من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)

فهذا الذي يأمر بالعدل فصيح اللسان قوي الجنان لا يخضع للضغوط ولا يخشى من التهديد.

(وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

فهو قادر على أن يحقق أهدافه من أقرب الطرق ان هذان مثلان للمشرك والموحّد ، فبينما المشرك منغلق على ذاته ، لا يكاد ينفتح على العالم من حوله ، بل يجحد بآيات الله ويعبد ذاته ، ولا يسمع ولا يعقل ولا يتفكر ، ولذلك فهو ليس فقط لا يقدر على التخطيط السليم لنفسه ، بل إذا خطط الآخرون له شيئا لا يقدر على إنجازه ، أقول : بينما المشرك هكذا ، ترى الموحد ليس فقط عادلا بنفسه ، بل ويقود الآخرين نحو العدالة.

وهذان المثلان يمكن تطبيقهما على الجاهل والعالم أيضا ، لأن السياق يتحدث عن العلم أيضا.

[٧٧] والعلم والقدرة عند الله ، والعلم مفتاح القدرة.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

ولعلمه المحيط بكل شيء.

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)

فهو يأمر بها في أقل من رمشة العين فتأتمر.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

١٠١

ومن أراد العلم والقدرة ، فعليه أن يؤمن بالله ، ويتوكل عليه.

[٧٨] هل العلم من ذواتنا نحن البشر؟ إذا لكنا عالمين منذ الميلاد؟

كلّا .. حينما أخرجنا الله لم نكن نعلم شيئا ، ثم هيّأ الرب لنا وسائل العلم الظاهرة والباطنة ، فأعطانا السمع والأبصار ، كما أعطانا الأفئدة.

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ)

والسّمع هو : الأحساس الذي يتقدم ذكره في القرآن ، لأنه الاداة الأولى لنقل تجارب الأجيال الى بعضها عبر اللغة ، كما انها تنقل أيضا المفاهيم العامة الّتي تتجاوز الظواهر الجزئية ، ففائدتها أهم والتعبير عنها يأتي بصيغة مفرد (فلا يقال اسماع) لأن المفاهيم العامة أقرب الى المجردات الكلّية ، ويلاحظ فيها العموم الذي يتجلى بالأفراد ، بينما الجزئيات الّتي تعرف عن طريق البصر يلاحظ فيها التنوع ، فهي أقرب الى الجمع.

(وَالْأَفْئِدَةَ)

وهي القلوب الّتي تجمع الأفكار وتحلل المعلومات ، ولولاها لما كانت الحواس مفيدة الا بقدر فائدتها للحيوان أو أقل.

لعلكم تشكرون :

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

الهدف الأسمى لنعم الله على البشر ليس التكامل الجسدي والمادي ، بل المعنوي والروحي ، والتعرف على النعم وعلى اهميتها ، وعلى الفوائد الكبيرة لها ،

١٠٢

والانتفاع بها فيما أمر الله ، وفيما خصصت النعم لها ، والتعرف من خلالها بالتالي ـ إلى ينبوع الخير ومعدن الرحمة ، إلى الرفيق الأعلى .. كل ذلكم أسمى من الاستفادة الجزئية لهذه النعم حسب الحاجات العاجلة ، وكل ذلك يجمعه معنى الشكر.

والآية هذه لا تعني أن العقل وبالتالي العلم ينشأ بتكامل طبيعي عند البشر ، بل بالعكس تماما ، إذا كدت الآية على ان ربنا جعل لنا الأفئدة الّتي هي مركز العقل ، فمن دون هذه النعمة كيف كان يتسنى لنا العلم؟

[٧٩] وأشرف العلم معرفة الله ، ولا تتم المعرفة من دون الايمان ، إذ تبقى الشهوات وصفة الشرك كالسدود المنيعة الّتي لا تدع تيار المعرفة ينفذ الى القلب.

ان الجاحد لا يرى في الطيور الّتي تسبح في الفضاء الا ما تسجله اداة التصوير ، بينما المؤمن تنفذ بصيرته الى معرفة الله الذي أمسك الطيور في جو السّماء.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

اي في الهواء المحيط بالأرض ، ولو لا الهواء لما كانت الطيور قادرة على البقاء في الجو ، ولو لا الجاذبية المحيطة بالأرض لقذفت الطيور بمجرد صعودهن في كرة أخرى ، أو في الفضاء اللامتناهي.

[٨٠] وهكذا القلب المؤمن الذي أسلم لله يعرف ما وراء نعم الله من عبر وأهداف.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً)

أي محلا تسكنون اليه.

١٠٣

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ)

اي بيوت الجلد الّتي هي خفيفة للسفر والحضر.

(وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها)

اي أصواف الضأن وأوبار الإبل واشعار المعز.

(أَثاثاً)

كالفراش والدثار الّتي يتمتع بها الإنسان لأجل مسمى.

(وَمَتاعاً إِلى حِينٍ)

[٨١] تلك كانت نعمة السّكن ، وأمتعة الإنسان الّتي تحفظ البشر من اختلاف الحر والبرد ، وظلال الأشجار تقي السّائر في الصحراء حر الظهيرة ، والكهوف تحمي الإنسان من عادية البرد والحر ، ومن الوحوش الضارية.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً)

كالأشجار الّتي أنبتها الله في الأرض ليستظلها الإنسان.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً)

اي مواقع تستترون فيها.

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)

فهناك ملابس السّلم تقي حرّ الجو ، وملابس الحرب (كالدروع) تقي حرّ

١٠٤

السّيف.

(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)

هكذا يحوط الله برحمته الواسعة الإنسان الضعيف ، ليعلم حاجته الى ربه ، فيسلم اليه وجهه ، ولا يتجبر عليه.

إذا الهدف الأسمى لنعم السّكن وما يحفظ البشر من شرور الطبيعة هو : دفعه الى التسليم لربه ، ليحافظ بذلك على نفسه من غضب الله.

الهداية بين الإكراه والاختيار :

[٨٢] ولكن لا تبلغ قوة الدفع درجة الإكراه ، فالله يريد ان يهدي الإنسان بما يوفر له من نعم ، ولكنه لا يريد أن يجبره على ذلك ، فاذا أعرض عن الرسالة فليس على الرسول سوى إبلاغ الرسالة اليه.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

[٨٣] وليس النقص في الآيات ، أو في وسائل المعرفة عند البشر ، بل في ارادة الكفر الّتي عقدوا العزم عليها.

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)

١٠٥

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)

١٠٦

لا يؤذن لهم ولا هم يستعتبون

هدى من الآيات :

الّذين يتولون ويعرفون نعمة الله وينكرونها ـ حسبما ذكرهم الدرس السّابق ـ ينتظرون يوم العذاب الأكبر ، حين يبعث الله شهيدا من كل طائفة من الناس ليشهد عليهم ، فاذا شهد لزمهم العقاب دون أن تجري محاولة لإصلاحهم كما كان في الدنيا ، ثم حين العذاب لا يخفف عنهم شفقة بهم ، ولا تعطى لهم مهلة لدخولها ، ولا تبقى لديهم حيلة الّا محاولة يائسة لإلقاء مسئولية انحرافهم على من أطاعوهم واتبعوهم من دون الله وهم الشركاء يتبرءون ـ بدورهم ـ من أمرهم ، وسكت الجميع واستسلموا لله ، وتبخرت الأفكار التبريرية الّتي كانوا يفترونها من دون الله.

ولكن الكفار الّذين أضافوا الى كفرهم جريمة إضلال الناس ، وقطع الطريق على من أراد مرضاة الله ، لهؤلاء المزيد من العذاب بسبب افسادهم في الأرض وإضلال الآخرين.

١٠٧

بينات من الآيات

من الشاهد؟

[٨٤] كل جيل من البشر ، وكل فريق من الناس يعيشون في قرية أو ضاحية ، يشهد عليهم واحد منهم ، يكون أفضلهم سلوكا وأقربهم الى الله زلفى ، ابتداء من الأنبياء والأولياء ، ومرورا بعباد الله الصالحين والعلماء العدول ، وانتهاء بكل من يسبق من حوله في طريق الله خطوة واحدة ، فحتى هذا الأخير شهيد على الآخرين بنسبة تلك الخطوة الّتي سبق الناس بها الى الله.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)

وهذا الشهيد هو أمام قومه عند الله ، فان اتبعوه ظاهرا قادهم الى الجنة ، وان خالفوه ساقهم الى النار ، وشهد عليهم عند رب العالمين.

يقول العلامة الطبرسي : بيّن سبحانه أنه يبعث فيه (يوم القيامة) من كل أمة شهيدا وهم : الأنبياء والعدول من كل عصر ، يشهدون على الناس بأعمالهم. وقال الصادق (ع):

«لكل زمان وأمة امام تبعث كل امة مع أمامها» (١)

(ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)

اي انهم لا يمكنهم ان يعتذروا ، ولا يحاول أحد ارضاءهم أو إصلاحهم كما كان الشهداء يفعلون في الدنيا ، فيسعون من أجل إصلاحهم والاستماع الى حديثهم.

[٨٥] ويوم القيامة يعرض الظالمون الّذين غصبوا حقوق الآخرين ، واعتدوا

__________________

(١) مجمع البيان الجزء ـ ٦ ـ الصفحة ٣٧٨

١٠٨

على حرمات الله ، يعرضون على النار ثم لا يخفف عنهم العذاب ولا تعطى لهم مهلة.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)

اما قبل ذلك في الدنيا فإنهم قادرون على تخفيف العذاب عن أنفسهم بالتوبة ، وتأخيره بالدعاء.

مسئولية الانحراف :

[٨٦] ويبدأ يومئذ الصراع السّاخن بين المشركين ، وبين من عبدوهم من الطغاة ورموز الفساد السّياسي والاجتماعي والاقتصادي ، فيتبرأ كل فريق من الآخر.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ)

وطلبوا من الله ان ينزل بهم العذاب ويتركهم ، لأنهم كانوا ـ في زعمهم ـ مجبورين ، كانوا شعبا اعزلا لا حول لهم في مقاومة الطاغوت ، كانوا أبناء قبيلة لا قوة لهم في التمرد على رئيس القبيلة ، كانوا جميعا رعاع لا علم لهم حتى ينتقدوا علماء السّوء ووسائل الاعلام المضللة ، إذن ينبغي أن يتحمل القادة العذاب عنهم ، ولكن الشركاء وهم طغاة السّياسة والاجتماع والاقتصاد تبرؤوا بدورهم.

(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ)

اي ألقوا هذا الكلام.

[٨٧] وخضع الجميع ، الشركاء والمشركون بهم ، لله رب العالمين.

١٠٩

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ)

فرفعوا أيديهم خاضعين لله.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

فقد زالت عنهم نخوة الجاهلية ، وتلك الأفكار الباطلة الّتي زينوا بها شركهم ، زالت عنهم الأسماء البراقة ، والعناوين ، والشعارات ، وما فلسفوا به تسلطهم الباطل ، وما افتروا على الله كذبا.

عذاب المضل أشد :

[٨٨] ولكن لا يعني هذا أن الشركاء متساوون في العذاب مع المشركين ، كلا .. القادة الّذين ظللوا الناس أشد عذاب ، لأنهم أفسدوا عقول الناس ، ومنعوهم من ممارسة حريتهم والسّير في طريق الله.

(الَّذِينَ كَفَرُوا)

بأنفسهم .. كفروا بالله ، ولم يشكروا نعمة الجاه والمال والعلم.

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

فاتخذوا هذه النعم وسيلة للتسلط على الناس ، ومنع الناس من ممارسة عبودية الله وتطبيق مناهجه.

(زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ)

اي فوق جزائهم الطبيعي من العذاب.

١١٠

(بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)

لأنهم صدوا الناس عن سبيل الله ، وأفسدوا فطرة الناس بتضليلهم وافتراء الكذب عليهم ، كما صدوا عن سبيل الله عمليا بالإرهاب ، فأفسدوا على الناس حياتهم بسلب الحرية والاستقلال عنهم ، والآية هذه تدل على أن التضليل نوع من الإفساد.

[٨٩] ويبعث الله الرسول شهيدا على الناس في عصره والعصور من بعده ، بعد ان زوده بكل ما ينفعهم ، كتابا .. فيه تفصيل مناهج الحياة ، ويهتدي به من أسلم وجهه الى الله ، كما يوفر له أفضل حياة ، ويبشر بحياة أفضل في الآخرة.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)

١١١

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها

١١٢

وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)

١١٣

العلاقات المثلى في المجتمع الإسلامي

هدى من الآيات :

لقد بينت الدروس السّابقة فضيلة العلم وقيمة التقوى وحاجة الإنسان إلى المدينة ببنائها وأمتعتها وإلى نظام اجتماعي توحيدي بعيد عن الشرك ، وإلى قيادة سماوية تتجسد في الرسول ، وها هو هذا الدرس يأمرنا بالعلاقات الإسلامية المثلى بين أبناء آدم ، بإن يعطى كل فرد حقه ، وأن يزاد له بالإحسان ، وأن يبني الحياة الأسرية على أساس العطاء ، وان يتقي الفحشاء والمنكر والاعتداء ، تلك هي موعظة الله الهادفة لتوجيه الإنسان.

وأن يحترم الجميع عهودهم وأيمانهم الّتي أشهدوا عليها الله ، والّا ينكثوا أيمانهم الّتي أكدوها بينهم ، كتلك المرأة الخرقاء الّتي كانت تنقض آخر النهار ما غزلته أوله ، فلا تجعلوا اليمين وسيلة للغدر للحصول على نصيب أوفر من الدنيا. ولا لكي يتعالى بعضكم على بعض ، ان الله يختبركم باختلافاتكم الطبيعية ، وغدا يبين لكم من كان منكم على حق ومن لم يكن ، ولو شاء الله لبيّن ذلك هنا ، فنصر صاحب

١١٤

الحق بالغيب الظاهر ، ولكنه شاء أن يدعكم أحرارا ليسألكم عن أعمالكم ، ولكي (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) حسب حكمته.

فلا تجعلوا الدين وسيلة للغايات المادية ، فتحلفوا كذبا وغدرا فتزل بالكفر قدم كانت ثابتة بالإيمان ، ويصيبكم سوء الجزاء بسبب انهيار الثقة بينكم. وصدكم عن سبيل الله المتجسد في العهد ، كما يسجل لكم عذاب عظيم.

وعهد الله الذي تخونونه أعظم شأنا من المصلحة المادية الّتي تبيعونه لها ، فإن ما عند الله لمن ثبت على عهده خير من مصلحة الدنيا الّتي تفنى ويبقى ما عند الله فقط ، والله يجزى الصابرين بخير ما عملوا.

ذلك الخير هو توفير حياة طيبة لهم ، في الدنيا وجزاء حسن في الآخرة.

بينات من الآيات :

العدل سنة اجتماعية وواجب الهي :

[٩٠] على كل واحد من أبناء المجتمع الاسلامي ان يكون عادلا ، يعطي كل شخص حقه الفطري والقانوني ، وليس الحفاظ على العدل مسئولية الدولة فقط ، لأن المجتمع الذي لا يشعر أبناؤه بضرورة تطبيق القانون واحترام حقوق الآخرين ، لا يمكن للدولة فيه أنى كانت أن تجبره على ذلك.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)

والعدل لا يتنافى مع اختلاف الدرجات الذي تشير اليه الآية الآتية ، إذ قد تكون المساواة أقبح ظلم ، فليس سواء الجاهل والعالم ، الكسول والنشيط ، المضحي بنفسه والجبان .. و. و. إلخ.

١١٥

وبالرغم من حاجة المجتمع إلى قانون يحدد أبعاد العدالة ، وحقوق الطبقات المختلفة ، حسب مساعيهم وحاجاتهم وحاجة الناس إليهم ، ومما يجعل للعدالة معان مختلفة حسب القوانين والأعراف.

إلّا ان العدالة واقع فطري لا يختلف البشر في خطوطه العريضة ، وان اختلفوا في التفاصيل.

ولكن قد يتعاسر الناس في تطبيق العدالة ، فنحتاج إلى القضاء الذي لا يرضى عنه كل الخصماء ، كما لا يطمئن الإنسان إلى نتائجه مائة بالمائة.

الإحسان ضرورة العدل :

ولذلك يأمر القرآن بالإحسان ، الذي هو التنازل عن بعض الحقوق للآخرين ، والذي يسع رحابه العدالة ويزيد .. فيقول :

(وَالْإِحْسانِ)

ويؤكد الإسلام على الإحسان لذوي القربى ليشكل الخلية الأولى في الكيان الاجتماعي.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى)

وجاء في بعض النصوص الاسلامية ان تفسير ذي القربى هو : «أهل بيت الرسول عليهم أفضل الصلاة السلام» وان الإيتاء هو الخمس المذكور في الآية (٤١) من سورة الأنفال ، وقد نستوحي ذلك من سياق الحديث عن شهادة الرسول على الأمة في الدرس السابق.

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)

١١٦

الفحشاء كما قال في المفردات : ما عظم قبحه من الأفعال ، ويبدو من أصل اللفظة أن الفحشاء هي تجاوز الحد ، والذي يتناسب مع الإسراف والتبذير ، ومن المعلوم : أن الإسراف أصل كل خطيئة ورأس كل رذيلة.

اما المنكر فهو الذنوب التي ينكرها الناس.

ويبدو ان معناه هو كل فحشاء قبيحة عند الناس ، وهي أشد من سائر أنواع الفحشاء ، بينما البغي هو تجاوز حقوق الناس بصورة علنية ، أو عن طريق الغش والخداع و.. و..

(يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

انها حقائق فطر قلب البشر عليها وهو بحاجة إلى من يذكره ويعظه بها.

الوفاء لا النقض :

[٩١] المجتمع الذي يمتلك أساسا لعلاقاته ، وركيزة يعود إليها عند الضرورة ، يستطيع ان يتبادل بسهولة ، والمجتمع الاسلامي قائم على أساس الالتزام بالعهد واليمين ، اللّذين يؤكدان باسم الله.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)

فلأن أبناء المجتمع يتمسكون بقيمة التوحيد ، ولأنهم لا يضحون بأيمانهم ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، فإنهم يعتمدون على بعضهم في أمورهم الاقتصادية ، وحتى في شؤونهم السّياسية.

إن الثقة المتبادلة هي أعظم رصيد يملكه المجتمع المسلم في معاملته مع بعضه ،

١١٧

ذلك لأن شرف التوحيد يأبى لهم ان يغدروا ببعضهم وهم يؤمنون برعاية الله عليهم.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)

[٩٢] تروي قصص العرب أن امرأة قرشية خرقاء كانت تغزل هي وجواريها عرض النهار ، فاذا أمسى نقضت الغزل ، وتركته كحالته السّابقة أنكاثا ، لا فتل فيه ولا إبرام ، فنهى القرآن الحكيم أن نكون مثلها ، نتعب أنفسنا في أمر الدين حتى إذا أحكمناه عدنا ننقضه بنكث العهد ونقض القسم.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ)

اي مثل «ريطة بنت كعب» خرقاء مكة التي غزلت بقوة ، ثم نقضت من بعد قوة.

(أَنْكاثاً)

جاء في (المجمع) : وكل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث ، حبلا كان أو غزلا.

(تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ)

اي تستخدمون اليمين وسيلة للغدر ، والدخل ـ في الأصل ـ كلما دخل الشيء ، وليس منه ، ويكن به عن الخدعة والخيانة.

(أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ)

اي بهدف ان تكون أمة أعلى من أمة اخرى وتتسلط على أختها وتحافظ على سيطرتها بالخداع.

١١٨

وما الحلف والعهد ، وما نوازع السّلطة والاستعلاء إلا ابتلاء الهي.

(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ)

ولن يصبح الحق باطلا بتضليل الناس ، ولن يصبح السّيء صالحا بتبريره للنفس أو للآخرين ، إذ ان هناك يوما يكشف الله فيه الحق لكل الناس.

(وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

[٩٣] ولكن لماذا لم يبيّن الله في الدنيا واقع الخدّاعين ، المتسلطين على رقاب الناس؟ ان لهذا حكمتين :

الاولى : ليمنح نعمة الهداية للبعض ، ويسلب نور العقل من آخرين حسب اختيارهم هم ، لا حسب علمه سبحانه.

الثانية : ليجازي صاحب الخير ، وفاعل الشر بالعمل الذي ما رسوه بكل اختيار وحرية.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

آثار اليمين الكاذبة :

[٩٤] وعاد السّياق ينهى عن الخداع في اليمين ، ويحذر من آثاره الفكرية والاجتماعية.

أ/ فمن الناحية الفكرية : حنث اليمين ونكث العهد يسبب ضلالة صاحبه ، فاذا بتلك القدم الثابتة بسبب الإيمان تزل بالحنث والنكث ، وماذا ينفع الثبات في

١١٩

أوضاع عادية ، إنما الثبات عند ما تهب عواصف المصالح.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها)

ب / ومن الناحية الاجتماعية : لا يمكن ان يستخدم الفرد يمينه (وبالتالي شرفه وحسن سمعته عند الناس) إلا مرة واحدة ، وبعدها يكشفه الناس ، بل وتشيع عند الناس فكرة خبيثة هي : أن أهل هذا البلد لا يحترمون اليمين ، فلا يحترم بعضهم يمين البعض ، وإذا سقطت قيمة اليمين الاجتماعية أغلق باب واسع للثقة وللتعاون ، وبالتالي أنهار البناء الاجتماعي ، ويذوق الجميع فاجعة تهاونهم باليمين ، وصدهم عن سبيل الثقة بها.

(وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

وسبيل الله هو كل خير ، وكل تقدم وعمران ورفاه للناس ، ومنع الناس عن سبيل الله. وصدهم عنه قد يكون بإغلاق طرق التعاون واليمين من أفضلها ، إذ لا شيء من القوانين والوثائق والضمانات والرهون بسهولة اليمين ولا بقوته في إشاعة الثقة والتعاون.

(وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

[٩٥] وكما اليمين العهد الذي يشتري به البعض ثمنا قليلا وإن كانت قيمة الثمن الذي يقبضه الفرد بيع شرفه وعهده وايمانه فانها ستكون قليلة ، لأنها تسقط هيبة العهد فيسد باب كبير للرحمة.

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

١٢٠