من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

سورة النّمل

١٤١
١٤٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

عن كتاب ثواب الأعمال باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال :

«من قرأ سور الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه ، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا ، واعطى في الآخرة من الجنة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوّجه الله مأة زوجة من الحور العين»

(تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (٧٤)

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

«وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى»

(المصدر)

١٤٣
١٤٤

الإطار العام

الاسم :

ذكر «النمل» في قصة سليمان فجاءت السورة بهذا الاسم. أو ليس طريفا أن يقارن أكبر ملك آتاه الله لواحد من عباده باسم النمل؟! بلى. ان مملكة العدل الالهي لا بد أن تكون بحيث يشعر النمل بالأمان في ظلها. إنّ هذا ما تبشّر به رسالات الله ، ولعلّه لذلك سميت هذه السورة باسم «النمل».

لا تخرج موضوعات هذه السورة عن الإطار العام للطواسين الثلاث (الشعراء والقصص بالاضافة الى سورة النمل) وهو بيان خصائص الوحي مع التركيز على بيان الأمثلة من تاريخ رسالات الله الأولى ، وكأنها جميعا تفصيلات لما ذكّر به القرآن في سورة الفرقان.

تطلع علينا فاتحة السورة بذكر القرآن الذي جعله الله هدى وبشرى للمؤمنين ، أما الذين يكفرون بالآخرة فان الله زيّن لهم أعمالهم وسلبهم بصائرهم ، ولهم سوء

١٤٥

العذاب.

وان الرسول يلقّى القرآن من لدن حكيم عليم.

ويبدو ان هذين الاسمين الإلهيين يتجليان في آيات هذه السورة كما تجلّى اسما العزيز الرحيم في السورة السابقة «الشعراء».

وتلقي الآيات حزمة ضوء على قصة موسى : كيف تلقى الوحي ، حين آنس نارا ، فباركها الله ومن حولها ، وناداه : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وأعطاه معجزة العصى واليد البيضاء في تسع آيات ، وأمره بإبلاغ فرعون رسالات ربه.

فلما جحدوا بها ـ بعد ان استيقنتها أنفسهم ـ نبذهم في اليمّ.

وبعدئذ يفصل القول في قصة سليمان ، ويبدو ان هناك تقابلين فيها : اولا : بين فرعون أعظم ملك كافر ، وسليمان أكبر ملك عادل ، ثانيا : بين بلقيس الملكة العربية التي آمنت ، وثمود القرى العربية التي كفرت فدمرها الله شر تدمير.

ونقرأ في قصة سليمان عن تسخير الجن والطير ، وعن مملكة النمل التي شملها عدل سليمان ، وعن استخدام الهدهد والريح وسيلتين حضاريتين ، وأيضا الانتفاع بالاسم الأعظم في نقل عرش بلقيس لتكتمل صورة مملكة الحق في الأرض.

أما في قصة بلقيس فنقرأ استشارتها قومها ، واتخاذها القرار الحكيم ، الا أنّ حكمتها لم تجدها نفعا حين كفرت بالله ، وسجدت للشمس من دونه ، ولكنها بالتالي آمنت مع سليمان بالله رب العالمين.

أما في قصة ثمود فنقرأ قصة الصراع بين المستضعفين والمستكبرين ، وكيف أنّ الكفّار تطيّروا بصالح ومن معه من المؤمنين ، وكيف فسد ثمّة النظام القبائلي ،

١٤٦

وبدل ان يكونوا حماة الضعفاء تآمروا على نبيهم ، ومكروا ومكر الله ، ودمرهم أجمعين.

ويختم السياق قصص المرسلين بقصة قوم لوط الذين نهرهم نبيهم عن شذوذهم الجنسي ، فلما أرادوا ان يخرجوه ومن معه أمطر الله عليهم مطر السوء.

ويبدو أنّ السورة تضرب لنا في القسم الاول (١ ـ ٥٨) أمثلة عن النظم الاجتماعية الفاسدة التي لا بد ان تنزع عن فسادها (كما فعلت بلقيس) والا دمرت شر تدمير ، ويقارنها بمثال رائع من النظام الالهي في الأرض لا بد ان تتطلع اليه البشرية متمثلا في قصة سليمان وأما في القسم الثاني فان الآيات تذكرنا بالقرآن بعد ان تهدينا الى آيات ربنا في الخلق والتي تدل على ان الله واحد لا شريك له ، لا في أصل الخلق ولا تقديره وتدبيره.

الله هو الذي خلق السموات والأرض وأجرى فيهما أنظمة لحياة البشر ، وهو الذي يلجأ اليه المضطر فيجيبه ويكشف عنه السوء ، ويهدي الناس في ظلمات البر والبحر ، ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.

ثم يذكّر بأنه عالم الغيب لا يعلمه الا هو ، وانه مالك يوم الدين حيث يقف دونه علم الآخرين.

ويمضي السياق قدما في التذكرة بالآخرة ، ويأمرهم بأن يسيروا في الأرض ليعتبروا بمصير المجرمين ، ولا يستعجلوا العذاب فعسى أن يكون قريبا منهم ، أما القرآن وخصائصه فهي التالية :

أولا : يحتوي على علم ما يغيب عن الناس.

١٤٧

ثانيا : يحل الخلافات التي لا زالت عند أصحاب الكتب السابقة.

ثالثا : انه هدى ورحمة للمؤمنين.

رابعا : يقضي بين الناس بالحق.

ويأمر الله رسوله بالتوكل عليه ، والا يأبه بأولئك الجاحدين الذين يشبههم بالموتى والصم المدبرين ، ويوجهه الى المؤمنين الذين هم لربهم مسلمون.

ويحذّر من حلول العقاب في يوم يخرج الله لهم دابة من الأرض تكلمهم.

وحين يحشر بعض المجرمين ويسألون : لماذا كذبتم بآيات الله؟ فيقع عليهم القول بما ظلموا.

ثم يذكّر القرآن بالله ، وكيف جعل الليل سكنا والنهار معاشا ، ولكنه سوف يفزعهم بنفخة الصور ، ولا ينجو من ذلك الفزع العظيم الا المحسنون ، أما من جاء بالسيئة فهو يساق الى النار على وجهه.

وفي خاتمة السورة يوجه الخطاب الى الرسول باعتباره حامل رسالات الله ، وانه يعبد الله وحده ، ويتلو القرآن ، فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه ، اما الضالون فان الرسول لم يكلّف الا بإنذارهم.

وتختم السورة بحمد الله ، وبإنذار مبطن لأولئك الجاحدين بان آيات الله الخارقة ستأتيهم بحيث يعرفونها ، وان الله ليس بغافل عما يعملون.

١٤٨

سورة النّمل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)

___________________

٤ [يعمهون] : العمه عمى القلب أي يمشون في المعاصي كما يمشي الأعمى في الطريق لا يهتدي سبيلا.

١٤٩

هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ

هدى من الآيات :

تتمحور دروس سورة النمل ـ كما هي سورة الشعراء ـ حول الرسالات الالهية ، ميزاتها وخصائصها ، وبالتالي الشواهد الفطرية والوجدانية التي تدل على صدقها.

وتبدأ السورة بالاشارة الى القرآن الحكيم ، ذلك الكتاب الذي تكفينا الاشارة اليه والى واقعه علما ومعرفة بحقيقته ، لأننا لسنا بحاجة إلى أكثر من الاشارة للحقائق الواضحة في الكون ـ والتي حجبتنا عنها الأهواء والغفلة ـ لكي نعرفها ، بالذات إذا كنا ممن يلقي السمع وهو شهيد ، لان العقل والوجدان والفطرة ، وبالتالي لان الإنسان بما يمتلك من أدوات الفهم ، ووسائل المعرفة ، هو الذي ينبغي ان يتعرف على الحقائق ، وانما الهادي والمنذر والمذكر ليس عليه سوى البلاغ والتذكرة «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وهكذا تبدأ كثير من سور

١٥٠

القرآن الحكيم بالإشارة الى القرآن ذاته.

ان في القرآن آيات وتشريعات ، فهو من جهة علامات وإشارات تهدينا الى الله ، والى أسمائه الحسنى ، والى السنن الكونية وغيرها التي أجراها في الحياة ، وهو من جهة أخرى دساتير ثابتة ، وقوانين مستمرة في حياة الإنسان التشريعية.

وفي البدء يهدينا القرآن الى الله عن طريق إعطاء الأمل والهداية «هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ثم يأمرنا بمختلف الفرائض كالصلاة والزكاة.

أما لماذا لا يؤمن فريق من الناس بالقرآن؟ فلأن أعمالهم السابقة ـ اجرامهم وفسقهم وضلالتهم ـ التي اكتسبوها باختيارهم تصبح حجابا بينهم وبين الحقيقة ، والمشكلة الحقيقية إذا تحولت هذه الأعمال الى عادة ، ذلك ان حجاب العادة من أمتن الحجب وأصعبها أمام الإنسان ، والذي ينتصر على عاداته وسابقيّاته الفكرية فانه يتجاوز سائر الحجب والمشاكل بسهولة ، الا ان اختراق هذا الحجاب من أصعب الأشياء على البشر.

وفي الوقت الذي تشير هذه الآيات لهذا الحجاب تبين ان هذه سنة كونية جعلها الله في الحياة ، فالذي يبدأ بالصلاة تخف صعوبتها عليه شيئا فشيئا حتى يصير من المستأنسين بها ، وأما حين يقدم الإنسان على الفاحشة فانه يستوحش منها ويلاحقه تأنيب الضمير بسببها في بادئ الأمر ، ولكنه لو عاد إليها المرة تلو الأخرى فسوف تتحول الى عادة عنده لا يحس حين ممارستها بأدنى تأنيب ، ومثال على هذه الفكرة هو إدمان الجريمة لدى الطغاة ، فهم أول ما يقدمون على جريمة القتل يكون الأمر بالنسبة إليهم صعبا ، ولكن حينما تتكرر منهم الجريمة يصل بهم الأمر الى حد يقول أحدهم : (لكي أبقى حاكما لا يضر لو قتلت ثلثي الشعب) وليس لا يستقذر هذا العمل بل ويستأنس به ، وتلك سنة الهية ان يزين الشيطان للإنسان عمله.

١٥١

والشجاع الحق هو الذي يغلب نفسه وهواه ، فيخترق سد العادة ليصل الى نور الحقيقة ، ويتمسك بها حتى لو كلّفه ذلك التنازل عن كل سابقياته الخاطئة.

ثم تشير الآيات الى ان التدبر في القرآن يصل بالإنسان الى معاني الحكمة والعلم التي يشتمل عليها ، فآيات الحكمة وشواهدها واضحة في القرآن عبر الأحكام التي نجدها فيه ، فكل حكم يراعي كل الجوانب والجهات من دون ان يحيف بأحد لحساب أحد ، أو لجانب على حساب جانب آخر ، وأما حقائق العلم فهي باطن آيات الحكم ، ومن خلال هذا وذاك يعرف المؤمنون اسمي الحكيم العليم لربهم.

وفي نهاية هذه الآيات يضرب الله مثلا من واقع موسى (ع) فموسى كان طاهرا ونقيا ، الا ان الوحي أو قد مصباح عقله بنور الله ، إذ نزل عليه في عمق الصحراء وفي الليل المظلم ، حيث البرد والضياع والزوجة الحامل ، وهكذا يهبط الوحي على الأنبياء عند لحظات النقاء والطهر والتجرد والتي ترافق لحظات الشدة والعسر.

ان الوحي الذي تلقاه موسى لم يكن ليعالج مشاكله الشخصية ، بل جاءه الوحي ليعالج مشاكل الامة كلها ، وهذا دليل على انه اتصال غيبي من الأعلى ، فلو ان الرسالة التي جاء بها كانت من عنده كنا نجد فيها اثار الظروف الصعبة المحيطة به ، وما كان ليهتمّ بمشاكل الامة جميعا بل البشرية كلهم ، لان الثقافة الارضية تنبع من وسط الإنسان وتتأثر به ، أما موسى (ع) فانه يسمع نداء في ذلك الحين : انني انا الله رب العالمين ، وهنالك ينسى كل شيء ، ويتوجه الى ربه خالصا ، ويهدف حل مشاكل أمته ، متجردا عن ذاته الى الله ، وهذه هي خلاصة قصة الرسالة : من جهة الخروج عن الوسط الذي يعيشه الفرد ، ومن جهة أخرى تلقي فكرة شاملة مطلقة لا تحدها الظروف الخاصة التي يعيشها الفرد ذاته ، وعبر هذه القصة والقصص المشابهة يكشف لنا القرآن الحكيم عن حقيقة الوحي ، وجوهر فرقه

١٥٢

عن الثقافات البشرية.

بينات من الآيات :

[١] (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ)

«تلك» اشارة الى «طس» بأنها آيات القرآن الثابتة من جهة (فالكتاب هو الشيء الثابت) والواضحة من جهة أخرى ، إذ عرّفتها الآية بأنها مبينة.

[٢] (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)

يحمل القرآن في آياته الهدى والبشرى ، ولكن ليس لكل أحد بل لمن يريد الهداية وبالتالي البشرى ، فمن ناحية تتحرك أنت نحو القرآن فيتحرك القرآن نحوك ، لتلتقي أنت والسعادة والفلاح ، أما إذا جلست دون حركة نحو القرآن فلن تتلقى الهدى ولا البشارة.

[٣] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

الصلاة والزكاة رمزان لجانبين من أعمال الإنسان ، فالاولى رمز للعبودية المطلقة لله ، وبالتالي التحرر المطلق من قيود الذات والواقع السلبي ، والثانية رمز للعطاء ، وهذه هي العلاقة التي يجب ان تقوم بين الإنسان ونظيره الإنسان ، والمفارقة بين العلاقتين واضحة ، فمع الله تكون علاقة العبودية ، ومع الناس تكون علاقة الإحسان لا الشرك ، ويعبّر القرآن عن هاتين العلاقتين في آية أخرى حين يقول : «وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (١)

__________________

(١) النساء / (٣٦).

١٥٣

[٤] (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)

ان الذي يضع لنفسه هدفا بعيدا كالآخرة يكيّف نفسه مع ذلك الهدف ، فلا يتأثر بالعادات والظروف المحيطة به ، لأنه يجعل سائر اعمال الحياة وسيلة لهدف اسمى ، فلا يعبد ذلك العمل ولا يحبه أو يمارسه الا من أجل الهدف الذي يؤدي هذا العمل اليه ، اما الذي لا هدف له فهو يحب الوسيلة ويقف عندها كالذين لا يؤمنون بالآخرة فهم يستمرون على اعمال الدنيا لان عملهم محدود بالظواهر فقط ، ولعل قوله تعالى : «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» اشارة الى هذه الفكرة ، فالكافرون لا ينظرون الى الجوانب المختلفة من العمل ، وانما يربطون أنفسهم بالعمل ذاته فيعمهون اي (يعمون) عن عواقبه.

[٥] (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)

وان أعمالهم لا تورث لهم الا العذاب والخسران.

[٦] (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)

الله يلقي الكتاب على قلب الرسول ، والرسول يتلقاه بوعي وعلم ، والله حكيم والقرآن آية حكمته ، وعليم يتجلى علمه في القرآن.

وهكذا كان ظاهر القرآن حكما صائبا لأنه من الله الحكيم ، وباطنه علما لأنه من الله العليم.

١٥٤

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ

___________________

٧ [تصطلون] : الاصطلاء الاستفاء بالنار ، من يصلي ، وأصله اصتلى.

١٠ [يعقب] : أي لم يرجع ولم يلتفت ، فكأن الراجع والملتفت يعقب الأمر السابق.

١٥٥

كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)

١٥٦

بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها

هدى من الآيات :

جاء موسى (ع) في تلك الليلة الشاتية ليقتبس شهابا من تلك النار التي آنسها من بعيد ، وليهتدي على أثرها ، ويحمل الدفء والهدى الى اهله ، فاذا به يسمع نداء يبتدئ بالبركة ، ولعلها تعبير عن التكامل والنمو.

إنّ لدى الإنسان صفات فطرية متنوعة وهي بحاجة الى التنمية والتزكية لتنتهي الى البركة ، فهو يملك العلم والإرادة والصحة بالقوة ـ يعني انه يملك امكانية كل ذلك ـ والتربية هي التي تتعهد هذه الصفات بالتنمية والتزكية ، فاذا بامكانية العلم تتحول الى علم ، وامكانية التعقل تتحول الى عقل ، وامكانية الصحة الى سلامة ، وحسب التعبير الفلسفي يتحول الشيء من القوة الى الفعل ، وذلك بحاجة الى منهج متكامل هو رسالات الله التي تفجر طاقات الإنسان وتنميها وتوجهها ، لذلك تتكرر كلمة البركة في القرآن ، فالقرآن بركة ، والرسول بركة ، والبيت الحرام مبارك ، وهكذا.

١٥٧

وأول ما تلقى موسى (ع) من الوحي هو الاشارة بالبركة : «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها» وربما يقصد بمن في النار الله تعالى ، ومن حولها موسى.

أما عن منطلق البركة في حياة الإنسان فهو الايمان بالله سبحانه وتعالى ، لذلك يأتي النداء الآخر بعد ذكر البركة ـ وفيه تعبير عن التوحيد ـ فالله هو منشأ كل خير في عالم الطبيعة ، والايمان بالله هو منشأ كل خير في عالم التشريع.

وبعد ان يشير السياق الى الآيات التي تجلت على يد موسى (ع) يتناول قصة سليمان (ع) الذي ورث العلم والملك من داود ، فأصبح ملكا نبيا ، وذلك ليبين لنا فكرة هامة هي : ان الالتزام بالرسالة لا يعني تحمل المشاق والمتاعب الا انها بالطبع تؤدي بأصحابها الى النصر والملك.

والقرآن الحكيم كثير ما يبين لنا أحكامه وأفكاره عبر الامثلة التاريخية والقصص ، فبقصة يعقوب مع ولده يوسف (ع) يثير فينا عاطفة الابوة ، وبقصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل (ع) ـ حين أراد ذبحه ـ يبين تحدي الإنسان لهذه العاطفة ، أما من قصة سليمان (ع) فاننا نستوحي ان الدنيا والآخرة يمكن ان يجتمعا على صعيد واحد ، فبإمكان الرسالي صياغة حياة ملؤها الفضيلة والتقوى ، ويجمع إليها القوة والنعم الدنيوية ، والقصة تفيد أيضا ان التفكير السليم يمكّن من جمع الدنيا والآخرة ، حسب مستوى الإنسان وطموحه وقدراته ، ويستشف من القصة معنى البركة الذي جاء ذكره في أوّل الآيات ، فإنسان ما قد يصبح كسليمان نبيا ، يتلقى الوحي من الله سبحانه مباشرة ، وفي الوقت ذاته يكون ملكا بملك لا ينبغي لأحد من قبله ولا لأحد من بعده.

بينات من الآيات :

[٧] لكي لا يستغرب أحد كيف يتلقى الرسول الوحي من لدن حكيم عليم ،

١٥٨

ولكي يعرف المؤمنون مزيدا من خصائص الوحي وكيف يتلقاه الرسول ، وما هي ظروف التلقي! يبين ربنا قصص الأنبياء ، وها هو موسى (ع) يسير بأهله فيأنس نارا فيذهب ليأتي منها بخبر (عن الطريق) أو قبس ليصطلي ويستضيء به.

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)

[٨] (فَلَمَّا جاءَها)

حين اتجه موسى (ع) نحو النار ووصل على مقربة منها.

(نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها)

قال البعض ان من في النار هم الملائكة ، ومن حولها هو موسى (ع).

وقال البعض ان «مَنْ فِي النَّارِ» هو الله الذي تجلى هنا لك ببعض أسمائه ، وقد قال ربنا : «وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» وقد جاءت الخاتمة لبيان تقديس الرب من الحلول في مكان.

ويحتمل ان يكون المقصود بمن في النار هو موسى ، ومن حولها الذين يقتبسون منه ، وينتهجون خطه.

(وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

اي تعالى الله ان يكون حالّا في النار ، لأنه أكبر من ان يحدّه شيء.

[٩] ان النداء الذي تلقاه موسى (ع) هو المسؤولية التي تتمثل في الرسالة الالهية المنزلة اليه ، ينذر بها قومه ، ويتحدى بها النظام الفاسد.

١٥٩

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

وهذا هو المنطلق.

[١٠] (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ)

يقول المفسرون ان الجان هي الحية الصغيرة سريعة الحركة ، ولكنا نعلم ان عصى موسى (ع) تحولت الى ثعبان ضخم ، وعليه فقد يكون التعبير بكلمة «جان» وهي الحية الصغيرة لبيان معنيين الاول : جانب الخفّة والسرعة في الحركة حتى كأن هذا الثعبان الضخم في خفته حية صغيرة ، والثاني : انه كان في ضخامته كأنه الجن.

وموسى (ع) حين رأى هذا المنظر الرهيب :

(وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ)

اي هرب ولم يلتفت الى خلفه ، أو لم يتعقب الأمر ويتابعه مرحلة فمرحلة ولحظة فلحظة ، الا ان العناية الالهية تحوط موسى وتمده بالعون في كل حين ، لذلك جاءه النداء تثبيتا له :

(يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)

الرسالة هي عطاء الهي جديد يضاف الى الرسول ، وليست نبوغا فطريا ، ولا نموا طبيعيا في حياته ، لذلك نجد موسى (ع) يخشى ويخاف من العصا التي ألقاها هو نفسه ، إذ لم يكن يعلم انها ستتحول الى جان.

لقد سما موسى (ع) في لحظة الى أفق النبوة ، من حملة الرسالات الالهية فأضحى ينفذ الأمر بلا خشية ولا تردد ، حقا ما أعظم التحول الذي ينشأوه الوحي في هذا

١٦٠