من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

وجود القابلية للهداية والرغبة فيها ، والتحذر من مواطن السيئات التي وقع فيها من قبلنا شرط أساسي للاستفادة من عبر التاريخ.

وتعقل هذه البصائر لا يتم الا من العلماء لان أكثر الناس لا يعقلون.

٤٦١

خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ

٤٦٢

بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)

٤٦٣

خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ

هدى من الآيات :

تركيزا بعد القصص التي تليت ، وبيانا لمنهج الهي يقينا مصير الغابرين تأتي آيات هذا الدرس لتبين أولا : ان الحق أساس خلق السموات والأرض ، وحين نعرف ذلك نهتدي الى ان كل شيء يسير على هدى سنّة مفروضة عليه ، وعلينا ـ إذا ـ معرفة تلك السنن ان كنا نريد التعامل مع حقائق الخلق ، ولا يجوز ان نتمنى ان يكون العالم المحيط بنا على صورة نصنعها في أنفسنا ثم نتعامل مع تلك الصورة التي لا تمت الى الواقع بصلة كما يفعل الجاهلون ، وأكبر عقبة في طريق العلم هو التصورات الذاتية التي يتوهمها البشر ، ويزعم بأنها هي الحقائق الموضوعية.

وحين يثبت الوحي مبدأ الحق يبني عليه مبدأ المسؤولية ، فليس بالتمنيات تقدر ان تبلغ الحياة الفضلى ، انما بالسعي الرشيد ، والعمل الجاد المخلص تتّقي العقاب الإلهي.

٤٦٤

ثانيا : ان معرفة هذا المبدأ بحاجة الى قابلية في القلب تأتي بالايمان والتسليم ، ذلك ان القلوب المغلقة لا تستطيع ان تستوعب هذا المبدأ الشامل.

العين تعجز عن التركيز على نور باهر ، والاذن لا تسمع الأصوات ذات الذبذبات العالية جدا ، وكذلك القلب فليس كل قلب قادرا على معرفة الحقائق الكبرى في العالمين ، وانما القلوب المؤمنة التي روّضت بالتقوى ، وبوركت بالوحي ، ونورها الله بنوره البهيّ قادرة على وعي هذه الحقيقة. ان محور الخليقة هو الحق «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ».

ثالثا : لكي نفهم هذا المبدأ ، ونعتبر بالتالي بعاقبة الذين اهلكهم الله بفسادهم وعنادهم ، لا بد ان نتلوا القرآن ، لنقرأ من خلال آياته آيات الله في الخليقة.

رابعا : وعلينا ان ندفع عن قلوبنا هجمات الشيطان التي لا تتوقف ، هذه الوساوس والظنون والتمنيات جنود الشيطان التي تحيط بالقلب احاطة السوار بالمعصم ، والصلاة وذكر الله حصن القلب ضدها.

خامسا : إيجاد علاقة إيجابية وبناءة مع أهل الكتب الالهية يساهم في تكريس وحدة الرسالات ، وبالتالي رفع مستوى الوعي الايماني للبشرية ، وبالرغم من ان الجاهلين قد أوغلوا في الكتب السابقة تحريفا وتأويلا باطلا ، وبالرغم من وجود نواقص في الكتب أتمها الإسلام ، الا ان علينا احترام أهلها وعدم الجدل معهم الا بالتي هي أحسن.

ويمضي السياق في بيان جدل الكفار في رسالة النبي ويرد شبهاتهم ويقول : ان الرسول لم يكن يتلو من قبل كتابا ولا يخطه بيمينه حتى لا يرتاب المبطلون في صدق نزول الكتاب من الله عليه.

٤٦٥

انما الكتاب آيات تعيها صدور العلماء ، أما من يجحد بها فانما لظلمه ، ولآثار الذنوب على قلبه ، وهم يطالبون بآيات خارقة وهي عند الله وبأمره ، وانما الرسول نذير وما عليه الا البلاغ.

لو كان هؤلاء من أهل الهداية كان هذا الكتاب كافيا لهم ، أو ليس قد أنزله الله رحمة وذكرى لقوم مؤمنين؟!

بينات من الآيات :

[٤٤] قد يعرف الفرد حقيقة واحدة تفتح له أبواب المعرفة ، وقد يجهلها فتصبح كل معلوماته لغزا ، والوحي الالهي يذكرنا أبدا بتلك المعارف التي هي كالمفتاح تفك رموز الخليقة. منها : ان بناء الأرض والسموات قائم على أساس الحق.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ)

فهي ليست تصورات ، ولا تمنيات ، ولا تمشي حسب أهواء هذا وذاك ، ولا هي مخلوقة عبثا وبلا هدف.

أرأيت لطف الخلق ودقته؟! أو رأيت فيه ثغرة أو فطورا؟! هل رأى فيه أحد لعبا ولهوا وعبثية؟!

الا تنظر الى إتقان صنع المجرات التي تكاد لا تحد؟! وإتقان صنع البعوضة؟! أ فلا ترى حالة التكامل بين ابعد مجرة ، وأصغر دابة بل احقر جرثومة؟!

الله أكبر. انه محور الحق الذي لا يحيد عنه شيء ، ولكن لماذا لا نعي نحن هذا المحور العظيم الذي تهدي اليه كل الشواهد والآيات. أ تدري لماذا؟

القرآن الكريم يجيب قائلا :

٤٦٦

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)

هل تستقبل الصخرة الصلدة بركات الغيث ، وهل تنبت زرعا ، أو تحفظ ماءا؟ كلا .. لأنها ليست بذات قابلية ، كذلك القلب الصخري المعاند الذي يخلق في ذاته صنما فيعبده ويزعم بأنه الحق ، ويغلق على نفسه منافذ المعرفة.

الايمان هو التسليم ، والتسليم هو التصديق ، والقلب الذي يرفض سلفا قبول اي فكرة كيف ينتفع بآيات العلم؟!

[٤٥] لماذا يتحجر قلب البشر ، وكيف نزيل قسوته ونجعله ليّنا ، أو لا أقل كيف نحافظ على القلوب الخاشعة الا تقسوا؟

الجهل ، والغفلة ، واتباع الهوى ، وطول الأمل ، والعادات السيئة ، والأفكار الباطلة ، ووساوس الشيطان ، وظنون النفس ، وتمنيات القلب كل أولئك يمكن ان تكون حجبا سميكة على القلب ، أو مغاليق لا تفك على أبوابه ، وعلى الإنسان ان يقوم بجهد مكثف ودائم لتطهير قلبه ، وفك اقفاله ، وفتح منافذه ولكن بماذا؟

بالكتاب ، بالصلاة ، بذكر الله.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ)

القرآن شفاء لما في الصدور ، كل آية منه تفتح سبيلا للهداية الى القلب ، وتطهر جانبا منه ، وعلينا ان نتلوه في آناء الليل وأطراف النهار ، ونتدبر فيه ، ونليّن قلوبنا القاسية بآياته.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ)

٤٦٧

دعنا نصلي صلاة الخاشعين لا صلاة الساهين ، وعندئذ نعرف مدى الفائدة العاجلة التي نستفيدها منها. ولعل كلمة (الاقامة) تعني إتيانها بشروطها ، ومن شروطها السكينة والخشوع. والفائدة العاجلة التي نرجوها بإقامة الصلاة تركيز التقوى في القلب ، مما تبعدنا عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)

ولعل الفحشاء هي الخطايا الكبيرة التي لا يمكن تبريرها كالقتل ، والزنا ، والنهب ، والسرقة ، والاعتداء على حقوق الناس علنا.

أما المنكر فلعله الذنوب التي ينكرها القلب ، وقد لا يعرف عنها المجتمع كالمساهمة في قتل الناس عبر إسقاط شخصياته بالغيبة والتهمة ، وكذلك الغش والرشوة وهكذا الرياء والنفاق و.. و..

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)

ان من عظمة الصلاة انها ترسخ في القلب عقيدة التوحيد والتي هي الينبوع الصافي لسائر العقائد السليمة.

ولعل الآية تشير الى ان جوهر الصلاة هو ذكر الله ، ولذلك كان علينا ان نهتم به سواء في الصلاة أو في حالات أخرى ، ذلك ان ذكر الله يحصن القلب من وساوس الشيطان ، ويحفظه من همزاته ، ويقاوم الغفلة والاسترسال.

ومن المعروف ان ذكر الله ليس مجرد التلفظ ب «الله أكبر ـ لا إله إلّا الله» وانما هو تذكر الله عند المعصية فيصبر عنها ، وعند الطاعة فيندفع إليها ، وعند المصيبة فيتسلى عنها ، وعند الزحف فلا يولي الدبر.

٤٦٨

[٤٦] الآيات التي مضت كانت تبين قصص الأنبياء مع الأمم ، ولعل ذلك كان مناسبة للحديث عن موقف الإسلام من الرسالات السابقة ، وجاء الجواب : ان الموقف ايجابي ويتلخص في :

الف : الجدال بالتي هي أحسن ، دون خشونة أو عنف.

باء : توجيه العنف الى الظالمين منهم كما يوجه العنف ضد الظالمين من أبناء الامة الاسلامية.

جيم : بيان أسس الوحدة بينهم وبين المسلمين.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

جاء في بعض الروايات ان معنى هذا الجدال : ان تستدل بالأدلة الواقعية ، وألا تنكر حقّا يستشهد به صاحبك ، ولا تدّعي باطلا لإثبات حقّك.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)

ومن هذه الآية نستوحي : ان الإسلام لا يهتم فقط بالمسلمين ـ كطائفة بشرية ـ وانما أيضا بأبناء الطوائف الاخرى ، فيقاوم الظلم انى كان وعلى أي شخص وقع ، مسلما كان أو نصرانيا أو يهوديا وحتى لو كان مشركا.

الإسلام رسالة الله لانقاذ الإنسان كإنسان ، وعلى المسلم أن يكون نصيرا للمظلوم انى كان ، وجاء في حديث :

«من سمع رجل ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»

(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ

٤٦٩

واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

والواقع : ان وجود محور توحيدي واحد يؤمن به الجميع هو امتن أساس للتعايش السلمي بين الديانات.

[٤٧] قد تشتبه الأمور على بعض أهل الكتاب ، بينما البعض الآخر يسارع للايمان بالرسالة التي ختم بها الله رسالاته لمعرفته بجوهر الرسالات الإلهية ، الذي يتجلى بأفضل صوره في هذه الرسالة.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ)

لعل معناه : كما أنزلنا على الرسل من قبلك.

(فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)

لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم ، ولأنهم يجدون فيه شواهد الصدق التي كانت في الكتب السابقة.

(وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)

لعل المراد بهم الموجودون في الجزيرة من غير أهل الكتاب.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ)

الذي يكفرون بنعم الله ، وتنطوي قلوبهم على مرض ، وإلا فان هذه الآيات واضحة لا ريب فيها.

[٤٨] ومن شواهد صدق الرسول تفجر ينابيع الوحي على لسانه مرة واحدة ، دون تكامل ذلك عبر التعلم أو بالتدريج ، ودون ان يتصل بالوسط الاجتماعي الذي

٤٧٠

هو فيه ، بل ومن دون ان يكون لذلك الوسط اثر عليه ، بل يأتي أبدا تحدّيا لمفاسد الوسط ، وفتحا لآفاق جديدة من المعارف عليه.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ)

[٤٩] ومن شواهد الصدق على رسالة الإسلام يقين أهل العلم والحكمة والفضيلة في الامة بها ، ففي الناس ـ في كل عصر ومكان ـ طيبون وآخرون فاسدون ، ومن خلال تمسك الطيبين بفكرة نستشهد على صحتها ، كما ان في الناس علماء وجهال وايمان العلماء بخط يزيدنا يقينا بصدقه.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)

وهم في هذه الامة أئمة الحق من آل بيت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والعلماء بالله ، الأمناء على حلاله وحرامه ، وهم أهل الذكر الذين أمرنا بالسؤال منهم.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ)

أما الفئة الكافرة بالكتاب فهم أولئك المنبوذون عند العرف ، الذين يظلمون الناس ، إذا من خلال طبيعة المؤمن والكافر بالرسالة نعرف مدى صدقها.

[٥٠] ويطالب الكفار ـ جدلا ـ بالمزيد من الآيات والآيات الخارقة ، بينما لا تجديهم الآيات نفعا ، لأنها لو نزلت فكفروا بها لنزل بهم العذاب.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ)

٤٧١

فهو الذي ينزلها متى ما شاء بحكمته وبعد ان تنتهي فرصة القوم.

(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

ان الثقافة الجاهلية تلعب دورا هاما في تبرير أخطاء الكفار المنهجية ، ولعل الآيات التي كانوا يطالبون بها كانت تدور حول موضوعات لا غنى فيها كالجدليات البيزنطية ، بينما مهمة الرسول الاولى الإنذار لا لكي يكرههم على الايمان ، بل لكي تستضاء قلوبهم فيؤمنوا طوعا لينتفعوا بالايمان ، وهذا ـ فيما يبدو ـ هو المنهج السليم للدعوة وبه يتحقق الجدال باللتي هي أحسن.

[٥١] (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

أو ليس دليلا كافيا على عظمة هذا الكتاب الذي نستكشف منه رؤي الحياة وبصائر العمل انه رحمة للعالمين ، حيث يقدم لهم برامج الحياة السليمة ، والرؤى الواضحة الصحيحة ، وحيث يقوم بتذكير المؤمنين الذين رفعوا عن أنفسهم حجاب الجهل ، والتكبر ، فأثار فيهم دفائن عقولهم ، واستحث هممهم الناشطة من أجل السير قدما في مسيرة تحرير الأرض والإنسان من عبودية الأوثان الى عبادة الله الواهب المنان.

٤٧٢

قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ

٤٧٣

رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣)

٤٧٤

قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً

هدى من الآيات :

هل هناك أكبر من الله ومن شهادته ، وهو الذي يدبّر شؤون السموات والأرض؟! كلا .. الله بكل عظمته وسلطانه شهيد على صدق رسالاته ، وكفى به شهيدا ، والخاسر حقّا هو الذي يؤمن بالباطل ، ويكفر بالله ، (وبرسالاته).

ويزعمون : أنّ دليل صدق الرسالات ينبغي أن يكون عذابا عاجلا لمن يكفر بالله ، ولا يعلمون انه لو جاءهم لا ينفعهم ايمانهم شيئا ، بل يأتيهم فجأة دون أن يشعروا ، ولا يعلمون ان العذاب الذي يطالبون به محيط بهم ، لولا انهم محجوبون عنه بظاهر من الحياة الدنيا ، وحين ترتفع عنهم حجبهم يغشاهم من كل أطرافهم.

لا بد من إخلاص الإيمان بالله للتخلّص من عذابه ، ولا يمكن التبرير بغلبة سلاطين الجور والكفر ، لأن أرض الله واسعة يمكن الهجرة في أطرافها ، ولا ينبغي الخوف من الموت لأنّ كلّ نفس ذائقة الموت ، والمرجع الى الربّ.

٤٧٥

وليرغب العاقل في ثواب الله ، حيث هيّأ للمؤمنين الذين يعملون الصالحات غرفا من الجنة خالدين فيها ، أو ليسوا قد صبروا على البلاء ، ولم يداخلهم اليأس لتوكلهم على الله ، ولم يخشوا قطع أرزاقهم لأنّ الله يرزق كل دابة ، كما يرزقنا وهو السميع العليم؟!

(والله يدعوهم لفطرتهم) فلأن سألتهم من خلق السموات والأرض تراهم يعترفون بأن الله هو خالقهما ، ومسخر الشمس والقمر ، فلما ذا يسمحون للشيطان بإضلالهم؟!

كذلك الله يبسط الرزق لمن يشاء ، ويضيق على من يشاء ، وهو محيط علما بكل شيء ، فلما ذا نخشى الفقر ونكفر بالله طمعا في الغنى وهو الذي يدبر أمور الحياة ، فهو ينزل من السماء ماء ، ويحيي به الأرض من بعد موتها ، فله الحمد ، ولكن أكثر الناس لا يعقلون.

بينات من الآيات :

[٥٢] الرسالة هي تجسيد لصفات الله ، وهذا ما نلاحظه من خلال تجلّي أسماء الله في الرسالة ، فهي آية من آيات الرحمة ، والحكمة ، والعظمة وغيرها ، وبنظرة في الرسالة نعرف أنّ ربّنا رحيم ، حكيم ، عظيم ، والى غيرها من أسمائه الحسنى.

ومن جهة أخرى فإنّ الرسالة هي تحقيق لتطلعات العقل والفطرة ، فقد دخل اعرابيّ ذات يوم على رسول الله (ص) طالبا منه النصيحة ، التي لا يحتاج بعدها إلى نصيحة أخرى ، فكان أن وضع رسول الله يده على قلب الرجل وقال : «ما قال لك هذا فافعل ، وما قال لك هذا لا تفعل فلا تفعل» فالرسالة هي تلبية لنداء الفطرة ، وارواء لعطش الوجدان ، وليس بين الرسالة والعقل تناقض ، ولذلك جاء في بعض الروايات : «إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ،

٤٧٦

فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ـ عليهم السلام ـ وأما الباطنة فالعقول» (٢) وشهادة العقل دليل على صحة الرسالات.

ومن دلائل صدق الرسالة تلك الانتصارات الهائلة التي يمنّ بها الرب على عباده المؤمنين ، بالرغم من قلّة عددهم ، وضعف عدتهم ، حيث يقول سبحانه : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣) والمعاجز الخارقة وغيرها نتيجة استجابته لدعائهم ، وحينما نقف مع الرسالة ، ونؤمن بالله ، فان الحياة ستسخّر لنا ، وفي الحديث القدسي : «عبدي أطعني أجعلك مثلي ، أنا حيّ لا أموت ، أجعلك حيّا لا تموت ، أنا غنيّ لا أفتقر ، أجعلك غنيّا لا تفتقر ، أنا مهما أشاء يكن ، أجعلك مهما تشاء يكن» (٤) وهذه شهادة أخرى.

وشهادة الله تتجسد أيضا في الحقيقة الفطرية التي يؤمن بها جميع الناس ، وهي حقيقة الخالق والمخلوق ، فلا بدّ للكون من إله ، ولكن هذه المعرفة إجمالية ، وإذا أردنا المعرفة التفصيلية ، فان ذلك لا يأتي إلا من خلال الايمان بالله ، ومعرفة آياته ، وهذا لا يأتي أيضا إلّا من خلال التزامنا بتعاليم الرسالة ، وتطبيق أحكام الشريعة الغراء.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

إن الله يعلم ما تسرون وتعلنون ، ويعلم خفاياكم ، وهو الشاهد على ما تعملون من خير أو شر ، من حقّ أو باطل ، وليس الله بظلام للعبيد.

__________________

(٢) بحار الأنوار ج ١ / ص ١٣٧ (من وصية الامام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم).

(٣) آل عمران / ١٢٣

(٤) كلمة الله ص ١٤١ / نقلا عن آمالي الصدوق.

٤٧٧

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)

وهناك علاقة حتمية بين الإيمان بالباطل والكفر بالله ، فبمقدار إيمانك بالباطل يكون ابتعادك عن الله وكذلك العكس.

[٥٣] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

إن مشكلة السواد الأعظم من الناس هي انهم لا يفهمون أن الزمن هو سبيل الامتحان الذي رست عليه قواعد الحياة ، حيث يفصل بين العمل والجزاء ولذلك يطالب البعض بتعجيل العذاب ، ولكن الله يعدهم بالعذاب حيث لا يتمكنون من التوبة أو العودة.

[٥٤] (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ)

إن الحقائق موجودة ولكنا لا نراها ، وهي أشبه ما تكون بالطاقة الكامنة في الأشياء ، فعند ما تأكل مال اليتيم فانما تأكل في بطنك نارا ، والكذب رائحة نتنة تخرج من فمك ، ولكن جميع هذه المظاهر لا ترى الآن ، إلّا إذا تغيّرت طبيعة الكون ، وحينها يصبح المال نارا ، والكذب نتنا ، وهذا هو العذاب الذي به يكذبون ، وهكذا تكون جهنم محيطة بالكافرين.

[٥٥] (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

في ذلك اليوم سيغشاكم العذاب من كل حدب وصوب ، وجزاؤكم من عين أفعالكم ، وستذوقون ما كنتم تعملون.

٤٧٨

[٥٦] بعد أن ذكرنا القرآن بشهادة الله التي تكفي عن كل شهادة على صدق رسالاته ، وبيّن أن الكافرين هم الخاسرون وليس المؤمنون ، وان تأخير العذاب عنهم لا يعني انه يمكن التخلص منه. كلا .. بل هو موجود فعلا ومحيط بهم ، إذ أن أعمالهم هي التي يذوقونها عذابا حين يغشاهم من أطرافهم ، وبالتالي بعد أن هز السياق ضمائرهم أخذ يعالج بعض العقبات التي تعترض طريق الإيمان ، ومن أبرزها : هيمنة الجبارين ، فأمر بالهجرة عن بلاد الكفر قائلا :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)

أنت عبدي ، والأرض أرضي ، فاسع فيها واعبدني ، ولا تخضع لسلطة الطغاة ، لأنهم يرهبون الناس من الموت ، وعلى الإنسان أن يتحرر من خوف الموت بمعرفة أنه لا ريب ذائقة ، حتى يخرج من عبادة الطغاة إلى عبادة الله.

[٥٧] (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ)

[٥٨] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)

الغرفة هي : الغرف المرتفعة ، وهي قصر المؤمن ، حيث ينعمون بالخلود ، والشباب ، والحور العين ، وخدمة الولدان جزاء عملهم وإيمانهم ، وهكذا يكون جزاء العاملين.

[٥٩] (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

ولكن هذا الجزاء ليس بلا ثمن ، فثمنه الصبر والتوكل ، وهي من صفات المؤمنين. الصبر يعني تحمل الصعاب من أجل مستقبل أفضل ، والتوكل يعني

٤٧٩

استخراج كنوز الذات من أجل العمل.

[٦٠] (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

من الآيات الأربع الماضية يبين الله حجابان يعيقان فهم الإنسان للوصول إلى الحقائق وهما :

الحجاب الأول : حذر الموت

كلّ حيّ يتحسس في أعماقه ضرورة الحذر من الموت ، ومن أولى ضروريات الحياة البحث عن النجاة وضمان البقاء ، ولكن قد يصل هذا الشعور إلى درجة المبالغة فتتضخم حتى نكون عبيدا للدنيا ، إذن فلا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ، ولكن أية ذلة تلك أن نموت ونحن أحياء؟!

إن ميزة الحياة الحيوية ، ولفظ الحياة مشتق منها ، فاذا فقدنا الحيوية والنشاط فكأننا أموات ، فالحياة بلا حركة حياة ميتة ، لا روح فيها ، والإنسان بذلك يقتل نفسه بالمجان ، لذلك كان الحذر المبالغ من الموت من أبرز العوائق أمام فهم الحياة ، والعمل في سبيل الله.

ويعالج القرآن هذه الحالة بدواءين هما :

أ ـ طرح حقيقة الموت وحتميته ، فكل نفس ذائقة الموت ، وليس هناك مجال للهرب منه فاسع سعيك ، واستفد من فرص الحياة.

ب ـ والموت ليس واقعا مخيفا ، بل إن الخوف هو فكرة مخيفة تعشعش في رأسك ، والموت ليس ما يحذر منه ، وعند ما ترغب في الموت توهب لك الحياة ،

٤٨٠