من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

الإطار العام

لعل أهم الموضوعات التي تناولتها سورة الإسراء هي مسئولية الإنسان عن اعماله. في اطار الرسالة الالهية. وتتحدث السورة عن طائفة من المسؤوليات تجاه المجتمع ابتداء من الوالدين وانتهاء بسائر الناس.

وتعالج السورة بتفصيل قضية الشرك بالله ، أو ليس الشرك جذر الفساد وسبب تبريرات البشر عن مسئولياته؟

كما تبين بتفصيل أيضا خطط الشيطان لإغواء البشر وكيفية محاربة تلك الخطط ، ويضرب القرآن الامثلة التاريخية العديدة.

وتبدأ السورة بقصة بني إسرائيل كمثل لمجتمع سعى مرة وتخاذل اخرى وتنتهي بها.

هذه جملة القول في اطار السورة اما التفصيل فان حياة البشر تجسيم لسعيه ، تلك هي جملة القول في اطار سورة الإسراء. وتلك هي خلاصة رسالات الله التي هي ـ في

١٦١

الواقع ـ واحدة.

فبعد ان أشار القرآن الى واقعة الإسراء ، فالمعراج ذكرنا بأنه السميع البصير ، وبالتالي محيط بعباده علمه مما يوحي بضرورة التقوى منه (١).

وخلاصة الكتاب الذي أنزله على موسى لبني إسرائيل الا يتخذوا من دون الله وكيلا (٢) ذلك ان الشرك بالله ، هو جذر كل فساد وضلال.

أفلم يكونوا ذرية الذين حملهم الرب مع نوح في السفينة لينجيهم من الطوفان. وكان نوح عبدا شكورا (٣).

بلى ولكنهم قد أفسدوا (أو يفسدون) مرتين في الأرض ، ويلاقون جزاءهم (٥) إذ يبعث الله بعد ان يحين ميعاد الجزاء في المرة الاولى عبادا له أقوياء فيدمر عرشهم (٦) وبعد أن يعيد لهم الكرة. يأتي وعد المرة الثانية ، ويتبروهم تتبيرا. لماذا؟ لان الله يجازيهم بالإحسان إحسانا. وبالاساءة جزاء وفاقا (٦) تلك هي سنة الله في التاريخ. جزاء كل مجموعة لمجمل أفعالهم اما في الآخرة فان الله جعل جهنم للكافرين سجنا (٨).

الهدى من الله عبر القرآن. اما الايمان والعمل الصالح فهو من فعل الشر. وعليهما الجزاء الكبير والكفر قد اعتد لصاحبه العذاب الأليم (٩).

والجزاء يتأخر. وكان الإنسان عجولا فتراه يدعو بالشر كدعائه بالخير. الا ان الجزاء لواقع (١١).

الق نظرة في آيات الكون ماذا ترى؟

آية الليل التي محاها الرب بحكمته. وآية النهار جعلها مبصرة بحسن تدبيره

١٦٢

لكي تسعى لمعاشك وتعد السنوات وتفقه الحساب.

إذا كل شيء منظم ، مقدر ومدبر والذي دبر شؤون الليل والنهار ونظمها ، فصل لنا القول فيها تفصيلا.

فيخرج البشر عن هذا النظام؟ كلا. بل هو الآخر محكوم بسعيه ، حيث يكتب في صحيفة عمله المعلقة بعنقه. كل فعاله ليلقى كتابه منشورا يوم القيامة.

ويقال له اقرأ كتاب وحاسب نفسك فأنت الذي تدين نفسك بنفسك لو كنت خاطئا (١٢).

الهدي بسعيك والضلالة من عندك ، ولا أحد يتحمل وزر الآخرين ، ولا يبدر الرب عباده بالعذاب ان ضلوا حتى ينذرهم برسول ، وهكذا حين يحين ميعاد هلاك قرية يبعث في أمها رسولا ينذر مترفيهم وقيادة انحرافهم. ولكنهم يفسقون عن أمر الله.

فهنا لك تثبت عليهم الحجة فيدمرهم الله تدميرا.

وكذلك أهلك الله كثيرا من القرون ، من بعد طوفان نوح. والهلاك الشامل للمفسدين فيه. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). فلا يزعمن أحد أن الله غافل عنه (١٤).

والسعي ينتج واقعا. ولكن حسب نية البشر. فمن أراد الدنيا أعطاه الله منها بقدر ما تقتضيه سنن الله وحكمته. الا ان جزاءه في الآخرة سيكون جهنم حيث يصلاها مذموما مدحورا.

أما من أراد الآخرة وسعى من أجلها بقدرها فان الله يشكر سعيه.

١٦٣

والله يمد للأول في دنياه وللثاني في أخراه. وما كان عطاؤه محظورا. هكذا يجعل حياة البشر وليدة إرادته وسعيه.

وكما ان رزق الناس في الدنيا متفاضل ـ بسبب تفاضل سعيهم ـ كذلك وأكثر منه جزاء الآخرة (١٨) ثم يحذرنا الرب من الشرك (ويبدو ان المراد منه هنا : الاسترسال مع التقاليد وتيارات المجتمع لأنه ينتمي الى اللوم والخذلان) (٢٢).

ويأمرنا بألا نعبد الا إياه (فلا نعبد الاباء ولا نخضع لضغوط المجتمع) الا ان علينا إيجاد العلاقات الايجابية مع الناس (في اطار التوحيد) وأهمها الإحسان الى الوالدين. وبالذات عند الكبر. والرحمة بهم والاستغفار لهم (٢٣).

وبعد الوالدين يلتزم المؤمن بحقوق الأقارب والمسكين وابن السبيل ويتقي التبذير لان التبذير يجعله في صف الشياطين (والطغاة) والكافرين بالله ، غير الشاكرين لا نعمه وفي حالة الاعراض عنهم (ماديا) لا بد ان تحسن إليهم (معنويا) بالقول الميسور (٢٦)

ويأمرنا الرب بالاقتصاد في الإنفاق فلا بخل يغل اليدين ولا سرف ينتهي الى الملامة والضيق أو ليس الله يبسط الرزق لعباده ويقدره فلما ذا البخل والسرف (بل علينا ان نتبع أصول الحكمة في الصرف كما ربنا سبحانه) ولماذا قتل الأولاد خشية إملاق ما دام الرب هو الرزاق (٢٩).

ومثلما نهى الله عن قتل الأولاد في اطار المسؤولية الاسرية (بما يشمل الإجهاض حسب الظاهر) ينهى عن الزنا باعتباره ذنبا كبيرا. وساء سبيلا.

وفي اطار المسؤوليات الاجتماعية يحرم قتل النفس الا بالحق. ويجعل لمن قتل لوليه حق القصاص. وينهى عن الإسراف في القتل ويبشره بأنه كان

١٦٤

منصورا (٣٢).

وتلك كانت مسئوليات الإنسان تجاه الناس. وتتلخص في ثلاث كلمات.

التوحيد (وعدم الخضوع للتقاليد والضغوط) والإحسان. واحترام حقوق الآخرين.

وفي الدرس السابع يحرم مجرد الاقتراب الى مال اليتيم «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ويأمر بالوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والوزن.

ولعل هذه المسؤوليات الاجتماعية والتي تأتي تحصن المجتمع من بعض الثغرات التي يدخل منها الظلم الى كيان المجتمع فان اقامة العدل لا يمكن الا بسد كل أبواب الظلم والمداخل الطبيعية التي اشاعة الظلم في المجتمع. وهكذا يأمر الرب بضرورة أتباع العلم ، وترك سوء الظن عن التكبر والاستكبار في الأرض. ويجعل ذلك من الحكمة التي اوصى بها الرب الى العباد والتي يجمعها توحيد الله سبحانه (٣٦).

بلى ان بناء المجتمع الفاضل قائم على أساس التثبت من التهم والمساواة أمام القانون.

وينهى الله عن الشرك ، أو ليس الشرك أساس كل جريمة ، وتبرير شائع لكل فساد ولا مسئولية؟

أصحيح ان الله أختار لهم البنين واتخذ من الملائكة بنات انه بهتان عظم. وقد صرف القرآن لهم من كل مثل. ولكنهم ازدادوا نفورا (٤٠).

لو كان هؤلاء الآلهة كما يزعمون إذا لتحدوا سلطان الرب ذي العرش ، كلا. سبحان الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. ان السموات السبع والأرض تشهد

١٦٥

بقدس مقامه وتسبح له وكل شيء يسبح بحمده. الا ان البشر عاجز عن فهم تسبيحهم. والله حليم عن العاصين غفور للمؤمنين سبحانه.

أما الدرس الثامن. فانه يبين أخطار الكفر بالحياة الآخرة. وكيف ان الله يجعل بين الرسول ومن لا يؤمن بها حجابا مستورا. حيث يحيط بقلوب الكافرين بها ستارا فلا يفقهون القرآن ويجعل الله في آذانهم وقرا. حتى انهم يولون نفورا. كلما ذكر الرسول ربه في القرآن وحده.

ان تراكمات الجهل والضلالة والعصبية تجعلهم يستمعون الى الرسول من وراء شبهات باطلة. فهم يقولون عن الرسول انه رجل مسحور فيضلون ولا يهتدون سبيلا الى الحقائق. وتراهم ينكرون البعث ويتساءلون ابعد ان نصبح عظاما ورفاتا يعقل ان يخلقنا الله من جديد؟! (٤٥).

وهكذا تصبح هذه الشبهات حجابا مستورا بينهم وبين القرآن وفهم حقائقه.

ويردهم الله بقوة : حيث يذكرهم بأنهم لو كانوا من الحجارة أو الحديد أو اي شيء كبير في نظرهم فان الله الذي خلقهم أول مرة قادر على ان يعيدهم. ثم يقولون متى؟ يقول الله عسى ان يكون قريبا. ذلك اليوم الذي يدعوهم الله فيستجيبون بحمده ، ويزعمون انهم كانوا في الدنيا أو البرزخ أياما قليلة (٥٢).

ولان الشيطان عدو مبين فعلى عباد الله ان يختاروا كلماتهم لكي لا ينزغ الشيطان بينهم بها.

وان يتركوا العصبية لقومهم أو تزكية أنفسهم إذ أن الله اعلم بهم يرحم من يشاء ويعذب من يشاء (٥٣).

هكذا تبين آيات الدرس التاسع بعض المسؤوليات الاجتماعية الواجبة على

١٦٦

المؤمنين لبعضهم.

ولعل الصراعات الداخلية تنشأ من رواسب الشرك. فيعود السياق لبيان زيف الأنداد وانهم لا يدفعون الضر عن أنصارهم (٥٦).

بل هم بدورهم يبتغون سبيلا الى الله ربهم ويرجونه ويخافونه.

وكل القرى معرضة للهلاك قبل يوم القيامة ، أما بالعذاب أو الموت. ولقد كذب الأولون بآيات الله. فاستحقوا العذاب. ولان الله لم يشأ إهلاكهم فانه لم ينزله عليهم كلما طلبوه. إذ لو أوتوه ثم كفروا لهلكوا. فهذه ثمود لما أتاها الله الناقة آية مبصرة كفروا بها فاهلكهم الله. وانما حكمة الآيات التخويف «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» (٥٧).

وهكذا ارى الله رسوله رؤيا ، جعلها فتنة لهم ، كما أخبره بالشجرة الملعونة ، ويخوفهم الله فلا يزدادون الا طغيانا (٦٠).

وهكذا كانت الآيات للتخويف ، وليس من أجل إنزال العذاب عليهم.

ويبقى سؤال هام : لماذا الشرك أساسا ، ولم لا يخلص الناس الطاعة لله ، ولمن فرض الله طاعته ، ولماذا تنمو على صعيد مجتمع مسلم شجرة ملعونة كبني امية يفرضون سيادتهم على الناس؟ في آيات الدرس العاشر ، نقرأ الجواب الذي يستوحي منه قصة الخلق وكيف اضحى إبليس عدو بني آدم وما هي خططه الماكرة؟

والقصة بدأت حين أخذته العصبية الذاتية وادعى ان عنصره أفضل من عنصر آدم ، ورفض السجود لآدم الذي سجد له الملائكة جميعا.

وأمهله الله ليوم القيامة ، وتحدى ربه في السيطرة على ولد آدم. وأخبره الله

١٦٧

اولا : انه سوف يخسر العاقبة هو ومن اتبعه.

ثانيا : انه لا سلطان له على عباد الله بالرغم من وسائله الماكرة لأنهم يتوكلون على الله وكفى بالله وكيلا.

اما خطط الشيطان فهي اربعة : التضليل الاعلامي ، والإرهاب ، وإفساد النظام الاقتصادي والتربوي ، والغرور (٦٥).

ولكن الله هو الذي يزجي الفلك في البحر وهو الذي يكشف الضر. وهو الذي يخشى مقامه فاذا أراد ان يخسف الأرض بأهلها ، أو يرسل قاصفا من الريح. فلا أحد ينجيهم من الله.

وهو الذي كرم بني آدم ، وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير من الخلق تفضيلا (٧٠).

وهكذا كان كيد الشيطان ضعيفا. لان الولاية لله وله الدين وبيده الأمر ، وهو يريد كرامة الإنسان بينما يريد الآخرون إضلاله.

وحبل الانقاذ من أمواج كيد الشيطان ومكره هو القرآن.

كيف نقاوم مكر الشيطان؟ والى أين ينتهى الصراع بين بني آدم وإبليس؟ وما هي عبر التاريخ في هذا الحقل؟

يبدو ان آيات الدرس الحادي عشر تدول حول هذه الاسئلة.

وتبدأ بالحديث عن القيادة باعتبارها تحدد خطر البشر. ففي يوم البعث يدعو الله كل أناس بإمامهم ، ويختلف الناس بين من يؤتي كتابه بيمينه فيقرأه ومن يحشر

١٦٨

أعمى وامام الهدى عصمة من مكر الشيطان.

ويبين القرآن بعدئذ كيف تعرض الرسول للضغط الاعلامي ليفتنوه عما اوحي اليه فتحداه. ولنا فيه أسوة حسنة. ويعلمنا كيف نقاوم الفتنة بالتوكل على الله كما فعل الرسول (ص) فثبته الله كان هذا مثل لخطة التضليل ويضرب القرآن مثلا لخطة الإرهاب حيث كادوا يستفزون النبي (ص) من الأرض ولو فعلوا لما بقوا من بعده الا قليلا. تلك سنة الله (٧٧).

ولمواجهة غواية إبليس فرضت علينا اقامة الصلوات الخمس وأمرنا بنافلة الليل التي بعث الله بها نبيه مقاما محمودا.

ولكي نحافظ على النظام الاقتصادي والاجتماعي والتربوي السليم ولا ندع إبليس يفسده ، فعلينا ان نسأل الله أن يوفقنا للصدق في المدخل والمخرج ، وان يجعل لنا من لدنه سلطانا نصيرا. وان نثق بان الحق منتصر وان الباطل كان زهوقا (٨١).

ولكي نقاوم مكر إبليس وكيده علينا ان نقوم بأمرين :

١ ـ التمسك بحبل القيادة الإلهية المتمثلة في شخص رسول الله. والائمة من خلفائه ، ومن ثم الأمثل من الفقهاء والأقرب الى نهج الرسول. وقد بينت آيات هذا الدرس صفات الرسول في الاستقامة ، والصبر والتوكل والثقة. وكأنها الصفات المثلى للقيادة التي تعصمنا من مكر الشيطان.

٢ ـ الاعتصام بالقرآن. باعتباره حبل الله المتين. وفي آيات الدرس الثاني عشر بيان ذلك. حيث تبين ان القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين. بينما لا يزيد الظالمين الا خسارا ، ويمكننا ان نستفيد من آيات هذا الدرس كيفية الاستفادة من القرآن والتمسك بحبله ، ببيان ان الإنسان يغتر بالنعم ، فاذا أوتيها اعرض ونآ ، وان سلبت

١٦٩

منه استبد به اليأس.

والناس مختلفون فكل يعمل على شاكلته. والله اعلم بمن هو أهدى سبيلا.

وانما القرآن من الله. فاذا شاء ذهب به. وانه لمعجز ، فلو اجتمعت الجن والانس ما استطاعوا تحديه ، وفيه من كل شيء مثل وانهم ليطالبون ببعض الآيات المادية دون ان يهتدوا الى ان الرسول بشر وانما القرآن من الله ، وانما عليه البلاغ.

ولعل في هذا الدرس أهم محاور سورة الإسراء. وهو الذي يدور حول الرسالة. وان الذي يستفيد منه انما هو المؤمن بها ، اما الظالم الذي يعرض عن نعم الله ويتولى بركنه عنها والذين مقاييسهم مادية فإنهم لا ينتفعون بالوحي.

لماذا لا يؤمن الناس بالهدى الذي جاءهم؟ وما هي أهم عقبات الايمان برسالات الله؟

اولا : زعمهم بان الرسول ينبغي ان يكون ملكا.

ثانيا : ارتيابهم في البعث.

وهكذا تعالج آيات الدرس الثالث عشر العقبات النفسية التي يضعها إبليس في طريق الايمان بالرسالة (٩٤) فيبين ان الرسول يجب ان يكون من جنس من يرسل إليهم. فلو كان سكان الأرض الملائكة لا نزل الله إليهم ملكا رسولا.

وبعد ان يبين ان الله سبحانه شهيد على صدق رسالة النبي ، وان بيده الهداية. وان من يضله لا هادي له ولا ولي. وانه يحشر أعمى وابكم وأصم ، وان عاقبته جهنم التي يستمر سعيرها جزاء على ما عملوا (٩٨).

١٧٠

وبعدئذ يستنطق وجدانهم ويقول أليس الله الذي خلق السموات (وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) ، وانما لا يؤاخذهم بالعذاب لأنه قدر لهم أجلا لا ريب فيه ولكنهم لا يستغلون هذه الفرصة.

ولان الإنسان كفور بطبعة ، وبخيل قتور فهو بحاجة الى هاد ومرب وهو الرسول الذي يأتيه بالقرآن شفاء لما في الصدور.

ولم يكن النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ بدعا من الرسل ، فهذه رسالة الله تتنزل على موسى عليه السلام والله سبحانه يؤتيه تسع آيات بينات فتحداه فرعون واتهمه بأنه مسحور ، وبين له موسى انها بصائر من الله وان فرعون مبتور.

وكما جرى لرسول الله محمد جرى لرسول الله موسى عليهما صلوات الله ، حيث أراد فرعون ان يستفز الرسول من الأرض فاغرقه الله ومن معه جميعا وأورث الله الأرض لنبي إسرائيل من بعده الى أجل معدود.

هذا مثل لشهادة الله على صدق رسالاته. ومثل لمكر الشيطان وكيده. ومثل لنصرة الله عباده. وان الحق منتصر وان الباطل كان زهوقا.

ولقد جاء القرآن بالحق ، وما على الرسول الا إبلاغه. وانما فرقه الله على أنجم ليثبت به فؤاد رسوله.

هكذا ابتدأت آيات الدرس الأخير الرابع عشر (١٠٥).

وهي تعالج عقبة اخرى للايمان. وهو تفريق القرآن وتنزله عبر سنين البعثة. وتؤكد ان للقرآن أصحابا يؤمنون به وانهم يخرون للأذقان سجدا كلما تليت عليهم آياته. ويزدادون ايمانا بوعد الله ، ويسجدون ويزيدهم القرآن خشوعا لربهم.

١٧١

وهذه هي صفات المؤمنين بالقرآن. وهم عباد الله الذين لا سلطان لإبليس عليهم.

ومن صفاتهم انهم يدعون الله ـ كما أمرهم ـ بأسمائه الحسنى ، وانهم لا يجهرون بصلاتهم (رياء) ولا يخافتون بها (خوفا) انما يبتغون بين ذلك سبيلا .. (لان مشيهم الهون وسيرتهم الاقتصاد. وأمتهم وسط).

وتختم سورة الإسراء بحمد الله الذي لا ولد له ولا شريك له ولا ولي له من الذل. كما ابتدأت بحمد الله وتسبيحه (١١١).

١٧٢

سورة الإسراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)

______________________

١ [أسرى] سار ليلا.

١٧٣

قصة الإسراء

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

«بِسْمِ اللهِ» ذي القدرة والعظمة ، والنور والكمال ، والفضل والانعام «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».

ابتدأت السورة بالتسبيح ، والتسبيح يدل على التنزيه والتقديس ، ومادتها من (سبّح) اي نزه ، ومعنى ذلك أن نبعد الله عن أي نقص أو عجز أو حدّ.

ان العقل البشري لا يستطيع ان يدرك الّا الأمور القريبة من ذهنه أو المتعارفة في الطبيعة ، ولكنه يعجز عن ادراك ما وراء ذلك ، ولو أراد الإنسان ان يتصور الله لتصوره في حدود مفاهيمه ومعارفه. حيث ان بعضهم قال : ان الله «سبحانه وتعالى عما

١٧٤

يقولون» على صورة إنسان أعلاه مجوف وأسفله مصمت ، وهو نور ساطع يتلألأ ، وله حواس خمس. (١)

والتاريخ يدلنا على : ان الأمم الكافرة والمشركة ، انما تصورت الله في حدود معارفها ، فالامة التي كانت بحاجة الى الزراعة والرعي كانت تقدس الماء أو البقر أو كليهما باعتبارهما آلهة.

والامة التي كانت بحاجة الى الأنواء والنجوم لتهتدي بها في السفر ، كانت تتصور الله نجما أو قمرا أو شمسا ، اما الامة التي كانت تعيش ضمن القبيلة والتقاليد الموروثة ، فانها كانت تقدس الجد الأكبر لها ، وبالتالي فإنهم كانوا يتصورون الله شيخا كبيرا ذا لحية بيضاء.

وقد جاء في بعض الكتب الحديثة التي انطلقت من الغرور العلمي ، أحاديث مسهبة خلاصتها :

(انه لما كان الله موجودا في كل مكان وليس له صوت ولا صورة فهو إذا الجاذبية).

وقال بعضهم بان الله هو الوجود.

وروي عن الامام الصادق (ع):

«ولو ان النملة تصورت ربها لتصورت له قرنين» (٢).

ومن أجل ان يقطع الإنسان على نفسه الدخول في هذه الدائرة عليه أن يقول :

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٨٩ نقلا عن بعض الجهلة

(٢) الحديث منقول بمحتواه وليس بنصه

١٧٥

«سبحان الله» فينزهه لأنه اجلّ من ان يتصور ، وفي حديث عن الامام الباقر (ع) يقول حين سأله ابن أبي نجران عن التوحيد : أتوهّم شيئا؟ فقال :

«نعم غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، لا يشبهه شيء ولا تدركه الأوهام ، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل ، وخلاف ما يتصوّر في الأوهام. انما يتوهم بشيء غير معقول ولا محدود» (١)

وبالتالي فان كل ما نتصوره مخلوق مردود إلينا ، والشيء الوحيد الذي يمكن ان نقوله عن ربنا هو : «سبحان الله» فاننا متى ما قلنا ذلك اقتربنا الى الله خطوة.

جاء في الحديث عن الامام الباقر (ع) وقد سأله البعض : يجوز ان يقال لله انه شيء؟ فقال :

«نعم تخرجه من الحدين حدّ التعطيل ، وحد التشبيه» (٢)

وهذا معنى الاعتراف بالله ، لذلك بدء القرآن حديثه بالتسبيح فقال :

[١] (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)

ما هي علاقة تقديس الله وتنزيهه بالحادثة التاريخية التي وقعت لرسول الله (ص) وهي حادثة الإسراء والمعراج؟

قال بعض المفسرين ان التسبيح هنا بمعنى التعجب اي عجبا. كيف اسرى الله

__________________

(١) المصدر ج ٣ ص ٢٦٦

(٢) المصدر ص ٢٦٢

١٧٦

بعبده من البيت الحرام الى المسجد الأقصى ثم عرج به الى السماء هذا صحيح. ولكن يبقى السؤال ما هي العلاقة بين التسبيح والتعجب؟ الواقع اننا حين نتعجب من شيء ، فان الشيطان والنفس الامارة بالسوء يوسوسان لنا بأن ذلك الشيء هو عظيم الى حد الالوهية ، ومن أجل ان نبتعد عن هذا الشرك علينا ان نسبح الله وننزهه لنتذكر بأنه أكبر من أيّ شيء عجيب قد يبهرنا.

وهكذا عند ما اسرى الله بالنبي (ص) من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، ثم عرج به الى السماء كان من الممكن ان يعتقد البعض بان النبي (ص) هو الإله ، لذلك كان يلزم ان تبدأ القصة ب «سبحان الله».

ولمفردات اللغة العربية معان دقيقة فمثلا : إذا ذهب أحدهم في أول الصباح الى مكان ما يقال عنه (بكّر) وإذا كان بعد ذلك بقليل قيل (صبّح) وبعد مدة (غدي) ثم (أضحى) وفي النهار يقال (سرب) واما في الليل فيقال (سرى).

والقرآن في هذه الآية يقول «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» يعني اسرى به في الليل ، فلما ذا تقول تتمة الآية : «بِعَبْدِهِ لَيْلاً»؟

قد يكون ذلك لما يلي :

أولا : اسرى بعبده اي ذهب بالليل ، ولكن هل كان رجوعه في الليل أيضا؟ ان كلمة «ليلا» جاءت هنا لتؤكد على ان الذهاب والإياب كان في الليل ، تأكيدا لمعجزة الإسراء.

ثانيا : قد يكون تأكيد الآية على ان هذا الحدث العجيب قد تم في الليل ، حيث السكون والهدوء ، وحيث لا يتم الانتقال فيها إلا قليلا ، ثم ان العروج الايماني يتم في الليل أكثر من النهار ، قال ربنا : «(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً

١٧٧

وَأَقْوَمُ قِيلاً)».

اما محل انطلاق رسول الله (ص) للاسراء فقد اختلفت الروايات في ذلك ، فمنهم من قال : بأنه خرج من المسجد الحرام ، وبعض قال : من بيت أم هاني بنت أبي طالب ، ولكن يمكن جمع الخبرين بالقول : ان الرسول (ص) كان في بيت أم هاني ، ثم خرج الى المسجد الحرام ، ومن هناك بدأ رحلته الى المسجد الأقصى ، اي المسجد الأبعد من المسجد الحرام.

واما العروج فقد كان من المسجد الأقصى الى السماء ، حيث رأى آيات ربه الكبرى ، إذ يقول تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) وفي آية أخرى يقول : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١) ولكن ما هي تلك الآيات؟ واين هي؟

القرآن لا يحدثنا عن هذه الآيات انما نجد هناك إشارات الى هذه الآيات في الأحاديث كما سيأتي ذكره.

اما كيف تمت تلك الآيات والحوادث في ليلة واحدة في حين انها تحتاج الى مدة مديدة؟ فان ذلك اثار التساؤلات لدى العلماء ، فقال بعضهم : بان الزمان في الفضاء الأعلى يختلف عمّا هو عليه في كرتنا الارضية ، ولهم في ذلك بحوث مطولة لا يسع المجال لذكرها ، وأساسا هناك تساؤلات حول كيفية حدوث الإسراء لشخص الرسول كالتالي

١ ـ كيف قطع الرسول المسافة بين المسجدين في ليلة ، علما بأنها كانت تقطع في ذلك الزمان في أسابيع؟

٢ ـ وبعدئذ كيف اخترق جاذبية الأرض الى الفضاء ، ونحن اليوم لا نقدر

__________________

(١) سورة النجم (١٨)

١٧٨

على مثله الا بمركبات فضائية متطورة ومعقدة ، ومع ذلك فانها لا تستطيع ان تعمل الا في حدود ضيقة جدا ، بالنسبة الى الرسول صلّى الله عليه وآله؟

٣ ـ وإذا كانت السموات جميعا عرصة رحلة الرسول ، فيقتضي ذلك ان تكون سرعة المركبة أضعاف سرعة النور بملايين المرات ، لان الرسول قطع ـ حسب الروايات ـ تلك المسافات في ساعات.

وتساؤلات اخرى جعلت طائفة من العلماء يشككون أنفسهم في المعراج ، حتى ان بعضهم أوله بأن روح الرسول هي التي عرجت وليس النبي (ص) بجسمه وروحه.

بيد ان إجماع علماء آل البيت عليهم السلام قائم على ان العروج كان بالجسم والروح كما يحكيه شيخ الطائفة الطوسي (قدس الله سره) والشيخ الطبرسي (ره) والعلامة المجلسي وآخرون. (١)

وهكذا ذهب أكثر المحققين من علماء المسلمين الى ذلك وعليه روايات صحاح مشهورة حسب ما يحكيه المفسر المعروف الرازي. (٢)

ويدل على ذلك :

أولا : ان الآية صريحة على ان العروج تم «بعبده» كما جاء في هذه الآية وتصرح آيات سورة النجم بقوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى). (٣)

__________________

(١) راجع تفسير نمونه ص ١٣ ج ١٢

(٢) المصدر ، ويراجع أيضا تفسير الرازي

(٣) سورة النجم ١٣ ـ ١٨

١٧٩

وهذا التعبير صريح في ان العروج تم به وليس بروحه (ص).

ثانيا : ان الرسول (ص) قص على الناس في مكة وأكثرهم كفار قصة المعراج ، فكذبوه وأخبرهم بما رأى في الطريق مما ظهر صدقه لهم بعدئذ ، ولو ان العروج كان بروحه في مثل النوم ، لكان الأمر غير ذي بال ، ولا يثير التساؤلات عندهم.

وعلى العموم لا بد ان نعرف : ان عروج الرسول لم يكن مثل صعود المركبات ، بل كان اعجازا مثل صعود عيسى وإدريس (ع) ومثل ما فعل الله سبحانه وتعالى لأنبيائه (عليهم السلام) من طوفان نوح ، وخمود النيران لإبراهيم (ع) وابتلاع عصى موسى (ع) لحبال سحرة فرعون واحياء الموتى على يد عيسى بن مريم (ع).

وكما القرآن اعجاز تحدى كل العلماء والبلغاء ، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ، كذلك أسراء النبي (ص) ومعراجه.

اما كيف تم ذلك فان العلم يتقدم ، وامامه طريق طويل حتى يستطيع ان يكشف اسرار هذه الرحلة المادية الروحية العجيبة.

بل فهذا العلم تقدم خطوات ، وأظهر ان قطع المسافة بين المسجدين في ليلة واحدة ممكنة ، ثم تقدم واثبت ان الصعود الى الفضاء هو الآخر ممكن بصورة اجمالية ، بينما كان الأمران محالان عند السابقين حين تمت رحلة الإسراء والمعراج ، وسوف يتقدم ويتقدم ليكشف بعض اسرار الرحلة المعجزة.

وأخيرا لنعلم ان عروج الرسول كان رحلة روحية أيضا ، بالاضافة الى انه كان رحلة مادية ، حيث شاهد الملائكة والأنبياء السابقين ، والجنة والنار ومن فيهما.

حديث الإسراء :

في الحديث المروي عن تفسير القمي ، عن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن

١٨٠