من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

كالجبال والبحار والصحاري وما الى ذلك.

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

وبديهي ان الخلق ثانية أهون من الخلق ابتداء. ولعل الكفار كانوا يزعمون ان الحديد والحجر لا سبيل الى التحكم فيهما ، باعتبارها صلبة ، وليس كاللحم والعظم ـ في نظرهم ـ أو يزعمون انهما ابعد عن الخلق باعتبارهما جامدين بخلاف البشر المركب من مواد حيّة.

وأجاب السياق عن شبهتهم بان كلامهم يخضع لمقاييس المخلوقين اما الخالق فهو على كل شيء قدير.

(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ)

اي سيهزون رؤوسهم ويمدونها الى الامام في هيئة الشخص المتعجب ويتساءلون متى موعدنا ان كان لنا موعد؟

فمن عادة الإنسان انه إذا احتمل في امر احتمالين ، فانه يحتمل وقوع الأيسر منهما ويستبعد وقوع الاحتمال الثاني ، ويشير هنا ربنا الى استبعاد الإنسان وقوع الآخرة ، ولكنه تعالى يؤكد له هذا الاحتمال فيقول :

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً)

إذ ان مجرد اعتقاد الإنسان بأنه قد يترك الدنيا في ايّة لحظة وان القيامة ستقوم متى أراد ـ الله يجعله متّقيا لله في اعماله صغيرها وكبيرها.

[٥٢] (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً)

٢٤١

فليست الدنيا من الآخرة الا قليل ، إذ ان معدل عمر الإنسان في الدنيا هو سبعون سنة أو أكثر من ذلك بقليل ، وليس لهذه السنين قيمة امام الخلود في الآخرة ـ أما في الجنة وأما في النار ـ.

٢٤٢

وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ

______________________

٥٣ [ينزغ بينهم] : يفسد ويهيج الشر بينهم.

٥٧ [محذورا] : يحذر منه ويتقي.

٢٤٣

أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)

٢٤٤

العلاقات الاجتماعية البناءة

هدى من الآيات :

لكي لا يبث الشيطان روح العداء بين عباد الله ، عليهم ان يختاروا أفضل القول ، ذلك أن الشيطان عدو مبين للإنسان ولا يجوز ان يجعل البشر نفسه وكيلا عن الناس (فيكفّرهم حسبما يشاء ، ويحكم عليهم بعذاب الله).

والله اعلم بعباده فهو (وليس الداعية) يرحم ان شاء ويعذب ان شاء وقد أحاط علما بمن في السماوات والأرض ، وانما يتفاضل الناس بمشيئة الله ، أو ليس قد فضل بين أنبيائه وأتى داود زبورا؟

ويبدو ان هذه الآيات تبين بعض المسؤوليات الواجبة على المؤمنين تجاه بعضهم وتشمل غير المؤمنين ، فالقول الحسن ، وعدم التسرع بالحكم على الناس ، وترك التحاسد جزء من مسئولية المؤمن تجاه أخيه.

٢٤٥

ولعل عوامل الخلاف تنشأ من عدم خلوص التوحيد ، من رواسب الشرك فلذلك يعود السياق الى قضية الشرك وان الآلهة الباطلة لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا.

بل ان من يدعون من دون الله هم بدورهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، يرجون رحمته ويخافون عذابه.

وبالرغم من وجود الآلهة الباطلة فان الله يهلك جميع القوى قبل يوم القيامة مما يدل على انهم لا يملكون دفع الضر عن شعوبهم.

ولقد كذب الأولون بآيات الرب فهذه ثمود كذبوا وظلموا بالناقة وهي آية مبصرة ، وآيات الله ليست الا للتخويف.

والهدف من التخويف هو امتحان البشر وقد أحاط الله بالناس قدرة وعلما ، ولقد امتحنهم بالرؤيا التي أراها رسوله ، كما جعل الشجرة الملعونة في القرآن فتنة (شجرة الزقوم التي يجسدها في الدنيا المجرمون كبني امية) الا ان آيات التخويف لا تزيدهم الا طغيانا كبيرا.

بينات من الآيات :

القول الأحسن :

[٥٣] هكذا اثار المشركون الشبهات حول الرسول ، فما هي مسئولية الدعاة الى الله ، في مواجهة تلك الشبهات؟ الجواب ان محتوى رسالة الدعاة الى الله حق وصواب ، يبقى الأسلوب ، فلو أنهم اتبعوا أحسن الاساليب في الدعوة فندوا تلك الشبهات ولكنه ان لم يتبعوا أفضل نهج للدعوة ، فان الشيطان يستغل الفرصة ، ويضخّم الاخطاء في عين المشركين ، ويزين في قلوبهم العداوة للمؤمنين ومن ثم

٢٤٦

رسالة الايمان بوسيلة الاخطاء التي يرتكبها الدعاة في أسلوبهم كأن يفحشوا في القول ، أو يتطرّفوا.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

يبدو ان العباد هنا هم عباد الله الصالحين.

(إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)

فالشيطان يمشي بين العباد بالعداوة ، ويبث روح العداء ويستفيد من الكلمات النابية بل من سقطات اللسان والاخطاء الّتي يتهاون الناس عادة فيها ، في بث روح العداء بين المؤمنين.

(إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)

فعداوته ليست بجديدة ، وليست بخفية ، وعلى العاقل ان يحذر العدو العنيد المجاهد بعداوته.

فلما ذا نتبع خطوات الشّيطان ، ونعطيه فرصة التوغل بين صفوفنا وزرع الشّقاق بين بعضنا والبعض؟

كيف تنظر الى الناس؟

[٥٤] بعض الناس يحكمون على الآخرين احكاما قاسية دون ان يعرفوا واقع أنفسهم ، وهل رضي الله عنهم أم لا ، فاذا بهم يكفّرون الناس ويفسقونهم ويحصون عيوبهم والحديث الشّريق يقول :

«رحم الله عبدا شغلته عيوب نفسه عن عيوب الناس»

٢٤٧

والإنسان الّذي يدعو الى الله ، ويحمل رسالته الى الآخرين ، هو أقرب الناس الى هذه الزلة الشّيطانية الّتي ينفذ من خلالها الى قلبه يدعوه لتكفير الآخرين واسقاطهم من قائمة المؤمنين.

ويعالج القرآن هذه المشكلة بقوله : لا تحكموا على الناس بالباطل لأنكم قد تحكمون على أحد بالانحراف ثم يتوب فيتوب الله عليه ، بينما يبقى الّذي حكم بينهم بذلك رهين خطأه الّذي قد لا يستغفر منه ، فلا يتوب الله عليه ، وربما يستغفر ولكن الله لا يتوب عليه لان ذلك الشّخص لم يغفر له ، وهذا هو الذنب الّذي لا يترك في الآخرة.

جاء في الحديث : «الا وان الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك ، وظلم مغفور ، فاما الظلم الّذي لا يغفر فالشرك بالله تعالى ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، واما الظلم الّذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات (اي الذنوب الصغيرة) ، واما الظلم الّذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص هناك شديد (اي في الآخرة) ليس هو جرحا بالمدى ولا ضربا بالسياط ، ولكنه ما يستصغر ذلك معه»

أذن قد يدخل الجنة ذلك الإنسان الّذي نعتقد بأنه منحرف فاسق ، بينما ندخل نحن النار ، قال الله سبحانه وتعالى : يصف أهل النار : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ* إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) إذا فلا تحكموا على الناس احكاما ارتجالية بل ليكن مقياسنا في الحكم عليهم بمدى التزامهم بالقيم.

إذن لا تغتر بحسناتك ، ولا تعب على الناس سيئاتهم ، ولا تعتبر نفسك أفضل من الناس. ولعل الشّخص يعيب على أخية فعلا وهو يرتكب ما هو أقبح منه ، بل قد

٢٤٨

يكون ذلك الفرد معذورا في تصرفه دونه ، فلعل ضغوطا تربوية أو اقتصادية أو اجتماعية تكره الفرد على اقتراف ذلك الفعل القبيح ، بينما الّذي يعيبه يرتكب ذات الفعل بلا ضغوط فيغفر الله لصاحبه ولا يغفر له.

(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) :

[٥٤] (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)

بعث الرسول بالرسالة شاهدا ومبشرا ونذيرا ، ولم يبعث وكيلا على الناس يدخل من يشاء منهم في رحمة الله ، ويخرج منهم من يريد. انما هذه المهمة هي مهمة الله وحده.

فاذا ليس باستطاعتك أنت ان ترتب الناس ضمن خانات تصنعها حسبما تريد ، الم تسمع هذا الحديث : عن أبي ذر (رض) : ان رسول الله (ص) قال :«ان رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله : من ذا الذي تالى علي ان لا اغفر؟ فاني قد غفرت لفلان ، وأحبطت عمل الثاني بقوله : لا يغفر الله لفلان»

[٥٥] (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

اي ربك اعلم بالناس وبأعمالهم ماذا سيفعلون؟ لاحظ وجود (من) الموصولة الّتي تأتي للعاقل فنستطيع ان نقول : ان ربك اعلم بالذي في السماوات والأرض من الجنس العاقل سواء كان بشرا أم ملائكة.

(وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ)

الأنبياء كسائر البشر خلقوا بتفضيل وأفضل من الأنبياء الرسل فأفضل الرسل

٢٤٩

خمسة : وهم أولوا العزم وأفضل اولي العزم رسول الله (ص) وقد قال رسول الله في حديث له :

«فضلت على سائر الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب من مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت الى الخلق كافة ، وختم بي النبيون»

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) يبدو ان زبور داود هو كتاب دعاء ومناجات مع الله سبحانه ، وكما هو معلوم فان عدد كتب الله مائة واربعة وعشرون كتابا ، انزل كل كتاب ليواكب ذلك الظرف الزمني المعين ولعل ذكر زبور داود دون غيره كان للأسباب التالية :

١ ـ ان الله بشر فيه بالنبي محمد (ص) وانه سوف يورث أرضه عباده الصالحين.

٢ ـ ان اليهود زعموا ان الله لم يرسل بعد موسى أحدا وكان داود بعده نبيا مرسلا باعترافهم.

٣ ـ ان تفاضل الأنبياء لم يكن بالملك بل بالرسالات ، فبالرغم من ان داود كان ملكا لم يذكر الله هنا ملكه بل ذكر الكتاب الّذي انزل عليه وهو الزبور وهو يتميز بين سائر الكتب بأنه كتاب دعاء وكان هذا أعظم ميزة له بين سائر الكتب.

الآلهة الزائفة :

[٥٦] (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)

لا بد ان نجعل الايمان بالله محورا لحياتنا وتحركنا ، لان ما دونه من الآلهة لن

٢٥٠

تستطيع ان تنفعنا أو تضرنا ، وهم بالاضافة الى ذلك أعجز من ان يقوموا بما نريد بل يعجزون عن القيام بما يريدون لأنفسهم ، فكيف يقومون بحاجات الناس ، وهنا نلاحظ من كلمة (زعمتم) اي ادعيتم وصنعتم ، فالإنسان هو الّذي يصنع الطاغوت المتسلط ، ويصنع الصنم الجامد ، ويصبغ عليه القوة ومن بعد ذلك يخافه ، وهو يعلم انه لا يملك كشف الضر عنه عوضا عن تحويله.

[٥٧] (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)

هؤلاء الأولياء الذين يزعمون بأنهم آلهة انما هم عباد له ضعفاء يبتغون رضا ربهم ، ويريدون الوسيلة اليه ، فكلهم فقير محتاج الى رحمته ، ويريد الزلفى اليه بفطرته وربما بإيمانه أيضا في هذه الآية ، وفي آيات مشابهه تحيّر طائفة من المفسرين وتساءلوا من هم أولئك الذين يدعون وكيف انهم يبتغون الوسيلة الى الله ربهم؟

زعم البعض انهم الأصنام ، بينما قال البعض انهم الملائكة والعباد الصالحون الذين اتخذهم اتباعهم أربابا من دون الله.

والواقع ان ذاك وهذا بعض معنى الآية ، الا ان المعنى الاشمل هو كل شيء أو شخص يطاع من دون الله ، ولان أغلب أبناء آدم يعبدون من دون الله ، ذوي القوة والثروة والجاه ، كالملوك والقيادات السياسية والمترفين والأحبار والرهبان.

فان الآيات فيما يبدو تشمل هؤلاء بل تركز عليهم وتسعى لتحرير البشر من نير عبوديتهم ولعل قراءة سريعة لآيات الشّرك توحي إلينا بان الآلهة المعبودة من دون الله هم عادة بشر ، يقول ربنا سبحانه وتعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) (٨٦ / النحل)

وقال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ)

٢٥١

(وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٦٤ / آل عمران)

وقال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٣١ / التوبة)

وقال : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩ / يوسف)

وقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (١٦٥ / البقرة)

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (١٩٤ / الأعراف)

وهكذا نستوحي من هذه الآيات ان الأرباب والأنداد والشّركاء عباد من البشر.

(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)

هؤلاء يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ، ومن الملاحظ ان الرجاء ليس بمرتبة الخوف ، فالخوف من العذاب يصلح الإنسان أكثر مما يصلحه الرجاء ، جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع):

«فمن اشتاق الى الجنة سلا عن الشّهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات»

ان الخوف من النار يمنع الإنسان عن المحرمات وبينما رجاء الجنة يبعد الإنسان عن الشّهوات.

سنة العذاب :

[٥٨] (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها)

٢٥٢

(عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)

قال بعضهم انه : عند ما يتحدث الله عن بلدة طيبة في القرآن يسميها بلدا أو مصرا ، وعند ما يتحدث عن بلده سيئة يسميها قرية مهما بلغت من الضخامة.

وكانت الآية تشير الى قضية مهمة جدا في حياة القرى الّتي تشذ عن امر الله حيث يكتب عليها العذاب منذ بداية انحرافها ، ولكن مع وقف التنفيذ ، فربما يرسل العذاب في هذه اللحظة وربما لا يعذبهم الا بعد سنين من المعاناة ، ونلمس من هذه الآية : ان الله اعطى الإنسان مهلة ، وعليه ان يتحمل تنفيذ الحكم الرباني عليه ان حاد عن طريقه كما ان الآية تشير الى طبيعة البشر النازعة الى الانحراف حيث تجلب إليها عذاب الرب.

[٥٩] (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)

ليست مشكلة البشر قلة الآيات بل المشكلة هي ان الناس لا يستوعبون الآية ولا يعرفون قيمتها وبالتالي يكذبون وابرز مثال على ذلك قوم ثمود.

(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها)

هذه الناقة كانت آية جلية واضحة إذ خرجت إليهم من الجبل الأصم نستقيهم اللبن ، ولكن مع الأسف هذه الناقة سببت لهم مصيبة كبري إذ ظلموا أنفسهم بسببها.

السياق القرآني يحذرنا من طرف خفي من ان نطالب أبدا بالآيات دون ان نكون مستعدين لها ، إذ لو نزلت الآيات ثم كفرنا بها فقد استوجبنا عذاب ربنا الشّديد فنكون قد ظلمنا أنفسنا بتلك الآية ، كما فعلت ثمود.

٢٥٣

وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة : حديث مأثور عن الامام الباقر عليه السلام ان محمدا (ص) سأله قومه ان يأتيهم بآية ، فنزل جبرئيل وقال : ان الله يقول : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وكنا إذا أرسلنا الى قرية آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك آخرنا عن قومك الآيات(١)

(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)

اي ان هناك نوعين من الآيات فآية مبصرة مثل ناقة صالح كفروا بها فأتاهم العذاب وآية تخوفهم وتنذرهم بعذاب الآخرة مثل البأساء والضراء.

ولان الله ختم بنبيه محمد (ص) الرسل فقد أرسل الآيات تخويفا بالقيامة ولم يرسلها بحيث يجلب العذاب لو كفروا بها.

الرؤيا :

[٦٠] ما هي الرؤيا؟ يبدو ان لدى كل واحد منا حاسة سادسة ونعني بذلك الحس الّذي يلتقط الارهاصات الّتي يشعر بها مثل النعمة أو المصيبة ، وتلعب هذه الحاسة دورا أساسيا أثناء الظروف الصعبة حيث النفوس ملتهبة ولعل الرؤيا هي جزء من هذه الحاسة ذلك لأن الإنسان في حالة اليقظة يحجبه عن رؤية الحقائق وتفهمها ما يشاهده بعينه وما يبتلى به في حياته اليومية ، بينما في النوم حين الاحاسيس الاخرى هامدة تبقى الحاسة السادسة هي الفعالة فيرى الإنسان الأمور ، وكثيرا ما يحذر الله الإنسان من المستقبل وأمور عديدة في حالة النوم ، الا ان غالبية بني البشر ولتورطهم بغرور الدنيا ونعم الله فيها ، لا يستفيدون من رؤياهم ، ولا من احساسهم بالخطر المحدق بهم ، ولعل الآية تشير الى هذه النعمة.

__________________

(١) تفسير الصافي ج ٣ ص ١٩٩

٢٥٤

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ)

علما وقدرة.

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)

يعني تجربة واختبارا لهم.

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)

اي وجعلنا هذه الرؤية اشارة للشجرة الملعونة.

(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً)

والله تعالى يقول في الآية الّتي تليها : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً).

ان حالة الغرور والتكبر والاستعلاء على المؤمن وعلى آيات الله المحذرة والنذيرة ، كل ذلك نابع من خطأ قديم ارتكبه أبونا آدم ، دفعه الى ذلك إبليس الّذي تكبر على السجود لله تعالى وهذا لا يزال يزيد الإنسان غرورا وكبرا.

الشّجرة الملعونة :

ما هي الشّجرة الملعونة في القرآن؟

لقد اختلفت التفاسير في معنى هذه الآية فبين من قال ان الشّجرة هذه هي شجرة الزقوم أو اليهود ولكن من بين الأقوال تفسيرا أرتضيه ، وقد وردت فيه روايات كثيرة ومن كافة المذاهب الاسلامية وقبل بيان هذا التفسير ورواياته هناك فكرة هامة علينا بيانها لا ريب ان رسالة الإسلام هي أعظم وأكبر ظاهرة شهدها كوكبنا

٢٥٥

الارضي ، ولا ريب ان ما جرى على هذه الظاهرة الكونية الكبرى من تغيرات هائلة هي الاخرى تتسم باهمية كبري أيضا ، وأهم تغيير جرى على هذه الظاهرة هو تغير القيادة الاسلامية من الخلافة الراشدة الى ملك عضوض نزى عليه الامويون ، وهذا التغيير هو أكبر انحراف حدث في الامة الاسلامية ومن الطبيعي والإسلام رسالة غيبية ، ان لا يسكت عن هذه الانحرافة الكبرى ، وهذا التغيير الخطير في رسالة الله ، والله الّذي يحب رسالته ورسوله والامة الاسلامية لم يترك الأمر الا وقد أشار اليه بطريقة أو بأخرى ، ولم تكن هذه الاشارة واضحة كأن يذبح الرسول (ص) قادة بني امية جميعا ، لان هذا ليس من شأن الرسالات الإلهية لان الله يريد اختبار الناس وامتحانهم ، وفي نفس الوقت لا يدع الله الأمر من دون حجة بيّنة بل يشير الى الحق والباطل ، ثم يترك المجال مفتوحا لاختيارهم الحق أو الباطل.

والتفسير المختار هو ان الرؤيا هي رؤيا الرسول (ص) في منامه ان قردة ينزون على منبره ويتثاوبون عليه ، والرسول قال هذا الكلام للناس ولكن من الّذي عقله؟

أهل الذكاء والفطنة ، وأهل التوسّم الايماني هم فقط الذين عرفوا بان منبر الرسول (ص) مركز قيادته ، وان هناك فئات من الامة سوف تسعى لهذا المركز دون حق ، هم بنو امية اما الآخرون فقالوا ان طيف الرسول كطيفهم لا اثر له ، وحقيقة الأمر انه يختلف تماما ، ونبي الله إبراهيم أراد ان يذبح ابنه بسبب رؤيا.

«قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ» فقال له ابنه نبي الله إسماعيل «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وهكذا كانت رؤيا الأنبياء وحيا.

من هنا جاء في الحديث ان ذلك رؤيا راه النبي في منامه ، ان قردة تصعد منبره وتنزل فساءه ذلك واغتّم به.

٢٥٦

روى سهل ابن سعيد عن أبيه قال : (ان النبي (ص) رأى ذلك وقال انه (ص) لم يستجمع بعد ذلك ضاحكا حتى مات).

وروى سعيد ابن يسار وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (وقالوا على هذا التأويل ان الشّجرة الملعونة في القرآن هي بنو امية أخبره الله سبحانه وتعالى بتغلبهم على مقامه وقتلهم ذريته).

وروي عن المنهال ابن عمر قال : دخلت على علي ابن الحسين عليهما السلام فقلت له : كيف أصبحت يا ابن رسول الله (ص).

قال : (أصبحنا والله بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وأصبح خير البرية بعد رسول الله ، يلعن على المنابر ، وأصبح من يحبنا منقوصا حقه بحبه إيانا).

وقيل للحسن البصري : يا أبا سعيد قتل الحسين ابن علي.

فبكى حتى اختلج جنباه (اي تحرك كتفاه) ثم قال : وا ذلاه لامة قتل ابن دعيها ابن بنت نبيها.

٢٥٧

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦)

______________________

٦٦ [اجلب] : الاجلاب السوق ، يجلبه من السائق والجلب شدة الصوت.

٦٦ [يزجي] : الإزجاء سوق الشّيء حالا بعد حال.

٢٥٨

وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)

______________________

٦٩ [قاصفا] : القاصف الكاسر بشدة قصفه.

٢٥٩

الإنسان بين كرامة الله وغرور الشّيطان

هدى من الآيات :

لماذا يتمرد البشر عن مسئولياته ، وما هو جزاء المتمردين ، وما هو جذر الشّرك بالله؟

لنعد الى قصة الخلق الاول : فمن عرف البداية هدي الى العاقبة ، نتذكر قول الله للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس استكبر وعلا بغير حق فقال انا نار (اسجد لمن خلقت طينا) فلما لعنه الله ، قال : سترى كيف أضل ذرية هذا الّذي كرمته عليّ ان اخرتني الى يوم القيامة ، الا قليلا منهم وأنذره الله ومن تبعه ان جزاءهم جهنم جزاء وافيا.

وبالرغم من ان الشّيطان سوف يستفزهم بالتضليل.

ويرهبهم بجيشه ، ويتداخل معهم فيشاركهم في الأموال والأولاد ويحذرهم

٢٦٠