من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

وعبّر القرآن عن وضعهم بعد الكفر بأنهم تخلفوا إلى أن أصبحوا يحيط بهم الجوع والخوف كما يحيط بهم اللباس.

وقد لا تكون هذه القرية واحدة عبر التاريخ ، فربما تشير الآية الى آلاف القرى التي تردت الى هذا المستوى بسبب كفرها ، وفي حديث مأثور يقص علينا قصة واحدة من تلك القرى فيقول : «نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له «الثرثار» وكانت بلادهم خصبة كثيرة يستنجون بالعجين ويقولون : هو ألين لنا ، فكفروا بأنعم الله ، واستخفوا فحبس الله عنهم الثرثار ، فجدبوا حتى أحوجهم الله الى أكل ما يستنجون به ، حتى كانوا يتقاسمون عليه» (١)

الحجّة التامة :

[١١٣] ولقد جاءهم رسول من أنفسهم يدعوهم الى الشكر ، فلم يستجيبوا له حتى أخذهم الله بعذاب شديد ..

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ)

وفي نهاية هذا الدرس القرآني الكريم ينبغي أن نطرح عدة نقاط هامة :

ألف : أن قصة هذه القرية التي تتكرر عادة في كلّ عصر ، توحي إلينا بضرورة مواجهة المؤمن لضغط قد يكون أشد من ضغط الإرهاب ، ذلك هو ضغط الإغراء ، فمع الرفاه والأمن يزداد شره النفس وشبقها ، وبالتالي احتمالات الغفلة عن الله وعن حقوق الإيمان به.

__________________

(١) الميزان ـ ج ١٢ ـ ص ٣٧٥.

١٤١

وإذا كان عمار قد تعرض لإرهاب قريش ومعه أكثر أصحاب النبي (ص) فتحدوا بإيمانهم ذلك الإرهاب العظيم ، فإن بعض أصحاب النبي قد غرتهم الدنيا بعد أن فتح الله عليهم ، فأخذوا يخوضون في أموال المسلمين «خوض الإبل بنبتة الربيع» ـ كما يقول الإمام علي (عليه السلام).

من هنا أكدت الآيات (١١٢ و١١٣) على ضرورة مواجهة ضغط الإغراء بعد أن أكدت الآيات (١٠٦ الى ١١١) في هذا الدرس على مسئولية مواجهة الإرهاب الجاهلي.

باء : ان ربنا الرحيم يرسل أنبياء في مراحل هبوط الحضارات لكي يوقفوا تدهور المجتمع ، ولكن أغلب المجتمعات تسترسل مع عوامل الانهيار حتى النهاية الأليمة ، وهكذا بعث الله رسول هذه القرية فلما كذبوه أخذهم عذاب عظيم.

جيم : لقد أشرنا في بدايات هذه السورة الكريمة إلى ان سياقها يوحي بمناهج البحث وسبل الحصول على المعرفة ، وفي هذا الدرس ذكرنا الله بمعنى الإيمان الذي هو أرفع درجات العلم ، كما أشارت آية كريمة منه ـ هي الأولى ـ إلى المسؤولية التي تتبع الإيمان ، بل هي جوهره ، وإلى استثناءات المسؤولية.

ويشير حديث نبوي شريف إلى هذه الآية في هذا الحقل فيقول : «دفع عن أمتي أربعة خصال : ما أخطئوا ، وما نسوا ، وما أكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وذلك في كتاب الله : ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ))». (١)

__________________

(١) المصدر ـ ص ٣٥٩.

١٤٢

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)

______________________

١١٥ [باغ] : غير طالب للمحرم للذة أو استئثار.

[ولا عاد] : ولا متجاوز ما يسد الرمق.

١٤٣

السبيل الى شكر النعم

هدى من الآيات :

لكي يشكر الفرد نعم الله لا بد ان يعرف حدود التصرف في هذه النعم ، وبمناسبة الحديث عن العلم والايمان والكفر والارتداد الذي مر في آيات سبقت ، ترى هذا الدرس الكريم يأمرنا بان نأكل من رزق الله شريطة ان يكون حلالا من ناحية المكسب وطيبا من ناحية ذات المأكول ، ولكن علينا ان نؤدي حقوق النعم فلا نخضع لغير الله ابتغاء الحصول على بعض النعم.

وعلينا ان نتفقه في الدين ، فلا نحلل ونحرم حسب اهوائنا ، كلا .. انما حرم الله علينا الميتة والدم ولحم الخنزير والذبيحة التي ذكر عليها اسم غير الله ، اما من اضطر من دون ان يكون معتديا ومسرفا فان الله يغفر له ، ولا يجوز ان تتحرك ألسنتنا بالحليّة والحرمة من قبل أنفسنا ، فهذا كذب وافتراء على الله ، ومن يفتري على الله الكذب فانه لا يفلح ، لأنه لا يحصل الا على متاع قليل بينما له عذاب اليم.

وقد يحرم الله أشياء اضافية بسبب ظلم الناس ، كما بين لنا في آيات اخرى انه

١٤٤

حرم أشياء على بني إسرائيل لظلمهم.

وقد يعمل الإنسان شيئا بجهالة ، ثم يتوب الى الله ، ويصلح ما أفسده بعمله ، فان الله من بعد ذلك غفور رحيم.

بينات من الآيات :

حدود الانتفاع بالنعم :

[١١٤] العدالة في المعاش تتحقق بالانتفاع المناسب من رزق الله ، اما الذين لا يستفيدون من نعم الله ويزعمون ان ذلك زهد فانه بعيد عن تعاليم السماء ، فربنا يقول :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)

بيد ان حدودا ثلاث تحيط بهذا الانتفاع وهي :

ألف : ان يكون الرزق من نصيبك ، لا من حق الآخرين حتى يكون حلالا لك.

باء : أن يكون طيبا ، فأكل الخبيث كالنجس والحشرات ـ والخبائث الأشياء المضرة والعفنة ـ لا يجوز.

جيم : ان تؤدي حق النعمة ، بان تعرف انها من الله ، ثم لا تنسى المحرومين ، فاذا قويت بها نشطت في عمل الخير ، بعد ان تذكر ربك بحمده ..

(حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)

[١١٥] ولا يجوز أن يحرم الفرد على نفسه الطيبات باسم الدين ، بل المحرمات

١٤٥

أشياء معروفة ..

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)

اي ذبح باسم الأوثان ، كالتي كان الجاهليون يذبحونها على اقدام أصنامهم!

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

بعد ان استثنى القرآن الإكراه من المسؤوليات ، يبين رفع التكليف عما اضطر اليه الإنسان من خلال حاجته الضرورية التي من دونها يتعرض للهلاك.

كيف نشكر الله؟

[١١٦] ولكي نشكر ربنا لا بد ان نلتزم بحدوده وشرائعه ، ولا بد ان نضمن صحة المصادر التشريعية ، فلذلك حذر ربنا من إصدار الأحكام من دون تثبت ..

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)

فالذي يسعد الإنسان هو الدين الحق ، وليست الأهواء التي تفتري وتسمى دينا!

جزاء الكذب والبدع :

[١١٧] إن نهاية المبدعين والكذابين أليمة ، إذ ان متاعهم في الدنيا قليل ...

(مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

يبدو من هذه الآية ان المبتدع لا يغير في الدين إلا لهوى في نفسه أو نفس

١٤٦

السلطان ، ولتحقيق مصلحة ذاتية ، يحذر ربنا منها ، ويهدده بعذاب اليم في مقابل تلك اللذة التي يصيبها بسبب التحريف.

[١١٨] ونتساءل : إذا كانت المحرمات محصورة بالتي سبقت ، فلما ذا نرى بني إسرائيل محرم عليهم أشياء كثيرة من الطعام وغيره؟!

ويقول ربنا جوابا عن هذا السؤال:

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

لقد ضيقوا على أنفسهم وظلموها ، فحرم الله عليهم أشياء كانت حلالا عليهم ، وجاء في آية اخرى : «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (١٦٠ / النساء).

التوبة والإصلاح :

[١١٩] (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

قد يكون وعي الفرد ناقصا وعلمه محدودا ولم يؤت فرصة للتوجيه الكافي ، فيرتكب بجهالته (وليس بجهله) ذنبا سرعان ما يتوب عنه فور ما يعود الى رشده ويملك الوعي والتوجيه ، فيغفر الله له ما سبق.

والجهالة غير الجهل ، فان الجهل عذر شرعي في الموضوعات وفي بعض الأحكام ، فلا يتناسب والتوبة التي وعدها الله لصاحب الجهالة ، بينما الجهالة ليست بعذر شرعي ، إذ يكفي ان صاحبها يعلم بصورة مجملة حدود الواجب الشرعي الذي عليه ،

١٤٧

ويمكنه ان يفتش عنه حتى يجده.

وقد جاءت في آيات عديدة كلمة الإصلاح بعد التوبة للدلالة على ان التوبة الظاهرية لا تنفع شيئا ، إنما ينبغي ان تكون التوبة نصوحا يتغير حال الفرد بها من سيء الى حسن ، ومن فاسد الى صالح ، وفي الآية بحوث تتصل بعلم أصول الفقه ندعها الى الكتب العلمية المتخصصة.

١٤٨

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

١٤٩

شكر النعمة وبرامج الوحي

هدى من الآيات :

الشكر يزيد النعمة ، والمجتمع الكافر يلفه الجوع والخوف ، والفرد الشاكر يبعثه الله أمة ويدخله في الصالحين ، كما كان إبراهيم الذي حنف عن ضلالة قومه الى الله الواحد ، وشكر أنعم الله فاجتباه الله وهداه الى صراط مستقيم ، وآتاه في الدنيا حسنة ، وأدخله في الآخرة في زمرة الصالحين ، ثم أمر الرسول بأن يتبع نهجه التوحيدي البعيد عن الشرك.

وأما المجتمع الكافر بأنعم الله ، فمثله مثل بني إسرائيل الذين اختلفوا في السبت ، فأخره الله عليهم وحرم عليهم فيه الصيد ، وسوف يقضي ربنا يوم القيامة في أمرهم.

وفي نهاية السورة يلخص الله برامج الوحي التي تتلخص في ثلاث كلمات هي :

١ ـ الدعوة الى سبيل الله بالحكمة ، دون أن يتكفل الداعية مسئولية الناس

١٥٠

عن إيمانهم أو ضلالتهم ، بل الله ولي ذلك.

٢ ـ وعند المواجهة يكون العقاب بقدر الذنب ، والانتقام بقدر الجرم ، والتنازل عن الحق الشخصي في الله أولى.

٣ ـ والاستقامة بالصبر على أذى الناس ، دون أن يحزن الداعية على مصيرهم ، ولا يخشى من مكرهم ، ذلك لان الله مع أهل التقوى والإحسان.

بينات من الآيات :

إبراهيم قدوة الشكر :

[١٢٠] على الإنسان أن يشكر نعم الله عليه حتى ولو كفر بها المجتمع الذي يعيش فيه ، أو ليس إبراهيم قدوة الإنسانية المثلى ، الذي شكر أنعم الله مخالفا سيرة قومه الجاهليين؟!

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً)

ولو كان رجل آخر في عهد إبراهيم مسلما لذكره الله ، ولكنه وحده تحدى مجتمع الفساد وكان ..

(قانِتاً لِلَّهِ)

خاضعا له قلبا ..

(حَنِيفاً)

تنكب طريق الضلالة إلى صراط العزيز العليم.

١٥١

(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

الذين أحاطوا به.

وقد جاء في الحديث المأثور عن الصادق (عليه السلام) : لقد كانت الدنيا وما كان فيها إلّا واحدا يعبد الله ، ولو كان معه غيره لأضافه اليه حيث يقول : ((إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) فصبر بذلك ما شاء الله ، ثم ان الله تبارك وتعالى آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة.

[١٢١] أبرز صفات إبراهيم التي تتناسب والسياق القرآني هنا : صفة الشكر التي أنهت بإبراهيم الى أن يختاره الله من بين الملايين من البشر المعاصرين له ، وأن يهديه الى الصراط المستقيم ..

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

وهكذا كلّ من شكر أنعم الله هداه الله الصراط المستقيم.

١٢٢] ولم يبق إبراهيم وحده ، بل آنسه الله بذرية طيبة لم تلبث أن تكاثرت حتى ملأت الدنيا ، وأما في الآخرة فهو في عداد الصالحين ..

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

[١٢٣] وجعله الله قدوة الأنبياء وأمام الناس ، حتى أن ربنا أمر نبيه الأعظم أن يتبع دين إبراهيم وطريقته ، لأنه كان مستقيما معصوما عن الزلل ..

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

والله لا يأمر باتباع المشرك أنى كانت الظروف.

١٥٢

بنى إسرائيل والابتلاء :

[١٢٤] (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)

ماذا تعني الآية في هذا السياق القرآني بالذات؟

لقد جاء في التفاسير : ان السبت بمعنى القطع ، وسمي السبت بهذا الاسم لان اليهود كانوا قد كلفوا بقطع العمل في هذا اليوم.

ثم قالوا : ان اختلاف اليهود في السبت كان بسبب انهم خالفوا أوامر الله في الاستراحة فيه ، ففرض الله عليهم ذلك ، وكان ذلك بمثابة الابتلاء.

وبعضهم قال : بل انه فرض عليهم يوم الجمعة ، وحين اختلفوا أخّره الله الى السبت.

وبقي السؤال العريض : ما هي علاقة الآية بما سبقتها؟

ربما الآية توحي الى أن بني إسرائيل أمروا بأن يعطلوا يوما يقضون فيه حاجاتهم الخاصة ، فلم يتفقوا على يوم ، بل كان كلّ فريق يتنافس وسائر الفرقاء في المكسب ، مما جعلهم في الحيرة ، وهنا جعل الله عليهم السبت ليقطع خلافاتهم ، وكان ذلك امتحانا لهم.

وهذا يتناسب مع السياق الذي يدلّ على أن بعض الأحكام الشرعية تشرع بسبب ظروف خاصة ، ثمّ إذا تغيرت الظروف زال الحكم ، وهذا أمر كثير في بني إسرائيل ..

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

١٥٣

وصايا للدعاة :

[١٢٥] وفي نهاية السورة التي خصصت آياتها بالوحي تقريبا ، وسميت باسم «النحل» الذي يوحي إليه الله سبحانه ما يشاء ، جاءت توصيات الى الدعاة الى الله من الذين يحملون الوحي.

الحكمة :

وأولها : الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة وقد ذكرت آيات القرآن في سورة الإسراء القادمة ، وفي سورة لقمان ، وسور أخرى معنى الحكمة ، وقد عرفها البعض بأنها الجانب النظري من العلم ، ولكنها في الواقع أكثر من هذا ، انها جماع الصفات النفسية والسلوكية الحسنة التي يذكر بها الله في آيات تأتي ..

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ)

وتتجلى الحكمة في الحديث الطيب الذي لا وهن فيه ولا خشونة ، انما هو حزم في لين ، وبلاغة في وضوح ، وجمال في إتقان ..

(وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)

وحين الجدال ينبغي ألّا يثور غضب الداعية ، فيصدر أحكاما كاسحة على الناس ، ولا يهن أمام الخصم فيتنازل له عن بعض الحقائق طمعا في استجابته للحقيقة ..

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

وقد جاء في حديث شريف ان الجدال بالتي هي أحسن هو القرآن ، ولا ريب

١٥٤

أن تفاصيل السلوك الحسن موجودة في القرآن الحكيم ..

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)

فلا يجوز اتهام الناس بالكفر والزندقة ، واتخاذ مواقف سلبية منهم جميعا ، بل الله يحاسبهم ، انما على الداعية أن يعمل بواجبه في دعوتهم الى الله.

وجاء في حديث طويل معنى الجدال بالتي أحسن : بأنه اتباع الحق في كل مراحل الحديث ، فلا ينكر حقا لزعم انه ينفي حقا أكبر منه ، ولا يقبل بباطل لأنه ـ في زعمه ـ يثبت حقا أكبر منه ، كلا .. ينبغي أن نصل الى الهدف الحق عبر وسيلة الحق نفسه.

وكلمة أخيرة : إنّ الآية هذه تدلّ على ضرورة تحكيم العقل في أسلوب الدعوة الى الله.

العدل :

[١٢٦] والوصية الثانية للدعاة : التزام العدالة في معاملة الأعداء ، فلا يسرف في العقوبة ، بل يسعى الدعاة في تجاوز أنفسهم ، وأن يتنازلوا عن حقوقهم من أجل المصلحة العامة ..

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)

وجاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) لما رأى رسول الله ما صنع بحمزة بن عبد المطلب قال : «اللهمّ لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان على ما أرى» ثمّ قال : «لإن ظفرت لأمثلن ولأمثلن» فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ

١٥٥

فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فقال رسول الله (ص) : «أصبر أصبر

الاستقامة :

[١٢٧] والوصية الثالثة : صفات الاستقامة.

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)

فالصبر بالتوكل على الله ، وعدم التأثر بتغيّر الظروف وأقوال الناس ، وسعة الصدر في مواجهة المشاكل ..

[١٢٨] وفي نهاية السورة يؤكد القرآن على أن الله يؤيد الدعاة بشرطين :

الأول : أن يتقوا الله.

الثاني : الإحسان والطاعة ..

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)

نرجو أن نكون من الدعاة الى الله والقادة في سبيله .. إنّه عزيز حكيم.

١٥٦

سورة الإسراء

١٥٧
١٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة :

عن النبي (ص) أنه قال : «من قرأ سورة بني إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين أعطي في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والأوقية منها خير من الدنيا وما فيها»

عن الصادق (ع) انه قال : «من قرأ سورة بني إسرائيل في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه» (١)

__________________

(١) مجمع البيان ج ٦ ص ٣٩٣.

١٥٩
١٦٠