من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)

______________________

٦٤ [قصصا] : يتبعانه ، ومنه اقتصاص الأثر.

٤٤١

من حقائق الهدى والمعرفة

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يذكرنا القرآن الكريم بثلاث حقائق تتصل بقضية الهدى والمعرفة :

الحقيقة الاولى : ان اكتساب العلم والمعرفة وبالتالي الاهتداء مسئولية الإنسان التي تتعلق بمصالحه العاجلة والآجلة ، فمن يرفض الاهتداء ، ولا يتحمل مسئوليته في الوصول الى المعرفة فانه يظلم نفسه ، ويكون مثله كمن يفقأ عينه ، أو يسدّ أذنه ، أو يبلّد أحاسيسه ، فيقطع على نفسه ذلك الجسر الذي يربط ذاته بالطبيعة فما ذا عساه أن يفعل بعد ذلك؟ وما هو مبرر وجوده في الحياة؟

الحقيقة الثانية : ان الإنسان إذا رأى ان بامكانه البقاء فترة من الوقت في حالة الضلالة دون أن يصاب بأذى ، فليعلم ان هذه مهلة منحها الله له رحمة به لعله يرجع عن ضلالته ويهتدي.

والا ففي اللحظة التي تعمى فيها عين الإنسان ، وتصمّ اذنه ، ويتوقف عقله

٤٤٢

فانه يجب أن يموت وينتهي ، لأنه سوف يصطدم بالطبيعة وحقائقها الراسخة الصلبة فيتحطم شرّ تحطيم ، وبالتالي فان الضلالة جريمة عقوبتها معجلة في الواقع ، ولكن الله يؤجل هذه العقوبة ، وهذا من فضله الواسع وحلمه الكبير. ولعله سيتدرجه الى مصيره الأسود استدراجا.

الحقيقة الثالثة : ان هذا التأجيل ليس الى فترة غير محدودة ، وانما لموعد يوم معلوم عند الله سبحانه وتعالى ، وإذا جاء فانه لن يتأخر ، وهذا بدوره قضية هامة لو تحسس البشر بها لاستطاع أن يقاوم جهالته ، وتعاليه على الحقائق.

ولكي يوضح القرآن الكريم هذه الحقائق أكثر ، فانه يضرب لنا مثلا من واقع موسى (ع) واجتهاده في البحث عن العلم والمعرفة.

وفي هذه المجموعة من الآيات ، يذكرنا القرآن بان الإنسان في حالات التعب ، والارهاق ، وانشغال ذهنه بقضايا ثانوية قد ينسى أمورا مهمة.

لقد قام موسى مع مرافقه بسفرة طويلة مضنية مليئة بالصعوبات ، فأصابهم تعب شديد من وعثاء السفر ، مما جعلهم ينسون غذاءهم الذي أحضروه معهم ، فالنسيان اذن من الشيطان ، وتجاوز هذا النسيان لا يكون الا عن طريق التذكر المستمر لله سبحانه وتعالى ، وهناك سبب آخر من أسباب الجهل وهو : اعراض الإنسان عن آيات الله وانصرافه عنها.

بينات من الآيات :

آثار الظلم :

[٥٧] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها)

فآيات الله واضحة ومنتشرة في كل مكان ، الا ان الإنسان بحاجة الى من يذكره

٤٤٣

بها ، ولكن عند ما يذكر وتتلى عليه الآيات فيتركها ، ولا يهتدي بها ، فانه يكون أظلم الظالمين.

(وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)

لقد نسي حقيقة رئيسية وهي : أنه إنسان غير عالم ولا فاضل ، بل هو جاهل ومتورّط في الجرائم ، إنسان ظلم نفسه بارتكاب الخطايا والذنوب ، فوقفت حاجزا بينه وبين الهداية ، لذلك ينبغي عليه أن يتسلح بالإرادة والعزم ، وان يتجاوز هذا الحاجز بدل أن يغفل وينسي ما قدمت يداه.

من هنا نعلم بأن الوصول الى الهداية بحاجة الى تجاوز الصعوبات ، وحسب التعبير القرآني أننا بحاجة إلى (اقتحام العقبة) ومن لا يقتحم العقبة ، ويتسلح بالعزيمة الكافية لتجاوز الحواجز ، فلن يهتدي أبدا.

(إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ)

هناك حجب موجودة على قلوب هؤلاء ، فما هي تلك الحجب؟

انها الذنوب والمعاصي التي يرتكبونها ، ويصرّون عليها ، فتتراكم على قلوبهم بصورة حجب سميكة ، تحول دون نفوذ الحقائق إليها. فيجعل الله على قلوبهم أكنّة.

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)

أي انا جعلنا أذانهم تشكو من صعوبة السمع ، والوقر هو : الشيء الثقيل ، والإنسان عند ما لا تسمع أذنه يحس وكأن ثقلا قد وضع فيها.

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)

ما دامت الأكنة موجودة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم ، وما داموا قد نسوا

٤٤٤

ماضيهم الحافل بالجرائم والذنوب ، فلم يحاولوا أن يستعرضوا ويتأملوا خطورتها ، ولم يتسلحوا بالإرادة الكافية لمقاومتها ، فمن المستحيل عليهم أن يجدوا طريقهم الى الهداية.

وإذا كانت الضلالة ظلما ، فلما ذا لا يعجل الله عليها العقاب؟

يقول القرآن : تلك رحمة من الله ، وفرصة ثمينة لمحاولة الرجوع الى الهداية ، فلا يغتر الإنسان بهذه الفرصة فانها قصيرة ومحدودة.

[٥٨] (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً)

ليس باستطاعتهم أن يجدوا مهربا يؤولون اليه ، كما يحدث عادة على مستوى البشر حينما تريد السلطات أن تلقي القبض على شخص فان هذا الشخص يأخذ بالتفتيش عن مكان يختفي فيه ، أو عن شخص له نفوذ لكي يتوسط له عند السلطة ، اما عند الله فلا يوجد شيء من ذلك أبدا ، فسلطته واسعة قوية قادرة ، ولا مهرب منها أبدا.

والموئل هو : المكان أو الزمان الذي يحجب العقاب عن الإنسان.

[٥٩] (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)

وهلاكهم كان له موعد محدد ، ولما جاء ذلك الموعد انتهت الفرصة الممنوحة لهم ، ولم يكن باستطاعتهم أن يكتسبوا لحظة اضافية.

٤٤٥

لماذا النسيان؟

[٦٠] ان نسيان الإنسان لماضيه وما قدمت يداه ، أحد الأسباب الرئيسية لجهله وعدم هدايته ، والقرآن يضرب مثلا على ذلك من قصة موسى (ع) حيث انه كلف ـ فيما يبدو ـ بالبحث عن شخص عالم يرشده وعزم موسى عليه السلام على السفر الى حيث يوجد العالم عند التقاء البحرين ـ ولعلهما خليج العقبة وخليج السويس المتفرعان من البحر الأحمر ـ وعند ما بلغه وآوى هو وفتاه الى صخرة تسرب حوتهما في البحر ولعل الآية :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً)

أي أنني مصمم أن أصل الى مجمع البحرين أو أمضي سنين عديدة بالرغم من كل الصعوبات المحتملة ، والفتى هو يوشع بن نون أقرب بني إسرائيل الى موسى عليه السلام ووصيه ، ولعل التعبير ب (الفتى) عنه كان لمعاني السموّ الروحي والكمال الرسالي الذي كان يتمتع به ، وبالذات في اتباعه لقيادته الإلهية ، وتفانيه في خدمة الرسول عليه السلام.

[٦١] (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما)

أي المكان الذي يجتمع فيه البحران.

(نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً)

لقد تحرك الحوت بحالة السرب ، والسارب هو الذي يسير الى الأسفل ولعل بالحوت كان رمق من الحياة فلما دخل الماء استعاد حياته وتسرب فيه أو كان هناك ماء الحياة.

٤٤٦

[٦٢] (فَلَمَّا جاوَزا)

أي انتقلا الى الشاطئ الآخر.

(قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً)

أي كان سفرهما متعبا للغاية وشعرا بالجوع ، والغداء هو طعام الغدو وهو أول ، النهار.

من عوامل النسيان :

[٦٣] (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ)

أي أتذكر حينما جلسنا عند الصخرة التي كانت في طريقنا لنستريح قليلا.

(فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)

وضعته هناك ولم أجلبه معي ، ولكي يبرر هذا الواقع الذي فعله النسيان قال :

(وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً)

لقد نسي الفتى قصة الحوت ان يبينها لموسى عليه السلام ، وكيف أتخذ سبيله في البحر سربا.

[٦٤] ويبدو أن علامة موسى لمعرفة مكان العالم. كانت هي بالذات حياة الحوت. وانطلاقه في البحر سربا ، وهكذا قال موسى عليه السلام :

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ)

٤٤٧

أي ذلك المكان هو بغيتنا وهدف رحلتنا.

(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)

اي عادا على ذات الطريق وهما يبحثان عن الآثار.

وقبل ان نتابع قصة موسى مع العالم في الدرس القادم دعنا نتدبر في موضوع النسيان الذي يتكرر في هذه الآيات.

في آية سبقت بين القرآن قضية مهمة فقال : «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً» وفي هذه الآيات نجد قوله تعالى وما انسانية الا الشيطان وهاتان الآيتان صريحتان في ان الشيطان ينسي ، والله يذكّر ، فما معنى هذه الفكرة؟

ان فكر الإنسان يشبه مصباحا كامل الضياء ، ليس بحاجة للوقود ولكن هناك حواجز هي التي تسد منافذ هذا الضياء ، فما هي تلك الحواجز؟

أنها مجموعة عوامل مادية تقوم على أساس اهتمام الإنسان بزينة الحياة الدنيا ومتاعها ، وقد يكون فتى موسى (ع) وهما يمشيان على البحر قد انشغل بزينة البحر ، أو ببعض الأشياء العجيبة التي رآها في الطريق ، المهم أن انجذاب الإنسان الى الطبيعة وخضوعه لها هو من أسباب النسيان ، والحياة مليئة بالجواذب والشهوات التي يدعمها الشيطان ، ولكن ذكر الله يطرد هذه الشهوات ، ويعين على ضغط الجواذب ويزكّي النفس من العقد التي يكرسها الشيطان ، وذكر الله بالتالي هو عدو النسيان ، لأنه يحطم تلك الحواجز التي تغلف قلب الإنسان.

وحينما تتذكر الله وقدرته وهيمنته على الكون ، يعود إليك توازنك وتعود الى نفسك تلك الارادة المفقودة ، وتعود الى عقلك معرفتك بأنك أقوى من الطبيعة ،

٤٤٨

وأسمى من زينة الحياة الدنيا فلا يجب ان تستسلم لها.

وهكذا فان القرآن الحكيم يحدثنا في سورة الكهف عن زينة الحياة الدنيا من جهة ، وضرورة التسامي عليها من جهة ثانية ومن أبعاد التسامي وفوائده في ذات الوقت هو : التذكر وعدم النسيان ، لأن الإنسان المستسلم لحياة الدنيا وزينتها يفقد فكره ، بل يفقد حتى الحياة نفسها ، فحب الشيء يعمي ويصم.

٤٤٩

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ

٤٥٠

سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)

______________________

٧٧ [ينقض] : يسقط.

٤٥١

إنك لن تستطيع معي صبرا

هدى من الآيات :

من مظاهر اعجاز القرآن الحكيم ، ان آياته تتحدث عن أشياء عديدة في وقت واحد ، فالآية الواحدة مثال لقدرة الله في الكون ، ولعلم الله بالأمور ، وهي تبين مختلف الابعاد للحقيقة الواحدة ، أو مختلف الحقائق للحياة.

وسورة الكهف إذ تحدثنا عن علاقة الإنسان بالحياة ، فانها تحدثنا أيضا عن علم الإنسان ، وقد يبدو هذان الأمران في هذه السورة غير منسجمين أو حتى مختلفين ، بينما الحقيقة هي ان علاقة الإنسان بزينة الحياة الدنيا وموقفه السليم منها ، ينشأ عن علم الإنسان بحقيقة الدنيا ، فلو عرف الإنسان ظاهرا من الحياة فقط استبد به الغرور ، وزعم بأن هذا الظاهر الذي يراه هو الحقيقة ، بينما لو تعمق قليلا ووصل الى جوهر الحياة الدنيا لعرف مدى تبدلها وتغيّرها ، وان مخبرها غير ظاهرها ، ولذلك جاء في الحديث : «الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ»

وجاء أيضا : «كل ما في الدنيا ان تسمعه خير من أن تراه»

٤٥٢

وهكذا الحديث عن الدنيا يستتبع العلم والهدى ، لان هدى الإنسان ومعرفته للحقائق معرفة عميقة وشاملة يدعوه الى أن يتخذ موقفا سليما من زينة الحياة الدنيا ، وليس موقف الغرور والتسليم المطلق.

وفي قصة موسى (ع) مع ذلك العبد الصالح الذي جاء في الأحاديث أنه الخضر (ع) يكتشف لنا جانب من هذه الحقيقة.

فموسى (ع) كان نبيا ، وكان عارفا بالأحكام الشرعية الظاهرة ، الا أنه بحث عمن هو أعلم منه ليتعلم منه الخلفيات ، أو حكم الأحكام العامة والخاصة.

وخلال تلقيه الدروس كان ينتفض أمام بعض الحوادث التي يراها ولا يتحملها ، فعند ما ركبا في السفينة أخذ الخضر معولا وثقب به جدارها ، فاذا بالماء يتدفق الى داخلها ، وعند ما صادفا شابا في طريقهما حمل عليه الخضر فقتله ، وفي نهاية المطاف وصلا الى بلدة وجد فيها الخضر بناء متداعيا ، فبذل مجهودا كبيرا في ترميمه ، ولم يطلب مقابل ذلك من القوم أجرا برغم ما بدر منهم من سوء استقبال واعراض عن الضيافة ، وكان وقع هذه الحوادث على موسى من الشدة بحيث كان الزمام يفلت منه كل مرة ، وينسى شرط الصبر الذي التزم به.

أن انتفاضة موسى امام الأعمال التي قام بها ذلك العبد الصالح ، لدليل على ان الإنسان لا يحتمل مجرد احتمال ان وراء علمه هذا مساحات مجهولة أخرى لم يبلغها ولم يتوصل إليها ، ان مجرد هذا الاحتمال يجعل الإنسان رزينا ، حليما ، هادئا ، لا يتأثر بالمظاهر فقط ، وانما ينظر الى العمق أيضا.

بينات من الآيات :

بين العلم والرحمة :

[٦٥] (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ

٤٥٣

مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)

هذا العبد بالاضافة الى العلم الذي حصل عليه كان قد حصل على الرحمة ، فهل هناك علاقة بين العلم والرحمة؟ أم ان ربنا سبحانه وتعالى قد أعطى العبد خصلتين من عنده الرحمة والعلم؟

بتدبر بسيط في مفهوم كلمتي العلم والرحمة نتوصل الى : ان العلم عادة ما يكون وليد الرحمة ، وجوهر الرحمة هو لين القلب الذي هو صفة مقابلة لصفة أخرى وهي قسوة القلب ، وقسوة القلب تسبب عدم نفوذ حقائق الحياة اليه فينشأ الجهل ، ولين القلب على العكس من ذلك يسبب العلم ، لذلك نستطيع أن نقول ان للرحمة الفضل الاول ، وهو الشيء الذي أعطاه الله للخضر (ع) وكان سببا لعلمه وقد استند البعض الى هذه الكلمة وقالوا : ان خضرا كان نبيا والنبوة رحمة إلهية ، بينما رأى آخرون : ان سعة صدر خضر وقدرته على احتمال اعتراضات تلميذه موسى هي تلك الرحمة التي أعطاها الله إياه.

وفي الآية اشارة واضحة الى أن العلم من الله سبحانه وتعالى ، وانه نور يقذفه في قلب من يشاء ، وليس العلم بكثرة الدراسة والتعليم كما يزعمون.

الصبر وزير العقل :

[٦٦] (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)

لقد عرف موسى (ع) ان الحصول على العلم لا يمكن ان يتم بدون مجهود ، لذلك عرض اتباعه للعالم وهو يمارس اعماله اليومية ، ومن خلال العمل والقرارات والمواقف في الأحداث المختلفة للحياة يتعلم الحكمة ، والعلم الذي يجب أن يبحث عنه الإنسان ليس علما مطلقا ، بل ذلك العلم الذي يعطيه الرشد

٤٥٤

والبصيرة في سلوكه وعمله ، وهذا هو العلم العملي ، فكما أننا نحتاج الى العمل العلمي ، كذلك نحن نحتاج الى العلم العملي ، وذلك بأن نتعلم ما ينفعنا.

أما خضر (عليه السلام) فقد أعطانا منهجا آخر للتعلم وقال : أن أول وأهم صفة لاكتساب العلم هو الصبر ، ولذلك كان الصبر وزيرا للعقل كما جاء في الأحاديث المأثورة.

[٦٧] (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)

وهذه هي مشكلة الإنسان ، فهو بحاجة الى الصبر لكي يتعلم العلم ، والصبر بدوره بحاجة الى العلم لكي يطمئن الإنسان ، فان «الجاهل جزع».

وهنا نودّ ان نذكّر بأن اجتياز حاجز الجهل من قبل الإنسان عملية صعبة ، ولا يمكن للإنسان أن يجتاز هذا الحاجز وهو خائر العزم ، ذلك لأن الحصول على العلم بحاجة الى اجتياز الحاجز النفسي بالاضافة الى المساعي العملية فنرى ان موسى (ع) برغم أنه يقوم بسفرة طويلة طلبا للعلم ، ويلاقي أنواع المشقة ، وينسى غداءه ، ويصحب معه فتاه وما أشبه وهو نبي يقود أمة ، وبرغم كل هذه الأعمال الجسدية ، فانه يحتاج أيضا الى جهود نفسية كبيرة تعتبر من وظيفة القلب أو بتعبير آخر تعتبر رحلة القلب ، ويشير إليها القرآن الحكيم في هذه الآيات.

[٦٨] (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)

من المعلوم ان خضر العالم لم ينسى القدرة الحقيقة لموسى على الصبر ، فموسى (ع) من الناحية الحقيقية والفعلية كانت عنده القدرة على الصبر ، ولكن العالم بخبرته يدرك ان الناس الجاهلين بأمر لا يصبرون على صعوبات العلم به ، فالعلم يسبب لهم صدمة ، ولأنه يسبب لهم ذلك فهم قد يكفرون به.

٤٥٥

[٦٩] (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً)

وقد أعطى موسى تعهدا بالصبر والاتباع ، فمثل العالم كمثل الشجرة المثمرة التي تهتز فتعطيك من ثمارها ، والعالم يجب أن يبرمج منهاج تعليمك ولست أنت.

لقد ربط موسى (ع) صبره بالمشيئة الإلهية وقال : «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً» لأنه عرف ان من الصعب على الإنسان في هذه المواقف ، أن يصبر على الصدمات التي يتلقاها بسبب معرفة الواقع المجهول.

[٧٠] (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)

ان العالم (عليه السلام) عند ما اشترط على موسى هذا الشرط ، فانه كان يشير الى أن على العلماء أن يضبطوا أمرهم مع المتعلم منذ البداية ، على أساس أن العالم هو الذي يحدد المنهج :

أولا : يخرق سفينة :

[٧١] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها)

هنا انفعل موسى (ع) بأخلاقه الرسالية التي كان يمارسها مع مجتمعة الاسرائيلي ، ذلك المجتمع المائع الذي كان يستخدم معهم الشدة ، بعكس الرسول محمد (ص) الذي كان يعيش في مجتمع خشن غليظ ، فتسلح بالرأفة واللين ، لذلك أنفعل موسى وصاح غاضبا :

(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها)

٤٥٦

وهو هنا لم يسأل حتى لماذا خرقتها ، بل أنكر الموضوع رأسا ، ولم يسكت على ذلك وانما أعطى للعمل صبغة وهي أنه لم يخرقها الّا ليغرق أهلها. وكان هذا هو الهدف الوحيد المتوقع من وراء هذا العمل وقال :

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً)

أي قمت بعمل عظيم ، وهذا خطأ آخر يدل على الجهل بالموضوع ، وهنا قال خضر (ع) :

[٧٢] (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)

[٧٣] فذكره بكل هدوء أعصاب بالاتفاق الذي كان بينهما ، فانطفأت ثورة موسى فورا وذهب غضبه ، واعتذر عما بدر منه ، فقال لا تؤاخذني بما يعسر علي تحمله ، فمن الصعب على الإنسان أن يصبر على شيء لا يعرف عمقه وعاقبته ، لذلك طلب موسى من ذلك العالم أن لا يؤاخذه بما نسي.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ)

هناك أمران ضروريان للتعليم هما :

أولا : على العالم أن يكون واقعيا فيعرف ان الآخرين بشر ، ويتعرضون للنسيان لكون المعارف التي تعطى لهم أكبر من مستواهم ، وعادة ما ينسى الذهن الشيء الغريب عنه.

ثانيا : ان هؤلاء لا يتحملون كسب العلوم بطريقة الصدفة ، انما يحتاج العالم أن يجعل برنامجا متدرجا للتعليم. ولذلك قال موسى :

(وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)

٤٥٧

الإرهاق هو أطباق الشيء على الشيء. وكأن العسر يطبق على الشخص من جميع جوانبه.

ثانيا : يقتل غلاما :

[٧٤] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً)

في المرة السابقة قال عمل عظيم ولم يقل جريمة ، ولكنه في هذه المرة قال : «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» ومرة اخرى قال الخضر (ع) وبأعصاب هادئة :

[٧٥] (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)

فتذكر موسى مرة أخرى الشرط ، وأحس بأنه خالفه للمرة الثانية ، ولأنه كان صادق العزيمة في ارادة التّعلم فقد طلب فرصة أخيرة.

[٧٦] (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)

وهذا أيضا درس للعالم ، فالتلميذ يجب أن يعطي من جهده للاستفادة مما تعلمه ، والاستفادة ليس في سبيل نفسه ، وانما في سبيل تعليمه وتنميته وتربيته ، والتلميذ الحقيقي هو الذي يأخذ الى جنب المعرفة الصفات النفسية الفاضلة ، فيتعلم ، ويتدرب ، وينمي صفاته الحسنة ، ويزكي نفسه ، أما أن يتعلم دون أن يتدرب ، أو يزكي نفسه ، أو يربيها على التضحية والفداء ، فهذا تلميذ غير نافع.

ثالثا : ويبني جدارا :

[٧٧] (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ

٤٥٨

يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)

وهنا رأى العالم (ع) ان هذه هي نهاية المطاف ، وان موسى (ع) لن يستطيع ان يصبر أكثر من ذلك فقال :

[٧٨] (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)

ان ظواهر الأمور لا تكشف دائما عن حقائقها ، لذلك على الإنسان أن يتسلح بالصبر ، والرؤية البعيدة الشاملة ، لكي يعرف الحياة معرفة عميقة ، وآنئذ يتخذ منها موقفا سليما.

٤٥٩

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)

______________________

٧٩ [أعيبها] : أحدث فيها عيبا.

٤٦٠