من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

عظيما ، وهذا الشعور هو الذي يصنع بينه وبين الحقيقة حجابا.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)

لم يكن العجز في رسالة موسى ـ حاشا لله ـ فهي آيات بينات ، ولكنهم أعرضوا عنها ، وزعموا أنهم أولوا كبرياء ، ولم يكونوا على حقّ ، وسبب الاستكبار هو عدم اعتقادهم بالبعث.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ)

[٤٠] وكان جزاء هذا الاستكبار هو الاهانة ، لكي يعرفوا أنفسهم على حقيقتها.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ)

وهذه العاقبة ، حذّر منها نبي الله موسى (ع) من أول يوم ، وجاء عليها بالبراهين والآيات ، وكان ينبغي لفرعون وجنوده ان يعقلوها ، وهذا هو الهدف السامي من نعمة العقل : ان يتعرف به الإنسان على سنن الله ، وعواقب الأمور ، ويعمل على هدى الوحي والعقل ، لكن هؤلاء استكبروا على الحقيقة.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)

لقد أكد نبي الله (ع) (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وجاء القرآن بالواقع العملي لهذه السنة الإلهية من خلال قصّة فرعون وجنوده ، حتى أن السياق القرآني وصفهم بالاستكبار وليس بالظلم ، إلا انه قال : «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» حتى تجد أنت أيها القارئ الترابط بين الآيتين ، وان هذه شاهد على تلك.

٣٢١

وليست هذه الحقيقة بعيدة عن واقعنا ، فالله يقول : «فانظر» لكي لا تتصور أنت أيها الذي تقرأ القرآن ، بأنك بعيد عن هذه السنن ، أو أنها تختص بذلك الزمان ، وهذه من مميزات الأسلوب القرآني في التربية. إذ يشد الإنسان اليه ، ويحمّله مسئولية النظر ، والتفكر ، والبحث المنهجيّ.

[٤١] ويؤكد القرآن الحقيقة الآنفة إذ يقول :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ)

المسألة اذن ليست مسألة شخص فرعون ، بل هو خط في الحياة ، وفي آية قرآنية أخرى يقول تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (١) وذلك حتى نعرف بأن في الحياة خطين هما : خط الحق المتمثل في رسالات الأنبياء وأئمة الهدى ، وخط الباطل المتمثل في الثقافة الجاهلية والطواغيت ، وانا الذي اقرأ القرآن أو الذي أعيش في هذا العصر يمكنني أن أكون من الظالمين أو معهم ، فيكون مصيري كمصير فرعون وجنده ، ويمكنني أن أكون مع المؤمنين ومنهم ، فتكون لي عاقبة الدار.

وهذه السلطات الفاسدة اليوم هي الامتداد الفعلي لخط فرعون ، بينما تمثل الحركات الرسالية والعلماء الربانيون الامتداد المبارك لخط الأنبياء (ع).

[٤٢] والطغاة ليس ينالون جزاءهم في الآخرة وحسب ، بل يتحولون الى لعنة على ألسن الناس في الدنيا ، ويبعدون عن رحمة الله.

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ)

__________________

(١) الأنبياء / (٧٣).

٣٢٢

انهم يحشرون بوجوه قبيحة ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فهذه الوجوه طالما دأبوا على تلميعها ، وتجميلها عبر وسائل الاعلام في الدنيا ، فجزاهم الله بتقبيحها في الآخرة.

٣٢٣

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا

___________________

٤٤ [بجانب الغربي] : أي في جانب الجبل الغربي ـ (جبل طور) الواقع في الغرب.

٤٥ [ثاويا] : مقيما.

٣٢٤

رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩)

٣٢٥

بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً

هدى من الآيات :

تؤكد هذه الآيات على الجانب الغيبي للرسالات الإلهية ، فهي ليست قمة في تكامل بشري تدريجي طبيعي كالشهادة التي يحصلها الطالب عند ما ينتهي من الجامعة مثلا ، انما هي قضاء إلهي مفاجئ ، يأتي لتصحيح مسيرة البشر بصورة غيبية.

والرسالة كما في الآية (٤٣) أداة لرؤية الحقائق وتوضيحها ، ومنهج لمعرفة العلوم ، وهي في نفس الوقت علم ومعرفة وهدى ، كما أن الرسالة تأتي لإتمام الحجّة على الناس لكي لا يقولوا غدا : لو لا أرسلت إلينا رسولا! فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الإنسان حرّا في حياته ، ويمنح فرصة الهداية من قبل الله ، ولم يشأ ربنا العزيز إكراه الناس على الهدى بالرسل جبرا ، فالهداية ذاتها هي مسئوليتهم ، كالذي يعطيك الكتاب ولا يمنحك العلم ، وانما يوفر لك فرصته ، وهكذا الرسالة بالنسبة

٣٢٦

للناس ، ويوم القيامة تكون الحجة البالغة لله علينا ، ثم ان السياق يعتبر صلة بين عبر الأمم الغابرة ، وسنن الرسل السابقين ، وبين رسالة النبي محمد (ص).

بينات من الآيات :

كتاب موسى :

[٤٣] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى)

في هذا الشطر يلخص القرآن الدورة الحضارية ، فهي تبدأ برسالة إلهية وشخص أو جيل رساليّ ، ثم تنتهي بثقافة جاهلية ، وجيل منحرف ينذره الرب ، فإن لم ينتفع بالنّذر أهلكه ، ولا ريب ان هذه الدورة ليست حتميّة ، فلو قدّر ان تمسك الناس برسالات الله لما أهلكهم الله ، كما قدر لقوم يونس ذلك.

ثم يقول ربنا عن الكتاب الذي أنزل مع موسى :

(بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً)

في الوقت الذي تكون رسالات الله منهج للرؤية (البصيرة) فانها بذاتها علم ومعرفة توصل البشر الى الحقائق ، فمن جهة تعطي الإنسان بصيرة في الحياة تجاه الأشياء والاحداث ، لأنها تحتوي على سنن الله في الحياة ، وتحمل في طياتها مقاييس ومعايير تحدد له الرؤية النظرية السليمة ، ومن جهة أخرى تحتوي على العلم والهدى اللذين يرسمان له الموقف العملي الحقّ لو اتبعها.

وقد يكون الفرق بين العلم والهدى : ان العلم هو مجرد اتصال الإنسان بالحقائق ، اما الهدى فهو تفاعله معها ، وانتفاعه منها ، وجاء في الدعاء :

٣٢٧

«وأعوذ بك من علم لا ينفع» (١)

يقصد به العلم الذي لا يعمل به.

وعند ما لا يعمل الإنسان بالعلم فإنه يضلّ ويجهل ، بل وينسى العلم نفسه ، أما حين يعمل به فسوف تكون النتيجة هي السعادة واللطف الإلهي (الرحمة) ماديّا ومعنويا.

والسؤال ما هو هدف هذه الرسالة التي تشتمل على البصائر ، والهدى ، والرحمة؟

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

وماذا يتذكر الناس؟

يتذكرون ميثاقهم مع الله ، فيعودون الى فطرتهم ، لأن من خصائص الرسالة انها ترفع الحجب عن قلب البشر ، ونستوحي من هذه الآية : أن العامل الأخير في الهدى حركة الإنسان نفسه ، فالبصائر والهدى والرحمة من عند الله ، أما التذكر فهو مسئولية الإنسان نفسه.

[٤٤] ثم يذكرنا السياق بان النبي لم يكن حاضرا الجهة الغربية التي كان النبي موسى (ع) يسير إليها من مدين الى مصر ، حين استقبل لأول مرّة الوحي الإلهي ، ولم يكن هناك من الشاهدين ليصف تلك الحوادث هذا الوصف الدقيق الرائع ، ولكن الله سبحانه أوحى بالقرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي كانوا فيه يختلفون ، وهذا دليل صدق هذه الرسالة.

__________________

(١) مفاتيح الجنان / تعقيب صلاة العصر.

٣٢٨

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ)

كلمتان في القرآن إحداهما تبين الوضع الطبيعي وهي القدر ، والأخرى تبين الوضع الغيبي وهي القضاء ، والفرق أن القدر هو السنن التي أجراها الله تعالى في الخلق ، بلا تبديل ولا تحويل ، أما القضاء فهو الأوامر الغيبية التي تصدر من عنده الى الخليقة فتتجاوز الأقدار جميعا ، فربما يكون قدر الإنسان ان يموت اليوم ، فيدفع صدقة لفقير ، أو يدعو الله ، أو يصل رحمه ، أو .. أو .. فيقضي الله ان يتأخر أجله ثلاثين سنة ، وقد يكون قدره العيش ثلاثين سنة ، فيظلم من لا يجد ناصرا غير الله ، فيقضي الله بوفاته اليوم ، والرّسالة الإلهية نوع من القضاء. إذ ليست ثمة سنّة إلهية لو عمل بها البشر لصار رسولا ، فتحول موسى بن عمران (ع) الى رسول ، أو محمد بن عبد الله (ص) الى رسول ما جاء بدراسة في الجامعة ، أو قراءة في الكتب ، انما الرسالة ـ وكما تقدم في الهدى ـ هي قضاء إلهي ، يحصل بموجبه الاتّصال بين الخلق والخالق ، عبر رسالة ورسول يجعله الله خليفته في الأرض جعلا ، ولا ينفي هذا القول أن الله يختار رسله وأنبياءه على أساس صفات ومميزات فيهم.

وفي لحظة القضاء قد يتحقق ما لا يمكن تحقيقه عبر قرون ، فالرسول (ص) دخل الى غار حراء أميّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، ولكنه خرج منه يحمل رسالة تقصر البشر عن بلوغ ذراها أبدا.

(وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)

ولعل هذه الآية تشير الى ان الحقائق التي رويت في هذه القصة لم تكن واضحة عند أهل الكتاب أيضا ، أو كانت مثار جدل عظيم سواء في تفاصيل ما حدث أو في تفسيرها.

٣٢٩

[٤٥] ثم تبيّن الآية ما يبدو أنه إشارة الى الدورات الحضارية ، حيث أن من عادة البشر نسيان رسالات ربه بعد تطاول القرون ، مما يجعله محتاجا إلى بعث جديد برسالة الهية.

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)

لقد بقيت البشرية تلفها الظلمات قرونا بعد قرون قبل ميلاد الرسالة ، حيث بدأت الهوّة بين الناس ورسالة موسى (ع) تتّسع شيئا فشيئا ، حتى نبذوه وراء ظهورهم ، وعشعش الجهل في أوساطهم ، لذا كانوا بحاجة الى رسالة جديدة ، تبعث فيهم الوعي وتوقظ الضمير.

(وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا)

إلّا أن عدم وجودك لا يعني أنهم لم تصل إليهم الحجة ، فالحياة قائمة على هذه السنّة الإلهية.

(وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)

لقد أرسلنا إليهم شعيبا ، كما أرسلنا رسولا الى العرب.

[٤٦] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)

لعل هذه الآية تؤكد على وحدة الرّسالات الإلهية من خلال وحدة أهدافها ، وبالتالي فإنّ الإيمان برسالة موسى يستلزم الإيمان برسالة الإسلام ، وإذ يربط السياق القرآني بين هاتين الرسالتين فذلك لأسباب منها :

١ ـ أنهما تشكلان خطّا واحدا في الرسالات الاخيرة للحياة ، ورسالة

٣٣٠

عيسى (ع) إنّما كانت امتدادا لرسالة موسى ، وكان هدفه تصحيح مسيرة الناس بعده ، وليست هي جديدة بحد ذاتها.

٢ ـ لتشابه تفاصيل الرسالتين ، وان تلك الرسالة كوّنت أمة في حياة نبيها ، كما صنعت رسالة الإسلام أمة أيضا.

وللرسالة هدفان أساسيان :

أحدهما هداية الناس ، عن طريق التذكرة قال تعالى :

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

فكما بعث الله موسى رحمة ، كذلك يبعث محمد (ص) رحمة ، وفي الآية حجة على أولئك الذين آمنوا برسالات الله السابقة ، وكفروا بالرسالة الخاتمة مع وحدة الملاك ، فكما ان تلك جاءت رحمة من الله كذلك هذه ، فلما ذا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟!

[٤٧] أما الهدف الآخر فهو اقامة الحجة على الناس.

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

وفي الآية اشارة الى ان الناس يعلمون بأهمية الرسالة الإلهية حينما تتيه بهم المذاهب ، ويجر عليهم ضلالهم الويلات والإرهاق.

ولعل السياق يشير هنا إلى سنّة إلهية هي : ان الله يصيب هؤلاء الجهلة بمصائب دنيوية يحسون بها .. من نقص في الأنفس والثمرات ، وحروب داخلية تطبخهم ،

٣٣١

فيجأرون الى الله طالبين الخلاص ، فلما يبعث الله فيهم الرسول ليخلصهم إذا هم به يكفرون ، ولعلهم كانوا يريدون الخلاص بلا عمل يقومون به ، أو تحمل لصعوبة الجهاد من أجله ، ويذكرنا السياق ـ على هذا التفسير ـ بقصة بني إسرائيل حين طلبوا من نبيهم ملكا ، فلما اختار الله لهم طالوت ملكا ، كفروا به ، لأنه لم يكن على هداهم ، ولم يؤت سعة من المال.

[٤٨] ثم يبين القرآن كيف أنهم يكفرون بالحق ، لأنه يريدونه وفق أهوائهم ومقترحاتهم.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى)

من المعاجز كالثعبان ، واليد البيضاء ، والسبب أنهم لم يكونوا ينظرون إلى جوهر الرّسالة وإلّا لوجدوها كرسالة موسى (ع) في أهدافها وخطّها العام ، بل إنّ ما جاء به الرسول (ص) هو أعظم من عصا موسى. أو ليست عصا موسى أية الهية؟ فكذا القرآن كله آيات.

ومع ذلك يؤكد القرآن ان المشكلة ليست في عدم وضوح الآيات القرآنية بل في نفسياتهم السلبية ، المعاندة للحق ، والمصرة على الكفر. لهذا يتساءل القرآن :

(أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)

ولا ريب ان الذين يخاطبهم القرآن في هذه الآية ليسوا هم الذين كانوا مع موسى ثم كفروا به ، ولكن السياق يقول أنهم كفروا بموسى (ع) وربما ذلك ليبين لنا وحدة المنهج والتفكير الذي يوصل الى نفس النتيجة.

٣٣٢

[٤٩] (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

من مميزات منطق الرسل انه موضوعي وعقلاني للغاية ، فالرسول على عظمته ، وقد هداه الله الى الصراط المستقيم تراه لا يعاند ، ولا يصرّ مستكبرا في مقابل الدعوات الأخرى ، إنما يقول : إذا كان لديكم كتاب هو أهدى من رسالتي فاني أتبّعه ، وهو يعلم يقينا ان لا كتاب أهدى من كتاب الله ، الذي أنزل على موسى والذي أنزل عليه مكمّلا ومهيمنا.

٣٣٣

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)

___________________

٥١ [وصلنا] : أصل التوصل من وصل الحبال بعضها ببعض.

٥٤ [يدرءون] : الدرء هو الدفع ويدرءون أي يدفعون.

٥٥ [اللغو] : هو السفه من الناس والقبيح من القول.

٣٣٤

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ

هدى من الآيات :

كيف نميز الحق عن الباطل ، والصواب عن الخطأ؟

هناك عدة مقاييس تمكننا من ذلك ، ومن بينها :

أ ـ مقياس النتائج : فالمقدمة الصحيحة لا تنتهي الى نتيجة خاطئة ، كما ان المقدمة الخاطئة لا تنتهي الى نتيجة صحيحة ، فالعمل الصالح كمقدمة يؤدي للحياة الفاضلة كنتيجة ، والعكس تماما بالنسبة للعمل السيء.

ب ـ مقياس الإجماع : المبادئ التي تجمع عليها عقول الناس المجردة عن العوامل الخارجية لا تكون خطأ كالحرية ، والعدالة ، والصدق ، وغير ذلك من القيم التي يجب البحث عنها وتطبيقها ، فهي إذن جيدة بالإجماع ، بينما تحترز عقول البشر عن الرذيلة ، والظلم ، والكذب في كل زمان ومكان.

٣٣٥

ج ـ مقياس الوجدان : ان اي فكرة تثبت في ذهن الإنسان انما هي نتيجة لأحد شيئين : فاما تكون نتيجة للعقل والوجدان ، أو تكون نتيجة للجهل والشهوة ، وهذا أهم وأسهل من كل المقاييس الأخرى.

والقرآن في هذه الآيات يعالج هذه الحقيقة ، ففي البدء يقول الله : انكم أيها الناس إذا لم تتبعوا هذه الرسالة ، فابحثوا عما هو أفضل منها واتبعوه ، ولكنهم لو كانوا يريدون الهداية لا تبعوا الرسالة لأنهم لا يجدون أفضل منها ، وإذ يتركونها فلكي يتبعوا الهوى باعتبارهم يريدون التملص من مسئولية التعهد والالتزام بالحق.

فالإنسان اذن أما يتبع العقل أو يتبع الهوى ولا ثالث ، ولكن ما هو العقل؟ وما هو الهوى؟

العقل هو النور الذي يقر بنا الى الحقائق الخارجية ، ويجعلها هي المقياس ، أما الهوى فهو القوة الداخلية التي تجرنا الى النفس ، ومصدره حب الذات ، فالعقل يوجهنا للناس ، بينما الهوى يوجهنا لذواتنا.

وكثيرا ما يتميز الحق عن الباطل بوضوح أمام الإنسان ، ولكنها قد يختلطان فلا يتميزان في بعض الأحيان ، لذلك ورد في الدعاء :

«اللهم أرني الحقّ حقّا فأتبعه ، والباطل باطلا فاجتنبه ، ولا تجعله عليّ متشابها فأتبع هواي»

ومن الناس من يهتدي للحق في أعقد الأمور بلحظة تفكير ، بينما نجد آخرين على العكس منهم ، والسبب هو أن الفريق الأول يستفيد من عقله لذلك ينمو ، بينما الفريق الثاني لا يستفيد منه فيخبو ، وهذه سنة الله في الحياة ، وقد قال أمير المؤمنين (ع):

٣٣٦

«لا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكّا ، إذا علمتم فاعملوا ، وإذا تيقنتم فأقدموا» (١)

ثم يشير القرآن الى حقيقة هامة هي : ان قسما من الناس كانوا مسلمين قبل بزوغ فجر الإسلام ، وهناك جماعة يسمّون بالحنفيين ، لأنهم تركوا عبادة الأصنام لعبادة الله ، مثل أبي ذر الغفاري (رض) وجعفر الطيار الذي قال للرسول : «اربع خصال لم أفعلها في الجاهلية ، ما سجدت لصنم قط ، ولا كذبت ، ولا زنيت ، ولا شربت الخمر» والسبب ان الايمان والفكر حالتان في نفس البشر ، فالذي اعتاد على الانقياد للحق والتسليم له لا يجد صعوبة للايمان بالرسالة ، والعمل بها ، بينما يصعب ذلك على الآخر الذي اعتاد الانهيار أمام الشهوات والأهواء ، لذلك نجد فريقا من الناس بقي منافقا حتى بعد البعثة.

وفي نهاية الدرس يؤكّد القرآن أنّ على الإنسان الّا ينتظر الهداية تأتيه رغما على أنفه ، بل يجب عليه ان يتحمل المسؤولية بنفسه ، وليس الرسول سوى مبلغ للرسالة.

بينات من الآيات :

[٥٠] (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ)

ذلك ان الرسالة تلتقي مع الجانب الخيّر في الإنسان وهو عقله ، وبالتالي يكون الباعث على مخالفتها هو اتباع الهوى.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ)

الإنسان قاصر في ذاته ، فلا بد ان يعالج هذا النقص باتباع هدى ربه ، واسع

__________________

(١) نهج البلاغة / ح (٢٧٤) / ص (٥٢٤) / صبحي الصالح.

٣٣٧

العلم والقدرة ، ولو لم يفعل ذلك فلن يزداد الا بعدا عن الحقيقة.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

الهدى سنة عظيمة لا يمنحها الله للظالمين الذين يعتدون على حقوق الناس وحقوق الله ، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ، والظلم يكرّس حب الذات ، واتباع الهوى في القلب ، مما يشكل حجابا كثيفا عن الحقائق.

[٥١] ومشكلة الذين لم يستجيبوا للرسالة ، ليست في غموضها أو قصور شواهدها ، بل لأنهم لا يريدون الهداية ولا التذكرة ، والدليل انهم كانوا يرفضون رسل الله ورسالاته.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ)

اي جعلنا أسباب الهداية متصلة لا تنقطع ، وفي الروايات ان الله بعث مائة واربع وعشرون ألف نبيا غير الأوصياء والدعاة الى الله من أتباعهم.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

ولم تكن الرسالات الإلهية شيئا غريبا بالنسبة للنفس البشرية ، لأنها تتلاقى مع فطرة الإنسان وعقله ، اللذين أودع الله فيهما الحقائق ، وما الرسالة في غالبها الا وسيلة لاستثارة الذاكرة.

[٥٢] وأولئك الذين آمنوا بالكتب ، ودربوا أنفسهم على الانقياد للحق لا يجدون حرجا في التسليم للرسالة الجديدة.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ)

٣٣٨

يعني بالقرآن الحكيم.

(يُؤْمِنُونَ)

وذلك لأنهم يجدون هذا الكتاب في جوهره مطابقا للرسالة السابقة ، وموافقا للعقل والفطرة ، لان المؤمنين بالرسالات السابقة كانوا قد روّضوا أنفسهم بالحق. وقاوموا جهل قلوبهم وأهوائهم وشهواتهم ، وسلّموا ـ بالتالي ـ لربهم ، فإنهم كانوا مستعدين نفسيا للايمان بالحق.

[٥٣] (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)

[٥٤] ويعطي الله هؤلاء أجرهم مضاعفا :

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ)

مرة لايمانهم بهذا الكتاب الذي أكمل الله به رسالاته ، ومرة لأنهم آمنوا بالكتاب الذي أنزل إليهم ، وصبروا عليه فلم يحرّفوه كما حرفه علماء السوء منهم ، ولم يخضعوا لضغط السلطة والثروة.

(بِما صَبَرُوا)

على الأذى الذي لا قوة بايمانهم بالكتاب ، ولعل أعظم الثواب كان لهم بسبب صبرهم أيام الفترة ، حيث سيطر الطغاة ، وانحرف الناس ، ولم يبق الا بقية مستضعفة من المؤمنين أمروا بالصبر ، والعمل بالتقاة ، وردّ أذى الكفار والمنحرفين بسعة الصدر ، وحسن الخلق ، والعطاء ، وعدم الخوض في الجدل العقيم مع المنحرفين.

٣٣٩

وعلى هذا يكون معنى الصبر ما يبيّنه السياق لا حقا ، وتكون هذه الآيات بيانا لمنهاج المؤمنين في عصر التقية ، ويتخلص في : الصبر ، والعفو ، والإنفاق ، والاعراض عن لغو الجاهلين.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)

لقد تقدم أن الظالم يتبع هواه على حساب عقله ، وبالتالي تتضخم ذاته على حساب الآخرين ، أما المؤمن فعكس ذلك : يكبح جماح نفسه وهواه ، فينمو عقله ، فهو يفكر في الآخرين ، فاذا أخطئوا عليه درأهم بالحسنات ، وإذا احتاجوا سد حاجتهم.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

[٥٥] ثم أنهم طوّعوا أنفسهم ، وروّضوا أهواءهم ، وحددوا حب ذاتهم عن طريق الإعراض عن اللغو ، وهذا ما ينمي العقل ، لأنه يخالف الهوى.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ)

لان طموحاتهم وأهدافهم أسمى من الأهواء والشهوات ، لذلك لم تستفزهم إثارات الجاهلين ، ولم يبوحوا بأسرارهم ، ولم يخوضوا في الجدل الذي لم يؤمروا به ، بل إذا طالبهم الجاهلون بالحجة ـ جدلا ـ أعرضوا عنهم.

(وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ)

هدف هؤلاء ابتغاء رضوان الله ، وليس العلو في الأرض ، والتظاهر ، والفخر ، والغرور بما لديهم ، لذلك لا يستفزّهم الجاهلون ، ولا يثيرهم سبّهم ، وطلبهم للبراز في ميدان الجدل.

٣٤٠