من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

تأكيد الله على كلمة العربي للقرآن ، يدل على أهمية هذه اللغة وضرورة تعلمها ، لأنها لغة القرآن ، والعربية هي أوسع اللغات لتقبل مثل هذا القرآن.

وقد جاء في معاجم اللغة : ان اعراب الكلام إيضاح فصاحته ، والعربي المفصح ، والاعراب ـ بالكسر ـ البيان.

وفي الحديث عن قول الله تبارك وتعالى : «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» قال :

«يبين الألسن ، ولا تبينه الألسن» (١)

ولعل معناه ان اللغات لا تترجم ـ بدقة ـ العربية وليس العكس.

[١٩٦] (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)

ان من شواهد صدق رسالة النبي (ص) توافقها مع رسالات الله السابقة ، وتبشير الأنبياء بها ، وتعاهد المؤمنين على التواصي بها جيلا بعد جيل.

[١٩٧] (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)

أو ليس دليلا كافيا أن يؤمن به بعض علماء بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام ، وأسيد بن خضير ، وغيرهم؟ وايمان مثل هؤلاء حجة قوية ، أولا : لأنهم من بني إسرائيل ، وثانيا : لأنهم من علمائهم وتقاتهم ، وقد أكد الله في سورة الأحقاف مضمون هذه الآية عند ما قال : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

[١٩٨ ـ ١٩٩] وبعد ان يبين السياق شواهد الصدق في رسالة الإسلام شرع

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج (٤) / ص (٦٥).

١٢١

يبين عوامل الكفر بها من قبل أولئك الجاهلين ، ومن أبرزها :

أولا : العصبية.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)

لو نزل هذا القرآن على نبي اعجمي ما كانوا ليؤمنوا به إذ تستبد بهم العصبية ، فمنّ الله عليهم إذ أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ، وجاء في الحديث عن أبي عبد الله (ع) انه قال في تفسير الآية :

«لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب ، وقد نزل على العرب فآمنت به العجم ، فهذه فضيلة العجم» (٢)

ثانيا : العامل الثاني لكفرهم ارتكابهم الجرائم.

[٢٠٠] (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)

الجريمة من أهم الأسباب التي تمنع قبول الرسالة ، لان الذي سقط في وحل الجريمة ، وسمح لنفسه ان يكون طعمة للشهوات الرخيصة لا يؤمن بالرسالة ، لان الرسالة أعلى من ان يطولها ، كمن هو في بئر عميقة ظلماء ، كيف يرى نور الشمس ، بل كيف يستوعب معنى نور الشمس؟!

فحينما يكون عقل الإنسان محكوما بشهواته ، ومضروبا على قلبه بالأسداد ، مليئا بالهوى ، ينزاح عنه الحق لان قلبه أصلد من ان يستقبلها.

__________________

(٢) المصدر.

١٢٢

وقال بعض المفسرين : ان معنى الآية ، كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا أمررناه وأدخلناه وأوقعناه في قلوب الكافرين ، بأن أمرنا النبي (ص) حتى قرأه عليهم وبينه لهم. (٣)

ويبدو ان سياق الآيات يوحي بالتفسير الاول كما جاء في آية كريمة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٤) وكما جاء في آية أخرى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) (٥) ، وهكذا تكون كلمة سلكناه أجريناه بحيث أصبحت تلك سنة تجري لا فكاك منها!

[٢٠١ ـ ٢٠٢] فطبيعة المجرمين انهم لا يؤمنون بهذا الرسول العربي ـ بغض النظر عن الاعجمي. هناك يتساءل المجرمون هل هناك فرصة أخرى لنا فهم :

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

[٢٠٣] (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ)

[٢٠٤] (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ)

أما اليوم فتراهم لا يؤمنون حتى يأتيهم العذاب وكأنّهم يستعجلون العذاب.

[٢٠٥ ـ ٢٠٧] (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ)

__________________

(٣) مجمع البيان / ج (٥) / ص (١٨٥).

(٤) الإسراء / (٨٢).

(٥) المائدة / (٦٨).

١٢٣

لو أخّرنا عنهم العذاب ، ومتعناهم سنين ، وجاءهم العذاب ، هل تنفعهم هذه السني وهذا التمتيع ، فما الله بمزحزهم من العذاب ان يعمروا الف سنة ، والله بصير بما يعملون.

لقد عمر نوح (ع) ثلاثة آلاف سنة ، ولم يبن له الا كوخا يستر نصفه ، فجاءه عزرائيل وسأله : لم لم تبن لك بيتا يسترك؟ قال : ان الذي أنت وراءه كيف يبني بيتا.

[٢٠٨] (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ)

ان الله لا يعذب قرية الا بعد ان يرسل إليها منذرين ، وبذلك تتجلى رحمة الله بأظهر ما يكون. قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (٦)

[٢٠٩] (ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ، وحين يعذبهم الله فليس بظالم ، لأنه قد أرسل إليهم رسلا من قبل.

[٢١٠ ـ ٢١١] إن جوهر الفكرة التي يوحي بها الله تختلف عن جوهر الفكرة التي يلقيها الشيطان ، ويتناقض معه تناقضا كليّا ، فمصدر هذا الهوى ، ومصدر ذاك نور الله ، وهذا يضلّ ، وذاك يهدي ، وهذا يستثير الشهوات ، ويأمر بالفحشاء والمنكر والبغي ، وذاك يثير العقل ، ويأمر بالعدل. فكيف يختلطان؟

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ)

__________________

(٦) الإسراء / (١٥).

١٢٤

لم تتنزل الشياطين ومن اتبعهم من أدعياء المعرفة مثل هذا القرآن ، وما ينبغي لهم لأنه لا يتناسب وطبيعتهم ، ولا يستطيعون ذلك لأنهم.

[٢١٢] (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)

اي سماع الوحي من الله سبحانه.

وبهذا نميّز بصائر الوحي عن تخرصات الشياطين.

ان الطريق للتمييز بينهما يتم بمعرفة مصدرهما ، وكذلك بمعرفة آثارهما.

فبصائر الوحي التي من عند الله أو من عند رسوله واولي الأمر من بعده تبعث فيك المسؤولية ، وتنير لك الطريق ، وتهديك صراطا مستقيما ، بعكس تخرصات الشياطين التي تبعث فيك التكذيب والاستهزاء والحقد والانانية و.. و..

١٢٥

فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

___________________

٢٢٧ (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) : أيّ مرجع يرجعون ، وأي منصرف ينصرفون.

١٢٦

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ

هدى من الآيات :

تختم سورة (الشعراء) ببيان الفوارق الكبيرة بين رسالات الرب وما يوحيه الشيطان ، ويبين السياق هنا ان محور رسالات الله التوحيد ، ويمضي قدما في بيان صفات الرسول النابعة من هذا المحور ، فالرسول نذير لأقرب الناس اليه وهم عشيرته ، وهو بالمؤمنين رؤف رحيم ، ويعلن براءته من العصاة متوكلا على العزيز الرحيم ، ويتهجد بالليل (وقد انحدر من سلالة طيبة) والله يسمعه ، ويعلم خبايا شؤونه.

وفي الجانب الآخر يهبط الشيطان الى كل كذّاب فاجر ، ويوحي الشياطين في أسماع تابعيهم وأكثرهم كاذبون.

أما الشعراء فان حزبهم التابعين لهم هم الغاوون ، الذين يتبعون أهواءهم ، وكلامهم غير مسئول ، فتراهم في كل واد يهيمون ، ضالين ضائعين ، وهم يقولون

١٢٧

ما لا يفعلون.

بلى. هناك فئة من الشعراء مؤمنة صالحة ، ويذكرون الله كثيرا (لكي لا يخدعهم الشيطان) وإذا ظلمهم الجبارون لقولهم الحق فهم ينتصرون ، وان عاقبة الظلم الخيبة ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

بينات من الآيات :

[٢١٣] توحيد الله صبغة رسالاته ، فهو في السياسة : العدل ، والإحسان ، والشورى ، والأمن ، والحرية ، وهو في الاقتصاد الإنصاف ، والقوام ، وفي السلوك : الفضيلة ، والتقوى ، وفي الثقافة : التثبّت ، واتباع أحسن القول ، والاستماع الى الناطق عن الله دون الناطق عن الشيطان.

ومن شواهد صدق رسالة النبي (ص) دعوته الخالصة للرب ، وحبه الشديد ، وتفانيه في سبيل الله.

[فلا تدع مع الله إلهاءاخر فتكون من المعذّبين]

[٢١٤] ومن خصائص الرسول وشواهد صدقه تعاليه عن الضغط من أيّ مصدر يأتي ، ولذلك فهو يؤمر بإنذار عشيرته أولا.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)

وهكذا فعل الرسول وتحدى أول ما تحدى عشيرته الأقربين ، كما فعل إبراهيم (ع) إذ واجه برسالة الله أباه أولا. دعنا نستمع الى حديثين في هذا الشأن :

عن أمير المؤمنين (ع) قال :

١٢٨

«لما نزلت : «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» أي رهطك المخلصين ، دعا رسول الله (ص) بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا ـ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا ـ فقال أيّكم يكون أخي ، ووارثي ، ووزيري ، ووصيي ، وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا ، كلهم يأبى ذلك ، حتى أتى عليّ فقلت : انا يا رسول الله ، فقال : يا بني عبد المطلب! هذا وارثي ، ووزيري ، وخليفتي فيكم من بعدي ، فقام القوم يضحك بعضهم الى بعض ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام» (١)

وفي رواية أخرى :

«انه لما نزلت هذه الآية «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» صعد رسول الله (ص) الصفا فقال : يا صباحا! فاجتمعت اليه قريش ، فقالوا : مالك؟! فقال : أ رأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا : بلى. قال : فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد ، قال أبو لهب : تبا لك أ لهذا جمعتنا ، فأنزل الله : «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» (٢)

ونستوحي من هذه الآية أن عامل الرسالة الإلهية لا يعتمد على أية قوة أرضية في إبلاغ رسالات ربه ، إنما يتوكّل على الله ، لذلك يستطيع ان يتحدى انحرافات الناس جميعا ، حتى ولو كانوا عشيرته الأقربين.

كما تشير الآية الى أن مجرد القرابة من رسول الله لا يخلّص الإنسان من نار جهنم. بالرغم من أن النبي (ص) يشفع في أمته ، وقد قال له الرب سبحانه : «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» أي من الشفاعة.

__________________

(١) علل الشرائع / الشيخ الصدوق / ص (١٧٠).

(٢) تفسير مجمع البيان / ج (٧) / ص (٢٠٤).

١٢٩

جاء في خبر مأثور عن أبي أمامة ، فيما أخرجه الطبراني وأبي مردويه قال : لما نزلت «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب ، وجمع نساءه وأهله ، فأجلسهم في البيت ، ثم اطلع عليهم ، فقال :

«يا بني هاشم! اشتروا أنفسكم من النار ، واسعوا في فكاك رقابكم ، وافتكوها بأنفسكم من الله ، فإني لا أملك لكم من الله شيئا»

ثم أقبل على أهل بيته فقال :

«يا عائشة بنت أبي بكر ، ويا حفصة بنت عمر ، ويا أم سلمة ، ويا فاطمة بنت محمد ، ويا أم الزبير عمة رسول الله! اشتروا أنفسكم من الله ، واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني ..(٣)

[٢١٥] وفي الوقت الذي ينذر عشيرته الذين هم أقرب الناس اليه ، يؤمر بالرحمة للمؤمنين ، حتى ولو كانوا بعيدين عنه ، فهو كالطائر الذي يخفض جناحيه لأولاده الصغار.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

ان هذا السلوك يساهم في صنع المجتمع المبدئي المتسامي عن العلاقات المادية ، ونستوحي من هذه الآية أهمية التواضع وبالذات عند من يحمل رسالة ربه.

جاء في كتاب مصباح الشريعة المنسوب الى الامام الصادق (ع):

وقد أمر الله أعز خلقه ، وسيد بريته محمد (ص) بالتواضع ، فقال عز وجل :

__________________

(٣) تفسير الميزان / ج (١٥) / ص (٣٣٤).

١٣٠

«وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» والتواضع مزرعة الخشوع ، والخشية ، والحياء ، وأنهن لا تتبيّن إلا منها وفيها ، ولا يسلم الشرف التام الحقيقي الا للمتواضع في ذات الله (٤)

[٢١٦] وتتجلى مبدئية الموقف في التبري ممن يخالف الشرع الإلهي.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)

ان الرسول لا يقدم تنازلات أمام رسالات ربه ، وقد كان (ص) شديدا إذا عصي الله ، وكان يغضب بشدة على من يحاول أن يشفع عنده في حدّ.

وكذلك كان خلفاؤه الراشدون ، فهذا أمير المؤمنين (ع) يقدم عليه أشراف قومه ، وقيادات جيشه ، يعرضون عليه العفو عمن ارتكب منه ما يستحق الحد ، فيعدهم بأن يعطيهم ما يملك ، ثم يقدمه ويضر به الحد ، وحين يسألونه يقول : هذا مما لا أملكه.

[٢١٧] ولكي يتابع مسيرة الإصلاح بحزم واستقامة يتوكل الرسول على ربه الذكي يؤيد بقوته المؤمنين على الكافرين.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)

ان التوكل على الله لبّ استراتيجية أصحاب الرسالة ، وكلّما كان إيمانهم برسالتهم أعمق ، كلما كان للتوكل على الله في استراتيجيتهم نصيب أكبر.

ومن الواضح أن اسمى «الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» ذكرا في فاتحة هذه السورة ، وأيضا بعد بيان كل قصة من حياة النبيين (ع).

__________________

(٤) تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (٦٩).

١٣١

[٢١٨] لقد جاء الجواب واضحا عند ما عدد موسى (ع) عند نزول تباشير الوحي على الله الصعوبات ، وتبعهم فرعون وجنده «إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» جاء الجواب قويا وقال موسى لهم : «كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ».

وهنا حين أمر الله رسوله بالتوكل على العزيز الرحيم أنبأه بأنه مهيمن عليه ، يراه حين يقوم للتبتل اليه ، وحين يقدم بمهامه الرسالية.

(الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ)

[٢١٩] وهكذا يراه حين يقوم للصلاة.

(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)

جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ في تفسير هذه الآية :

«في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم» (٥)

واعتمادا على هذه الرواية فان الآية توحي بطهارة مولد الرسول وآبائه وأمهاته ، فقد اختار الله لنور محمد (ص) أنقى الأصلاب ، وأطهر الأرحام ، ايمانا وشرفا وفضيلة.

الأفّاكون والشعراء :

[٢٢٠] كما لرسالات الله خصائصها ومعالمها وشواهدها كذلك الثقافات المادية ، والأفكار الجاهلية ، وإذا تبصر الإنسان بسمات هذه وتلك اهتدي الصراط السوي ، إذ أضحى قادرا بتوفيق الله ونوره ان يميز بين فكرة خاطئة يوحي بها

__________________

(٥) المصدر /.

١٣٢

الشيطان ، وحقيقة يهتدي إليها بالوحي والعقل.

والحق والباطل يختلطان في الدنيا لتكون الدنيا دار ابتلاء ، ليس فقط لإرادة البشر ، وانما أيضا لوعيه ، فمن عرف كيف يميّزها عن بعضهما آمن شر الضلالة ، وأكثر الناس يضلون بأهوائهم.

دعنا نشرع من أصل تكوّن الفكرة ومصدرها : القلب كصفحة بيضاء تنعكس عليها حقائق الخلق بما أعطاه الله من نور العقل والعلم ، ولكن قد يتراءى للقلب أشياء ولكن من دون ان تكون لها ـ أساسا ـ حقيقة خارجية. كيف يتم ذلك؟

دعنا نضرب مثلا : انك تعلم أن العين ترى الأشياء عبر الضياء ، ولكن هل حدث لك ان اصطدمت بشيء فتراءى لعينك بريق شديد ، أو هل داخ رأسك فرأت عينك مثل الأنجم. ما هذه؟ انها ارتعاشة اعصاب العين ، وليست أشعة الأشياء تنعكس عليها ، أنها ـ بالتالي ـ حركة ذاتية للعين ترى حركتها الداخلية. أليس كذلك؟!

ومثل آخر : هل أصبت بنزلة برد ، وهل حدثت لديك قشعريرة شديدة؟ إن مصدرها الاعصاب في الداخل ، وليست عاصفة ثلجية في الخارج.

وهؤلاء الذين يستخدمون المخدرات يرون أشياء كثيرة ليس لها واقع. انما هي حركة أعصابهم من الداخل ، كذلك في داخل القلب مصدران للأفكار لا يمتّان إلى الحقائق بصلة :

أولا : الأهواء : حيث ان السماح للهوى باحتلال كل القلب يجعله اسودا لا يبصر نورا ، انما يبتدع الأفكار ابتداعا ، وهذا هو الإفك بذاته.

ثانيا : الخيال : الذي هو بدوره حركة ذاتية للقلب ، لا شأن لها بالواقع

١٣٣

الخارجي ، إلا أنه أخفّ وطأة من الإفك.

ولعل السياق يشير الى هاتين الطائفتين في فاتحة حديثه عن إيحاءات الشيطان ، يقول ربنا :

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ)

الشيطان كما يبدو من التدبر في سياق الآيات ـ التي ذكر فيها ـ هو كل غاو يغوي البشر ، سواء كان من الجن أو الإنس. قال تعالى : «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ». (٦)

وجاء في آية كريمة : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ». (٧)

وقال الله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ). (٨)

[٢٢١] (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)

قال العلامة الطبري : الأفاك الكذاب ، وأصل الإفك القلب ، والأفاك الكثير القلب للخبر ، من جهة الصدق الى جهة الكذب ، والأثيم : الفاعل للقبيح ، يقال : انه يأثم إثما إذا ارتكب القبيح. (٩)

__________________

(٦) الانعام / (١١٢).

(٧) البقرة / (٢٠).

(٨) البقرة / (١٤).

(٩) مجمع البيان / ج (٧) / ص (٢٠٧).

١٣٤

[٢٢٢] (يُلْقُونَ السَّمْعَ)

اي يلقون الأفكار المسموعة في قلب الأفاكين الآثمين.

[٢٢٣] (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ)

ويبدو ان الأفاكين هم أئمة الكفر ، وقادة فتات الضلال ، وهم المغضوب عليهم ، الذين نسأل الله الا يجعلنا منهم ، وهم الغاوون الذين يصفون العدل ولا يطبّقونه ، وهم بالتالي صانعوا القرار في معسكر المستكبرين.

إن مصدر أفكارهم اهواؤهم التي يعبدونها ، وانحرافهم وفسادهم انما هو بوعي منهم ، وسابق إصرار ، والشياطين يوحون إلى هؤلاء لأنهم أولياؤهم.

جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر (ع):

«انه ليس من يوم وليلة إلّا وجميع الجن والشياطين تزور أئمة الضلال ، ويزور إمام الهدى عددهم من الملائكة» (١٠)

وبالرغم من وجود بعض الصدق في أقوالهم إلّا أن الصفة العامة لأحاديثهم هي الكذب.

وهكذا نعرف طبيعة هؤلاء بأمرين :

الاول : قلبهم للحقائق.

الثاني : ارتكابهم الإثم.

__________________

(١٠) تفسير نور الثقلين / ج (٤) / ص (٧٠).

١٣٥

[٢٢٤] والفئة الضالة الثانية هم الشعراء ، الذين يستوحون خيالهم وتصوراتهم استيحاء.

يقول ربنا عنهم :

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)

ولعل تسمية هذه الفئة بالشعراء جاءت :

أولا : لأن طبقة الشعراء في ذلك العهد وأكثرهم في العصور التالية كانوا من هذه الفئة الضالة.

ثانيا : لأن الشعر يعتمد على الخيال والتصور.

حقا ان المراد من الشعراء في هذه الآية ليس خصوص من أنشد شعرا ، انما يشمل كل من أتبع خياله وترك وحي الله ، وكان من هذه الفئة الضالة : فلاسفة اليونان وتابعوهم الذين اعتمدوا على تصوراتهم في معرفة حقائق الكون ، دون إثارة من علم أو اتباع لإمام حق.

والعرفاء والمتصوّفة ، وطائفة من المتكلمين ، وبعض المتفقهين من علماء السوء ـ انصاف المثقفين ـ الذين يتبعون أهواءهم وأهواء من يدفع لهم ، ويشتري أقلامهم.

كل أولئك وغيرهم من فئة الشعراء ، وقد جاءت النصوص الاسلامية تترى في وصفهم ، والبراءة منهم :

١ ـ «نزلت في الذين غيروا دين الله ، وخالفوا أمر الله ـ عز وجل ـ هل رأيت شاعرا قط يتبعه أحد؟! انما عني بذلك الذين وضعوا دينهم بآرائهم ،

١٣٦

فيتبعهم الناس على ذلك» (١١)

٢ ـ عن الامام الباقر (ع) في تفسير هذه الآية قال :

«هل رأيت شاعرا يتبعه أحد؟! إنما هم قوم تفقهوا لغير الدين فضلّوا وأضلّوا» (١٢)

٣ ـ وروي عن الامام الصادق (ع) قال :

«هم قوم تعلموا ـ أو تفقهوا ـ بغير علم. فضلوا وأضلّوا» (١٣)

٤ ـ وفي حديث آخر عنه (ع) انه قال :

«هم القصّاص» (١٤)

ومن هنا نعرف ان الذين يقولون الشعر دفاعا عن الحق ليسوا ضمن هذا الإطار ، فقد أثر عن الرسول (ص) انه قال لحسان بن ثابت (الشاعر):

«أهجهم أو هاجهم وروح القدس معك» (١٥)

[٢٢٥] ومن خصائص هؤلاء : استرسالهم في الكلام دون التقيد بحدود المعرفة أو المصلحة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ)

__________________

(١١) المصدر / ص (٧٠) نقلا عن علي بن إبراهيم.

(١٢) المصدر /.

(١٣) المصدر /.

(١٤) المصدر / ص (٧١).

(١٥) المصدر /.

١٣٧

والهائمة الضالة التي تمشي على غير هدى ، ولعل الآية تدل على أنهم لا يملكون نهجا محددا في مسيرتهم.

[٢٢٦] ومن علاماتهم : أنهم يستعيضون الكلام عن العمل ، وأن قولهم غير مسئول.

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)

ان دغدغة الأماني ، وإثارة الخيال ، وصنع الأحلام الوردية ، كل ذلك من طبيعة الثقافات المادية ، وعادة ما يكون أصحاب هذه الثقافات أقل الناس التزاما بما يقولون ، والسبب أن الكلام هو بديل عن العمل في تصورهم.

[٢٢٧] وفي الآيات الاخيرة من هذه السورة يبين ربنا صفات صاحب الرسالة حقا ، فيقول :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً)

ان صاحب الرسالة يتعرض لضغط التيّارات الثقافية ، والقوى الاجتماعية المختلفة ، وعليه أن يذكر الله كثيرا لكي لا تخور عزيمته ، ولا تشوش رؤيته ، بل يبقى نافذ البصيرة برغم الشبهات والدعايات ، وصامدا برغم همزات الشياطين ، وذكر الله حقّا هو ذكره في القلب عند ما يعرض عليه الحرام فيجتنبه ، والحلال فينتفع به.

يقول الامام أمير المؤمنين (ع):

«من ذكر الله عز وجل في السر فقد ذكر الله كثيرا. إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ، ولا يذكرونه في السر ، فقال الله عز وجل : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا

١٣٨

يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)

(١٦) ولعل أظهر سمات صاحب الدعوة الإلهية تحمله مسئولية الجهاد ضد الظلم ، كما أنّ أبرز سمات الشعراء : (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).

(وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا)

ان مقاومة الظلم وعدم الاستسلام للظالمين تلازم الرسالي الصادق ، الذي يتخذ من رسالته سلاحا ضد المنحرفين.

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

هكذا تختم سورة الشعراء بشحنة أمل مباركة تعطيها للمظلومين ، وصعقة إنذار شديدة يخوف بها الظالمين ، ليبقى قلب المؤمن مستقيما بين الأمل والخوف ، بين اسمي الرحمة والعزة لرب العالمين.

وقد تحققت هذه الآية الكريمة في حقّ ظالمي آل محمد (ص) أجمعين ، حيث أهلك الله الظالمين ، ورفع ذكر أهل البيت عاليا عبر العصور.

__________________

(١٦) المصدر / ص (٧٣).

١٣٩
١٤٠