من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

الأبواب على أنفسنا وننفصل عن الواقع ، وإذا أردنا ان نتدبر فعلينا ان ندخل في حياة المجتمع ونعرف خصائصه ومميزاته ، وندرس طبيعته ، ثم بعد ذلك نرجع الى القرآن ونسأله : ماذا نسمّي مجتمعا هذه ميزاته وخصائصه ، وتلك سلبياته وايجابياته؟ هل هو مجتمع لوط أو شعيب أو ثمود أو غيرهم؟ والمطلوب من الإنسان في دراسته للقرآن التفسير ثم التدبر والتأويل بمعناها المذكور آنفا.

التدبر والمسلمون في العصر الحاضر :

لقد توقف المسلمون اليوم عند القرآن ، كان القرآن منطلقا فجلسوا عند المنطلق ، وكان مطارا يجب ان يقلعوا بواسطته فمكثوا في المطار ، وكان مصباحا يضيء العالم فاكتفوا بجعله زينة ، وكفّوا عن الاستضاءة بنوره في دروب الحياة المظلمة.

انهم الغوا دور افكارهم وعقولهم ، وبذلك الغي التدبر من القرآن ، فسدّ باب عظيم من أبوابه التي أمرنا الله بدخولها ، اننا لا نجد في القرآن الحكيم آية تشير الى التفسير بينما توجد عدّة آيات حول ضرورة التدبّر.

١ ـ «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها»

٢ ـ «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ»

وعشرات الآيات تأمرنا بالتفكر ، والسير ، والحركة ، والتذكر ، وكلما يحرك طاقات الإنسان نفسه.

وهنا يكمن سر الغموض في فهم القرآن لدى أغلب المسلمين لأن عملية التأويل والتفسير متكاملتان والتفسير إذا دعّم بالتأويل والتطبيق فأنه يصبح أكثر وضوحا ويمكن اكتشاف خفاياه بصورة أفضل.

٣٤١

زينة الحياة والهدى :

ان القرآن الحكيم يتابع في سورة الكهف سلسلتين من القضايا :

الأولى : عن زينة الحياة الدنيا ، وموقف الإسلام منها.

والثانية : عن القضايا التي تتصل بالهدى والعلم والمعرفة.

ولا ريب ان بين هاتين السلسلتين علاقات هامة ، إذ ان الإنسان الذي يتسلح بالهدى والعلم يتخذ موقفا ايجابيا ومتساميا من زينة الحياة الدنيا ، اما ذلك الذي يفقد هذا السلاح ، فأن موقفه من زينة الحياة الدنيا ومتاعها الزائل هو موقف الأتباع المطلق والاستسلام التام.

والواقع ان هذا من مظاهر اعجاز القرآن ، وبلوغه في البلاغة المنتهى ، حيث ان آياته الكريمة تتبع عدة خطوط متوازية ومتناسبة تتظافر على توجيه القلب البشري الى قضية جوهرية واحدة ، الا ان السلسلة الاولى كما يبدو هي المحور في آيات هذه السورة حيث تتحدث سورة الكهف عن الرؤية الاسلامية الى زينة الحياة ، وكيف ينبغي على الإنسان ان يتحرر من ضغوط زينة الحياة وحب الدنيا وينظر الى الحياة نظرة موضوعية قوامها معرفة عاقبة الحياة ، والعلاقة الوثيقة بين زينة الحياة الدنيا والتمتع بها وبين عمل الإنسان.

فنجد في هذه السورة قصة أصحاب الكهف والرقيم الذين تحرروا من حب الجاه الذي كانوا فيه ، واستطاعت إرادتهم السامية ان تقلع بهم من قاع الحياة المادية الى سماء الحقيقة والقيم ، ونجد في هذه السورة أيضا قصة معاكسة لذلك ، وهي قصة صاحب الجنة التي دخلها وزعم انه خالد فيها ، وكلما نصحه الناصح الأمين وقال : ان هذه الجنة انما هي بأذن الله ، ولو لا ان تقول ما شاء الله حين تدخل جنتك ، فإنها

٣٤٢

سوف لا تنفعك ولكنه لم يقبل هذه النصيحة ، ودخل جنته وهو ظالم لنفسه وقال : ما أظن ان تبيد هذه أبدا ، الى ان انتهت حياته وجنته جميعا الى الفساد والتلف.

وهناك مثلا عن واقع ذي القرنين لأولئك الذي بلغوا جاها عظيما وملكا كبيرا ، ولكنهم رفضوا الخضوع لضغوط الجاه وزينة الملك.

وتعطينا السورة الكريمة في اطارها العام نظرة شمولية الى موقف الإسلام من زينة الحياة الدنيا ، اما القسم الأول منها فأنه يلقي نظرة عامة على موضوعات السورة كعادة القرآن في بدايات السور التي تتميز بحسن المستهل ، حيث انها تلقي الضوء على اطار السورة ومجمل الموضوعات التي تبحثها.

حيث تذكر آيات هذا الدرس (١ ـ ٨) بأن القرآن كتاب هداية ، وان الهداية هي طريق الإنسان المستقيم الى نعم الله.

وتحدثت كذلك عن الحوافز التي تدفع الإنسان الى الالتزام بهدى الله ومنها الإنذار والتبشير.

وأشارت الى أخطار الشرك بنسبة الولد الى الله سبحانه وتعالى عما يشركون ثم أشارت الى ان على الرسول أو القائد الذي يقوم مقامه ، واجب التبليغ وبيان الحقائق ، وليس له ان يقتل نفسه غما وكمدا ، إذا لم يستجب الناس لهدى الله.

وأخيرا بيّنت الرؤية الاسلامية لزينة الحياة الدنيا ومتاعها ، بأنها مادة للإبتلاء والامتحان الإلهي بالنسبة للبشر وانها بالتالي زائلة ، لأن الأرض سوف تصبح صعيدا جرزا.

ثم تحدثت الآيات من (٩ ـ ١٦) عن وجوب ملاحظة الإنسان لسنن الله في الكون ، فيسلم لحكم الله مهما كانت الحوادث التي يشاهدها أو يسمعها بالغة

٣٤٣

الغرابة عنده وجديدة عليه والثورة على الظلم هي احدى سنن الله في الحياة ، لأن الله يأمر بالعدل وهو قائم بالقسط. كما بينت الآيات أسلوب الثورة وهو : ان يستجيب الإنسان لإلهام فطرته ، ويفجر الثورة على كل ألوان الظلم ابتداء من نفسه ، ويعتزل مجتمع الشرك والجاهلية ، ثم يأتيه تأييد الله الذي يهديه الى الوسائل المادية والمعنوية للانتصار.

ثم تحدثت الآيات من (١٧ ـ ٢٠) عن الألطاف الإلهية والنفحات الربانية التي يتعرض لها الذين يقومون لله وباسم الله ، الى الحد الذي قد يوقف الله سبحانه معه بعض السنن الطبيعية أو يغيّرها لمصلحتهم ، ثم أشارت الى سلاح هام يعطيه الله لأوليائه وهو سلاح الرعب ، وتعرضت الآيات لذكر بعض الصفات الأخلاقية الثورية ، كما بيّنت ان أول مرحلة من مراحل العلم بالنسبة للإنسان هو الاعتراف بالجهل ، ثم اقتباس العلم من منبعه الحقيقي وهو : الله العليم الحكيم.

ثم تابعت الآيات من (٢١ ـ ٢٦) عن دور حادثة أهل الكهف كواحدة من الظواهر التي تبيّن للناس صدق وعد الله وترفع من نفوسهم كل ريب حول قضية الساعة والمبعث ، ثم أشارت بطريقة ايحائية الى موقف القرآن من زيارة قبور الأولياء والصالحين ثم بينت ان الإسلام يؤيد المنهج العلمي القائم على الحقائق لا على الرجم بالغيب والجدليات العميقة ، وان القرآن يدعوا الى المرونة والتكيف السليم مع الحياة ويرفض البرامج الجامدة والأفكار المتحجرة.

وتحدثت الآيات من (٢٧ ـ ٣١) عن الضمانات الوقائية للإنسان تجاه ضغوط زينة الحياة ، وهي تلاوة القرآن والاتصال الدائم بالله ، والانتماء الى التجمع الإيماني القائم على أساس المبادئ الرسالية ، لا الاعتبارات المادية ، وأخيرا التحلي بروح التحدي والاستعداد للصراع ، ثم بيّنت المقياس الذي يتبعه الإنسان لمعرفة القيادة الصالحة ، ثم عرضت صورا مجسمة للجنة وللنار فيها عبرة لمن اعتبر.

٣٤٤

وبيّنت الآيات من (٣٢ ـ ٤٤) موقف الإنسان من النعمة والمنعم ، وان من مكر الله بالجاحدين ان يملي لهم فيوسع النعمة عليهم ، ومن ثم يؤدي اغترارهم بها الى إنزال العقوبة الصارمة بهم ، ثم بيّنت مراحل التدهور العقيدي ومن ثم السلوكي عند الإنسان الكفور ، الذي يستند على معادلة خاطئة وهي ان العطاء في الدنيا دليل رضى الله ، بينما هو في الواقع امتحان للعباد ، كما بيّنت ان الخضوع للثروة والأثرياء فيصبح بمنزلة الشرك بالله ، وان الولاية الحقيقية على العباد لله الصمد فقط ، لا لغيره من المخلوقات التي يطرأ عليها التغيير والزوال.

وصورت لنا الآيات من (٤٥ ـ ٤٩) الحياة من واقع قصة الطبيعة ، ودعت الى الاهتمام بزينة الآخرة وهي الباقيات الصالحات ، ثم بيّنت دور العمل الصالح في بناء الحضارة ، ودعت الى شمول النظرة المستقبلية ، وامتدادها الى ما بعد هذه الحياة الزائلة.

ثم عرضت لنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة يبين لنّا ان كل شيء في هذه الحياة يتحرك ولا يثبت على حال ، حتى الجبال الراسيات ، اذن فلا مسوّغ للاعتماد على زينة الدنيا لأنها هي الأخرى تتحرك وتزول ، وحمّلت الإنسان مسئولية اعماله كاملة امام ربه ، تلك الأعمال التي سيراها مسجلة بالكامل ومجسمة امامه ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

ثم جاءت الآيات من (٥٠ ـ ٥٦) لتبين موقف الإنسان من أصحاب الزينة ، وهم المستكبرون في الأرض وعن طريق الصور التاريخية والمستقبلية ، يحث القرآن على إيجاد فاصل بين المؤمنين وبينهم ، فلا يتبعونهم ولا يتخذون منهم عضدا ، لأنهم أعداء أولا ، وجاهلون مضلون ثانيا.

ثم تحدثت عن دور التصور الذهني في معرفة الحقائق الغيبية ، وبينت ان جدل

٣٤٥

الإنسان لا حدود له ، مهما كانت الحقائق القرآنية كثيرة امامه ، ثم أكدت على ان الإنسان ليس مجبرا على الهداية ، وان الاستهزاء هو اخطر حجاب بين عقل الإنسان وبين الهداية. ومن أشد ظلما لنفسه وللناس وللحقائق ممن أودع الله قلبه فطرة الأيمان ثم ذكرّه عبر رسالاته بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ذنوبه فجعل الله على قلبه ستارا ، ومنع عنه الفقه وجعل في اذنه وقرا فاذا به لا يهتدي أبدا.

ولأن الله غفور ذو رحمة ، فهو لا يعاجل الكافرين بالعذاب إلا أن لهم موعدا لا يحيدون عنه ، وشاهد ذلك تاريخ القرى التي أهلكت في الموعد المحدد لهلاكها ـ (٥٧)

ويستمر السياق القرآني (٦٠ ـ ٦٤) يحدثنا عن قصة موسى مع العالم ، ومن خلالها يبين لنا صفات العالم والمتعلم ، وأهمية العلم ، كما يشير الى وجود خلفيات هامة للتقديرات الإلهية ، والأحكام الشرعية.

فلقد عقد موسى العزم على الرحيل الى مجمع البحرين وأنبأ فتاه ومرافقه بأنه حتى لو مضت حقب من الزمان فلن ينثني عن عزمه هذا ، وعند ما بلغا مجمع البحرين نسيا حوتهما الذي سرب في الماء وعند ما تركا الموقع طلب من صاحبه الغداء ، الا أنه أخبره بقصة الحوت التي كان قد نسيها وقال : ان الشيطان هو الذي أنساه وحين عرف موسى بقصة الحوت علم بأن موقع قرب الحوت في البحر هو بالذات ميعاده مع العالم فعادا أو رجعا اليه.

عند الموقع وجد موسى العالم الذي أتاه ربه الرحمة والعلم ، وحين سأله موسى عما إذا كان مستعدا لتعليم رشدا مما علمه الله ، أخبره انه لن يصبر على ذلك الرشد لأنه لم يحط بذلك خبرا ، وأصر موسى ووعده بالطاعة إنشاء ربه.

٣٤٦

كان موسى نبيا ، وعارفا بأحكام الرسالة الظاهرة ، ومن خلال تعلمه لخلفيات الأحكام كان ينتفض مستنكرا لأنه لم يعلم حكم الشريعة.

فلما خرق العالم السفينة استعظم الأمر ، اما حينما قتل غلاما فقد استنكر ذلك بقوة ، وهكذا عند ما بنى جدارا لقوم لا يستحقون ولم يطالبهم بأجر.

وفي كل مرة يذكره العالم بوعده ويعتذر منه موسى ، حتى افترقا ـ (٦٥ ـ ٧٨) ـ.

لقد أخبره ان السفينة كانت لمساكين وانه سيقرر الملك مصادرة السفن الصالحة فقط فأردت أن أعيبها لمصلحتهم.

اما الغلام فقد كان يخشى على أبويه الكفر فأراد الله تبديله بمن هو ازكى وأقرب رحما.

اما الجدار فقد كان تحته كنز ليتيمين ، فأراد الله سبحانه وتعالى حصولهما على الكنز كرامة لأبيهما الذي كان صالحا ـ (٧٩ ـ ٨٢) ـ.

وفي اطار الحديث عن زينة الحياة الدنيا في سورة الكهف تناول السياق أهم زينة منها وهي السلطة وضرب لنا عن واقع ذي القرنين مثلا ، كيف مكّن الله به في الأرض وأتاه من كل شيء سببا ووسيلة اما هو فقد مضى على طريق الأسباب الى أهدافه النبيلة ، فبلغ مغرب الشمس وسار في أهلها بالعدل ، ومضى قدما في اتباع الأسباب حتى بلغ مطلع الشمس حيث وجد الناس يعيشون حياة بدائية ، وحتى انهم لا يجدون ما يسترهم عنها ، ومضى في طريق الأسباب فوجد منطقة جبلية ، كان أهلها يحتاجون الى سدّ يحفظهم من غارات يأجوج ومأجوج المفسدين ، فبادر الى بناء السدّ دون ان يطالبهم بأجر ، بل شكر ربه على نعمة السلطة.

٣٤٧

انما يسخر طاقاتهم البشرية ومواردهم في بناء الروم ، فجعل زبر الحديد على بعضها وأمرهم بأن ينفخوا في النار التي اججوها حولها فلما تحولت الى نار والتحمت ببعضها افرغ عليها لباسا مصنوعا من النحاس المذاب ، فأصبح سدا مرتفعا ومنيعا ، فلا استطاعوا عبوره ولا اختراقه.

وشكر ذو القرنين ربه على هذه السلطة بدل ان يفرض على الشعب حمده وشكره ، وكما يفعله الملوك عادة.

وأنبأهم بأن السدّ لا يقاوم امر الرب ، فإذا جاء الوعد الموعود فأن الله سيجعله دكاء وإذا بالناس يموج بعضهم ببعض وينفخ في الصور ، ويجمع الله الناس على صعيد واحد جميعا.

ليعرض على أولئك العميان الذين لم يبصروا آيات الله ، ولم يسمعوا نصيحة المصلحين ، يعرض عليهم جهنم لكفرهم بالله.

وهكذا ضرب الله لنا مثلا ، للمؤمن الذي تجاوز السلطة فملكها ولم تملكه واستفاد منها لأهدافه ، ولم تستفد منه لها ـ (٨٣ ـ ١٠١) ـ.

وفي الدرس الأخير من هذه السورة نجد أهم العبر القرآنية المبثوثة فيها ، وفي قصصها العجيبة ، ومن أبرزها ضرورة توحيد العبودية لله ، والا يتخذ العباد أولياء من دون الله ، ويبيّن القرآن ان الأخسرين أعمالا هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون عملا ، بلى أولئك هم الكافرون بآيات الله ، الذي لا يأبه بهم ربهم يوم القيامة بالرغم من مظاهر الزينة والقوة عندهم في الدنيا لأنهم استهانوا بالآيات والرسل ، بينما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأن لهم جنات الفردوس نزلا ، يخلدون فيها ولا يبحثون لها عن بديل.

٣٤٨

تلك السورة من كلمات الله وكلمات الله كثيرة حتى لو كان البحر مدادا لكتابتها لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات الله.

وخلاصة كلمات الله توحيد الله ، والاعتقاد بأن الرسول بشر اوحي اليه ، وان من يرجو لقاء الله فعليه ان يعمل عملا صالحا ، خالصا لوجه الله ، ولا يشرك بربه أحدا.

٣٤٩

سورة الكهف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا

______________________

١ [عوجا] : اختلافا.

٢ [قيما] : مستقيما معتدلا.

٣ [باخع] : القاتل المهلك.

٣٥٠

جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)

______________________

٨ [صعيدا] : الصعيد ظهر الأرض أو الطريق الذي لا نبات فيه.

[جرزا] : الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبتة أكلا.

٣٥١

لنبلوهم أيّهم أحسن عملا

هدى من الآيات :

يحب البشر مصدر النعم. ويحمد أصحابها. بيد أن النعم من الله جميعا. فله الحمد كلّه. وأعظم نعمة وأفخم منّة الهدى الذي أنزله في كتاب لا عوج فيه يقوم به نظام حياة البشر ، ويرتفع على صرحه بناء سعادته. وهو ينذر بأسا شديدا من لدن الرب ويبشر المؤمنين الصالحين بأجر حسن خالدين فيه.

هكذا بدأت سورة الكهف ببيان نعمة الهداية التي تكتمل بها نعم الله وهي تنذر الذين أشركوا بالله. وزعموا بأن له ولدا. أنها كلمة كبيرة خرجت من أفواههم. وكذب مبين (بلى أو ليس الشرك جذر الضلالة والانحراف) وبالرغم من ذلك فعلى الرسول الّا يهلك نفسه أسفا عليهم لأنهم لا يؤمنون بالكتاب (انما يمتحنهم الله بزينة الأرض) ولقد جعل الله ما على الأرض زينة ، ولكنها غير دائمة إذ يجعله الله بعدئذ صعيدا جرزا.

وهكذا لخصت آيات هذا الدرس دروس القرآن في سورة الكهف. وبينّت

٣٥٢

ضرورة التسليم لكتاب الله ، حيث تتم نعم الله ، وذلك عبر توحيد الله. وعدم الانبهار بزينة الحياة الدنيا.

بيّنات من الآيات :

[١] تبدأ السورة بعد «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» تبدأ بحمد الله ، ويتركز الحمد على نعمة الهداية ، فنحن نحمد الله مرة على نعمة العين ، نعمة اليد ، نعمة العلم ، نعمة الحركة ، نعمة الأكل والشرب ، نعمة المسكن والملبس ، ولكن هذه النعم تصبح ضئيلة على عظمتها في مقابل نعمة الهداية ، إذ لو لا الهداية لم تنفع نعمة اخرى مهما كانت كبيرة. الهداية هي صبغة نعم الله سبحانه وتعالى والطريق إليها ، فلو كان هناك طعام وشراب وكنت محتاجا إليهما ولكنك لم تعرف الطريق إليهما ، فهل يكونان بالنسبة لك نعمة؟ كلا .. فالهداية هي طريق الإنسان للاستفادة من النعم والتمتع بها.

وهداية الله تتكامل في كتاب إلهي يوحيه الى عبد من عباده يصطفيه رسولا ويأمره بتبليغ الرسالة لبني جنسه من البشر ، وفي الآية اشارة واضحة الى أن الهداية لا تكون أبدا بمعزل عن الكتاب أي الرسالة الإلهية ، ولا عن الرسول الذي هو رجل من أهل الأرض.

سنن القرآن وسنن الطبيعة :

كتاب الله كتاب قويم يربط الإنسان ربطا مباشرا بأهدافه ، وسائر النعم المتواجدة والمتوافرة في الكون ، لذلك يؤكد القرآن في هذه السورة على هذه الصفة في الرسالة.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً)

فكتاب الله يعطي البرامج الصحيحة ، والمناهج السليمة التي توصل الإنسان الى

٣٥٣

اهدافه المنشودة ، عبر طريق مستقيم لا اعوجاج فيه ولا نتوءات ، وبديهي انه يكون أقرب الطرق وأسرعها.

ونجد هذا الاتجاه أيضا في الطبيعة التي تجري سننها وقوانينها على أساس التوصل الى الهدف من اقصر السبل وأسرعها ، فمثلا الضوء والصوت والحرارة وموجات المذياع ، تتحرك عبر أقرب وأفضل الخطوط ، وعند ما تتعارض القوى فأن الطاقة المغناطيسية أو الكهربائية أو الطاقة الحركية للأجرام السماوية في مداراتها الفلكية تختار اقصر الخطوط المنحنية في الانتقال وهكذا فأن الطبيعة لا تحب التراخي والتباطئ في أداء الأعمال ولا الالتواء في المسير الى الهدف وهكذا السبل القرآنية ، وهذا التطابق بين السنن القرآنية والسنن الكونية دليل على وحدانية الخالق ورحمانيته ، وان له الحمد في الأولى والآخرة.

الكتاب القيّم :

[٢] (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً)

كتاب الله كتاب متكامل وحكيم ، فهو يجعل الأمور في مواقعها ويعطي كل شيء حقه ، بنسبة حاجته إليه دون زيادة أو نقصان.

وربما تشير كلمة «قيما» الى هذه الفكرة ، وهي ان كل نظرة وكل حكم شرعي وبالتالي كل وصية وموعظة فيه إنما هي بقدر الحاجة ، وبنسبة الواقع الخارجي ، وبموازين دقيقة.

فمثلا حين يقول القرآن أن الزوج يرث نصف مال زوجته بعد موتها ان لم تخلف ولدا وراءها ، فلا يعني ذلك الا ان هذه الحصة تتطابق مع حكمة الحياة ومع واقعيات الاقتصاد الأسري ، مع حاجة الزوج وطبيعة العلاقة التي تربط الزوج

٣٥٤

بالزوجة ، أي ان هذا الحكم متطابق تماما مع كل الظروف المحيطة به دون زيادة أو نقصان.

وهناك تفسير آخر لهذه الكلمة وهي ان القرآن ليس فقط رشيدا وحكيما ومتكاملا في ذاته ، وانما هو أيضا يعطي التكامل والحكمة للحياة ، ويقيمها على أساس منظم ومتين دون اي خلل أو ثغرة ، كما قال ربّنا سبحانه : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» وقيمومة الكتاب. والدين الإلهي ، نابعة من قيمومة الرب سبحانه حيث يقول تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فكل شيء يقوم به الرب في عالم التكوين. وكل شيء يصلح بكتابه في عالم التشريع.

ولأن الكتاب قيّم فهو يحفظ رسالات الله جميعا. لأنه مهيمن عليها. ويحفظه الله من التحريف. ويحفظ به امة الإسلام.

أهداف الكتاب وحوافز الهداية :

وهكذا فأن الكتاب حينما يريد ان يستفيد الناس من الهداية فأنه يثير فيهم الحوافز النفسية الملائمة التي تدفعهم الى الأخذ بها والعمل بمقتضاها. ومن حوافزه :

الإنذار :

وهو الأبلغ أثرا فالإنسان بطبيعته يخشى الضرر أكثر مما يتوقع المنفعة فلو قيل لك إذا لم تقم بالعمل الفلاني فلن تحصل على مليون دينار ، فأنك تهتم وتجتهد كثيرا لأن تتجنب ذلك الضرر.

وهكذا فأن من طبيعة البشر الهروب من الضرر ، أكثر من البحث عن المكاسب والمنافع ، لذلك فان الإنذار يلعب دورا اساسيا في حياة الإنسان. والكتاب نذير حق

٣٥٥

بعذاب شديد ينزل من لدن الرب القوي العزيز.

الحافز الثاني :

وهو حافز التبشير ، حيث يعد الله الإنسان حينما يهتدي بالكتاب ، ويعمل وفق برامجه بالأجر الحسن والنعم الإضافية ، التي هي أعظم من تلك التي بيد الإنسان ، حيث يمكث فيها مخلدا.

وهنا نجد إثارة لإحساس هام في البشر وهو حب الخلود والخشية من زوال النعم ، ويستفيد الكتاب من هذا الأحساس وتلك الخشية ليدفع الإنسان الى تقبل الهداية الإلهية التي تضمن له ان يظل ماكثا في نعم الله أبدا.

(لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ)

هناك فرق بين البأس والضر ، إذ الضر قد يأتي من الطبيعة ، أو بسبب المرض ، أو ما أشبه ، بيد ان البأس لا يأتي الا من جهة عاقلة ، والكتاب ينذر الإنسان ببأس من عند الله ، اي ان الله هو الذي يقدر ويمكر فيعذب ، وهذا أبلغ في الموعظة. لأن الخطر الذي يأتي من الطبيعة ربما يتمكن الإنسان من تجنبه بطريقة ما ، ولكن سهم العذاب الذي يوجهه الله إليك لا يخطئ هدفه أبدا ، لماذا؟ لان ارادة العليم القدير الذي خلق الكون وخلقك وخلق كل شيء هي النافذة حتما ، فأين المفر من عذاب الله وأين المهرب؟ وكما جاء في الدعاء : «ولا يمكن الفرار من حكومتك».

العلاقة الوثيقة :

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً)

هنا يسعى القرآن في آياته الكريمة المرة بعد الأخرى ، وبتأكيد شديد وبأساليب

٣٥٦

مختلفة من أجل ان يعمق الشعور عند الإنسان بأن هناك علاقة وثيقة بين عمله وبين حياته الحالية والمستقبلية ، ولكن الإنسان يريد ان يفهم كل شيء الا هذه الحقيقة ، فهو يحاول ان يحصل على نعم الله دون ان يطيعه في بذل الجهد المناسب والعمل الصالح والتعبير ب «يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ» يدل على الاستمرارية.

أي انهم لا يزالون يعملون الصالحات وهذا هو المهم. حيث لا ينفع عمل صالح ما في وقت معين. بل ينبغي ان تكون نية العمل سليمة. ويكون سلوك الفرد سليما. حتى تكون كل اعماله صالحة.

[٣] (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً)

أين ذلك الأجر الحسن؟ هل هو في الدنيا أم في الآخرة؟ أهو في البرزخ أم يوم القيامة الذي يمتد خمسين الف سنة أم في الجنة؟

القرآن لا يحدد وهذا يعني الإطلاق ، اي ان هذا الأجر أجر دائم يبدأ من الحياة الدنيا ويمتد عبر كل المراحل القادمة وحتى دخول جنات عدن.

وفي ذلك تطمين وبشارة للمؤمنين بأنهم ما داموا يعملون الصالحات ، فلا داعي لأن يخافوا من الموت ، بل انهم باندفاعهم الى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته فأن الموت لا يكون بالنسبة لهم خسارة أو انقطاعا للنعم ، وانما هو مجرد انتقال من مرحلة نعمها محدودة ، الى مراحل اخرى نعمها أدوم وأعظم.

ألوان الشرك :

[٤] (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً)

وأخطر ذنب يرتكبه الإنسان هو ان يخرج عن التوحيد الخالص ، ويجعل لله

٣٥٧

شركاء في وحدانيته ، كأن يزعم جاهلا أن لله ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك ، وهو الكامل المنزه عن كل نقص ، وهو الغني غير المحتاج الى الولد وغيره.

وقد تتخذ نسبة الولد الى الله تعالى صورة رمزية غير صريحة ، وهي ان يشرك الإنسان في حكم الله وسلطته وملكوته أحدا غير الله ، فردا كان أم مؤسسة وتنظيما ، ويعتقد أنه امتداد لسلطة وحاكمية الله.

ومن المؤسف ان تنتشر هذه الخطيئة بين عدد كبير من المسلمين ، ولكن بصورة خفية دون ان يشعروا بها ، حيث انهم يتبعون علماء السوء ويقلدون من يدعون الفقه والاجتهاد وليسوا كذلك ، فهؤلاء يضلون من يتبعهم ويقتدي بهم ، وبالتالي يحرفونهم عن خط التوحيد الى منزلق الشرك.

ولهذا فأن المسلم عند ما يريد ان يقلّد في أمور دينه فعليه ان يتأكد من ان مقلّده انه عالم مجتهد ومتق يدعو الى الله وباذنه ، حتى تكون اعماله خالصة لله ، ويكون مسلما موحدا بحق.

[٥] (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)

هؤلاء الذين يجعلون أبناء لله وأندادا له ، سواء كان ذلك صراحة أو ضمنا انهم يرتكبون خطيئة كبيرة ، وهم يعلمون في أنفسهم يقينا أنما يقولونه ويدعونه هو الكذب بعينه ، ولكنهم يسوغون ذلك عبر التبريرات الباطلة ، بهدف تحقيق المنافع والمصالح العاجلة حسب تصورهم وتقديرهم.

ما على الرسول إلا البلاغ :

[٦] العاقل يتعجب ، كيف يترك أولئك البشر الطريق الصحيح ويتبعون طريقا

٣٥٨

ملتويا ليهلكوا أنفسهم.

وكلما قوي إيمان الإنسان ، وارتفعت درجة حبه للآخرين وإحساسه تجاههم بالعطف والحنان ، كلما اشتد حزنه وغمه على هذا الانحراف ، لذلك تجد رسل الله (صلوات الله عليهم) حينما يواجهون هذا الانحراف الكبير فأنهم يكادون أن يهلكوا أنفسهم لإصلاحه ، فيؤكد القرآن هنا انه لا ينبغي للرسول أو المصلح عموما ، أن يهلك نفسه في سبيل هداية الناس.

إن هذه حكمة من الله إذ خلق الناس ليمتحنهم ، وما على الرسول الا ان يقوم بدور الإنذار والتبشير.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)

«زينة الأرض فتنة البشر»

[٧] (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها)

كل ذلك لهدف وحكمة.

(لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

إنما جعلنا ذلك لكي نبلو الإنسان ونختبره ، حتى يتبين الذين يعملون الصالحات من الذين يرتكبون السيئات.

[٨] ولكن لا تغرك زينة الحياة فإنها لا تدوم ، إنها أيام قليلة وسنوات معدودة وتنتهي.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)

٣٥٩

تصور مدينة جميلة تزخر بالحياة فيها أشجار وحدائق ، وشوارع وبيوت ، ورياش وامتعة ، ووسائل .. إلخ ، وإذا بصاعقة قاصفة ، أو زلزال رهيب ، أو حرب مدمرة تحول تلك المدينة الجميلة الى صعيد أملس وارض جرداء ، ففي فترة قليلة لا تتعدى (١) من الثانية الواحدة تحولت مدينة (هيروشيما) ثم مدينة (نجازاكي) ربما فيهما من المصانع والعمارات والمنشآت ، الى ما يشبه الرماد.

على الإنسان ان يعتبر ، يمكن ان ينجذب الى زينة الحياة ، ولكن ليس ذلك الانجذاب المطلق ، الذي يفقد معه قيمه وطريقه انما ينجذب الى الحياة في حدود حاجته إليها ، وفي نطاق احتفاظه بقدرته وسيطرته على نفسه وعلى الحياة ، فيصبح هو مالك الحياة لا مملوكا لمتاعها ، ولا ننسى ذلك الحديث الكريم المروي عن الأمام علي (ع) الذي يقول فيه :

«ليس الزهد الا تملك شيئا ، وانما الزهد الا يملكك شيء»

٣٦٠