره ، حيث أمر الله نبيه بان يقود بني إسرائيل في سبيل الهجرة.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)

ان ثقافة الشعراء التي تمثلت هنا بثقافة السحرة تخدم الطغاة ، وتضلل الناس ، وهي اداة بيد الجبارين لقهر المحرومين ، بينما رسالات الله تبيّن للناس الحقائق ، وفيها قرارات واضحة تهدف نجاة المحرومين من أيدي الظالمين ، فلقد جاء الأمر بالهجرة ، وبيّن سبب هذا الأمر وهو وجود خطر يحدق بالناس ، هذا نموذج لرسالات الله.

٥٢

[٥٣] وبعث فرعون رسله الى مدائن مصر الكثيرة والمتفرقة ، وكان هدفه تعبئة قواه العسكرية لمواجهة خطر بني إسرائيل ، ويبدو أنه قام بالنفير العام ، ولكن لماذا؟

هل انه حين أضمر السوء ببني إسرائيل فخرجوا أحس بالخطر من أن يكون خروجهم تمهيدا لمقاومته عسكريا ، فاستنفر جيشه؟ أم أنه قرر ذلك قبل خروج بني إسرائيل ، وانما أراد بحشد قواه التظاهر بالقوة لكي لا يفكر أحد بالثورة عليه ، فلربما كانت في مصر قوى معارضة أخرى تنتظر دورها في الثورة ضد فرعون؟

من خلال السياق يبدو ان الاحتمال الاول هو الأقوى.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ)

اي من يجمع له القوة العسكرية.

[٥٤] فلما عبأ جيشه ماديّا بدأ بتعبأتهم معنويا بالأساليب التالية :

أولا : هوّن في نظرهم قوة المعارضة ، وقال :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)

فهم ليسوا قوة متماسكة ، وفي ذات الوقت فهم قليلون.

ولا ريب ان تهوين شأن العدو من أساليب التعبئة المعنوية ، والذي يقوم به أبدا الطغاة ضد الثائرين.

[٥٥] ثانيا : بيّن سبب محاربته لبني إسرائيل. إذ ان الطغاة يبحثون أبدا عن تبرير لإشعال نار الحرب ضد معارضيهم ، فقال :

٥٣

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ)

فقد أثاروا غيظنا ، بسبب تمردهم علينا ، وخروجهم عن ديننا ، ولان بني إسرائيل استعاروا من قبل الحلّي من أهل مصر ، وذهبوا به كما يقول المفسرون.

[٥٦] ثالثا : كشف فرعون لهم عن مدى استعداده لمقاومتهم ، وانه يحذر غلبتهم بالرغم من قلة عددهم الآن.

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)

اي نحن جميعا نستعد لمواجهتهم ، ولعلّه أراد بذلك إبعاد خوف الهزيمة عن جنوده بأنهم قد استعدوا جميعا لمقاومة هذا العدو ، وأن على كل فرد ان يقوم بدوره في مواجهة الخطر المحدق.

[٥٧] رابعا : طفق يبيّن خيرات بلاده ، التي يجب الدفاع عنها ، فقال :

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)

انه زعم امتلاكه لكل مقومات الحضارة ، من زراعة تروى بالعيون مما تجعلها بعيدة عن الأخطار المحتملة ، ومن المعروف ان حضارة آل فرعون كانت زراعية ، وكانت متقدمة بالقياس الى موازين تلك الحقبة القديمة ، وكان يعتز بها فرعون كثيرا ، ويعتقد بأنها دليل سلامة نهجه.

[٥٨] (وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ)

ان وجود ذخائر مالية مثل العملة الصعبة اليوم والكنوز قديما ، معلم من معالم التقدم الحضاري ، كما أن المساكن الآمنة التي يحترم أهلها ، ويكرمون فيها معلم

٥٤

آخر من معالم الحضارة التي افتخر بها فرعون.

ولعل في التعبير ب «أخرجناهم» تهديدا ضمنيّا للجيش ، بأن من لا يطيع الأوامر يفقد هو الآخر هذه المكاسب.

ويبدو ان الجنات والعيون يعكس الوفاء (١) بالضروريات ، بينما الكنوز والمقام الكريم ، يعكس التقدم الذي يوفر الأمن الاقتصادي والسياسي.

[٥٩] رسالات الله لا تعارض التقدم الحضاري ، انما تعارض الظلم الذي يرتكب باسمه ، وانما التقدم الحضاري الثابت والمستقر حق لأهل الحق ، لأنهم هم الذين يضعونه فيسرقه الطغاة منهم ، فيعيده الله عليهم. هكذا انبأنا الله سبحانه ، فقال :

(كَذلِكَ)

هكذا قال فرعون لقومه ، وهكذا أعتز بما يملك ، ولكن كيف كانت العاقبة؟ اسمعوا :

(وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)

لقد أهلك الله آل فرعون ، وعاد بنو إسرائيل الى مصر ، وتنعموا بالجنات ، والعيون ، والكنوز ، والمقام الكريم ، وهكذا يورث الله الأرض لعباده الصالحين ، فلا ينخدع المحرومون بما في أيدي الطغاة ، ولا يذلوا أنفسهم لقاء فتات الطعام ، أو فضالة الشراب ، ان الخير كل الخير لهم ، وعليهم ان يقطعوا أيدي السارقين حتى يهنأوا به.

__________________

(١) الوفاء من وفي الشيء وفاء فهو وافي.

٥٥

[٦٠] كان فرعون المبادر الى الحرب ، فهو الذي هاجم بني إسرائيل عند الشروق.

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ)

[٦١] جدّ جيش فرعون في السير حتى لحقوا بهم ، وصار على مقربة منهم ، يرى كل فريق الفريق الآخر. عندئذ أحس قوم موسى أن الخطر قد أحدق بهم.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)

[٦٢] عند ما بيّن النبي موسى ـ عليه السّلام ـ لربه جوانب ضعفه في حمل الرسالة ، سمع من الله كلمة عظيمة هي : «كلّا» وها هو يكررها لقومه عند ما أحسوا بضعفهم في مواجهة فرعون وقومه.

(قالَ كَلَّا)

هناك أخبره الله بأنه معه هو وأخيه هارون ، يسمع ويرى ، وهنا أيضا أنبأهم موسى بأن الله معه.

(إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)

ما أعظم إيمان موسى بربه ، وما أشد يقينه بنصر الله ، وما أجدر بنا ان نقتبس من قصة حياته ومضة يقين ، ونفحة إيمان. أمواج البحر أمامه وأمواج الجيش الكافر وراءه ، وهو لا يملك سوى قوم مستضعف فيهم النساء والأطفال والعجزة ، وقد انهارت إرادتهم بفعل طول الاستعباد ، ولكنه يتحدى كل خوف متوكلا على الله ، واثقا من نصره. أو ليس الله معه فلما ذا يخشى ، بل كيف يتسرب الخوف الى قلب موقن بأن الله معه؟!

٥٦

[٦٣] وهبط الوحي على قلبه الشريف :

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ)

انقسم البحر على نفسه ليكشف عن اثني عشر سبيلا ، مستقلّا لاثني عشر سبطا من أسباط بني إسرائيل.

(فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)

كل جانب منه كان كما الجبل العظيم ، تراكمت المياه على بعضها ، وتجمدت الأمواج فوق الأمواج.

[٦٤] ودخل بنو إسرائيل السبل التي فتحت لهم في البحر الذي لا يدرى هل هو النيل أم أنه البحر الأحمر؟

وبلغ آل فرعون البحر فوجدوا أعداءهم في منتصف الطريق ، فاندفعوا وراءهم ـ سبحان الله ـ كيف يهبط الإنسان إلى هذا الدرك الأسفل من العصبية. إنه يرى المعاجز رأي العين ، فلا يتبصر بل يستمر في غيّه ، لقد رأى فرعون آية العصى والتي أسجدت السحرة لله ، ورأى آية اليد البيضاء وسبع آيات أخرى ، والآن يجد البحر قد انفلق ، وتراكمت مياهه كالجبال ولا يزال يعاند ، كيف يمكن ذلك؟!

الواقع : ان الذنب يقسي القلب ، وكلما زادت الذنوب كلما تحجرت القلوب أكثر فأكثر ، والله سبحانه يعاقب المذنبين لقسوة قلوبهم ، ويستدرجهم الى مصيرهم الأسود ، وهكذا يقول ربنا :

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ)

٥٧

لقد أهلكهم الله في البحر أجمعين ، ولكن لم أهلك الله كل الجيش ، ولم يهلك فقط فرعون وهامان؟

الجواب :

ان الدنيا دار ابتلاء لجميع الناس ، حاكمين ومحكومين ، واتّباع المحكومين للطغاة يوردهم موردهم ، بل سكوتهم عنهم يشركهم في جرائمهم وعقوباتهم.

ولقد وفر الله لقوم فرعون أسباب الهداية ، إذ وقع السحرة لربهم ساجدين ، وأخذهم الله جميعا بألوان البلاء لعلهم يتضرعون ، وإذ وقفوا على شاطئ البحر ينظرون الى القوم المستضعفين ، يقودهم راعي غنم لا يحمل إلّا عصا ، وقد انفلق البحر لهم بهذه الصورة ، فهل بقيت حجة لهم ، كلّا .. بل لله الحجة البالغة عليهم ، فان أهلكهم فانما بعد البينة وإتمام الحجة.

[٦٥] المعجزة كانت واحدة وهي انفلاق البحر ولكن العاقبة اختلفت ، حيث يقول الرب سبحانه :

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ)

[٦٦] (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)

فهل هي صدفة ان تقع ظاهرة واحدة ترحم هؤلاء ، وتعذب أولئك؟!

[٦٧] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)

بالرغم من قوة الحجة فان العيون مغلقة ، والقلوب محجوبة ، ولا يجوز ان نجعل الناس مقياسا للحق والباطل.

٥٨

جاء في الحديث عن رسول الله (ص):

«لا تكن امعة تقول : ان أحسن الناس أحسنت ، وان أساؤا اسأت ، ولكن وطنوا أنفسكم ، ان أحسن الناس ان تحسنوا وان أساؤا ان تجتنبوا إساءتهم»

[٦٨] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

عزيز ينتقم من الكفار ، ورحيم ينصر المؤمنين.

٥٩

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ

٦٠