من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

وفي يوم القيامة يحتج الله على العباد ، فيأتي بيوسف حجة لمن فسد بجماله ، وبمريم لمن باعت نفسها ، وبأيوب لمن لم يصبر عند البلاء.

[١٥٢] من هم المسرفون؟

بعد ان كانت ثمود تعمر الأرض بالزراعة والبناء ، نمت فيها طبقة المسرفين الذين أصبحوا بؤرة الفساد ، وعند ما تنحرف مسيرة المجتمع ، ويتسنّم ذروة القرار فيها أناس همّهم الإفساد ، فان خطاهم نحو النهاية سوف تتسارع ، وفي هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ الأمم يبعث الله رسله لعلهم يتوبون اليه ، ويتقونه ويطيعون رسله.

(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)

وإذا غلب على الإنسان حالة الإفساد فانه لن يكون مصلحا ، وما يتظاهر به من الدعوة الى الإصلاح هواء ، وهذا شأن المسرفين.

(وَلا يُصْلِحُونَ)

واليوم يصنع المستكبرون وسائل إبادة البشرية جميعا ، ثم ينادون بالسلام أو بحقوق الإنسان وهم كاذبون.

ولعل من معاني الإسراف بالاضافة الى الإسراف بالمال ، الإسراف بالفساد ، وسفك الدماء.

جاء في الحديث عن الامام الباقر (ع):

«المسرفون هم الذين يستحلون المحارم ، ويسفكون الدماء» (٢)

__________________

(٢) ميزان الحكمة / ج (٤) / ص (٤٤٧).

١٠١

[١٥٣] (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)

اي أنه قد أصيب بسحر ، ويبدو ان هذا الكلام تهمة خفيفة بالجنون!

فأت بآية :

[١٥٤] (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)

أنت بشر مثلنا ، وصحيح ان الرسول بشر مثلهم إلّا أنّه يوحى إليه ، وقد كانوا يتصورون ـ كما فرعون وكفار قريش ـ أنّ الرسول يجب ان يكون متميّزا عليهم ، بأن يكون معه الملائكة ، أو يلبس الذهب ، أو يملك الخزائن ، أو أنهم من جنس آخر غير جنس البشر ، وإنما أرسل الله الرسل من جنس البشر لكي يكون الايمان به بحرية ، وعن يقين وعلم تاميّن ، فلو أرسل الله الرسل كما يتصورون إذا لانتفى أساسا الاختبار.

(فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

يؤمن بعض الناس بمجرد رؤية شواهد الرسالة ، كأن يؤمنون لأنّ رسلهم السابقين أشاروا الى هذا النبي ، بينما يؤمن بعضهم لما يراه من صفات الرّسل ، وهناك أناس لا يؤمنون الا بالمعجزة ، ويبدو أن قوم ثمود كانوا يعرفون رسولهم ، ولكنهم يفقدون الثقة به ، فهم يحتاجون الى دليل صارخ على صدقه.

[١٥٥] (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)

أتى لهم صالح بمعجزة الناقة وفصيلها التي تشرب الماء يوما ، ويشربون الماء يوما ، وفي اليوم الذي تشرب فيه تدر عليهم اللبن.

١٠٢

[١٥٦] (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

وأمرهم بأن لا يمسوا الناقة بسوء ، فيأخذهم الله بعذاب يوم عظيم.

فالانضباط ، والتزام الأوامر لهما الفضل الأكبر في ديمومة الحضارة ، وبعكسها التسيّب والاعتداء ، لأنهما يخالفان سنن الحياة الطبيعية.

[١٥٧] (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ)

انهم شعروا بالندم على قتلهم الناقة (والقتل من الذنوب التي تورث الندم) كما في الحديث الذي استدل بقوله في قصة ابني آدم : «فقتله (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)».

[١٥٨] (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ)

نزل بهم العذاب ، وكان طاغية عليهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)

فهل من معتبر؟! فبالرغم من ان إهلاك القوم نذير صاعق الّا أن آذان أكثر الناس تصمّ دون هذا النذير.

[١٥٩] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

جمع في نفسه العزة والرحمة ، فهو شديد العقاب ، ولكن رحمته سبقت عذابه الا على القوم الكافرين عند ما يسلط عليهم العذاب ، فآنئذ لا محل لرحمته.

١٠٣

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)

___________________

١٦٨ [القالين] : القالي هو المبغض.

١٠٤

أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ

هدى من الآيات :

في سياق بيان رسالات الله واهدافها الاصلاحية يبين ربنا قصة قوم لوط الذين انحرفوا جنسيا ، فأرسل الله إليهم رسولا من أنفسهم انبأهم بأنه يحمل إليهم رسالة ربهم بأمانة ، وأمرهم بتقوى الله وطاعته وقال : بأنه لا يطلب منهم اجرا ، ولكنه يعمل لهم في سبيل الله الذي يرجو ان يعطيه الأجر الوافي ، ثم واجه انحرافاتهم الكبرى وهي الاباحية والشذوذ الجنسي ، حيث كانوا يأتون الذكران من أيّ قوم كانوا ، ويذرون ما خلق الله لهم من أزواجهم ، ونعتهم بالتعدي عن الحق والجور.

فهددوه بالإخراج ان لم ينته من معارضتهم ، ولكنه تبرّأ من عملهم ، وسأل الله ان ينقذه من ذلك العمل القبيح ، فنجاه الله وأهله جميعا سوى زوجته العجوز التي هلكت وأضحت عبرة.

ودمر الله الآخرين ، وذلك بان أمطر عليهم مطر السوء ، وبئس المطر كان

١٠٥

لأولئك الذين تم سلفا إنذارهم وبقيت من قصتهم آية وعلامة لعل الناس يهتدون ، الا أن أكثر الناس لا يؤمنون. وخلاصة الحقيقة التي يمكن معرفتها بهذه الآية هي ان الله عزيز رحيم.

وهكذا تختلف صور الفساد ونهايته واحدة مهما اختلفت صوره ، ولعل السبب الرئيسي للفساد هو الإسراف.

بينات من الآيات :

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ)؟

[١٦٠ ـ ١٦٤] (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)

ذات الكلمات ، وذات النبرة نسمعها من لوط (ع) ، لان جوهر الانحراف عند كل قوم واحد ، بالرغم من اختلاف صوره ، فلا بد ان يكون جوهر الرسالات واحدا ، بالرغم من اختلاف كل رسالة عن غيرها في مجال الإصلاح الذي يستتبع نوع الانحراف.

[١٦٥] (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ)

ولعل هذه الآية تشير الى طبيعة فساد الاباحية والشذوذ الجنسي حيث إنه ينتشر ويتعدى حدود البلد ، وقد انتشر فعلا الفساد الخلقي عند قوم لوط حتى قال آسفا : أليس منكم رجل رشيد؟! ، وتعدى فعل الفاحشة الى كل العالمين.

[١٦٦] (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ

١٠٦

عادُونَ)

عادون : اي تتعدون.

كان تركهم الأزواج وإقبالهم على الذكران تعديا وتجاوزا ، بل وتمردا على الفطرة التي فطر الناس عليها ، ولم يكن هدفهم ـ والله أعلم ـ إشباع شهوتهم ، بالرغم من ان الله يلقي على الملاط به ـ والعياذ بالله ـ شهوة النساء ، فمقاربة النساء أكثر شهوة من مقاربة الرجال ، ولذا سماهم الله سبحانه بالعادون.

والزواج في الإسلام ضمان من الانحراف ، وهو صمام أمان لمثل هذه الانحرافات والتي صارت تجتاح البشرية بشكل مريع.

اني من القالين :

[١٦٧] (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)

هددوا نبيهم بالنفي والإخراج ، لأنهم صاروا لا يتحملون كلمة وعظ أو إرشاد ، بل ان الشذوذ الجنسي صار عرفا اجتماعيا ، وكل من ينتقد هذا العرف يعتبر شاذا ، فالغارق في الشهوة ، لا يحب من يكدّر صفو شهوته.

[١٦٨] (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ)

رافضا لعملكم ، متحد لعاداتكم. فهو أراد الابتعاد النفسي عن عملهم ، ومعروف ان من رضي بعمل قوم حشر معهم ، ومن رفض عملهم لن يحشر معهم.

والميل النفسي المجرد لعمل قبيح سبب من أسباب ممارسته ، بينما تقبيح العمل ، والعزوف النفسي عنه يمنعان من ممارسته ، والانغماس فيه.

١٠٧

والتحدي من صفات الأنبياء العظام (ع) ، إذ أنهم يتحدّون الانحرافات بقوة وصراحة ، ولا يخشون بطش مجتمعاتهم.

[١٦٩] (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ)

تبرّأ إلى الله سبحانه من عملهم ، ورجاه بان لا يكونوا شركاء قومه في فواحشهم ، فهو يخاف على عائلته ان يصيبهم مثل ما أصاب قومه ، فلوط (ع) ذلك الأب الذي يحاول ان يجنب أهله الفساد ، ويحصنهم بالتربية ، وليس هو ممن يترك لأولاده الحرية المطلقة ، ويترك تربيتهم على أمثالهم أو على الناس.

[١٧٠ ـ ١٧١] (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ)

عند ما يأتي الضيوف للوط (ع) ـ وكان مضيافا ـ كانت امرأته تشعل النار على سطح بيته ليلا ، أو تنفخ الدخان نهارا ، لتعلم قومها بأن في بيتها ضيوفا ، فيهرع قومه الى بيته ، يطلبون الفاحشة من ضيوفه ، وكان لوط يستغل مثل هذه المناسبات ليعظ قومه من أجل ذلك كانت زوجته في الغابرين ، والغابر من الغبار المتخلف عن الكنس ، ونستوحي من هذا التعبير انها ألقيت في مزبلة التاريخ.

[١٧٢] (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ)

التدمير هو الابادة التامة ، وكان تدمير الله لهم قويا ، بحيث إنه لم يترك حجرا على حجر ، وكانت قرى لوط سبعا.

[١٧٣] (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)

ما هو هذا المطر؟

١٠٨

يبدو ان هذا المطر أحد شيئين ، إما حجارة من السماء كالنيازك والشهب ، وهو أمر مستبعد نوعا ما ، لان السماء لا تسقط بهذه الكثافة من الحجارة حتى تدمر سبع قرى كاملة ، وان كان ذلك ليس على الله ببعيد. أو ان المطر هو انفجار بركاني ، من قمة جبل قريب منهم ، وهو احتمال يمكن ان يكون صحيحا.

[١٧٤ ـ ١٧٥] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

ما أرحم الله بعباده ، حتى بعد انحرافهم وفسادهم لا يأخذهم حتى يبعث فيهم رسولا ، ويقيم عليهم الحجة بعد الحجة.

وما أعزه من اله مقتدر جبّار ، يأخذهم إذا تمردوا على رسله بأشد العذاب في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأخزى.

ومع كل تلك الآيات ترى أكثر الناس لا يؤمنون ، حتى يحل بهم العذاب مباشرة.

١٠٩

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ

___________________

١٨٣ [ولا تبخسوا] : لا تنقصوا ، والبخس هو النقص فيما يجب على الإنسان إعطاؤه.

[ولا تعثوا] : العثيّ أشد الفساد.

١٨٤ [الجبلة] : الخليقة.

١١٠

مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)

١١١

وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

هدى من الآيات :

وأصحاب الأيكة أيضا كذبوا الرسل ، إذ قال لهم نبيهم شعيب (ع) : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المفسدين ، وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فكذبوا رسولهم ، وتحدّوه ان يأتيهم بآية ، فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، انه كان عذاب يوم عظيم.

وأصحاب الأيكة هم قوم يسكنون جانبا من غابة خضراء ، والأيكة هي الأشجار الملتفة حول بعضها.

إنهم أصبحوا سباعا على بعضهم البعض ، كل يبحث عن الرزق من غيره ، فبدل ان يتعاونوا مع بعضهم من أجل استخراج خيرات الطبيعة ، واستثمار تلك الغابات أصبحوا يطففون الميزان ، وعصوا رسولهم شعيب.

١١٢

بينات من الآيات :

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) :

[١٧٦] (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)

الأيكة وجمعها أيائك وهي الغياط والحدائق الكثيفة.

[١٧٧ ـ ١٨٠] (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ)

كل الأنبياء جاؤوا بمحتوى عقائدي واحد ، ولذلك فالتكذيب برسول تكذيب بكل الرسل ، ولعل تأكيد الأنبياء على أنهم لا يطالبون بأجر يعتبر بمثابة إسقاط حقوقهم سلفا.

[١٨١] (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ)

[١٨٢] (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ)

زنوا بالعدل والقسط. والقسطاس هو الميزان ، وليس ميزانا فحسب بل ميزانا مستقيما ، ويبدو ان الواجب هو العطاء بمقدار الوزن لا زيادة ولا نقصان ، وجاءت الروايات لتجعل الوفاء بالميزان من المستحبات ، فواجبك ان تعطي مستقيما ، ولكن من المستحب ان تزيد في الكيل.

[١٨٣] (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

١١٣

كانت علاقة أصحاب الأيكة ببعضهم علاقة إفساد ، فبدل ان يتعاونوا على الانتاج ، إذا بهم يفسدون في الأرض ، وكان البعض يأكل من الآخر ، فكان الزارع لا يعتمد على زراعته ، والمنتج لا يعتمد على انتاجه ، لأنهما كلما زرعا وانتجا أكل ريعهما الرأسماليون الجشعون ، فكانوا مضطرين ان ينضموا الى هذا الكيان الفاسد اقتصاديا ، ويبدو أنّ السلطة كانت للسارقين شأنهم شأن الانظمة الرأسمالية اليوم والواقع : نفسية الحريص هي نفسها نفسية الفاتح العسكري ، الامبراطور و.. و.. ، ونفسية هؤلاء وغيرهم هي نفسية الاستعلاء ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (١) وجاء في الحديث :

«ان ابن آدم لو كان يملك مثل أحد ذهبا لتمنى آخر»

وهذه النفسية قد تكون عند الفقير ، فهناك فقراء متكبرين ، وجاء في قصة : ان الرسول (ص) مرّ وبعض أصحاب أحد طرقات المدينة ، وإذا بامرأة عجوز شمطاء دميمة الخلق ، تملّ رزقها من القمامة ، فقيل لها : افسحي الطريق لرسول الله (ص) فقالت : ان الطريق ليس ضيقا ، فنهرها الاصحاب ، فقال لهم الرسول (ص):

«دعوها فانها امرأة جبارة»

[١٨٤] (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ)

اتقوا الله الذي خلقكم والذين من قبلكم ، ولا تتعاملوا بينكم بالتطفيف.

[١٨٥] (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ)

لماذا قالوا إنك من المسحرين ، اي المسحورين؟

__________________

(١) العاديات / (٨).

١١٤

قالوا ذلك لأنهم كانوا يحترمون شعيبا (ع) وكان فيهم مرجوا ، وكانوا يعقدون الآمال عليه لسعة عقله.

قال تعالى : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). (٢)

فما نسبوه الى الجنون ، وانما قالوا : أنت متأثر بسحر الآخرين.

[١٨٦] (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ)

أنت بشر مثلنا ، فهل يمكن ان تكون رسولا؟! انا نظنك من الكاذبين.

[١٨٧] (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

لم يصدقوا ان الله قادر على ان يزيل النعم عنهم ، فتحدوا رسولهم ان يسقط عليهم كسفا من السماء ، فكيف يؤمن من عاش محاطا بالنعم بعذاب من عند الله؟!

ويبدو ان شعيبا (ع) خوّفهم عذاب الله ، وهل هو الا نذير بين يدي عذاب مبين؟!

[١٨٨] (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ)

لم يدع على قومه بالعذاب ، وانما أو كل أمرهم اليه سبحانه ، فهو أعلم بهم ، وأعلم بما هو الأصلح ، ان شاء هداهم وان شاء عذبهم.

__________________

(٢) هود / (٨٧).

١١٥

[١٨٩] (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

فلما كذبوا رسولهم أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، إذ أصيبوا بحر شديد ، واستمر ذلك الحر ستة أيام ، فمات الكثيرون ، ولم تنفعهم ايائكهم وغياطهم ، فلما كان يوم السابع ، أرسل الله عليهم سبحانه تظللهم ، فصاروا يمشون معها كلما مشت ، فلما توسطوا الصحراء ، أنزل الله عليهم من السحابة صاعقة ، فاذا هم خامدون ، نعم كلما أحدث الناس ذنبا أحدث الله لهم بلاء مناسبا لذلك الذنب ، ويبدو ان نوع العذاب الذي نزل على أصحاب الايكة كان متناسبا مع ذنبهم ، حيث انخدعوا بالسحابة بمثل ما غشّوا بعضهم ، وطففوا في الميزان.

[١٩٠] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)

كل انحراف في أية أمة يتبعه نوع محدد من العذاب ، وكل انحراف في الماضي هناك ما يشابهه في الحاضر ، وكل عذاب هو آية لمن يمارس نفس الانحراف.

[١٩١] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

١١٦

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)

١١٧

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ

هدى من الآيات :

محتوى رسالات الله واحد ، وانما اختلفت حسب الظروف ، لانّ كل رسالة استهدفت إصلاح الفساد المستشري في المجتمع الذي أنزلت فيه ، وكذب كل قوم رسولهم ، فانتصر الله للرسول وللمؤمنين ، وأهلك الآخرين بعذاب شديد.

هذا ما استوحيناه مما مضت من آيات ربنا ، أما هذا الدرس الذي هو خلاصة حقائق السورة ـ هو والدرس التالي والأخير ـ فانه يحدد معالم الرسالة الالهية وخصائصها المميزة :

الف : لا تخص رسالات الله بقوم أو أرض أو زمن. أ ليست هي من رب العالمين فهي كالغيب تشمل بركاته كل بقعة؟.

باء : انها رسالة حق تعكس حقائق الحياة المشهودة والمغيبة ، المادية والمعنوية ، وتمتد من الدنيا الى الآخرة ، وتتجاوز المصالح العاجلة الى المنافع الآجلة ، أ ليس قد

١١٨

نزل بها الروح الأمين؟

جيم : انها تهدف الإصلاح الجذري الذي ، يتم باقتلاع جذور الفساد والانحراف.

دال : وتخاطب الناس بلغتهم ، ولغتها ليست كلغة الشعراء غامضة معقدة ، انما هي لغة الواقع التي تكشف الحقائق جليّة واضحة «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ».

هاء : خطها ممتد عبر العصور من آدم (ع) الى النبي الخاتم محمد (ص) فهي في زبر الأولين ، ويعلمه علماء بني إسرائيل.

وانما يتمرد عليها الجاهلون بعصبيتهم ، فلو أنزل على بعض الأعجمين ما كانوا به مؤمنين.

وشأنها شأن الرسالات الاولى ، لا يؤمن بها المجرمون حتى يروا العذاب الأليم ، الذي يأتيهم فجأة فيطلبون فرصة أخرى بينما هم اليوم يستعجلون عذاب الرب.

وحتى لو تطاول بهم العمر سنين فما ذا ينفعهم حين يأتيهم العذاب ، ويختم عمرهم بسوء؟

ولكن الرب لا يعذبهم حتى يبعث من ينذرهم ، كذلك سنة الله في كل قرية يعذبها ، وما كان الله ظلاما للعبيد.

وليست الرسالة من وحي الشياطين ، ولا يتناسب معهم ، ولا يقدرون على ذلك ، لأنهم معزولون عن السمع.

١١٩

بينات من الآيات :

[١٩٢] من أعظم شواهد الحق في رسالات الأنبياء انها تتجاوز الحواجز المادية بين الإنسان ونظيره الإنسان ، مما يشهد على أنها تنزيل من الله الذي خلق العالمين ودبر أمره.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ)

الضمير المتصل في «انه» يرجع الى القرآن أو الى الوحي ، الذي هبط مرة على آدم ومن بعده نوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، و.. و.. ، لان جوهر الرسالات واحد ، وأما تفضيل القرآن عليها جميعا ، فلأنه خاتم للرسالات ، ومهيمن عليها جميعا.

[١٩٣] (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)

نزل به جبرئيل (ع) الذي كان أمينا على وحي الله. ولعلنا نستوحي من هذه الكلمة : ان الرسالة هي فوق مادية ، وانها دقيقة حيث تعكس الحقائق بلا أية زيادة أو نقيصة.

[١٩٤] (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)

الإنذار هو محاربة الوضع المنحرف بقوة ، والإنذار هو التخويف مع التحذير ، فالقرآن جاء منذرا قبل ان يكون مبشرا ، وقد جاءت بعض الآيات تحصر عمل النبي في الإنذار.

[١٩٥] (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)

١٢٠