من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

بعد استشهاده ، فيقرأ على الناس بيان انتهاء الدنيا ، وبداية عهد الآخرة ، وأنّ وعد الله حق ، إلّا أنّ أكثر الناس لا يؤمنون ، إلّا بعد فوات الأوان.

قال أبو بصير ، قال أبو عبد الله (ع):

«انتهى رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين (ع) وهو قائم في المسجد ، قد جمع رملا ووضع رأسه عليه ، فحركه برجله ، ثم قال : قم يا دابّة الأرض ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله أ يسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟! فقال : لا والله ما هو إلّا له خاصة ، وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه ، فقال عزّ وجلّ : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) ثم قال : يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ، معك ميسم تسم به أعداءك» (٢)

وعلى هذا فهذه الآية تشير إلى الرجعة ، حيث تتظافر أحاديث آل البيت أنّ هناك قيامة صغرى قبل القيامة الكبرى ، وفي ذلك اليوم يبعث بعض المجرمين وبعض الصالحين ، وعلى هذا فالآية التالية تشير أيضا الى هذا اليوم.

[٨٣] وإذا قامت القيامة الصغرى حشر الله من كلّ أمّة فوجا من مجرميها ، يخرجهم إلى الدنيا قبل غيرهم ، ليشهدوا على أنفسهم ، ويشاهدوا جرائمهم ، وتكذيبهم بآيات الله.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)

[٨٤] وهناك تجري محاكمتهم :

__________________

(٢) نور الثقلين ج (٤) ص (٩٨).

٢٤١

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

من الأخطاء التي يقع فيها البشر ، هو تكذيبهم بالحقائق لأنهم لم يحيطوا علما بجوانبها المختلفة ، كالذي لا يؤمن بوجود منطقة في العالم اسمها أمريكا اللاتينية ، لأنه لم يعرف تفاصيل الوضع هناك ، هذا هو حال الكفّار الذين كذبوا بالآخرة لعدم إحاطتهم بجوانبها المختلفة ، ومعنى الآية : أكذبتم بآياتي دون أن تحيطوا بها علما ، أم كنتم تعملون عملا آخر غير التكذيب؟! كلا .. إنّكم كنتم مشغولين بالتكذيب حتى صار شغلكم الشاغل ، والآية بهذا المعنى تتشابه وقوله سبحانه : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (٣)

[٨٥] وجرى قضاء الله سبحانه فيهم بالعذاب بسبب ظلمهم ، ولم يحتّجوا على ذلك لعدم وجود حجة بالغة لهم.

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)

إذ لا يجدون عذرا ولا منطقا يخلّصهم من المسؤولية ، لأنّ الله محيط بكلّ شيء ، وله الحجة البالغة ، حيث تشهد أيديهم وجوارحهم عليهم ، وإذا كان الإنسان يستطيع المراوغة والتكذيب في محاكم الدنيا فهو لا يستطيع ذلك في الآخرة.

[٨٦] ومن احتجاجات الله عليهم أنه يقول لهم : هل كانت الآيات والدلالات على الإيمان قليلة أو غامضة حتى كفرتم؟!

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً)

__________________

(٣) يونس / (٣٩).

٢٤٢

وكل ذلك من آثار حكمة الله التي تدلّنا على الآخرة ، وتبعث فينا الإيمان بها لو كنّا نريد الإيمان ، فلو كانت الحياة كلّها ليلا أو العكس لاستحالت الحياة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

إنّ في اختلاف الليل والنهار ، وما يحملانه من تغيّرات هائلة في الطبيعة ، وتدبير تصريفهما بتلك الدقة المتناهية ، إنّ في ذلك علامات تشهد على الحقيقة ، إلّا أنّ القلوب القاسية لا تستفيد منها شيئا.

[٨٧] ومع أنّ الآيات واضحة وتكفي دلالة للإنسان على الآخرة والبعث ، إلّا أنّ أكثر الناس يأتي إيمانهم متأخرا حين تقع القيامة ، وهل ينفع ذلك الإيمان إذا ضيّعنا فرصة العمل في الدنيا؟!

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)

ويبقى المؤمنون مطمئنة قلوبهم ، فلما ذا يخافون وقد عملوا بمرضاة الله ، واستعدوا لهذا اليوم؟! إنّهم على العكس من ذلك ينتظرون ساعة الجزاء ، ودخول الجنة ، ولقاء الله.

(إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)

خاشعين ، مطأطئين رؤوسهم.

[٨٨] لقد بيّن الله لنا آية من واقع الليل والنهار تدلّنا على حكمته ، والآن يضرب لنا من حركة الأرض آية على أنّه خبير بما يعمله العباد.

وهذه من آيات القرآن الحكيم انه يبيّن لنا حركة الأرض من قبل أن يكتشفها

٢٤٣

البشر ، وضرب مثلا رائعا لها حين شبّهها بحركة السحاب التي قد لا يحسّ بها البشر أيضا.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)

في حركتها ، ولكننا لا نشعر بذلك.

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)

فهو يؤدّي وظيفته على أكمل وجه ، وبلا أيّ خلل.

(إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)

[٨٩] الإتقان المتجلّي في الخلق يدلّنا على حكمة الصانع ، وأنّ للإنسان هدفا يحاسب عليه ، فإمّا ينتهي إلى الجنة أو إلى النار.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)

المؤمنون الذين تكون مجمل أعمالهم حسنة يحسّون بالاطمئنان يوم الفزع ، وذلك بسبب طاعتهم لله ـ الذي تطمئن القلوب بذكره ـ وأوّل ما يخرج المؤمن من قبره يوم البعث يجد على يمينه وشماله ملكين يسلّمان عليه ، ويفرغان السكينة في روعه ، كما أن الله يجعل للمؤمن نورا في جبهته من نور أعماله الخيّرة ، يضيء له في المحشر.

[٩٠] وفي المقابل نجد الكافر والمنافق يتخبّطان في الظلمات فلا يبصران الطريق.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)

٢٤٤

وهذا المصير ليس بظلم من الله ـ حاشاه ـ بل هو نتيجة أعمالهم ، لذلك يأتيهم النداء وهم يتجرعون العذاب مؤكدا على أنه جزاء عادل لأعمالهم.

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

[٩١] ثم إنّ ربّنا سبحانه ذكرهم بالنعمة التي كانوا يرفلون فيها ، وأنّه هو الذي أسبغها عليهم ، وهي نعمة الأمن في الحرم المكي ، فقال :

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها)

وليس الأصنام التي وضعت فيها.

(وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ)

فهو ليس ربّ البلدة وحدها ، بل ربّ كلّ شيء.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

إنّ من علامات الرسول وآياته كما من أهم واجباته أنه يطبّق القيم التي جاء بها على نفسه ، ثم يأمر الناس بذلك.

[٩٢] كما أنّ من مسئوليات الرسول تبليغ الرسالة إلى الناس على أكمل وجه ، أمّا ماذا يكون بعدها أ يهتدي الناس أو يتمادون في الضلالة فذلك ليس من شأنه.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)

٢٤٥

[٩٣] (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)

وحينما نحمده فإنّما نعكس نظرتنا إلى الحياة بأنّها قائمة على أساس الخير ، أمّا الشر فهو من أنفسنا ، ذلك أنّ الحمد تنزيه لله بأنّ خلقه كان حميدا وصالحا.

(سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها)

آيات الله تتجلّى في كلّ شيء من حولنا وفي أنفسنا ، بينما أكثر الناس لا يرونها ، ولكنّ الله سيعرّف الجاحدين آياته الخارقة بحيث يرونها ، ولكن يومئذ تنتهي فرصتهم ، وتحين ساعة الجزاء.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

٢٤٦

سورة القصص

٢٤٧
٢٤٨

الإطار العام

بسم الله الرحمن الرحيم

الاسم :

جاءت كلمة (القصص) اسما لهذه السورة التي احتوت على مجموعة متناثرة من القصص القصيرة ذات العبرة المشتركة.

الإطار العام :

ظاهره حكم وباطنه علم ، هكذا وصفت الروايات كتاب ربنا العزيز ، وانك إذا نظرت الى ظاهر سورة القصص استفدت الكثير من الأحكام ، ولكنها في باطنها بصائر علمية تهدينا الى مجموعة متكاملة من الحقائق ، أبرزها :

ان ظاهر الدنيا غير واقعها ، فهي تغرّ بزبرجها ، وتضرّ بمخبرها ، تبدو لناظرها ان الناس قادرون عليها ، الا أنّ يد الغيب هي التي تحرك حوادثها بالنهاية ، فعلينا ـ إذن ـ عدم الاطمئنان إليها ، وعلى أصحاب الدعوة الّا يخافوا من أولي القوة والثروة من أهلها.

٢٤٩

ولكي يهدينا السياق الى هذه الحقيقة ، يفصل القول في مسائل شتى تلتقي بالتالي وتلك الحقيقة :

أ ـ يبين السياق بتفصيل كيف تمتد يد الغيب لنصرة أصحاب الرسالة ، وكيف تجري الألطاف الخفيّة لربنا المقتدر الحوادث لتنتهي إلى الغاية المقدرة.

فرعون علا في الأرض ، واستضعف طائفة من الناس. هذا ظاهر الحياة الدنيا ، أمّا حقيقتها فهي إرادة الله على وراثة المستضعفين ، والتمكين لهم في الأرض ، وان يذيق فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون منهم ، وبأيدي المستضعفين أنفسهم.

لننظر كيف تتحقق هذه الإرادة العليا؟

فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل الذكور ، ولكن الله يأمر أمّ موسى بوضع وليدها في التابوت ، وقذفه في النيل.

يتلقط زبانية فرعون التابوت فيهّم بقتله ، ولكن يد الغيب لا تدعه. إذ يوحي الى زوجه ان تمنعه من ذلك ، لينمو عدوه ومادة حزنه في بيته.

أم موسى تكاد تبوح بالسّر جزعا على وليدها ، والله يربط على قلبها.

ثم يبحثون له عن مرضعة من غير بني إسرائيل ، بيد ان الله يحرّم عليه المراضع حتى يرده إلى أمّة كي تقر عينها ولا تحزن.

يذيع الرجل سر القيادة بعد مقتل القبطي ، والقائد ـ بدوره ـ يشتبه (على قول) في المبادرة بقتل القبطي ، فيطلب من الله ان يستره ، فيفعل.

٢٥٠

يتآمر فرعون وملأه بقتله ، فيبعث الله اليه رجلا مؤمنا ليخبره بذلك ، ويهيئ له الرب أمر الهجرة الى مدين ، ويقدّر هناك من يستقبله.

هكذا يعلم حملة رسالات رب ان الله معهم ، وان هناك حوادث خفية تجري رغم الطغاة لمصلحة الرساليين فلا يهنوا ولا يحزنوا.

ب ـ ولا تعني الألطاف الخفية لربنا ان ينام الرساليون على حرير الاماني ، بل عليهم ان يكونوا حذرين ، وان يتعالوا على الطغاة بذكاء أحدّ ، وانضباط أشدّ ، وتضحيات سخية. كيف؟

يتلو علينا الرب في سورة القصص ـ التي نسلتهم منها دروسا عظيمة في أساليب الحركة الرسالية ـ قصة زوج فرعون ، ومؤمن آله فرعون ، اللذين كانا في الظاهر في السلطة ، ويعملون في الباطن لصالح الرسالة ، كما يبيّن كيف كانت الحركة حذرة ، حيث ان أخت موسى تابعت بحذر شديد تابوت أخيها ، (ولعلها لصغر سنها أو لأنها امرأة بكر ، لم تكن تثير انتباه أحد).

اما موسى (ع) فقد دخل المدينة على حين غفلة من أهلها عملا بالتقاة ، وأذاع غويّ من بني إسرائيل السر ، وورّط الحركة كلها ، مما يحذرنا عن مثل ذلك ، ثم يبين القرآن كيف كان موسى مترقّبا حين خروجه من المدينة ، وكيف اختار مدين في خطة مرنه ، لأنه كان يدعو الله أبدا ليهديه سواء السبيل.

ونقرأ في موضع آخر من السورة آية (٥٤) ثناء القرآن على أهل الصبر والتقية ، وهم البقية المؤمنة من أهل الكتاب ، الذين اتسموا بصفات الصبر ، ودرء السيئة بالحسنة ، والإنفاق ، والإعراض عن لغو الجاهلين وجدلياتهم ، وهذه الصفات هي برامج أصحاب الرسالة في عصر التقية والعمل السري.

٢٥١

وفي سياق سورة القصص نقرأ عن أخلاقيات المهاجر في سبيل الله ، وفي طليعتها الإحسان الى الناس ، والاحتفاظ بقيم الرسالة بالرغم من مشاكل الهجرة ، ووفاؤه بالحقوق (لقد قضى موسى أبعد الأجلين) وتجذّره في بلاد الهجرة عبر الزواج.

ج ـ وسورة القصص تركز ـ فيما يبدو ـ على دور شخصية القائد وصفاته ، فبعد بيان إرادة الله بإنقاذ المستضعفين نقرأ مباشرة قصة ولادة موسى (ع) ثم ان موسى (ع) تتجلى شخصيته في صورة قائد مغيّب ، ثم يحضر فجأة في ميدان الصراع لينصر واحدا من شيعته ، ثم تلاحقه أجهزة النظام فيها ، وتبقى صفة الإحسان أبرز صفاته قبل ابتعاثه رسولا ، ويؤكد السياق انها وراء اصطفائه بالعلم والحكم «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» ونجد ذلك عند ما يتجاوز ذاته ، وكل علاقته بالدنيا عند ما يتلقى الوحي في الجانب الغربي عند الشجرة :

د ـ وفي الجهة المعاكسة تبرز شخصيته أمام الكفر (فرعون) ورمز المال الطاغي (قارون) ومثال البيوقراطية الفاسدة (هامان).

ه ـ وتذكر السورة بتواصل الوحي من موسى ـ عليه السلام ـ الى محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بهدف التذكرة خصوصا لقوم ما أنذروا من قبل ، والرسالة هذه التي تشابه رسالة موسى (ع) حدث غيبي ينذر بها الرب القوم الضالين بين يدي عذاب شديد ، وانهم انما يتبعون أهواءهم ، لأنهم يطالبون دائما بآيات جديدة فيقولون مثلا : لماذا لا يأتي النبي بآية شبيهة بما ظهرت على يد موسى ، مع أنهم كفروا بما أنزل على موسى.

وبعد ان يبين السياق صفات المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب ، الذين يسارعون الى الإيمان بالنبي ، يبين شبهة أخرى يتشبث بها الجاحدون ، إذ يقولون : نخشى ان نفقد لو آمنا السلام الذي ننعم به في الحرم ، ويردها الرب :

٢٥٢

أولا : ان الله هو الذي وفّر هذا الأمن لهم.

ثانيا : ان البطر (الفرح بالأمن والغرور به) أهلك قرونا سالفة ، ولكن الله لم يهلكهم حتى بعث إليهم رسولا ، يتلو عليهم آياته.

ثالثا : ان متاع الدنيا في الآخرة قليل ، وليسوا سواء من متاعه الله بالدنيا ، وأحضره للحساب والعقاب يوم القيامة ، ومن وعده الله وعدا حسنا فهو لاقيه.

وـ في خواتيم سورة القصص يحذرنا الرب من الشرك به ـ أندادا ـ أولي سلطة كانوا أو ذوي ثروة ، ففي يوم الحساب يحضرهم جميعا أئمة الغي ومن اتبعوهم (وأشركوا بالله بطاعتهم) فيتبرءون من بعضهم ، وتعمي عليهم الأنباء ، ولا يتساءلون ، ويذكرنا الربّ بأن من يختار لنا القيادة هو الرب ، تعالى الرب عما يشركون. وبعد ان يذكرنا ربنا بهيمنته على الخليقة ، وأنه لو أعدم ضياء النهار ، أو اسكن الليل فما ذا كنا نعمل؟!

بعد ذلك يعود السياق الى موضوع الشرك ، ولكن هذه المرة يعالج الشرك بأصحاب الثروة. ابتداء من قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم ، وانتهى به المطاف الى الهلاك ، فخسف الله به وبداره الأرض ، وما قدر أحد على نصره.

وفي الدرسين الأخيرين يحدد الله الموقف السليم من السلطة والثروة ، وهو موقف التسامي عليها ، ذلك لأن الدّار الآخرة يجعلها الله للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين.

ويرغبنا الذكر في فعل الخيرات ، لأن من جاء بالحسنة فله خير منها ، بينما لا يجزي الذين يعملون السيئات إلّا ما كانوا يعملون.

٢٥٣

ويبشر رسوله بالعودة الى معاده ، ويبيّن ان الكتاب رحمة من الرب ، وعليه أن يجاهد به الكفار ، ويواجه ضغوطهم.

٢٥٤

سورة القصص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى

___________________

٤ [شيعا] : أي طوائف جمع شيعة وهي الطائفة التي تتبع مسلكا خاصا.

٢٥٥

أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩)

٢٥٦

يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ

هدى من الآيات :

تدور آيات السورة كما يبدو من فاتحتها حول السلطات الفاسدة ، وكيفية القضاء عليها ، كما تبحث موضوع الحركات الرسالية التي عن طريقها يبدل الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاكما ظالما بآخر عادل ، وسلطة فاسدة بأخرى صالحة ، ونستطيع أن نستوحي هذه الحقيقة وبصورة واضحة من الصراع الرسالي الذي قاده موسى (ع) مع بني إسرائيل ضد فرعون بجاهليته ، والمستكبرين من ملئه.

وقبل كل شيء يبيّن القرآن لنا أن للصراع أداة إيديولوجية ، وعوامل ثقافية ، وان أبرز أدوات الصراع الرسالي الجاهلي ، وأوسع قنواته ، وأفضل عوامله المؤثرة في انتصار جبهة الحق هو القرآن الحكيم ، لذلك تبدأ هذه السورة بإشارة مبينة الى القرآن ذاته ، وبعدئذ يبين القرآن أسباب الصراع ، ولماذا ينهض الرساليون ، ويفجرون الثورات ضد السلطات الجاهلية عبر التاريخ؟

ويجيب القرآن بأن المسؤول الاول عن الصراع هو امام الجاهلية ، والنظام الذي

٢٥٧

يجسده ، فلأنّ فرعون خرج عن سنة الله ، وعلا في الأرض ، وعاث فيها الفساد بشتى ألوانه وصوره ، واستضعف طائفة من المجتمع فسلب حقوقهم ، لذلك كلّه فإنه هو المسؤول عن الصراع وآثاره ، وليست الحركة الرسالية. إذ لا يمكن للناس ان يسكتوا عن سلطة تضيع في ظلها حقوقهم وحرياتهم ، والذي يزرع بذور الثورة بظلمه وفساده لا يحق له بعد ذلك ان يتهم الرساليين بالإرهاب والشغب ، وهكذا تبدأ السورة بالإشارة إلى سبب الصراع وهو فرعون.

ثم يمضي السياق يبيّن سنتين في هذه الحياة : سنة يرعاها قضاء الله ، وسنة يجريها قدره سبحانه ، فقدر الله في الحياة ان السلطة التي تتمسك بأسباب القوة ، والاستمرار المادية وهي الإرهاب والإغراء والتضليل فانها تبقى وتستمر ، ولكن فوق هذه السنة سنة وقانون أعلى وهو قضاء الله ، فالعدالة الإلهية تأبى ان تستمر سلطة جائرة تعتمد على هذا الثالوث ، فيأبى الله ذلك وهو العزيز الرحيم ، الذي أجرى الأشياء بالحق ، وخلقه كل شيء لحكمة وهدف. يا ترى هل يدع الناس وهم عياله يسحقون تحت أقدام الجبابرة؟! كلا ..

ان هناك ارادة عليا يعبر عنها القرآن الحكيم في هذه السورة بصورة واضحة حين يقول : «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» ولكن كيف تتم هذه الارادة؟ فهل إرادة انتصار الحق على الباطل تتحقق بحركة كونية تنطلق من النجوم؟ أو بإشاعة مرض قاتل في صفوف المستكبرين؟

ربما يتحقق ذلك عن هذا الطريق ، ولكن الأكثر أن إرادة انتصار الحق على الباطل التي هي ارادة الله لا تتحقق من خلال العوامل الغيبية فقط ، وإنما على أيدي المؤمنين أنفسهم ، وقبلهم قيادتهم وأمامهم ، لذلك نجد السياق القرآني فور ما يحدثنا عن إرادة الله العليا في الإنتصار ، يبين لنا أن هذه الإرادة لا تتحقق إلّا بتربية قائد

٢٥٨

رسالي فيقول : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى».

حينما أراد ربّنا إنقاذ بني إسرائيل من هيمنة فرعون خلق قائدا رساليّا ، ورعاه منذ الطفولة ، وتدرجت مراحل النصر بعد أن أمر الله أم موسى بأن اقذفيه في اليم ، ليحمله الماء الى ساحل قصر فرعون ، فجعل الله تربيته هناك رغم إصرار فرعون على ذبح كلّ طفل ذكر ، وهكذا تجري سنن الله إلى أن يقضي الله على فرعون ونظامه.

ان موسى (ع) تجلّ كريم لإرادة الله ، وكان مركز تحقق القضاء الإلهي في ذلك المجتمع ، وإرادته لتحقيق العدالة الإلهية الغيبية ، وتؤكد هذه السورة كما الكثير من سور القرآن على ان هذا القضاء يتحقق بأمرين : أحدهما عمل الناس ، والآخر إرادة الله ، فمن جهة نجد موسى يقبض زمام المبادرة ليتحول إلى إمام للثائرين ضد فرعون وجلاوزته ، ويخوض الصراع ببني إسرائيل والمؤمنين من حوله ، ومن جهة أخرى تحوطه العناية الإلهية وترعاه ، ويمكن لنا القول بأن سنة القدر يجريها الله سبحانه وتعالى ، بينما يرعى سنة القضاء ، ولكنها قد تجري على أيدي الناس أنفسهم.

وهكذا جرى قضاء الله ، بنصر موسى (ع) ومن اتبعه بإحسان.

بينات من الآيات :

(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) :

[١ ـ ٢] (طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)

ان هذه المقطعات اشارة الى القرآن ، بل هي جوهره ، وبتعبير أفضل هي المادة الأولية التي يتألف منها القرآن الحكيم ، وتكتب بها كلماته ، وهي تحمل في طياتها النور والهدى ، وهو رموز وإشارات يعرفها أولياء الله ، ولعلها مفاتيح علوم

٢٥٩

السورة.

[٣] وهذا الكتاب سوف يكون ، أداة لنقل التجربة العظمى لكم أيها البشر ، ولك أنت يا من تخوض صراع الحق ضد الباطل.

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

فالحياة قائمة على الحق ، ويجري الحق على كل اجزائها ، ولكن من الذي يستفيد من هذه القصص؟

انهم المؤمنون ، فلو لم تكن استجابة للحق من قبل الناس ، فإنهم لا يستفيدون من القرآن الكريم ، حتى ولو قرءوه الف مرة ، أو حفظوا آياته حروفا وكلمات.

اذن حتى تستفيد من القرآن يجب ان تؤمن وتسلم له ، وما دام هذه القصص حقّا فلا يجد لها انعكاسا إلّا في قلوب المؤمنين الذين يملكون قابلية فهم الحق.

[٤] ثم يبدأ القرآن بالحديث عن فرعون رمز الفساد والباطل :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ)

لقد استعلى فرعون وسيطر على الناس ، ولكن لم يستفد من السلطة في خير شعبه ولا نفسه ، وفي آية قرآنية تأتي في آخر هذه السورة يقول ربنا : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».

ان الذي يحب الرئاسة والسيطرة ، ويتحول الحكم عنده من وسيلة إلى هدف ، فإنّه ينشر الفساد ، وكم من الجرائم وقعت في التاريخ ، ولا زالت على مذبح حب الرئاسة.

٢٦٠