من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

أملا ، والا فجزاؤه جهنم ولا يظلم ربك أحدا. وهكذا يحدد لنا نظرة (مسئولة) الى زينة الحياة وان المراد من تطوراتها هو فتنة البشر وابتلاؤه ليعلم مدى مسئوليته.

والمثل الذي يضربه القرآن عن الحياة الدنيا وزينتها ، مستوحى من دورة الربيع ، حيث ينزل الماء من السماء فاذا بالنباتات المختلفة تخرج من الأرض ، وتجعل الإنسان يزعم بأنها باقية ودائمة ، وإذا بأيام الربيع تنقضي ويأتي الصيف فتحرق الشمس اللاهبة كل تلك النباتات ، وتحولها الى هشيم متفتت تذروه الرياح.

فما الذي يبقى بعد كلّ هذه الدورة؟

الشيء الوحيد الباقي هو قدرة الله التي تغيّر ولا تتغيّر ، تلك القدرة التي كانت ولا تزال ولن تزول ، وكما تتغيّر الطبيعة. بفعل تقدير الرب الحكيم. فان الدنيا كلّها تنقلب في كف القدرة الإلهية ، وتعود كما بدأت ، وتقوم الساعة ويسيّر الله الجبال على عظمتها ، وتبرز الأرض بلا زينة ولا نتوءات. ويحشر الله الناس جميعا دون استثناء ، ويقف الناس مصطفين امام رب العزة ، ويقرر النداء الإلهي واقعهم الضعيف انهم عادوا كما خلقهم الله لا يملكون ايّ شيء. وان هذه هي الساعة التي كفروا بها. وإذا بكتاب أعمالهم موضوع أمامهم يشفق منه المجرمون ويزعمون لأنفسهم الويل لأنّ الكتاب لم يغادر صغيرة من أفعالهم ولا كبيرة الا أحصاها.

هكذا تتجلى مسئولية البشر والتي هي الغاية من زينة الحياة الدنيا.

بينات من الآيات :

مثل الدنيا :

[٤٥] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)

٤٢١

الماء أنزله الله ، فبدل ان نعتمد نحن على الماء ، ونبني حضارتنا وقيمنا الفكرية عليه كما فعل الفراعنة ، ينبغي أن نعتمد على رب الماء والمهيمن عليه وعلى كل شيء ونبني حضارة الهية سامية.

(فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ)

اي اختلط نبات الأرض بعضه مع بعض بواسطة الماء ، والماء هو الذي جعل هذه النباتات التي كانت بذورا تحت التراب تنمو وتختلط بقدرة الله ، والإنسان يرى وكأن النباتات قائمة بذاتها ، ولا يعلم بأن قسما كبيرا منها يشكله الماء ، الذي جاء من السماء ، وسوف يغور في الأرض أو يعود الى السماء ثانية عن طريق التبخر. وهنا لون آخر من ألوان الغرور وهو : اعتقاد الإنسان بان هذه الاعشاب نباتات ، بينما هي في الواقع مياه قد تشكلت بهذا الشكل ، وإذا ذهبت تلك المياه فان تلك الاعشاب تتحول الى هشيم تذروه الرياح ، لا تقف على سوقها ، ولا تثبت في مكانها.

(فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ)

بعد ان كانت النباتات تبدو ثابتة مستقرة ومختلطة ، بعضها يدعم بعضا ، تحولت الى هشيم متفتت تنقله الرياح من مكان الى مكان.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)

وقدرة الله هي التي تحرك هذه الدورة التي تشبه سائر دورات الحياة ، وعند ما تنظر بمقياس تاريخي الى بعض الدورات التاريخية ، فانك ترى حضارة جاءت ونشأت وجرت عليها الأجيال ، ثم اضمحلت وبادت وانتهت ، والشيء الوحيد الذي بقي لنا منها هو سنة الله ودلائل قدرته ، وكلمة «كان» تدل على الماضي أو على

٤٢٢

الاستمرار ، فاذا دلت على الماضي فذلك يعني ان الشيء الذي سبق كل هذه الحياة انما هو قدرة الله ، اذن فهي التي ستبقى لأنها كانت ولم تكن الحياة ، وسوف تكون بعد ان تنتهي الحياة.

الباقيات الصالحات :

[٤٦] (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا)

لأنها أشياء تشبه تلك النباتات التي تختلط وتلتف ببعضها ، وهي زينة يجب ان يستفيد الإنسان منها على هذا الأساس لا أكثر ، اما إذا أراد ان يعتمد عليها اعتمادا كليا فسوف يسقط.

والوردة الجميلة الجذابة ذات العبق الطيب انما هي زينة ، ولا يمكن ان تستند عليها لأنها تقع ولو فعلت ذلك فستقع معها.

والمال والبنون هكذا ، فبقدر ما تتعب وتحصل على المال وتبني بيتا تستفيد منه ، أو تحصل على بنين يسر قلبك لمرآهم ، وترتاح نفسيا بهم ، بهذا المقدار سائغ لك ، أما أن تغترّ بالمال والبنين فهذا خطأ كبير ، لأن هذا المال ليس باق وحتى إذا بقي فأنت لا تبقى له ، والبنون لا يبقون لك أو لا تبقى معهم ، وينتهي دورهم بانتهاء دور الزينة. فما الذي يبقى لك؟

عملك هو الذي يبقى. وما تدخره لنفسك من الصالحات هو الذي يدوم ، وهو الذي يشكل زينة الحياة الآخرة.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)

فبدل أن تدخر جهدك في الأموال وتكدّسها على بعضها ثم تذهب في لحظة

٤٢٣

واحدة ، أو تتعب نفسك وترهقها من أجل الأولاد ثم فجأة يقلبون عليك ظهر المحن ويتركونك وحدك ، بدل كل ذلك اعتمد على الله بالأعمال الصالحة.

ما هي الأعمال الصالحة؟

أن تجلس في البيت وتذكر ربك وتسبحه؟ وتصلي الفرائض الخمس بنوافلها؟ أم تزكي وتخمس؟ أم تجاهد؟ أم تبني مصنعا وتعبّد شارعا من أجل الله وفي خير المجتمع؟

كل ذلك عند ما يكون خالصا لوجه الله ، فهو من الباقيات الصالحات ، وهي تنقسم الى نوعين :

النوع الاول : ما يرى الإنسان جزاءه عليه في الآخرة فقط ، وان كان يعود بالفوائد المعنوية في الدنيا كالصلاة ، والتسبيح ، والذكر وغيرها.

النوع الثاني : ما يرى الإنسان جزاءه في الدنيا أيضا كما لو بنى حضارته ، ذلك لأن الحضارات هي المكاسب البشرية الباقية ، فما تأكله وتشربه ليس حضارة ، أما الذي تبنيه فهو جزء من الحضارة ، والذي تعرفه قد لا يكون من الحضارة ، ولكن الذي تقوله أو تكتبه من العلوم فهو من المكاسب الحضارية ، وبتعبير آخر من المدّخرات الحضارية للمستقبل.

والحضارة انما تبدأ ، وتنمو ، وتبقى عن طريق أولئك الذين يفكرون في المستقبل فيدّخرون الأعمال الصالحة للمستقبل ، يعبّدون الطرق ، ويعمّرون المدن ، ويبنون المصانع. و.. و.. التي تبقى.

والامة التي تستهلك أكثر مما تنتج ، وتهدم أكثر مما تبني ، وتفسد أكثر مما

٤٢٤

تصلح ، فانها لا حضارة لها ومصيرها الى الاندثار.

أما المجتمع الذي يعمل فيعطي لما يبقى أكثر مما يعطي لما يفنى ، وينتج أكثر مما يستهلك ، وبالتالي يصلح أكثر مما يفسد ، فانه مجتمع يبني الحضارة ويحميها.

ونظرة القرآن للمستقبل تنقسم الى شقين :

نظرة الى المستقبل في الحياة الدنيا ، ونظرة الى المستقبل في الآخرة ، والحديث الشريف يقول : «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لأخراك كأنك تموت غدا» مشيرا الى هذا المفهوم ، وهو : ضرورة العمل للمستقبل بشقيه الدنيوي والأخروي.

ويشدد الإسلام على هذا الموضوع أكثر حينما يقول رسول الله (ص): «إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيل فليغرسها» ، اي إذا كان بيدك شتلة ، ورأيت أشراط الساعة قد ظهرت وقامت القيامة ، فلا تتوقف عن عملك ، بل اغرس تلك الشتلة ، وذلك تأكيده على ضرورة العمل للمستقبل.

صور من القيامة :

لكي تتعادل نظرة الإنسان فلا يغتر بالحياة الدنيا ، لا لكي تتعادل نظرة الإنسان فلا يغتر بالحياة الدنيا لا بدّ أن يذكّر بالآخرة. وبمدى حاجته هنا لك للباقيات الصالحات. وهكذا يذكّرنا الرب هنا بذلك اليوم الرهيب. بلى ذلك اليوم الذي تعود الدنيا كما بدأت وتنتهي هذه الدورة الحياتية على الأرض التي تشبه دورة الربيع. الم يقل ربنا «مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا» بلى ذلك كان المثل وهذه هي الحقيقة ، وان قدرة الله التي قلبت الطبيعة عبر فصول العام هي التي تقلبها عبر دورة الوجود.

ولو نظرنا الى الوجود من خلال هذه البصيرة القرآنية إذا لهانت زينة الدنيا في

٤٢٥

أعيننا ، ولتحمّلنا مسئوليتنا ، وأخذنا من هذا المعبر السريع لذلك المنزل الباقي ، أليس كذلك؟ دعنا نعيش لحظات في عمق المستقبل الحق. في يوم النشور الرهيب.

وينتقل بنا السياق ليصور لنا مشهدا من مشاهد القيامة ، حيث تنتهي جاذبية الأرض ـ كما يبدو لي ـ وتصبح كالعهن المنفوش وتنبث بثا وتسيّر تسييرا. يقول تعالى :

[٤٧] (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ)

هذه الجبال على عظمتها وضخامتها تتحرك ، وإذا تحركت الجبال ولم تثبت في مكانها فهل أستطيع أنا أن اثبت في مكاني؟

كلا .. كذلك زينة الحياة الدنيا ، فلا يمكنك أن تعتمد على شيء وتركن إليه ، لان هذا الشيء غير ثابت للأبد.

(وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً)

لا شيء يستقر على الأرض ، لا بناء ولا شجر ولا تلال ، فتصبح (بارِزَةً. وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)

فلا ينسى الله أحدا لان قبره في مكان بعيد ، أو لأنه مات منذ زمن طويل ، أو لأنه لم يسجل اسمه في القائمة ، لا شيء من ذلك أبدا ، فكل الناس بلا استثناء يقفون على أرض المحشر التي تكون بارزة ، مكشوفين لا شيء يسترهم.

[٤٨] (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)

٤٢٦

ثم تأتي مرحلة الاصطفاف بين يدي الله عز وجل ، في صفوف لا يعلم مداها ، الا الله حيث يتواجد آنذاك كل الناس الذين خلقهم الله منذ ملايين السنين والى يوم القيامة.

(لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

أين الأموال؟ وأين البنون والعشيرة؟ وأين الألقاب والمناصب؟ لا شيء بقي من ذلك اليوم.

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)

كنتم تتصوّرون ان يوم القيامة لن يأتي وقد أتى اليوم ، فأين أنتم منه؟

قال رسول الله (ص) عن الناس يوم المحشر : «يحشرون حفاة عراة غرلا (والغرل هم الغلف) فقالت عائشة حين سمعت ذلك : واسوأتاه! أينظر بعضهم الى سوأة بعض من الرجال والنساء؟! فقال (ص) : لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه ويشغل بعضهم عن بعض»

فابصارهم تكون شاخصة الى الأهوال والاحداث الرهيبة التي تأخذ مجراها في ذلك الوقت ، ويكون تفكيرهم منصبا على مصيرهم.

[٤٩] (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)

ويتعجبون : كيف رصدت كل التفصيلات الدقيقة ، المادية والمعنوية فيها فيرتجفون خوفا ، لان كل جرائمهم مكتوبة ، وهم مسئولون عنها.

(وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا)

٤٢٧

أي الويل والثبور علينا.

(ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها)

كل سيئة أو خصلة أو حالة نفسية مسجلة في الكتاب ، وحتى النوايا القلبية والأفكار الذهنية تظهر واضحة امامهم.

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً)

امامهم ، وليس اسم العمل وحده الذي يسجل ، بل ويصبح العمل مجسما يرونه ويحسونه ، فالطيب منه يتحول الى صور طيبة يوم القيامة ، بينما يتحول السيء الى صور مرعبة كالعقارب ، والحيات ، والنيران ، والأغلال ، والظلمات .. و.. و.. لا بظلم من الله ـ حاشاه ـ فهو لم يخلق الناس ليعذبهم بل ليرحمهم ، وانما يحصد الإنسان ما يزرعه في الدنيا ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)

٤٢٨

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)

______________________

٥١ [عضدا] : معينا.

٥٢ [موبقا] : كل شيء حال بين شيئين.

٥٣ [مواقعوها] : المواقعة ملابسة الشيء بشدة.

[مصرفا] : مكانا ينصرفون إليه.

٤٢٩

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦)

______________________

٥٦ [يدحضوا] : الإدحاض هو الذهاب بالشيء الى الهلاك.

٤٣٠

ولاية الله أم ولاية الشيطان؟

هدى من الآيات :

في سياق بيان القرآن الحكيم لزينة الحياة الدنيا وموقف الإنسان منها ، ذلك الموقف المتسامي الذي يجعله يمتلك هذه الزينة بدل ان تمتلكه ، يعالج القرآن أخبث صفة تجعل الإنسان يتكاثر في الأموال والأولاد وهي التعالي والتكبّر ، ويذكرنا الرب بعاقبة إبليس أو من تمرد على ربّه واستعلى ، ويأمرنا بمقاومته ، كما يبين ، ـ في هذا الإطار ـ موقف المؤمن من طائفة المستكبرين.

يبيّن طبيعة هؤلاء ليوجد حاجزا نفسيّا بين المؤمن وبينهم ، فيضرب في الأعماق التاريخية حينا ، ويصوّر المستقبل البعيد حينا آخر.

اما من التاريخ فيضرب الله لنا مثلا من واقع ، إبليس الذي استكبر ورفض أن يسجد لآدم بعد أن سجدت له الملائكة جميعا ، وكان إبليس من الجن. الذين هم أقل رتبة وأدنى درجة من الملائكة.

٤٣١

ويوحي القرآن من هذا المثل بهذه الفكرة ، ويتساءل السياق مستنكرا : كيف تعبدون إبليس المستكبر المتمرد على سلطان الله أو تعبدوا ذريته وهو لكم عدو مبين؟

من المستقبل يبين الله لنا كيف أن المجرمين حينما يرون النار ، ويتصورون أنفسهم وهم ملامسون لها ، فأن فرائصهم ترتعد خوفا وشفقة على أنفسهم ، ولكن أنّى لهم الهروب من النار؟!

وبين هذا المستقبل وذلك التاريخ ، على الإنسان ان يحدد موقفه من الثروة والسلطة وأصحابهما المستكبرين وهم ذرية إبليس ، وسبب الفساد في الأرض.

بيّنات من الآيات :

لمن الولاية؟!

[٥٠] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)

لقد كان إبليس من الجن ، وكانت الملائكة ارفع منهم درجة ، وقد أمر إبليس كما الملائكة بالسجود لآدم ، ولكنه خرج عن الطاعة ، والفسوق هو : الخروج عن الحدود ، وربما يكون الخروج أحيانا من مكان ضيق الى آخر رحيب ، أو من مكان غير مناسب الى آخر مناسب ولكن عند ما يكون الخروج من الحدود المرسومة للشيء ، مثل أن يخرج الإنسان من الحمى ، أو إذا خرجت الفاكهة من قشرها فأن ذلك يسمى فسقا ، لأن هذا الخروج خروج غير مناسب ، وهو يؤدي الى نتائج سلبية.

يقول القرآن الحكيم ان خروج إبليس عن الطاعة كان فسقا أي كان سببا لفساده وهلاكه.

٤٣٢

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)

أي هل من الصحيح أن تتخذوا إبليس وليا من دون الله ، بينما ولي الإنسان هو صديقه الذي يحبه ، بينما إبليس قد تمرد على الله واستنكف عن طاعته ، فكيف لا يستكبر على الناس وهو عدوّ لهم؟!

(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)

انه بديل سيء لمن يتخذه وليّا من دون الله ، ولكن من الذي يتخذ إبليس وليا؟

انهم الظالمون ، فعمل الإنسان يؤثر على عقله وعقيدته ، فظلمه للآخرين ومن ثم ظلمه لنفسه ينعكس على عقيدته ، ولا يبتعد الإنسان عن الشيطان الا إذا كان مؤمنا ، لذلك فأن القرآن غيّر توجيه الكلام فلم يقل : بئس لكم بدلا ، وانما قال : «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً».

[٥١] (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)

ان هؤلاء لا يعلمون ما في السماوات والأرض ، وبالتالي لا يصلحون للقيادة ، والولي القائد هو : الذي يعرف ماذا في السماوات حتى يمكنه أن يقود الناس بالطرق الصحيحة ، وربما تعني الآية الكريمة من تعبير السماوات والأرض التشريعات المعنوية والطرق المادية للحياة ، وهؤلاء لا علم لهم بها لأنهم لم يشهدوا الخلق ليعرفوا ما يناسبهم من تشريعات ، وليس هناك مصدر آخر للمعرفة غير الله.

بينما الله سبحانه وتعالى لم يكن فقط شاهدا على الخلق ، وانما كان خالقا بالتالي فهو أعلم بما في السماوات والأرض وأولى بأن يتبع هداه ، أن هؤلاء لا يعلمون ولا يعرفون حتى أنفسهم ، والذي لا يستطيع أن يقود نفسه الى الخير والهدى ، فهل يمكنه ان يقود الآخرين؟!

٤٣٣

ومن جهة أخرى : لا يتصور الناس بأن الإنسان الضال يمكن ان تنفعهم قدرته وقوته شيئا. كلا .. لأن الضلالة تسبب فساد القوة والقدرة مهما كانت كبيرة وهائلة ، ويذكرنا القرآن بهذه الحقيقة فيقول :

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)

الذي يضلك لا يمكنك ان تتخذه عضدا لك ، ونلاحظ هنا ان القرآن قد وصف المضلين وهم جمع بكلمة «عضدا» وهي مفرد ، ولم يقل : اعضادا ، لأنه يريد ان ينفي الموضوع تماما.

وذلك أبلغ لأن الإنسان قد لا يتخذ مجموعة أعضاد ، وانما يأخذ عضدا واحدا ، ونفي المجموع ليس ينفي الفرد الواحد. بينما نفيها حيث تنفي حتى الواحد فانه يعني المجموع أيضا ليس موجود.

حرام أن يتخذ الإنسان في حياته الدنيا رجلا ضالا عضدا يستعين به ، وبهذه الدرجة من العنف ينفى القرآن مسألة الاستعانة بالظالمين والتعاون معهم في أي حقل من الحقول.

وجعلنا بينهم موبقا :

[٥٢] (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)

في يوم القيامة يأتي الله بالناس الذين اتخذوا الشيطان وذريته قادة ويقول : سأدعكم الآن لفترة تنادون أولئك القادة الذين كنتم تستعينون بهم في الدنيا ، فيقفون ويصيحون حتى تبحّ أصواتهم ولكن دون جدوى.

(فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً)

٤٣٤

بين الشركاء والمشركين هوة سحيقة ومهلكة ، يسميها القرآن بالموبق وهي : الفجوة العميقة الفاصلة بين شيئين ، ولكن لماذا هذه الفجوة؟

بالرغم من أن هؤلاء وأولئك في كثير من الأحيان يسلكون سبيلا واحدا ، ومصيرهم جميعا الى النار؟ لعلّ هذه الهوة العميقة ترمز الى الهوة التي يجب أن تكون بين الإنسان والشركاء.

[٥٣] (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها)

تأملوا هذ المشهد : الكفار لم يظنوا أو تصوروا أنهم سيقعون في النار ، وانما تصوروا لمسهم للنار واحتكاكهم بها فقط.

(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً)

وجري بنا ان نتصور نحن هذه الحالة أيضا ، فنحن لم نر تلك النار اللاهبة الشديدة ، ولكننا نستطيع أن نتصور أنفسنا واقفين على نار قعرها عميق ، وحرّها شديد ، وعذابها غليظ ، ونتخيّل تلك النيران المحرقة وهي تلامس أجسادنا دون أن نجد مهربا منها ، لنتصور هذه الحالة ، فأن التصور يقرب الحقيقة الى ذهن الإنسان ويقوم بدور الوسيط بينه وبين الحقائق البعيدة ، وبالتالي فهو يربي الإنسان وينمّي تقواه.

ان الطالب الذي يتصور قاعة الامتحانات في آخر السنة الدراسية ، يتحصن ضد السقوط عند ما يدخلها ليؤدي الامتحان عمليا ، وهكذا الفرد الذي تتاح له فرصة الجريمة ، ولكنه حين يتصور قاعة المحكمة انه يبتعد عن الجريمة ، كذلك نحن إذا تصورنا تلك النيران في جهنم سنمتنع عن المعاصي والفساد.

ذلك هو التاريخ البعيد ، وهذا هو المستقبل القادم ، وبينهما ينثني السياق

٤٣٥

القرآني ليذكرنا ويقول : ايها الناس تلك كانت قصص ماضيكم ، وتلك حوادث مستقبلكم ، فانتبهوا لحاضركم.

كيف نتخلص من طبيعة الجدال؟

[٥٤] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)

كل تجسيد للحقيقة يسمى مثلا ، والقرآن يجسد الحقائق المجردة في امثلة تاريخية مضت أو حوادث مستقبلية تقع ، لكن لماذا ، لكي يقرب هذه الحقائق المجردة الى أذهان الناس وقلوبهم ، ولكن الإنسان مهما أوتي من أمثال ، وصرفت له من قصص وحوادث ، تراه يجادل فيها.

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)

الإنسان يبحث عن أي وسيلة يتهرب بها عن حفظ أمانة العقل ، وثقل مسئولياته انه يبحث عن مخرج من الهداية للصعوبة القصوى التي يعانيها في رحلته الشاقة من ارض الطبيعة الى قمة الكمال ، وما دامت طبيعته الجدل ، فأن عليه أن يعمل جاهدا لكي يقاوم هذه الطبيعة ، ويعرف بأنه لو ترك نفسه وشأنها فإنها نزاعة للهوى وأمارة بالسوء ، تدعوه الى الجدل والابتعاد عن الحقيقة والهبوط الى حضيض الشهوات.

ان عليك ايها الإنسان ان تقاوم ، العلم بحاجة الى جهاد ، والهدى بحاجة الى سعي ، والكمال بحاجة الى مقاومة مستمرة لنوازع الهوى حتى تكتمل.

ولعلّنا لو تعمقنا قليلا في كلمة الجدل نصل الى معرفة طبيعة الإنسان التي هي مخلوقة من مجموعة متناقضة من الأهواء ، والنزعات ، والتطلعات وما أشبه ، فالإنسان

٤٣٦

دائما في حالة صراع وتجاذب داخلي ، ففي نفسك توجد مجموعة جواذب مختلفة كل يجذبك الى جهة ، عنصر يجذبك الى طاعة الآباء ، وآخر يدعوك الى الغلو في حب الأبناء ، وثالث يدعوك الى الذوبان في تيارات وهكذا ، وكل هذه العناصر لها تأثير على عقلك وتفكيرك ولا يمكنك الكمال الا إذا قطعت كل حبال الطبيعة.

لذلك جاء في الأحاديث أنه يوجد في قلب كل إنسان ٣٣ ملكا و٣٣ شيطانا ، وهؤلاء الملائكة أحدهم يمثل الصبر ، والثاني يمثل اليقين ، والثالث يمثل التقوى .. إلخ وأولئك الشياطين أحدهم يمثل الغيبة ، والثاني يمثل التهمة ، والثالث يمثل الفجور .. إلخ .. والملائكة والشياطين جميعا وما يمثلونه في حالة جدال مستمر في داخل الإنسان.

بعض المفسرين قالوا : أن كلمة «أكثر شيء» إنما هي على سبيل المبالغة ، والواقع انه لا مبالغة هناك ، فلا يوجد شيء في الطبيعة أكثر جدلا من مخ الإنسان ، ولنفترض ان شلالات الماء في (نياجارا) تحدث جدلا لأنها تنزل وتصطرع مع المياه التي تصطدم بها ، ولكن هذا الجدل أكثر أم جدل الفكرة؟ والتيارات المتعارضة في بعض البحار ، والرياح المختلفة ، والزوابع العاصفة أكثر جدلا أم القلب ، الذي تنعكس عليه كل تناقضات الوجود؟!

وإذا بحثت فلن تجد تناقضا قائما في الدنيا أكثر من ذلك الموجود في فكرك ، لأن عقلك يحتوي على كل تناقضات الدنيا ، ماديات ومعنويات ، حق وباطل ، خير وشر ، ففكر الإنسان انعكاس لكل تناقضات الكون ، لذلك فهو أكثر شيء تناقضا وجدلا.

[٥٥] ومن أنواع التناقض والجدل عند الإنسان هو ذلك الموجود بين الواقع والحقيقة ، فللواقع ضغطة وجاذبيته ، وللحقيقة صحتها وعاقبتها.

٤٣٧

ان الله يبعث بالهدى للناس ، ويأمرهم ان يصححوا حياتهم وفق هذا الهدى ويصلحوا ماضيهم ، ولكن هؤلاء ينتظرون حتى يأتيهم العذاب ، فأما أن يأخذهم بغتة ، واما يأتيهم فيروه أمامهم مباشرة ، فهم ينتظرون الواقع ، ولا ينظرون الى الحقيقة ، ويقول القرآن :

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)

ان يؤمنوا بالهدى ، وان يصلحوا حياتهم الماضية وفق ذلك الهدى.

(إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)

اي العذاب المحيط بهم.

(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً)

اي يرون العذاب امامهم مباشرة.

[٥٦] اذن لماذا ينزل ربنا العذاب على الناس حتى يهتدوا؟

لأن المطلوب هو ان يهتدي الناس بعقولهم وإراداتهم ، ودور رسالات الله هو دور التبشير والإنذار ، وليس دور الجبر والحسم.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ)

يريد الكفار ان يهدموا كيان الحق بسلاح الباطل ، ولما كانوا لا يقدرون على ذلك ، فأنهم يتخذون سلاحا آخر هو سلاح الاستهزاء ، وهو اخطر سلاح يستخدمه الإنسان في مقاومة الحقيقة.

٤٣٨

(وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً)

تكمن خطورة هذا السلاح في ناحيتين : فمن جهة حينما يستهزئ الإنسان بالحقيقة ، فأنه لا يمكنه ان يهتدي بها أبدا.

ومن جهة ثانية حينما يستهزئ بها ، فلا يمكن لأحد أن يضرب له مثلا ، أو يأتي له بدليل على تلك الحقيقة لكي يقنعه بها.

٤٣٩

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١)

______________________

٦٠ [لا أبرح] : لا أزال.

[حقبا] : الحقب الدهر والزمان وجمعه أحقاب.

٤٤٠