من هدى القرآن - ج ٩

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٩

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-12-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٣

فهذا النبي العظيم موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ يعتبر من الناحية القانونية خارجا على الشرعية ، وهو من عنصر مستضعف ومستعبد ، وقد قتل منهم واحدا ، مما يعرضه للقصاص حسب قوانينهم ، ومع ذلك يؤمر بحمل الرسالة.

لقد قال موسى وهو يعبر عن هذه العقبة :

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)

[١٥] تلك كانت العقبات اجتمعت أمام موسى. دعنا نستمع إلى الرب وهو ينسفها بكلمته نسفا :

(قالَ كَلَّا)

أنها ليست عقبات في الواقع بقدر ما هي مخاوف في النفس ، لا تلبث ان تتلاشى بالتوكل على الله.

أو لست أنت وأخوك تحملان رسالات الله فلما ذا الخوف إذا؟!

(فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ)

ذلك هو ضمان الانتصار.

فمن كان مع الله كان الله معه ، ومن كان الله معه فلا قوة في الأرض تقف أمامه.

وأنت أيها الداعية الكريم تجرد عن ذاتك في الله ، وهب لله نفسك وما تملك تجد الله نعم المولى ونعم النصير.

٢١

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ

___________________

٢٢ [عبّدت] : عبده وأعبده إذا اتخذه عبد وعبدت أي جعلتهم عبيدا مضطهدين.

٢٢

لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)

___________________

٣٣ [ونزع يده] : أي أخرجها.

٢٣

إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ

هدى من الآيات :

يحاور موسى برسالات ربه فرعون وقومه ، بينما يجادل فرعون معتمدا على منطق القوة. يذهب موسى وأخوه الى فرعون بأمر ربهما قائلين : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، مطالبين بتحرير بني إسرائيل ، ويجادل فرعون بحجج ثلاث :

أولا : انه ولي نعمته ، فكيف يخرج من طاعته؟!

ثانيا : انه قد قتل منهم وهو كافر (به أو بقوانين بلاده) فيرده موسى بأنه لم يكن كافرا ، بل كانت تنقصه هداية الرب ورسالاته ، وإنما هرب منهم خشية بطشهم ، أما الآن فالأمر مختلف ، لقد وهب الله له حكما فأصبح قائدا وعلى فرعون طاعته ، وجعله مرسلا وعلى الناس طاعته ، وأضاف : ان استعباده لبني إسرائيل (وكان منهم) ليس منّة يمنّها عليه ، وبالتالي ليس من الصحيح ان يمّن عليه بأنه لبث عنده من عمره سنين.

٢٤

ثالثا : يجادل فرعون حين يسأل عن رب العالمين ـ ولعله سأله عن ماهيته ـ فيجيبه موسى : بأنه «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ولكنه استهزأ قائلا لمن حوله : «أَلا تَسْتَمِعُونَ» اشارة الى عدم اقتناعه ، فأضاف موسى : بان الله «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» فعاد فرعون يسخر منه قائلا : انه «لمجنون» ، واستمر موسى قائلا : ان الله «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ».

فلما رأى قوة منطق موسى توسل بمنطق القوة وقال : «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ».

وتحدى موسى إرهابه قائلا : اني أملك برهانا ، فلما طالبه به ألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين ، واخرج يده من جيبه فاذا هي بيضاء للناظرين.

تلك هي رسالات الله ، وذلك منطقهم الحق.

بينات من الآيات :

منطق الرسل :

[١٦] لقد استجاب الرب لطلب موسى بأن يجعل له وزيرا من أهله ، فبعثه هو وأخاه هارون الى فرعون.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)

لقد كانت رسالة واحدة ، يحملها اثنان ، ولعله ـ لذلك ـ جاء التعبير هكذا : «انا رسول» ولم يأت «انا رسولا» ولقد كان الرسول هو موسى ، بينما كان هارون وزيره ، والوحي كان يهبط عليه دونه ، وكان ينوب عنه عند غيابه.

٢٥

وجاء في حديث طويل مأثور عن الإمام الباقر (ع) عن كيفية ذهاب موسى الى باب قصر فرعون ، تقول الرواية :

« ... فغدا الى فرعون ، فوالله لكأني أنظر اليه طويل الباع ، ذو شعر أدم ، عليه جبة من صوف ، عصاه في كفه ، مربوط حقوه بشريط ، نعله من جلد حمار شراكها من ليف ، فقيل لفرعون : ان على الباب فتى يزعم انه رسول رب العالمين ، فقال فرعون لصاحب الأسد : خل سلاسلها ، وكان إذا غضب على رجل خلّاها فقطعته ، فخلاها ، فقرع موسى الباب الأول ـ وكانت تسعة أبواب ـ فلما قرع الباب الأول انفتحت له الأبواب التسعة ، فلما دخل جعلن يبصصن تحت رجليه كأنهن جراء ، فقال فرعون لجلسائه : رأيتم مثل هذا قط؟!» (١)

[١٧] لرسالات الله شواهد منها عليها ، ومن شواهدها تحدي أكبر فساد في المجتمع ، دون خلاف أو مداهنة ، لقد تحدى نوح ـ عليه السلام ـ الطبقية ، وإبراهيم ـ عليه السلام ـ الوثنية ، ومثله فعل النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ولوط تحدى الفساد الخلقي ، بينما واجه شعيب الفساد الاقتصادي وهكذا ، أما موسى ـ عليه السلام ـ فقد حارب العنصرية ، وطالب فرعون بتحرير بني إسرائيل الذين كان قد استضعفهم قائلا :

(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)

منطق الطغاة :

[١٨] يبدو من السياق ان فرعون ـ شأنه شأن سائر الطغاة ـ حاول ان ينسب نعم الله الى نفسه ، ويمنّ على موسى بأنه قد أنعم عليه بالتربية والتغذية.

__________________

(١) نور الثقلين / ج (٤) / ص (٤٨).

٢٦

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً)

فلما ذا خرجت على أسس المجتمع وقيمه ما دمت تربيت في احضانه ، وتغذيت من أفكاره وثقافته ، ولعلنا نستوحي من هذه الآية مدى اعتماد الطغاة على عامل التربية في إفساد ضمير الناس ، وبالرغم من أهميّة هذا العامل إلا أنّ رسالات الله تتحداه ، فاذا بموسى الذي كان ينسب الى فرعون عند الناس حينا يخرج عليه ، ويهدم سلطانه ، وإذا بمؤمن آل فرعون يعيش في بلاطه ثم يثور عليه ، وإذا بزوجته آسية بنت مزاحم تكون نصيرة الحق ، وتضحي بنفسها في سبيل الله ، وإذا بأصحاب الكهف وهم وزراء طاغوت دهرهم (دقيانوس) ينقلبون الى ربهم.

ثم قال فرعون :

(وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)

وهكذا يقول الطغاة : الم نعبّد الشوارع ، ونبني المستشفيات. الم يتخرج من جامعاتنا كذا طالب ، ألم يتقدم اقتصاد بلادنا؟!

انهم يخطئون مرتين : أولا : حين يجعلون التقدم المادي دليلا على سلامة نهجهم ، بينما التقدم المادي قد يكون وليد عوامل أخرى كانبعاث آبار البترول ، أو جودة موسم الزراعة ، أو حتى جهود الناس من علماء ، ومدراء ، وتجار ، وعمال ، وفلاحين. الناس يعملون والحكام يفتخرون ، وانما فخر الحكام بإشاعة العدل ، والمحافظة على الحرية ، وتوفير فرص الكمال الروحي.

ثانيا : حين يعطون الناس أرقاما خاطئة ، ويذكرون فقط الجوانب المشرقة ، ويسكتون عن الجوانب السلبية ، ويرهبون من يتحدث عنها حتى لا تبدو فضائحهم.

٢٧

لقد منّ فرعون على موسى انه سمح له بأن يعيش مستضعفا في بلاده ، وكأن القاعدة كانت تقضي بقتل موسى ، أما ان يبقي حيّا يتنفس فانها نعمة يمن بها عليه.

[١٩] وذكره بقتل القبطي ، واعتبرها جريمة كبيرة تجعل صاحبه في مصاف الكفار ، فقال :

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ)

ان حكام الجور يضعون قوانين يحكمون بها سيطرتهم على الناس ، ثم يعتبرون الخروج عليها جريمة بل كفرا ـ ولعل فرعون أراد ان يعيّر موسى بأنه لم يكن يومئذ يؤمن بالله ـ ويفتشون في ملف الثائرين ليجدوا فيها ثغرة يدخلون منها عليهم ، وينسون ان بقاءهم في السلطة رغما على الناس أكبر جريمة ، وأعظم كفرا.

وقد يكون القانون سليما ، ولكن لا يحق للسلطان الجائر ان يكون منفذا له. إذ ان سلطته ليست شرعية ، وحين ينفي الثائر شرعية السلطة لا ينبغي الحديث عما يترتب عليها من الانظمة السائدة.

ولكن الطغاة يريدون تضليل الناس بذلك ، وعلى الرساليين ألّا يأبهوا بذلك أبدا ، ويعيدوا إلى أذهان الناس أصل وجود النظام ، والذي لو لم تثبت شرعيته لا يحق له تنفيذ القانون ، بل تنفيذ القانون بذاته يصبح جريمة تسجل عليه وعلى أركانه.

[٢٠] لقد قتل موسى القبطي الذي أراد سخرة الإسرائيلي ، ولعله كان يقتله ان لم يقبل بسخرته ، وبذلك كان الرجل يستحق القتل بحكم القيم الحق التي فطر الله الناس عليها ، وجاءت بها شرائع الله. أو ليس من قتل دون نفسه أو عرضه أو ما له فهو شهيد؟

٢٨

ويبدو ان موسى تجاوز الحديث عن مقتل القبطي ، وركز على أمرين :

الاول : انه لم يكن كافرا بالله يومئذ (ان كان مراد فرعون بقوله : «من الكافرين». الكفر بالرب) وانما كان ضالّا بسبب فقدانه للرسالة التي هي الهدى والضياء ، فقال

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)

ان الضلال ليس كالجحود والكفر انما هو عدم الهدى وهو ليس عيبا ، وقد قال ربنا عن نبيه الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ : «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» ولم يكن الرسول ضالا ، انما لم يكن يحمل رسالة فهداه الله إليها.

وكل أنبياء الله بشر يفقدون العلم والحكم قبل النبوة والرسالة ، وإنما يتميّزون على سائر الناس بالوحي ، وليس بعنصر إلهي يتداخل فيهم ، والقرآن حافل ببيان هذه الحقيقة تصريحا أو بالاشارة ، وقد قال سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ).

ودليل صدقهم أساسا هو ان الوحي يحدث تحولا فجائيا فيهم ، فبينما الرسول يلبث في قومه دهرا ، لا يدعوهم الى شيء ، تراه يبعث إليهم برسالة متكاملة ، من المستحيل ان يكون قد ابتدعها من نفسه بين عشية وضحاها.

وهذا بخلاف العلماء والباحثين الذين تتكامل أفكارهم وبحوثهم يوما بعد يوم.

ولعل في قوله : «إذا» دلالة على أنّه رد التهمة أساسا ، وأجابه : انه إذا سلّم بوجود نقص عنده ـ جدلا ـ فانما هو الضلال ، وعدم الوحي.

٢٩

وجاء في حديث مأثور عن الامام الرضا عليه السلام :

«انه أراد أنه ضل عن الطريق بوقوعه الى مدينة من مدائن فرعون» (٢)

[٢١] وقد فرّ موسى عن مدائن فرعون خشية عنصريته ، التي كان يدين ـ بموجبها ـ أيّ واحد من بني إسرائيل بمجرد الصراع بينه وبين الأقباط.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ)

والآية تدل على أن الفرار من الظلم فضيلة ، أولا أقل لا بأس به.

ونستوحي أيضا من الآية : ان التمرد على قوانين الانظمة غير الشرعية عمل شريف.

ولأن موسى نصر الحق ، ورفض الخضوع لنظام الطاغوت ، ولأنه توكل على الله ، وهاجر عن بلاد الكفر ، فان الله أكرمه بالنبوة والرسالة.

(فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً)

ان حرف الفاء يوحي إلينا بأن هناك علاقة بين فراره من ظلم فرعون وبين الحكم الذي وهبه الله له ، ولعل الحكم هو العلم ، ولعله النبوة التي تسبق الرسالة.

(وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)

ونستوحي من كلمة «جعلني» ان صاحب الرسالة هو الحاكم والخليفة في الأرض ، وان هذا المنصب بحاجة الى قرار وجعل وتنصيب.

__________________

(٢) المصدر / ص (٤٨ ، ٤٩).

٣٠

[٢٢] وردّ موسى جدل فرعون إذ قال : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) : بان استعبادك لبني إسرائيل ، وذبح أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، واستخدام بعضهم لتربية البعض الآخر كرها ، أعيب عليك ذلك ، واين تلك من هذه ، تمنّ علي التربية ولكني أعيّرك بما فعلت ببني إسرائيل.

من الذي ربي موسى؟ أليس بنو إسرائيل أنفسهم بأمر من فرعون ، ثم ما الذي الجأ أم موسى لتجعله في التابوت ، ثم تقذفه في اليم ، وما الذي أعطى الحق لفرعون ان يقتل هذا ويعفو عن ذلك ، ويسرق أموال هذا ويضعها عند ذاك. أو ليس كل ذلك جريمة لا بد ان يعاقب عليها فرعون ، ذو الظلم والطغيان ، وليس ثمّة نعمة يشكر عليها.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

ونستوحي من الآية فكرتين :

أ ـ ان فراعنة كل عصر يجب ان يلقموا حجرا كلما زعموا ان عليهم منّة على الناس ، ذلك أن جميع تقلباتهم في البلاد وتصرفاتهم في شؤون العباد جرائم لأنها ليست بإذن الله ، ولا بتخويل من الناس.

ب ـ انّ موسى تجاوز نفسه وتحدث عن كل بني إسرائيل ، كما تجاوز الحديث عن قضية محدودة الى بيان جذرها ، وهكذا ينبغي ألّا يقع الفرد الرسالي في الخطأ بالحديث عن ذات القضية التي يتحدث عنها الظالمون ، ولا بالحديث عن أنفسهم ، بل يتحدثوا عن جذور المشكلة حسب نهجهم الاعلامي المستقل ، وعن آلام الشعب جميعا. انهم ـ وحدهم ـ ممثلوا الناس ، وعليهم أن ينطقوا باسمهم وعن مشاعرهم.

٣١

[٢٣] لم يجد فرعون نفعا توسله بالقضايا الجانبية ، لأن موسى جاء بحجة أبلغ ، فاضطر الى الجدل حول جوهر الرسالة ، ويبدو من سياق الحديث انه اتخذ نهج الاستهزاء وسيلة لجدله.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)

لم يقل : ومن رب العالمين لجهله المفرط ، وأسلوبه الساخر ، ولعله سأل عن طبيعة الله ، فلم يسترسل موسى معه ، لأن معرفة الذات مستحيلة.

[٢٤] انما مضى موسى قدما في دعوته الى الله عبر آياته ، وبيّن أن جهلهم بالله آت من نقص في أنفسهم.

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)

وهكذا ينبغي ان يستدل المؤمن على ربه بآياته وأفعاله ، مقتديا بنهج أنبياء الله.

جاء في حديث مأثور عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، في صفة الله سبحانه :

«الذي سئلت الأنبياء عنه ، فلم تصفه بحدّ ، ولا ببعض ، بل وصفته بفعاله ، ودلت عليه بآياته» (٣)

وحين قال موسى : «إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» أشار إلى أنّ الإيمان بالله لن يبلغه من لا يجهد ولا يبحث عن علم ويقين ، وأن جهلهم بربهم ناشئ من نقص فيهم ، حيث سدّوا منافذ قلوبهم عن نور المعرفة.

[٢٥] كان الحديث بين موسى وفرعون ، فأدار فرعون رحاه باتجاه الملأ من

__________________

(٣) المصدر / ص (٤٩).

٣٢

حوله ، لماذا؟ هل خشي ان ينقلبوا عليه ، أم أراد ان يتظاهروا على موسى حين شعر بضعف حجته؟

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ)

اسأله عن شيء فيجيبني عن شيء آخر. وفي حديثه نبرة استهزاء ، وكأنه يقول :

ان حجته ضعيفة.

[٢٦] لم يأبه موسى ـ عليه السلام ـ بسخريته ، والتزم نهجه القويم في التذكرة بالرب ، وتحطيم أغلال الجهل عن أنفسهم.

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)

فهو الله الذي كان على آبائكم التسليم له ، فلا يجوز التسليم لآبائكم إن كانوا كافرين به ، ولا ينبغي تقديسهم ، والجمود على أفكارهم البالية ، وإذا شمل آباءكم العذاب بسبب كفرهم بالرب فان ذات العذاب سينزل عليكم لذات السبب ، هكذا فكّ غلّ عبودية الآباء عنهم ، وحذرهم من مغبّة الجحود.

[٢٧] وخرج فرعون عن طوره ، وأتهم موسى بالجنون ، مستخدما أسلوبه الساخر ، إذ وجه الخطاب الى الملأ كي يثير فيهم العصبية.

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)

هكذا بلغت الرعونة عند فرعون ذروتها حيث أتهم رسول رب العالمين بالجنون.

[٢٨] أما موسى الذي لم يرهب إعلام فرعون التضليلي ، ولم يغضب لنفسه ، فقد مضى في سبيله يدعو الى ربه بالتذكرة تلو التذكرة.

٣٣

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)

وهذا بذاته دليل صدق دعوته انه لم يقم لنفسه بل لربه ، ولا يدعو الى ذاته بل الى الله ، وهكذا ينبغي ان يتحمل الرساليون كل أذى ، ولا ينهاروا بسبب تهم الطغاة انّى كانت كبيرة.

[٢٩] وانقلب فرعون خائبا من أسلوبه التضليلي الساخر ، فاتجه الى التهديد :

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)

ان الطغاة يرهبهم قوة المنطق فيلجئون الى منطق القوة ، ويخافون على عروشهم فلا يتورعون عن ارتكاب اية جريمة.

ولكن موسى ـ عليه السلام ـ وكل الدعاة الى الله سوف يبلغون مستوى عاليا من النصر عند ما يعرّون النظام من لباس التضليل ، ويلجئونه الى استخدام آخر وسيلة لهم للسيطرة الا وهي الإرهاب.

[٣٠] وكما الجبل الأشمّ صمد موسى امام تهديد فرعون ، كما صمد آنفا أمام سخريته وتهمه ، فلم يزل يواجهه بسلاح المنطق.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ)

فيه دلالة ملموسة ، تكون أقرب إلى عقولكم المغلقة الجامدة.

[٣١] وهنا أيضا خسر فرعون الموقف ، إذ طالبه فعلا بذلك الشيء المبين ، ماضيا في غروره وظنه أنّ الباطل لا يغلب.

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

٣٤

[٣٢] استجاب النبي موسى للتحدي فورا.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)

كان ثعبانا ضخما ، قد فغر فاه ، كاد يلتهم قصر فرعون بما فيه.

[٣٣] (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)

وبهت فرعون ، وفلحت حجة موسى ، وظهر برهانه.

٣٥

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)

___________________

٣٦ [حاشرين] : هم الذين يحشرون السحرة ويجمعونهم.

٣٦

رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)

___________________

٤٩ [من خلاف] : كأن يقطع الرجل اليمنى واليد اليسرى أو العكس.

٥٠ [لا ضير] : أي لا ضرر علينا فيما تفعله بنا.

٣٧

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ

هدى من الآيات :

ازداد الصراع احتداما ، وحاول فرعون أن يتّهم موسى بالسحر ، وأثار فيهم حب الوطن زاعما : أنه يريد ان يخرج الناس من أرضهم ، واستمالهم بالتشاور معهم لمعرفة رأيهم في مصير موسى ، فأشاروا عليه بحبسه ، وبعث العملاء الى أطراف البلاد لجمع السحرة الماهرين ، فلما حشروا ليوم عيد دعوا الناس للاجتماع ، محددين هدفه سلفا باتباع السحرة ، وجاء السحرة طالبين من فرعون أجرهم فبالغ في إعطاء الوعود لهم ، فقال لهم موسى : القوا حبالكم ، فلما فعلوا أقسموا بعزة فرعون انهم هم الغالبون.

وقد ترددت كلمة الغلبة في الآيات مشيرا ـ فيما يبدو ـ الى حدة الصراع ومصيريته.

والقى موسى عصاه فاذا بها تلتهم إفكهم ، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ، قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) ، وانقلب السحر على الساحر.

٣٨

أما فرعون (الذي لم ينقصه العناد) فقد قال لهم : لماذا آمنتم به قبل ان آذن لكم؟ (واحتوى الهزيمة سريعا) وقال لهم : انه قائدكم ، وأنتم تشاركون معه في الثورة ، وهددهم بأنه سوف يقطع أيديهم وأرجلهم ، وليصلبنّهم أجمعين.

ومرة أخرى أثبتت الرسالة قوتها حيث قال السحرة : «لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» الذي نطمع ان يغفر لنا خطايانا ، وان يجعل مبادرتنا الى الايمان كفارة لذنوبنا.

بينات من الآيات :

جمع السحرة :

[٣٤] لا بد ان يكون صاحب الرسالة مستعدا أبدا لتطورات الصراع ، ومضاعفة التحديات ، حتى تبلغ الذروة. فهذا النبي العظيم موسى افتتح دعوته بقول ليّن ، واستمر على ذلك النهج بالرغم من استفزاز فرعون بسخريته اللاذعة ، ولكن فرعون توعده بالسجن فجاءه موسى بشيء مبين ، ومضى فرعون في طريق العناد فاتّهم موسى بالسحر.

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)

ويبدو ان السحر كان منفورا منه بالرغم من انتشاره بين الناس يومئذ ، وقد ألصق تهمة السحر بموسى ولكنه ما لبث أن استعان بالسحرة ، ووعدهم بأن يجعلهم من المقربين اليه ، ثم لما آمنوا عاد واتهم موسى بأنه كبيرهم.

وهكذا يتقلب الطغاة حسب مصالحهم ، وهذا التقلب ـ بذاته ـ دليل زيفهم.

[٣٥] جبل الإنسان على حبّ أرضه التي نبت منها ، ويستغل الطغاة هذا

٣٩

الحبّ بصورة قذرة ، ويدّعون أبدا أنّهم حماة الأرض ، ودعاة الأمن من الخطر الخارجي أو الداخلي.

وهكذا اتهم فرعون موسى بأنه مخلّ بالأمن ، وأن هدفه النهائي طرد الأقباط من أرضهم ، فقال :

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)

ولم يكن فرعون يأبه بآراء الناس لأنه كان يزعم أنه الأهم ، وربهم الأعلى ، وكيف يجوز للرب ان يستشير المربوبين؟!

ولكنه حين خاف انهيار عرشه بادر الى المشورة ، لا لكي ينتفع بعقولهم وتجاربهم ، أو لا ترى كيف كان يبادر بالجواب قبلئذ دون استشارة؟ وانما يستميلهم ، ويمنع من تأثير حجج موسى البالغة فيهم ، وأيضا لكي يشاركوه في جريمته التي نوى ارتكابها بحق النبي موسى فلا تأخذهم به رأفة من بعد تنفيذها.

هكذا خاطب من حوله قائلا :

(فَما ذا تَأْمُرُونَ)

وهكذا الطاغوت أبدا لا يريد آراء الناخبين ليخضع لها ، بل بحثا عن الأهداف التالية :

أ ـ الإيحاء إلى الناس بأنهم يضعون القرار لأنفسهم حقا ، وليس هو وحده.

ب ـ جس نبض الشعب ، ومعرفة مدى تأثير أعلامه فيهم ، ومدى قوة معارضيه ، ومكامن نفوذهم ليقوضهم.

٤٠