من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

أبي عبد الله الصادق (ع) انه قال :

«جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق الى رسول الله (ص) فأخذ واحد باللجام وواحد بالركاب ، وسوّى الآخر عليه ثيابه ، فتضعضعت البراق (اي تحركت) فلطمها جبرئيل ، ثم قال لها : اسكني وتطأطئي يا براق ، فما ركبك نبي قبله ، ولا يركبك بعده مثله ، فرفّت به (اي طارت) ورفعته ارتفاعا ليس بالكثير ، ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء والأرض ، فبينما انا في سيري إذ نادى مناد عن يميني ، يا محمد! فلم أجبه ، ولم التفت اليه ، ثم نادى مناد عن يساري : يا محمد! فلم أجبه ولم التفت اليه ، ثم استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها ، عليها من كل زينة الدنيا فقالت : يا محمد! انظرني حتى أكلمك فلم التفت إليها ثم سرت ، فسمعت صوتا افزعني فجاوزته ، فنزل بي جبرئيل ، فقال : صلّ ، فصليت ، فقال : أتدري اين صليت؟ قلت لا! فقال : صليت بطور سيناء ، حيث كلّم الله موسى تكليما ، ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ، ثم قال لي : انزل فصلّ ، فنزلت فصليت ، فقال : أتدري اين صليت؟ فقلت لا. قال : صليت في بيت لحم. (وبيت لحم ناحية من نواحي بيت المقدس حيث ولد عيسى ابن مريم) ثم ركبت ، فمضينا حتى انتهينا الى بيت المقدس ، فربطت البراق بالحلقة التي كان الأنبياء تربط بها ، فدخلت المسجد ومعي جبرئيل الى جنبي ، فوجدنا إبراهم وموسى وعيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله (ع) فقد جمعوا اليّ وأقيمت الصلاة ـ ولا أشك الا وجبرئيل سيتقدمنا ـ فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي ، فقدمني ، وأممتهم ، ولا فخرا (يعني لا افتخر بذلك) ثم آتاني الخازن بثلاثة أوان ، إناء فيه لبن ، وإناء فيه ماء ، وإناء فيه خمر وسمعت قائلا يقول : ان أخذ الماء غرق وغرفت أمته ، وان أخذ الخمر غوي وغويت أمته ، وان أخذ اللبن هدي وهديت أمته ، قال : فأخذت اللبن وشربت منه ، فقال جبرئيل : هديت وهديت أمتك. ثم قال ماذا رأيت في مسيرتك؟ فقلت ناداني مناد عن يميني فقال : أو أجبته؟ فقلت : لا ، ولم التفت

١٨١

اليه ، فقال : ذاك داعي اليهود ، لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك ، ثم قال : ماذا رأيت؟ فقلت : ناداني مناد عن يساري ، فقال لي : أو أجبته؟ فقلت لا ، ولم التفت اليه ، فقال : ذاك داعي النصارى ، ولو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك ، ثم قال : ماذا استقبلك؟ فقلت : لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها ، عليها من كل زينة الدنيا فقالت : يا محمد! انظرني حتى أكلمك ، فقال : أو كلمتها؟ فقلت : لم اكلمها ، ولم التفت إليها ، فقال : «تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت أمّتك الدنيا على الآخرة ، ثم سمعت صوتا أفزعني فقال لي جبرئيل : أتسمع يا محمد ، قلت : نعم ، قال : هذه صخرة قذفتها من شفير جهنم منذ سبعين عاما ، فهذا حين استقرت ، قالوا : فما ضحك رسول الله حتى قبض عليه السلام»

١٨٢

قصة المعراج

في حديث الإسراء والمعراج كثير من المواعظ والحكم ، وفي نفس الوقت هو حديث ممتع ، يحمل الإنسان بعيدا عن آفاق الزمان والمكان ، ويدعه يسيح في آفاق بعيدة وأشارت الى ذلك الآية القرآنية تقول : «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا».

في وقت كان الناس يعتقدون بأن الأرض هي محور الكون ، وان السماء سقفها ، وان النجوم مسامير وضعت في هذا السقف لكي لا تقع السماء على الأرض ، ولتكون زينة ، وكان يتصور فريق منهم ان السموات عقول مجردة لا تحتمل الفساد.

في ذلك الوقت تمت حادثة المعراج ، ونقلتها الأحاديث ، ولا بد ان نعرف أن قصة السموات تختلف عن موضوع الكبد مثلا في جسم الإنسان ، إذ الكبد شيء خفي لا يهتم كلّ إنسان به ، اما السماء فكل إنسان يزعم انه يعرف عنها الشيء الكثير ، وذلك لعلاقته الوثيقة بها ، فهو يرى الشمس والقمر والنجوم يوميا ، كما انه يشاهد تغييرات الأنواء باستمرار ، وهكذا فانه لا بد ان يكوّن تصورا معينا عن

١٨٣

السماء في نفسه يكون خاطئا في الأغلب ، وكثيرا ما تحولت الأساطير المرتبطة بعلم الهيئة القديم الى أفكار مقدسة ، فمثلا : دافعت الكنيسة عن هيئة بطليموس ، وأحرقت أو قتلت من تحداها ، كما جرى لجاليليو ، حين قال : بان الأرض التي تدور حول الشمس وليس العكس.

وبالرغم من ذلك فقد جاءت إشارات صريحة في بعض الأحاديث عن طبيعة السماء يقول الامام علي (ع) في حديث له :

«ان وراء عالمكم هذا أربعين عالما»

وأربعين عدد يدل على الكثرة في اللغة العربية.

ولقد كان الامام علي (ع) يقف في مسجد الكوفة فيقول بملىء فيه :

«سلوني عن طرق السماوات فاني اعلم بها من طرق الأرض»

والامام الرضا (ع) يقول في حديث مسهب :

«ان لكل ارض سماء تحيطها»

حديث المعراج :

انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن الإسراء ، ونواصل هنا الحديث عن المعراج ، هذا الحديث يقول :

قال رسول الله (ص): «فصعد جبرئيل وصعدت معه الى السماء الدنيا (يعني أقرب سماء الى الأرض ، فان لفظة دنيا مؤنث أدنى ، وادنى مقابل أقصى) وعليها ملك يقال له إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل (إِلَّا مَنْ خَطِفَ

١٨٤

الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) وتحته سبعون الف ملك وتحت كل ملك سبعون الف ملك». (١)

فقال : يا جبرئيل من هذا الذي معك؟ فقال : محمد رسول الله (ص) قال : وقد بعث؟ فقال : نعم ، ففتح الباب (كأنّ للسماء بابا ولكن ليس كالأبواب المتعارفة لدينا) فسلمت عليه ، وسلّم عليّ ، واستغفرت له ، واستغفر لي ، وقال : مرحبا بالأخ الصالح ، والنبي الصالح ، وتلقتني الملائكة حتى دخلت السماء الدنيا ، فما لقيني ملك الا ضاحكا مستبشرا ، حتى لقيني ملك من الملائكة ، لم أر أعظم خلقا منه ، كريه المنظر ، ظاهر الغضب ، فقال لي مثلما قالوا من الدعاء ، الا انه لم يضحك ، ولم أر فيه من الاستبشار ما رأيت من ضحك الملائكة ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فاني قد فزعت منه فقال : يجوز ان يفزع منه ، فكلنا نفزع منه. ان هذا مالك خازن النار ، لم يضحك قط ، ولم يزل منذ ان ولاه الله جهنم ، يزداد كل يوم غضبا وغيضا على أعداء الله وأهل معصيته ، فينتقم الله به منهم ، ولو ضحك الى أحد قبلك أو كان ضاحكا الى أحد بعدك لضحك إليك ، فسلمت عليه فردّ السلام عليّ ، وبشرني بالجنة ، فقلت لجبرئيل : ألا تأمره ان يريني النار؟ فقال له جبرئيل : يا مالك أر محمد النار ، فكشف عنها غطاءها ، وفتح بابا منها فخرج لهب ساطع في السماء ، وفارت ، وارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت ، فقلت : يا جبرئيل : قل له : فليرد عليها غطاءها ، فأمره فقال لها : ارجعي فرجعت الى مكانها الذي خرجت منه (٢)

__________________

(١) مكلفون بإدارة السماء الأولى فقط ، وهناك أحاديث تصف بعض الملائكة فتقول بان جناح الواحد منهم يمتد ما بين المشرق والمغرب ، أو ان الواحد منهم يحمل ثقل الأرض كلها فوق جناحه ، وما هذه الإشارات الا الى سعة السماوات.

(٢) ومن هذا الحديث يبدو ان جهنم ضمن اطار السماء الاولى وهي أقرب سماء إلينا ، وقد تكون جهنم مثلا كرة ملتهبة من هذه الكرات الموجودة في احدى هذه المجرات ، أو شمس من الشموس العتيقة التي تحدث فيها انفجارات هائلة تتجاوز عظمتها ملايين المرات عما هي عليه القنابل النووية في الدنيا ، أو يكون ما راه سيدنا ونبينا محمد (ص) جانبا من جهنم والله العالم.

١٨٥

ثم مضيت فرأيت رجلا آدما جسيما ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا أبوك آدم ، فاذا هو يعرض عليه ، فيقول : روح طيّبة ، وريح طيبة من جسد طيب ، ثم تلى رسول الله (ص) سورة المطففين على رأس سبع عشر آية (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (الى آخر الآيات) قال : فسلمت على أبي آدم ، وسلّم عليّ ، واستغفرت له ، واستغفر لي ، وقال : مرحبا بالابن الصالح ، والنبي الصالح ، المبعوث في الزمن الصالح.

قال : ثم مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس ، وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه ، وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه ، مكتوب فيه كتاب ينظر فيه ، لا يلتفت يمينا لا شمالا ، مقبلا عليه كهيئة الحزين ، فقلت من هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا ملك الموت ، دائب في قبض الأرواح ، فقلت : يا جبرئيل أدنني منه حتى أكلمه ، فأدناني منه ، فسلمت عليه ، وقال له جبرئيل : هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله الى العباد ، فرحّب بي وحيّاني بالسلام. قال : أبشر يا محمد. ارى الخير كله في أمتك ، فقلت : الحمد لله المنان ، ذي النعم على عباده ، ذلك من فضل ربّي ، ورحمته عليّ ، فقال جبرئيل : هو أشد الملائكة عملا ، فقلت : أكلّ من مات أو هو ميت فيما بعد هذا تقبض روحه؟ فقال : نعم ، قلت : وتراهم حيث كانوا ، وتشهدهم بنفسك؟ قال : نعم ، فقال ملك الموت : ما لدنيا كلها عندي فيما سخّر الله لي ومكنني عليها الا كالدرهم في كف الرجل يقلبها كيف يشاء ، وما من دار الا وانا أتصفحه كل يوم خمس مرات ، وأقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم ، لا تبكوا عليه فان لي عودة وعودة حتى لا يبقى منكم أحد ، فقال رسول الله : كفى بالموت طامّة يا جبرئيل ، فقال : جبرئيل : انما بعد الموت اطّم واطّم من الموت.

قال : ثم مضيت فاذا انا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب ، ولحم خبيث ، يأكلون اللحم الخبيث ، ويدعون الطيّب ، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : الذين

١٨٦

يأكلون الحرام ، ويدعون الحلال ، وهم من أمتك يا محمد ، فقال رسول الله (ص) : ثم رأيت ملكا من الملائكة جعل الله امره عجيبا. نصف جسده النار ، والنصف الآخر ثلج ، فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفئ النار ، وهو ينادي بصوت رفيع ويقول : سبحان الذي كفى حر هذه النار فلا تذيب الثلج ، وكفى برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار ، اللهم يا مؤلف بين الثلج والنار الف بين قلوب عبادك المؤمنين ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا ملك وكلّه الله بأكناف السماء وأطراف الأرضين ، وهو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق ، ورأيت ملكين يناديان في السماء واحدهما يقول : اللهم أعط كل منفق خلفا ، والآخر يقول : اللهم أعط كل ممسك تلفا.

ثم مضيت فاذا انا بأقوام لها مشافر كمشافر الإبل ، يقرض اللحم من جنوبهم ويلقي في أفواههم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء الهمازون اللمازون (المغتابون النمامون).

ثم مضيت فاذا انا بقوم ترضخ رؤوسهم بالصخر ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء ، ثم مضيت فاذا انا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من ادبارهم ، فقلت من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» ثم مضيت فاذا انا بأقوام يريد أحدهم ان يقوم فلا يقدر من عظم بطنه ، فقلت ، من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا «لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ» وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا .. يقولون : ربنا متى تقوم الساعة ، قال : ثم مضيت فاذا انا بنسوان معلقات باثدائهن ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال هؤلاء اللواتي يورثن اموال أزواجهن

١٨٧

ولاد غيرهم (١) ثم قال رسول الله (ص) :

اشتد غضب الله على امرأة ادخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم ، فاطلع على عوراتهم وأكل خزائنهم.

ثم قال : مررنا بملائكة من ملائكة الله عز وجل : خلقهم الله كيف شاء ، ووضع وجوههم كيف شاء ، وليس شيء من اطياف أجسادهم الا وهو يسبح الله ويحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة ، فسألت جبرئيل عنهم ، فقال : كما ترى خلقوا. ان الملك منهم الى جنب صاحبه ما كلمه كلمة قط ، ولا رفعوا رؤوسهم الى ما فوقها ، ولا خفضوها الى ما تحتها خوفا من الله وخشوعا ، فسلمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برؤوسهم من الخشوع ، فقال لهم جبرئيل : هذا محمد نبي الرحمة ، أرسله الله الى العباد رسولا ونبيّا ، وهو خاتم النبيين ، وسيدهم ، أفلا تكلمونه؟ فقال : عند ما سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام واكرموني وبشروني بالخير لي ولا متي.

الرسول في السماوات :

يقول رسول الله (ص): ثم صعدنا الى السماء الثانية فاذا فيها رجلان متشابهان. فقلت : من هذان يا جبرئيل؟ فقال : أبناء الخالة يحيى وعيسى ، فسلمت عليهما وسلّما عليّ ، واستغفرت لهما ، واستغفرا لي ، وقالا : مرحبا بالأخ الصالح ، وإذا فيها من الملائكة وعليهم الخشوع ، وقد وضع الله وجوههم كيف شاء ، ليس منهم ملك الا يسبّح الله بحمده بأصوات مختلفة.

ثم صعدنا الى السماء الثالثة ، فاذا فيها رجل ، فضل حسنه على سائر الخلق ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا

__________________

(١) يعني أن المرأة تلد من الزنا فتجعله للزوج

١٨٨

أخوك يوسف ، فسلمت عليه وسلم عليّ ، واستغفرت له ، واستغفر لي ، وقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح ، المبعوث في الزمن الصالح ، وإذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثلما وصفت في السماء الاولى والثانية ، فقال لهم جبرئيل في أمري ، ما قال للآخرين ، وصنعوا فيّ مثلما صنع الآخرون ، ثم صعدنا الى السماء الرابعة ، وإذا بي رأيت رجلا ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا إدريس رفعه الله مكانا عليّا ، فسلمت عليه ، وسلّم عليّ ، واستغفرت له ، واستغفر لي ، وإذا فيها من الملائكة لخشع مثلما في السماوات التي عبرناها ، فبشروني بالخير لي ولأمتي ، ثم رأيت ملكا جالسا على سرير وتحت يديه سبعون الف ملك ، تحت كل ملك سبعون الف ملك ، فوقع في نفس رسول الله انه هو ، فصاح به جبرئيل فقال : قم ، فهو قائم الى يوم القيامة.

ثم صعدنا الى السماء الخامسة فاذا فيها رجل كهل عظيم العين ، لم أر كهلا أعظم منه ، حوله ثلة من أمته ، فاعجبني كثرتهم فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا المحبّب في قومه هارون بن عمران ، فسلمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وإذا فيها من الملائكة الخشع مثلما رأيت في السماوات.

ثم صعدنا الى السماء السادسة وإذا فيها رجل آدم (اي أسمر اللون) طويل كأنه من شنوة (١) ولو ان له قميصين لنفذ شعره فيها ، وسمعته يقول : يزعم بنو إسرائيل اني أكرم من ولد آدم على الله وهذا رجل أكرم على الله مني (وأشار الى رسول الله) فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا أخوك موسى بن عمران ، فسلمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له ، واستغفر لي ، وإذا فيها من الملائكة الخشع مثلما في السماوات. (٢)

__________________

(١) شنوة قبيلة عربية معروفة طوال القامة

(٢) وهكذا فاننا نرى بان الرسول (ص) يلتقي في كل سماء بنبي أو أكثر تعبيرا عن وحدة الرسالات السماوية وعن الاخوة بين الأنبياء ، وعن اختلاف درجات الأنبياء.

١٨٩

ثم صعدنا الى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة الا قال : يا محمد احتجم ، وأمر أمتك بالحجامة (١) وإذا فيها رجل اشمط الرأس واللحية ، جالس على كرسي ، فقلت : يا جبرئيل من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور. في جوار الله؟ فقال : هذا يا محمد أبوك إبراهيم ، وهذا محلك ومحل من اتقى من أمتك ، ثم قرأ رسول الله : «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» فسلمت عليه وسلّم عليّ وقال : مرحبا بالنبي الصالح ، والابن الصالح ، المبعوث في الزمن الصالح ، وإذا فيها من الملائكة الخشع مثلما في السماوات فبشروني بالخير لي ولامتي (٢)

قال رسول الله (ص): ورأيت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألا. تلألؤها يخطف بالأبصار وفيها بحار من ظلمة ، وبحار من ثلج ترعد ، فكلما فزعت ورأيت هولا سألت جبرئيل فقال : أبشر يا محمد ، واشكر كرامة ربك ، واشكر الله بما صنع إليك ، قال : فثبتني الله بقوته وعونه حتى كثر قولي لجبرئيل وتعجبي ، فقال جبرئيل : يا محمد تعظم ما ترى (هل تراه عظيما)؟! انما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق الذي خلق ما تراه ، وما لا تراه أعظم من هذا!!

ان بين الله وبين خلقه سبعين الف حجاب ، وأقرب الخلق الى الله انا وإسرافيل ، وبيننا وبينه اربعة حجب : حجاب من نور وحجاب من الظلمة وحجاب من الغمامة وحجاب من الماء.

وقال رأيت من العجائب التي خلق الله ، وسخّر على ما اراده ، ديكا رجلاه في

__________________

(١) الحجامة تعني ان يأخذ الإنسان مقدارا من دمه كل عام

(٢) اننا نجد ان الأنبياء في حديثهم مع النبي محمد (ص) يقولون له : المبعوث في الزمن الصالح وهذا يدل على ان البشرية قد تكاملت عبر رسالات الله حتى بلغت مرحلة النضج في عهد رسول الله (ص) والعهود التالية لعهده ، وإنسان اليوم انما يتقدم في مدارج الكمال بفضل رسالات الله.

١٩٠

تخوم الأرض السابعة ورأسه عند العرش وهو ملك من ملائكة الله تعالى ، خلقه الله كما أراد ، ثم اقبل مصعدا حتى خرج في الهواء الى السماء السابعة ، وانتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه الى قرب العرش ، وهو يقول سبحان ربي حيث ما كنت .. لا تدري اين ربك من عظم شأنه ، وله جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق والمغرب ، فاذا كان في السّحر نشر جناحية وخفق بهما ، وصرخ بالتسبيح ويقول : سبحان الله الملك القدوس ، سبحان الله الكبير المتعال لا اله الا الله الحي القيوم ، وإذا قال ذلك سبّحت ديوك الأرض كلها ، وخفقت بأجنحتها وأخذت بالصراخ ، فاذا سكت ذلك الديك في السماء سكتت ديوك الأرض كلها ، ولذلك الديك زغب خضر (١) وريش ابيض شديد البياض .. ما رأيت مثله قط وله زغب أخضر أيضا تحت ريشه الأبيض كأشد خضرة ما رأيتها قط.

قال : ثم مضيت مع جبرئيل ، فدخلت البيت المعمور ، فصليت فيه ركعتين ومعي أناس من اصحابي عليهم ثياب جدد ، وآخرين عليهم ثياب خلقان ، فدخل أصحاب الجدد وجلس أصحاب الخلقان (٢) ثم خرجت فانقاد لي نهران ، نهر يسمى الكوثر ، ونهر يسمى الرحمة ، فشربت من الكوثر واغتسلت من الرحمة (٣) ثم انقادا لي جميعا حتى دخلت الجنة وإذا على حافتيها بيوتي وبيوت أهلي ، وإذا ترابها كالمسك ، وإذا جارية تنغمس في أنهار الجنة فقلت : لمن أنت يا جارية. فقالت لزيد بن حارثة. (٤)

__________________

(١) والزغب هو الريش الصغير

(٢) والقرآن الحكيم يقول في سورة البقرة «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» فلباس التقوى خير لباس وزاد التقوى خير زاد ، وكلما كنت تقيا كان ثوبك في يوم القيامة أجدّ وانئذ يمكنك ان تدخل مع رسول الله (ص) الى البيت المعمور فتصلي فيه.

(٣) يعني استوعب رسول الله الخير الكثير ولفّته الرحمة.

(٤) الذي تبناه رسول الله (ص) وهو والد اسامة وقد استشهد في معركة مؤتة ، التي استشهد فيها عبد الله بن رواحة وجعفر الطيار.

١٩١

وإذا رمّانها مثل الدليّ العظام (١) وإذا شجرة لو أرسل طير في أصلها ما دارها سبعمائة سنة وليس في الجنة منزل الا وفيه غصن منها ، فقلت ما هذه يا جبرئيل؟ فقال : هذه شجرة طوبى قال الله : «طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» قال رسول الله : فعند ما دخلت الجنة رجعت الى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار وهولها وأعاجيبها ، فقال : هي سرادقات الحجب التي احتجب الله تبارك وتعالى بها ، ولو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شيء فيه.

وانتهيت الى سدرة المنتهى فاذا الورقة منها تظل امة من الأمم ، فكنت منها كما قال تعالى : (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فنادى الله سبحانه وتعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فقلت انا ، مجيبا عنّي وعن أمتي : «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» فقال الله : «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فقلت : «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» فقال الله : «لأحملنّك»

فقلت : «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ».

فقال الله تبارك وتعالى : «قد أعطيتك ذلك ولامتك»

قال الصادق (ع):

«ما وفد على الله تعالى أحد أكرم من رسول الله حين سأل لامته هذه الخصال» (٢)

__________________

(١) حيث أن رمان الجنة كالدلو ، ودليّ جمع دلو.

(٢) وتلك هي الآيات الاخيرة من سورة البقرة ، وقد جاء ذلك في مضمون

حديث عن رسول الله (ص) حيث قال : رفع عن أمتي تسع : الخطأ والنسيان وما لا يعلمون و... والى آخر الحديث).

١٩٢

فقال رسول الله : «يا رب أعطيت أنبياؤك فضائل فاعطني! فقال الله : قد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي : لا حول ولا قوة الا بالله ، ولا منجى منك الا إليك» قال : وعلمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت وأمسيت : «اللهم ان ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك ، وذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك ، وذليّ أصبح مستجيرا بعزتك وفقري أصبح مستجيرا بغناك ، ووجهي الفاني أصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذي لا يفني».

ثم سمعت الأذان وإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة.

فقال : الله أكبر .. الله أكبر.

فقال الله : «صدق عبدي انا أكبر من كل شيء».

فقال : اشهد ان لا اله الا الله اشهد ان لا اله الا الله.

فقال الله : «صدق عبدي انا الله لا اله الا انا ولا اله غيري».

فقال : اشهد ان محمدا رسول الله ـ اشهد ان محمدا رسول الله.

فقال الله : «صدق عبدي ان محمدا عبدي ورسولي. انا بعثته وانتجبته».

فقال : حي على الصلاة ـ حي على الصلاة.

فقال الله : «صدق عبدي دعا الى فريضتي ، فمن مشى إليها راغبا محتسبا كانت له كفارة لما مضى من ذنوبه».

فقال : حي على الفلاح ـ حي على الفلاح.

١٩٣

فقال الله : «حيّ الصلاح والنجاح والفلاح»

ثم اممت الملائكة في السماء كما اممت الأنبياء في بيت المقدس.

وللحديث بقية حول ان الرسول (ص) كلّف بخمسين صلاة ، وحين جاء الى موسى (ع) وأخبره بذلك ، فقال له موسى (ع) : ان أمتك لا تطيق ذلك ، فارجع الى ربك فليقلّلها ، فعمل بذلك وقلّلها الله حتى خمس صلوات ، فقال له موسى (ع) : ان أمتك لا تطيق ذلك أيضا ، لكن النبي (ص) خجل من ربه واستحيا ان يطلب من الله التقليل. وقال (ص) اصبر عليها وتصبر أمتي وقال الله : «ان أديت ذلك أنت وأمتك فاني سأحسب الصلاة الواحدة بعشرة صلوات»

وهناك أحاديث اخرى في هذا المجال يمكن الرجوع إليها في الكتب التي احتوت على النصوص الاسلامية.

١٩٤

وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)

______________________

٤ [وقضينا] : القضاء فصل الأمر على إحكام.

٦ [الكرة] : الرجعة والدولة.

١٩٥

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)

______________________

٧ [ليسوؤا وجوهكم] : يحزنوكم.

٧ [ويتبروا] : التتبير الإهلاك.

٨ [حصيرا] : الحصير الحبس ويقال للملك حصير لأنه محجوب.

١٩٦

ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم

هدى من الآيات :

ان القرآن الحكيم يكرس في الإنسان روح المسؤولية ، ويبين له بأن طبيعة حياته ليست الا نتيجة لإرادته وسعيه ، ويضرب ربنا مثلا في هذه السورة عن واقع بني إسرائيل ، وكيف انهم عند ما أحسنوا تقدموا ، وعند ما أساؤوا تخلفوا ، وشروط السعادة اتباع هدى الله الذي يحمله رسوله في صورة كتاب الهي ، ورسالة الكتاب تتلخص في التوكل على الله وحده ، ونبذ الشركاء والأنداد.

وبنو إسرائيل الذين ذرأهم الله من صلب الناجين عن واقعة الطوفان ، وحملهم في سفينة نوح (ع) ذلك العبد الشاكر لربه ، هؤلاء منّ الله عليهم ـ مرة اخرى ـ بكتاب ورسول هو موسى (عليه السلام).

وقضى الرب الى بني إسرائيل في الكتاب : انهم يفسدون ـ بالتأكيد ـ في الأرض مرتين ، ويطغون فبعد اولى المرتين يبعث الله عليهم عبادا له ، ولكنهم يعودون

١٩٧

ـ بفضل الله ـ أقوياء ، ويغلبون أعداءهم ، حيث يجعلهم الله أكثر أموالا وأولادا. وبسبب قوتهم أو ضعفهم ، إحسانهم أو إساءتهم ، وهكذا يعود أولئك العباد الى سابق قوتهم ، ويدخلون المسجد وهذه سنة الله قائمة على أساس الجزاء ، ليس في الدنيا فقط وانما في الآخرة أيضا حيث ان ربنا يجعل جهنم للكافرين حصيرا.

بينات من الآيات :

ماذا جرى على بني إسرائيل؟ يقول تعالى :

[٢] (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً)

قد جمعت رسالة الله لبني إسرائيل والتي حملها موسى في كتاب التوراة في كلمة (توحيد الله) وأثر التوحيد في استراتيجية العمل «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً» هو الاعتماد على الله ، والاستفادة من مواهبه العظيمة التي أسبغها على الإنسان ، وعدم الاعتماد على الناس وما لديهم من أفكار وأشياء ، وبالتالي الاستقلال السياسي ، والاقتصادي ، والثقافي الذي هو من أعظم ثمرات توحيد الله.

ويبدو ان هذا هو أهم ما توحي به كلمة «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» إذ التوكل على الله وليس على الناس رمز التقدم ، وعكسه عنوان التخلف.

[٣] (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)

هناك فرق بين من يدخل مكتبته فيجد الكتب متراكمة فيها ، وبين من يستوعب الكتب ويحفظها ، فيعرف السقيم منها والسليم ، فليس كل من امتلك مكتبة كان عالما ، كما أن هناك فرق بين من يستوعب علما ، وبين من يعمل بذلك

١٩٨

العلم ، فليس كل عالم عامل ، وهكذا يوجد فرق بين من يعرف الحقائق الروحية والنفسية وبين من يربي نفسه عليها ، فاغلب الناس عالمون غير عاملين ، وقليل من العاملين يربّون أنفسهم على الأخلاق الفاضلة.

فقد تعرف الشكر خلال لحظات وتعرف حقيقته ، ولكن إذا أردت ان تحوّل هذه الحقيقة الى سلوك فتكون من الشاكرين فان ذلك ليس بالأمر الهيّن ، والمسافة بينهما مقدار الارادة.

معرفة الذات منطلق الشكر :

ان الشكر عند الإنسان يتجسد تبعا لأحد موقفين من الطبيعة حوله :

الاول : ان يعتقد بأنه موجود متكامل بالأصل ، وانه يملك بذاته الجوارح ، والجوانح ، والعقل ، والعلم ، والسعادة ، والرقي ، فليس بحاجة الى ان يشكر أحدا.

الثاني : ان يعتقد بأنه كان قطرة من ماء مهين فصار إنسانا ، ثم أعطاه الله الجوارح والنعم وهي ليست ملكا ذاتيا له ، وانما وهبها الله له فتنة ، فان شكره عليها زاده منها ، وان كفر فانه سيعذبه عذابا شديدا ، يقول تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٧ / إبراهيم)

وهكذا فان كل نعمة تستحق الشكر الجزيل والثناء الجميل ، فبالعين ترى الأشياء ، وبالاذن تسمع ، والقلب ينبض بانتظام لتبقى حيا بإذن الله ، وما على الإنسان الا ان يستفيد من كل ما قدّره الله له ، فلا يعمل الا صالحا ، ولا ينظر الى ما حرمه الله ، ولا يسمع الا الكلام الطيب. وهذا هو معنى الشكر.

الكثير من الناس بدل ان تكون النعم عاملا يؤكد فيهم صفة الشكر ، والتواضع للذي منّ عليهم بها وهو الله ، بدل ذلك يتكبرون لأنهم يشعرون بالكمال ، فيقدسون

١٩٩

ذواتهم ، ويقولون : انما أوتيناه على علم عندنا كما فعل قارون ، اما المؤمنون فإنهم يزدادون ايمانا وشكرا لله.

وفي حديث عن عائشة ان رسول الله (ص) كان يغيب عن فراشه ويتوجه الى البقيع ، فيتعبد ويبكي ويتضرع فتقول له عائشة : يا رسول الله أو لم يغفر لك ربك ما تقدم ذنبك وما تأخر؟ فيقول : نعم. فتقول له : فلما ذا تتعب نفسك؟ فيقول :

«أفلا أكون عبدا شكورا»

هكذا كان نوح عبدا شكورا ، وهكذا يأمر الله بني إسرائيل الذين أنقذ آباءهم مع نوح من ذلك الطوفان العظيم ان يشكروا ربهم ، وهو بعدئذ منّ عليهم بكتاب فيه هدى يحمله إليهم نبي عظيم وهو موسى (عليه السلام) الذي قادهم بإذن الله من نصر الى نصر.

فلو أنهم شكروا نعمة الرسالة ، ونفّذوا تعاليمها ، فقد أحسنوا لأنفسهم ، وكان هذا في الكتاب مسطورا كما بينته الآية التالية.

الظالم سيف الله :

[٤] (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ)

لقد انبأ كتاب التوراة بني إسرائيل بقضاء الله الذي سوف يتحقق.

(لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)

علو بني إسرائيل يشبه علو فرعون الذي يقول عنه ربنا : «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً» (٤ / القصص).

٢٠٠