من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

هنا فان انحرافهم عن الحق يجعلهم يبحثون أبدا عن شياطين الأنس لاتباعهم ، أما في الآخرة فان هؤلاء الأشخاص يقودونهم الى نار جهنم.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

٨١

وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ

٨٢

فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)

٨٣

الكتاب مقياس الحق ومظهر الرحمة

هدى من الآيات :

إن للحق مقياسا يتجسد في الآخرة في الحساب ، ويتجلى في الدنيا بالكتاب الذي أنزله الله لفض الخلافات ، وإيصال الناس إلى صميم الحق ، وتوفير الرفاه لمن يؤمن منهم به.

والكتاب مظهر لرحمة الله ، كما ماء السماء الذي يحيي به الله الأرض بعد موتها ، ومن يسمع حق السمع يستدل بهذه النعمة على رحمة الله ، فلا يضرب لله الأمثال الباطلة ، بل يهتدي إلى أن لربه المثل الأعلى ، أو ليس الله أودع في حياة الأنعام عبرة ، كيف يسقي الله من بعض الأجهزة والأعضاء المودعة في بطونها المحتوية على فرث ودم ، يسقينا لبنا خالصا هنيئا لمن يشربه؟!

ومن رحمته انه رزقنا من ثمرات النخيل وأنواع التمور ، ومن ثمرات الكروم ، وأنواع الأعناب ما نتخذ منه سكرا حلوا ، ورزقا حسنا ، إن هذه عبرة أخرى وآية لقوم يعقلون.

٨٤

وقد أوحى ربنا الى النحل لكي تتخذ من الجبال بيوتا ، وكذلك تبني بيوتا في الشجر ، وفيما يبنيه الناس من العمارات المختلفة ، ثم أمرها الله بأن تأكل من كل الثمرات ، ثم تتحرك عبر السبل الّتي جعلها الله لها ، فإذا ببطونها تصبح بإذن الله ينبوعا لشراب (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ، وهكذا يصل المتفكرون إلى ما وراء هذه الظاهرة من آثار رحمة الله.

وتقلبات الحياة البشرية كيف أنه يخلقه الله ثم يميته ، والبعض من الناس يطول عمره ويصل إلى وضع غير محمود ، حتى لا يعلم بعد علم شيئا.

وهكذا فضّل الله الناس بعضا على بعض فيما رزقهم إياه بحكمته ، فلا يستطيع ذوي الفضل أن يعطوا رزقهم لمن هو دونهم ، ويملّكونهم حتى يصبحوا سواء ، ولكن مع كل ذلك نجدهم يكفرون بنعمة الله ، ويتخذون من الرزق وسيلة للاستعلاء.

وهكذا جعل الله للناس أزواجا من أنفسهم ، ورزقهم الذرية والأولاد ، ورزقهم من الطيبات ، ومع ذلك يتركون نعمة الله ويؤمنون بالباطل المتجسد في الشركاء من دون الله ، الّذين لا يملكون شيئا من الرزق من السموات والأرض ، ولا يستطيعون شيئا.

كل هذه الآيات وغيرها تدل على أن لله المثل الأعلى ، ولا يجوز لنا ان نقيس ربنا بخلقه ، ونضرب له الأمثال الباطلة ، فإن الله يعلم الحق ونحن لا نعلم ، ولا يجوز أن يحكم الجاهل على العالم سبحانه!

بينات من الآيات :

الكتاب ميزان الحق :

[٦٤] كما أن للحق مقياسا ثابتا يتجلى في اليوم الآخر على شكل جزاء ، فلا

٨٥

تختلط هنا لك الشهوات بالعلم ، ولا الخرافات المزيفة للنفس بالحق ، كذلك في الدنيا أنزل الله كتابا ينطق بالحق ، ويفرّق الحق عن الباطل.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ)

ولكن ليس هذا هو الهدف الوحيد ، بل لكي يبلغ الإنسان بالكتاب عمق الحق فيهتدي اليه ، ثم لكي ينال بتطبيقه على ذاته رحمة ورفاه جم.

(وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

ان من لا يؤمن بالحق ينتفع بالكتاب فائدة واحدة هي : رفع الخلاف الظاهر بينه وبين الآخرين ، كما استفاد الأعراب من الإسلام قبل أن ينفذ الأيمان الى قلوبهم ، فقد خضعوا للإسلام كحكم سياسي ، فنفعهم تسليمهم له وحدة سياسية ، ولكن بعد أن آمنوا وصلوا بأنفسهم الى الحق ، ونالوا الخير الواسع.

القرآن مطر الرحمة :

[٦٥] وكتاب الله كماء السماء يحيي الله به الأرض بعد موتها.

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)

سوف نستمع الى ثلاث عبارات جاءت كشرط مسبّق لاستيعاب عبرة الحياة ، وفهم خلفيات الطبيعة وهي بالتدريج. السمع ، والعقل ، والتفكر ، وهي مراحل العلم الذي يهب الله للإنسان نوره ، ثم يسلبه إذا بلغ أرذل العمر ، وهي مرحلة الإحساس المباشر ، أو التجربة البسيطة الآتية عن طريق السمع ، وهي أقرب الاحاسيس إلى الشؤون العقلية ، كما أنها وسيلة حضارية لنقل تجارب الأجيال

٨٦

لبعضها ، ولنقل تجارب الناس المعاصرين لبعضهم ، ثم تأتي مرحلة الحفظ وتراكم التجارب الّتي هي العقل حسبما جاء في الحديث الشريف :

«العقل من العقال»

وان «العقل حفظ التجارب» في النهاية تأتي مرحلة التفكر ، وذلك بربط التجارب إلى بعضها مما نسميه نحن بالتحليل أو التعقل ، ويبدو أن المعرفة الحق لا تحصل من دون اجتياز المراحل جميعا ، ولكن القرآن الحكيم ربط بين كل مرحلة وبين آية إلهية لحكمة بالغة قد لا نفهمها الا بالتدبر.

الأنعام عبرة ورحمة :

[٦٦] ويتجلى اسم الرحمة الإلهي في الأنعام الّتي نعتبر بها عند أدنى نظرة ، ونتعرّف من خلال النظر إليها على الهدف من خلقها ، وما يتصل بهذا الهدف من هدف أسمى لخلقة البشر هو العلم والعمل.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً)

فمن خلال النظر فيها والتدبر في أمورها ، ننفذ إلى الهدف منها ، ولكن كيف؟

(نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)

كيف يميز الله اللبن عن الفرث ، وهي الزيادة الّتي تهبط إلى الكرش قبل ان تخرج فتصبح سرجينا ، وعن الدم الذي يجري في العروق ليصبح.

(لَبَناً خالِصاً)

٨٧

من الشوائب والجراثيم.

(سائِغاً لِلشَّارِبِينَ)

ففيه الفائدة لخلوصه ، واللذة لأنه هنيء يحبه الطبع البشري.

[٦٧] وآية أخرى هي الثمار النافعة كالرطب والعنب ، وما ينتهيان اليه من السكر والتمر والزبيب.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

ولا ريب أن ثمرات النخيل والكروم من أفضل الرزق مذاقا ، وفائدة طيبة ، أما السّكر فقد اختلفت كلمات العلماء فيها ، وأمثل القول ما جاء مأثورا عن ابن عباس أنه قال : «السكر ما حرم من ثمرها ، والرزق الحسن ما حل من ثمرها» (١)

وقد يوسع في معنى السكر حتى يشمل عدم الانتعاش ، ولا ريب أن العنب والتمر يسببان انتعاشا ، والانتعاش بها لا يبلغ مستوى فقدان العقل حتى إذا زاد منه الشارب.

النحل آية بينة :

[٦٨] وهناك رزق الهي يختلف عما ينبت من الزرع أو يجري من الضرع هو : العسل الذي هيّأ الله النحل له ، حيث ألهمه أن يبني بيوته السداسية الشكل ، البارعة والبالغة الدقة ، وذلك في كنف الجبال ، أو في سوق الأشجار ، أو في الأبنية.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٦ ـ صفحة ٣٧١

٨٨

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)

وقال بعضهم أن العرش هو : الكروم الّتي تقام فوق ساباط مرتفع.

معنى الوحي :

ونتسائل : كيف الوحي؟

قبل الإجابة لنعرف معنى الكلمة ، والّتي يقول عنها اللغوي الراغب : الوحي الإشارة السريعة ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز ، أو بصوت مجرد عن التركيب ، أو بإشارة ونحوها.

وقال العلامة الطباطبائي : والمحصل من موارد استعماله : أنه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه.

١) / فالالهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي : «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ».

٢) / وكذا ورود المعنى في النفس عن طريق الرؤيا : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى» (القصص).

٣) أو ورود المعنى في النفس عن طريق الوسوسة : «إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» (الأنعام).

٤) ومن الوحي التكليم الإلهي لأنبيائه ورسله : «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً» (الشورى).

٨٩

والوحي من الله الى النحل يتناسب وجو الآيات العام ، الذي يهدينا الى آيات الله في الحياة ، ليبرز دور الإلهام في العلم ، ابتداء من إنزال الكتاب ، إلى العلم الذي يسلبه الله عمن يبلغ أرذل العمر.

حيث ان الآية هذه تشير الى دور الألهام المباشر من قبل الله في حياة النحل ، فكيف بالإنسان؟ وان من يتعالى على الوحي المنزل من السماء فانما يتكبر على أوضح وأبسط الحقائق الّتي يعيشها في حياته ، وهي النور الذي يضيء له دروب الحياة ، وقد يكون ذلك سببا لتسمية هذه السورة المباركة باسم النحل.

[٦٩] ثم أمر الله النحل بان تأكل من زهرة الأثمار ، والّتي هي خلاصة مواد الثمر قبل بروزه ، متخذة السبل الإلهية ، والأنظمة الّتي وضعها الله للحياة ، حتى تتحول تلك الزهرات الى شراب سائغ.

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)

أي الطرق المعبدة الّتي هيأها الله لك ، فقد جعل الله للهواء سبلا كما للأرض ، وهي الأيسر سلوكا والأقل مطبات هوائية ، ويتعرف عليها الطيارون بصعوبة ، بينما أوحى الله بها إلى النحل وغيره مما يطير بجناحيه.

(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ)

والعسل يلقيه النحل من فيه ، بعد أن يتفاعل في بطنه ، ولذلك عبر ربنا عن ذلك بأنه يخرج من بطون النحل.

(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ)

من أمراض مختلفة ، ويعطي الجسم حيوية ومناعة عن الأمراض.

٩٠

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

إن النحل هذا الحيوان المستهان في الدنيا ، يأمره الله بأن يحقق هذا الهدف ، وعلّمه وسائل ذلك وكيف يبني بيته؟ وكيف يتخذ لنفسه يعسوبا ، وكيف يتوالد؟ كل هذه السنن الإلهية تستقطب اهتمامنا ، وتجعلنا نعترف خاشعين بأن للكون المهيب إلها يدبر شؤونه سبحانه ، ويبدو أن معرفة أسرار النحل بحاجة إلى بحث مثابر ، ولذلك عقّب الله الآية بأن النحل آية للمتفكرين ، بينما لا تحتاج آية الثمرات إلى ذلك الجهد الفكري ، بل إلى حفظ التجارب الزراعية ، لذلك بين السياق هناك ان الثمرات آية لمن يعقلون ، واكتفى في مراقبة الأمطار بالسماع فقال : «لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» وهكذا تختلف أسرار الحياة فبعضها تفهم بأقل دراسة ، بينما بعضها الآخر تفهم بدراسة معمقة ، وتبقى بعضها متوسطة.

دليل التدبير :

[٧٠] وتطورات الحياة البشرية تهدينا إلى تلك الإرادة الّتي توجه حياتنا ، لقد خلقنا الله وحين يشاء يسترد أمانته منا فيميتنا ، وقد يشاء أن يعمّر الفرد طويلا حتى يبلغ سن الدناءة ، فاذا به يفقد ما حصل عليه أيام شبابه من علم وخبرة.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)

أي العمر الأكثر هبوطا ، كما كان في أيام الصبا والطفولة.

(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)

فأصل علم الإنسان هبة الهية ، ويزداد بالسمع والاعتبار والتعقل والتفكر ، بينما علم الله واسع دائم.

٩١

حدود الحرية البشرية :

[٧١] والإنسان حرفي الحياة ، ولكن حريته محدودة ، مما يهدينا إلى أنّ يد الغيب تدبر حياته ، وأن الحرية المحدودة التي يملكها إنما هي لاختباره وليست من ذاته ، لذلك ترى مواقع الناس في المجتمع والدرجات العليا أو الدنيا التي يتفاضلون عبرها ، إنها نفوذ إلى أصول تكوينية صعبة التغيير ، أو مستحيلة التغيير ، فلقد فضل الله بعض الناس على بعض في الذكاء ، أو في النشاط ، أو الصحة ، وتهيئة فرص التقدم ، فهل يقدر هؤلاء على تحويل صفاتهم إلى أولئك؟ كلا ..

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)

وهو النعمة الّتي يهبها الله للإنسان بسعيه ، وطيب نفسه ، أو امتحانه وابتلاء الناس به مثل : العلم ، والعافية ، والأمن.

(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ)

فلا يقدر الّذين فضلهم الله أن يعطوا رزقهم الإلهي لمن هم دونهم ، ولمن هم محكومون لهم.

والتعبير القرآني : «ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» يوحي بالرّقيّة الّتي كانت شائعة في أيام نزول القرآن ـ ويبدو لي ـ أنه يشمل أيضا كل المراتب الاجتماعية الّتي يقتضيها التفاضل بين الناس في الكفاءات الطبيعية ، ذلك لأن الكفاءة تقتضي ـ بالطبع ـ هيمنة صاحبها على من هو دونه فيها ، فالعلم والقوة يعلوان الجهل والضعف ، وصاحبهما يملك ولو بنسبة معينة من لا علم ولا قوة له.

٩٢

ولا أحد ينكر اختلاف الناس في الكفاءة الطبيعية ، وان هذه الكفاءة لا تقبل التحول من صاحبها الى من هو دونه ، حتى يصبحوا جميعا سواء فيها.

إن نظام الكون قائم على التفاعل بين أجزائه ، وقد أمرت سنة الله في الناس ان يتعاون بعضهم مع بعض مثلما تتفاعل أجزاء الكون ، ولكي يتعاونوا احتاج بعضهم إلى البعض الآخر ، واختلفت كفاءاتهم ، ولو استغنى الناس عن بعضهم إذا لبقوا كالحيوانات يعيشون أفرادا ، ولم يتقدموا ولا خطوه واحدة في طريق الحضارة.

(أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ)

إن نعمة التفاضل الّتي تنتهي إلى التعاون والتقدم نعمة كبيرة ، لا بد من شكرها عن طريق رضا الناس بها وقبولها كواقع ، ثم انطلاق كل واحد من موقعه في سبل الخير والفضيلة.

نعمة الأزواج :

[٧٢] والى جانب نعمة التفاضل الطبيعي ، ونعمة الحاجة المتبادلة ، وبالتالي نعمة التعاون الذي فرض على البشر فرضا ، نجد نوعا آخر من الحاجة المتبادلة والّتي تؤدي إلى التعاون وهي الحاجة الى الزوج.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً)

فلو لا الحاجة النفسية والفيسولوجية والاجتماعية القائمة بين الزوج والزوجة لما تم هذا التعاون العميق والواسع بين الزوجين.

إنها نعمة كبيرة أسبغها الله علينا ، إذ جعل لنا من أنفسنا أزواجا ، وكأنهن

٩٣

فلقة منا ، انتزعت من كل ابعاد وجودنا ، وكأن كل جزء في الذكر أنفصل عنه جزء في الأنثى ، وانه يبحث عنه حتى يلتقي الذكر بالأنثى ، فتلتقي كل أجزاء وجوديهما الجسدية والنفسية والعقلية.

ومن الأزواج ينسل البنين والبنات ، وأزواج البنات وهم الحفدة ، أو أبناء البنين كما جاء في تفسير آخر ، أو أبناء البنات كما جاء في حديث كريم ، وأصل الكلمة مشتق من لفظة الحفد وهو : الإسراع في العمل ، ومنه قيل للأعوان «حفدة» لإسراعهم في الطاعة (١).

ويبدو أن الحفيد هو الفرد الذي يخدم الشخص ، سواء كان ابن ابنه أو ابن بنته أو زوج بنته أو ابنها.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ)

وكلما كثر نسل الفرد زادت نعم الله عليه ، بينما يقتضي الحساب البشري ان يتناقص ، أو لا يدل على أن الله هو الرزاق؟

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ)

ويزعمون أن رازقهم الأغنياء أو الدولة أو الأصنام.

(وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)

أي هؤلاء الّذين أنعم الله عليهم ، تراهم يكفرون بنعمته ، حيث يتوجهون تلقاء الشركاء من دونه.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٨ ـ صفحة ٣٧٣

٩٤

لماذا الإصرار؟

[٧٣] أترى الغباء والسفاهة؟ كيف يترك البشر خالقه الرزّاق ، ويتوجه بالعبادة والطاعة لمن لا يملك رزقا ، ولا يقدر على أن يسلبه رزقه؟!

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ)

وربما توحي كلمة الاستطاعة بالقدرة الّتي يكتسبها البشر اكتسابا ، بينما الرزق والملك قد يأتيان بلا تعب ، والأصنام لا تملك ولا تستطيع ، أو بتعبير آخر : لا تقدر على شيء من الرزق سعت أو لم تسع في سبيل القدرة.

[٧٤] كيف يشبه البشر ربه بخلقه؟

(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ)

فتقولوا : فلان يرزقنا.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

الله يعلم انه الخالق الرازق ، والبشر لا يعلم شيئا الا بما علّمه الله ، فلا يحق للبشر ان يتخيل ربه أو يتوهمه سبحانه ، أو يحدد لفعله كيفا أو مكانا.

٩٥

ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

______________________

٧٦ [أبكم] : الذي يولد أخرس لا يفهم ولا يفهم.

٩٦

(٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)

٩٧

يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها

هدى من الآيات :

قد يفقد البعض منا القدرة الطبيعية ، إمّا لقانون اجتماعي أو لنقص طبيعي ، فيقعد به العجز عن أيّ عمل ، كالعبد المملوك أو الأبكم ، ويضرب القرآن بهما مثلا على واقع الكافر الذي يفقد قدرة الايمان والعدل والحق.

والله سبحانه الذي يؤمن به المؤمنون عالم ، وقادر ، فعنده غيب السماوات والأرض ، وتتجلى قدرته في الساعة ، فأمرها مثل خطفة أو أقرب.

والله مصدر العلم ، أو لم يخرجنا الله من بطون الأمهات لا نعلم شيئا؟ ثم وهب لنا السمع والأبصار والقلوب بهدف الشكر له!

والله مصدر القدرة ، فهو الذي سخر الطير في جو السماء ، لا يستطيع أحد أن يحفظهن الا الله ، ان في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.

والله مصدر الرحمة ، فقد جعل للناس سكنا في بيوتهم ، كما وفر لهم من جلود

٩٨

الانعام بيوتا خفيفة في السفر والحضر ، وهيأ لهم من أصواف وأوبار وأشعار الانعام متاع البيت. من فراش ودثار ومعاش الى حين الانتقال من دار الدنيا الى دار القرار.

وهو الذي وفر للإنسان الظلال والملابس السلمية والحربية ، لتقيه من عارية الطبيعة ومن بأس بعضهم ، وأتم نعمته على البشر لكي يسلم وجهه الى الله ، ولكنه يتولى ويعرض ، ويكتفي الرسول بإبلاغ الرسالة ، لأن الأدلة واضحة إذ يعرفون نعمة الله ولكنهم ينكرونها ، وأكثرهم كافرون بربهم.

بينات من الآيات :

ظلم الطاغوت :

[٧٥] عند ما كانت الملكية المطلقة نظاما سائدا في المجتمعات قبل انتشار نور القرآن ، وكان العبد المملوك لا يقدر على شيء إلا بأذن مولاه. يضرب القرآن بذلك العبد مثلا على واقع ذلك الإنسان الذي يقيد نفسه بإغلال الشرك ، فيجعل نفسه عبدا لغيره وقد خلقه الله حرا.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)

ويمكننا ان نضرب ذات المثل من واقع الشعوب الّتي استعبدها الأقوياء ، ولم يتركوا لها شيئا يتصرفون فيه بحريتهم ، هل هم سواء ومن أنعم الله عليه بالايمان ، وحرر نفسه من أغلال الشرك وعبودية ذوي الثروة والسلطة والتضليل؟!

(وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ)

كلا .. الذي أعطاه الله الحرية وزوده بحب الخير فهو لا ينفق رياء ، ولا يكتم إنفاقه عن الناس خوفا ، بل ينطلق في إنفاقه من إرادته الحرة ، يستهدف مرضاة الله ،

٩٩

ولا يرجو ولا يخشى أحدا.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ)

الذي هيأ للإنسان كل فرص الخير ، ووفر له الحرية الكاملة ، وزوده بالأحاسيس الخيرة.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

والجهل آفة الحرية ، ولأن الجهل يتفشى في الأمم الضالة ، فانه يسهل استعبادهم من قبل الطغاة.

ظلام الجبت :

[٧٦] كان ذلك مثلا ضربه القرآن الحكيم من واقع شخص سلبه الطاغوت حريته ، وحوّله الى موجود عاجز ، ويضرب القرآن مثلا آخر من واقع من يسلبه الجبت حريته ، فاذا به كالأبكم الذي ولدته أمه وأذنه صماء لا تسمع شيئا ، فلم يتعلم اللغة ولم يتفاعل مع الحضارة ، وبقيت تجاربه محدودة بحدود ذاته ، كالإنسان الذي ينمو في غابة ، هل يستوي هو ومن أوتي العدالة والاستقامة؟

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ)

أي ثقيل على من يلي أمره ويشرف عليه ..

(أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ)

كلما يبعثه الى مكان لا ينفع شيئا.

١٠٠