من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)

______________________

٩٦ [الصدفين] : جانبي الجبلين.

[قطرا] : نحاسا مذابا.

٩٧ [نقبا] : خرقا وثقبا.

٩٨ [دكاء] : أرضا مستوية.

٤٨١

ذو القرنين أسوة الحكم الفاضل

هدى من الآيات :

ماذا فعل ذو القرنين شكرا لنعمة السلطة والقوة التي وهبها ربه له؟ وماذا كان موقفه من هذه الزينة الحياتية؟ وماذا ينبغي أن يكون عليه موقف المؤمنين الصالحين من زينة الحياة الدنيا؟

كل ذلك مما تذكره هذه الآيات الكريمة ، في سلسلة أحاديث القرآن في سورة الكهف ، عن علاقة الإنسان بالطبيعة ، لقد بنى ذو القرنين سدا منيعا لا يخترق لقوم لا تربطه بهم علاقة الا علاقة الخدمة الانسانية ، ورفض أن يأخذ منهم أجرا أو يطالبهم بشكر ، انما هو الذي شكر ربه الذي وهب له هذه القدرة.

ولقد شكر ذو القرنين ربه مرتين ، مرة حينما استخدم القدرة في سبيل منفعة الناس ومرة حينما استخدم عمله وسيلة لهدايتهم ، وكشف للناس أن هذه القوة مما وهبه الله له من فضله وعرف بأن حاجة الناس الى الرسالة والهداية أعظم من حاجتهم الى قوته وسلطته ، فاستخدم تلك اللحظة التي شعر فيها أولئك الذين كانوا

٤٨٢

يتعرضون لهجوم مرعب كل عام مرتين بالأمن والراحة عند ما رأوا ان الله قد أنقذهم على يديه ، استغل ذو القرنين تلك اللحظة في سبيل توجيه الناس وهدايتهم ، وهذا منتهى ما يستطيع أن يقوم به صاحب سلطان أو صاحب قوة ، فهو حين يعطي ماله ـ مثلا ـ فيشبع جوعة مسكين أو يغني فقيرا ، أو يؤوي يتيما ، لا يكتفي بذلك ، وانما يبدأ بهداية ذلك الفرد ، فيقول : هذا المال ليس لي ، وانما هو لك ، وانه فضل من ربي ، ان الله قد يعطيك خيرا من هذا المال ، وهكذا يتحدث اليه فيفيده بحديثه أكثر مما يفيده بماله.

جاء للإمام الحسين (عليه السلام) فقير يطلب منه حاجة ، فأخذ أربعة آلاف درهم وجعلها في طرف عباءته ، ثم فتح جانب الباب ودفعها له ، مستحييا منه لكي لا يجعل الفقير يحس بالخنوع ، ولكي يربيه ويزكيه ، ويبيّن له ان إعطاء المال بحد ذاته ليس خدمة ، وانما الخدمة الحقيقية هي الأسلوب المهذب المتواضع ، وبالتالي فان الامام يعطيه من التربية أكثر مما يعطيه من المال.

والامام علي (ع) يأتيه رجل ويطلب منه حاجة ، فيشير اليه الامام بأن : أكتب حاجتك ، ولا تقلها مشافهة.

لكي يوفر عليه ماء وجهه ، وبذلك يعطيه من التربية أكثر مما يلبي حاجته المادية.

هذا هو الموقف السليم الذي يجب ان يتحلى به المؤمنون ، فيشكرون ما أعطاهم الله عليهم من فضله ويبنون علاقتهم بالآخرين على هذا الأساس.

وهناك درس آخر نستفيده من الآيات وهو : موقف الناس من صاحب السلطة ، وأنه مهما كان عليه ذو القرنين من سلطة كبيرة وعظيمة ، فان هذه السلطة من الله وبالله والى الله ، ويوم القيامة يحشر الناس الى ربهم لا الى سلاطينهم أو أغنيائهم ،

٤٨٣

وكل الناس في يوم القيامة سوف يختلطون ببعضهم ويموج بعضهم في بعض ، من دون ان يعرف هذا سيد وهذا مسود ، وهذا كبير وهذا صغير ـ بل يكونون كالنحل الذي يدخل بعضه في بعض عند الخلية من دون ان تكون هناك ميزة لواحدة دون أخرى ـ لا لكبير على صغير ، ولا لرجل على أنثى ، ولا لشيخ على شاب ، لأن الناس سيقفون على صعيد واحد عند ما يحشرون الى ربهم ، اذن فلتسقط هذه الاعتبارات الذاتية ، وليرتفع الإنسان الى مستوى القيم.

بينات من الآيات :

بناء السّد :

[٩٦] (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)

أي وفّروا لي قطع الحديد ، والزبر هي القطع المجتمعة من شيء ، سواء كان ماديا كالحديد أو معنويا كالفكر ، فالكتاب السماوي يسمى زبورا لان فيه أفكار مجتمعة الى بعضها ، وكذلك الحديد الذي يجتمع الى بعضه يسمى أيضا زبرا.

وبعد ان طلب أهالي البلاد من ذي القرنين ان يساعدهم في محنتهم ، جمعهم ذو القرنين ونظم قواهم ، وطلب منهم أن يجمعوا قطع الحديد التي كانت متوفرة في بلادهم ، ثم أمرهم بأن ينفخوا في النار حول هذه القطع الحديدية ، فاشعلوا النار وأخذوا ينفخون فيها كما ينفخ أصحاب صناعة الحديد قديما في النار بطريقتهم الخاصة.

(قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً)

التهب الحديد من شدّة النار وهكذا التحمت القطع الحديدية ببعضها ، ولم يكتف بذلك بل.

٤٨٤

(قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)

ثم طالبهم بأن يأتوا اليه بالنحاس المذاب ، ثم يصبّونه على القطع الحديدية المحماة ، ثم يتركونها مدة حتى تبرد ، فاذا بسد عظيم بين الجبلين مبني من قطع الحديد المتلاصقة ببعضها ، وعليها النحاس .. يزيده قوة لان الحديد تتضاعف قوته مع النحاس كما يقول أصحاب الفن ، يسد الخلل بين قطع الحديد. ويمنع عنه الصدأ.

وإذا كان هذا السد هو الموجود حاليا في منطقة القوقاز فان سلسلة الجبال التي تشكل حاجزا طبيعيا بين مناطق المغول ومنطقة القوقاز تكون قد اكتملت بهذا السد وأصبحت كحائط عظيم حيث ان مكانه هي الثغرة الوحيدة في المنطقة ولقد كان من أروع الانجازات المعارية في ذلك اليوم ولعله حتى اليوم يعتبر أقوى سد في العالم.

[٩٧] (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً)

كان مرتفعا بحيث لم يستطيع يأجوج ومأجوج أن يتسلقوه ، وكان متينا بحيث لم يستطيعوا ان ينقبوا من تحته نقبا ، ولعل ذا القرنين كان قد حفر حفيرة كبيرة وجعل الجدار الحديدي راسخا فيها بحيث لا يمكنهم النقب أيضا على المنطقة الصخرية الصلبة.

ان كل ما قام به ذو القرنين ، إعطاء الخبرة ، وتنظيم قوة الناس في بناء هذا السد ، فهو لم يأت بالحديد ، ولا بالقطر ، ولا بالقوة البشرية من بلده ، كل الامكانات كانت موجودة ومتوفرة ، ومع ذلك لم يتمكن أهالي تلك البلاد من الاهتداء الى مثل هذا العمل ، أما للاختلافات الموجودة بينهم ، أو لعدم تنظيم قواهم ، أو لنقص في خبرتهم الحضارية ، فلم يعرفوا أنه من الممكن ان يجمعوا قطع الحديد الى بعضها ، ويفرغوا عليها قطرا حتى تصبح سدا منيعا ، وهذا ما يؤكد على

٤٨٥

ان السلطة القويمة هي السلطة التي تجمع قوى الناس وتعبؤها في سبيل مصلحتهم.

نحن نرى بلادنا تفتقر الى الصناعات الثقيلة برغم توفر كل الإمكانات لديها لانشائها. لماذا؟

لأن ذلك يستدعي تعبئة طاقات الامة كلها ، فالسلطة يجب ان تبني الجامعات لكي تتوفر الكوادر القيادية من العلماء ، والفنيين ، والأخصائيين ، الذين يمكنهم الاستفادة من الامكانات البشرية ، والمادية بهذه الأمور ، وهذه هي الفوائد الاساسية للسلطة الحكيمة وعليها ان تستخرج المعادن ، وتبني المشاريع الضخمة لتوفير الطاقة من بترول وكهرباء وعليها ان تمد الجسور والطرق. وتبني الموانئ ثم توفر الخطة والمال والقوانين المنسقة من أجل بناء صناعات ثقيلة ، وهناك يبدأ دور التعب في السعي والكّد والإبداع.

وعد الله :

[٩٨] (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)

أظهر ذو القرنين في تلك اللحظة التي أعجب الناس فيها بعبقريته وأكبروه أيما إكبار أظهر عجزه امام الله لكي لا يفتن الناس به انما يعبدوا ربهم ، انه قال : ان هذا السد سدّ منيع وهو عمل حضاري عظيم ، ولكن سيتهاوى حينما يأتي وعد الله ، يوم القيامة أو يوم ظهور الحجة ، أو يوم انتهاء مفعول السد تتقدم البشر حضاريا كعصرنا اليوم ، أو يوم يضعف ايمان الناس الذين كانوا أمام السد ، لا نعلم انما المهم أنه في اليوم الموعود سيتهاوى السد ، والأمور كلها بيد الله.

انه وعد الله يأتي حتما وليس في ذلك أي ريب ، وعلى الناس أن لا يناموا على

٤٨٦

حرير الأمل ، وأنما يكون عندهم احساس بالخطر المستقبلي ، فيعملوا كل ما في وسعهم لتفاديه.

[٩٩] (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)

الناس يصبحون وكأنهم النحل ، أو كأنهم الطير في السماء يختلط بعضهم ببعض ، وتنعدم الميزات كلها بينهم.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً)

عند ما ينفخ في الصور يوم القيامة ، فان كل الناس يأتون فورا ودون أي تلكّؤ فلا أحد يرفض ، ولا أحد يتكبر ، ولا أحد يتكاسل ، وهذا دليل عجزهم ، ودليل شعورهم بالتسليم المطلق لأمر الله ، والذي كان ينبغي ان يكون عندهم في الحياة الدنيا ولم يكن.

[١٠٠] (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)

يرى الكافرون يومئذ طبقات جهنم ودركاتها الملتهبة ، وحيّاتها الرهيبة كالتلال وعقاربها الضخمة كالبغال ، فيمتلئون رعبا ويأسا ، ويعتصرهم الندم على ما عملوه في الدنيا ولات حين مندم.

[١٠١] (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي)

هذا الغطاء هم الذين وضعوه على أعينهم ، باتباعهم لأهوائهم وشهواتهم ، وبخضوعهم للتضليل الاعلامي الكافر الذي يحاول جهده في أن يحجب أنوار الحقيقة عن أعين الناس ، الّا ان ذلك الغطاء سيتمزّق يوم القيامة فيرى أصحابه ما ينتظرهم من مصير أليم وعذاب مقيم.

٤٨٧

(وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً)

لقد أغمضوا عيونهم ، وجعلوا بينهم وبين رؤية الذكر غطاء من كبريائهم وغفلتهم وعنادهم كما جعلوا في آذانهم وقرا ، وذلك الوقر هو الآخر نابع من كبريائهم وغطرستهم وتعاليهم الكاذب.

٤٨٨

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي

______________________

١٠٢ [نزلا] : النزول هو ما يهيء للضيف.

١٠٥ [وزنا] : قيمته واعتباره.

١٠٨ [حولا] : تحولا وانتقالا.

٤٨٩

لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)

______________________

١٠٩ [مددا] : الأمداد المساعدة.

٤٩٠

جزاء المشركين

هدى من الآيات :

عادة ما تكون بدايات السور القرآنية ونهاياتها تلخيصا لموضوعها الرئيسي ، وإلقاء للضوء على مجمل الأفكار التي بحثت في آياتها.

وفي نهاية سورة الكهف التي حدثتنا عن سلسلتين متوازيتين ومرتبطتين مع بعضها من الأفكار ، وهما الحديث عن موقف الإنسان من الطبيعة وزينة الحياة الدنيا ، والحديث عن العلم والذكر وكيفية الحصول عليهما ، نجد تلخيصا لهذين المبحثين.

الدرس الأخير يحدثنا عن أولئك الذين يتخذون عباد الله من دونه أولياء ولعل مناسبة الحديث ذكر قصة ذي القرنين صاحب السلطة الشاملة الذي لم يكن سوى عبد صالح. ولم يكن لأحد ان يعبده من دون الله وهكذا تخوّف آيات هذا الدرس من يعبدون البشر ، وتحذّرهم بأن جهنم هي مصيرهم المحتوم ، ثم تشير الى جذر هذه المشكلة وهي التبرير والخداع الذاتي ، حيث يعتبر ذلك في الواقع من أخطر الأمراض

٤٩١

الفكرية التي تواجه البشر.

ان المصاب بهذا الداء يعتقد أن ما يعمله صالح ، بينما هو في جوهره فاسد ، وهكذا تصبح كل تطلعاته الخيرة وراء ذلك العمل ، وتصبح وقودا للسير الحثيث في الطريق الخطأ ، فلا يصل الى شيء من أهدافه ، بل يجد كل الخسارة في انتظاره.

وهذا الداء لا يصاب به الإنسان الا في المراحل المتقدمة من ضلالته ، ففي البداية تظل النفس اللوّامة تحذّره من الانحراف ونتائجه الوخيمة ، ويطل ضميره يوبّخه ، كما ان عقله يظل يضيء له شيئا من الطريق الصواب ، بالاضافة الى أنه كثيرا ما يجد من ينصحه ويعظه ويبين له الحقائق ، لهذا يبقى له أمل بأن يقوّم ما أعوجّ من أمره.

ولكنه إذا استمرّ وعاند ، فآنئذ يسلب الله منه ضميره وعقله ، ويجعل على بصره غشاوة وفي سمعه وقرا ، ويختم على قلبه ، وينفضّ الناصحون من حوله ، ليحل محلهم من يزّين له السوء ويشجعه عليه ، فينتهي به الأمر الى أن يكون شيطانا مريدا.

ثم يبين القرآن حقيقة هامة هي : ان ما يحسبه الإنسان ذا شأن خطير في حياته الدنيا ، من مال ، وبنين ، وجاه ، وسلطة وما أشبه هو عند الله تافه الا إذا سار في طريقه المستقيم.

وفور ما يحدثنا القرآن عن ضلالة الإنسان في الحياة الدنيا ، يذكر لنا هذه الشهوات التي تحجب قلب الإنسان وتوقعه في وهدة الضلالة ، وتكون السبب في وصوله الى ذلك الدرك الأسفل ، حيث يعمل شرّا ويحسب أنه عمل صالحا.

ثم يعرج القرآن الى الجانب الآخر حيث المؤمنون الصالحون عملا يسكنون الفردوس وهي أعالي الجنان ، وحينما يدخل الإنسان ذلك المكان يجد أنه قد خلق

٤٩٢

له ، فلا يجد في نفسه طمعا ولا طموحا ولا تطلعا آخر ، لأن جنة الفردوس هي في مستوى طموحاته وتطلعاته ، ذلك الإنسان الذي لا يرضيه شيء في الدنيا ، والذي إذا حصل على القارات السبع فانه يريد أن يصعد الى النجوم ويحصل عليها ، وعند ما يرى الجنة يقول : كفاني ولا أريد عنها انتقالا.

وبالمقارنة بين هاتين الصورتين ، صورة الإنسان الذي تتحقق طموحاته كلها في الآخرة ، وصورة الإنسان الذي يعيش في الدرك الأسفل. هناك ، وهو يحسب أنه كان يحسن صنعا في الدنيا نتوصل الى معرفة الفرق بين طريق الحق (وهذه نهايته) وطريق الضلال (وتلك عاقبته).

هذه الحقائق هي من كلمات الله التي لا تنفد ، وهي المعارف والهدى والتوجيهات التي هي انعكاس عن سنن الله في خلقه للطبيعة والإنسان ، ولذلك على الإنسان أن لا يغتر بعلمه المحدود ويعتقد أنه قد فهم كل شيء ، فهذا الغرور هو الذي يسبب اعتقاده بأنه على الصراط المستقيم ، بينما الحقيقة عكس ذلك تماما.

وتنتهي هذه السورة بتلخيص فكرة الاستفادة من فيض هذه الكلمات التي لا تنفد ولو كان البحر مدادا لكتابتها ، وهي عبادة الإنسان لله ، وإخلاص طاعته له ، والعمل برجاء لقائه.

بينات من الآيات :

[١٠٢] (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ)

ان أكثر الكفر لا يكون بإنكار وجود الله ذاته ، وانما يتخذ صورا أخرى ومن أهمها : انكار ولاية الله وحاكميته التشريعية على البشر ، فنجد كثيرا من الكفار في الأزمنة السابقة وهكذا في زماننا الحاضر يقرّون بأن الله هو خالق السماوات والأرض وكل ما فيهما ، ولكنهم يضعون تشريعات من عندهم لادارة حياتهم

٤٩٣

اجتماعيا ، وسياسيا ، واقتصاديا ، وغير ذلك بزعم أن الله لم ينزل تشريعا سماويا عليهم ، بل تركهم في هذه الحياة سدى.

(إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً)

ان زعم هؤلاء لا يقوم على حجة سليمة ولا على دليل مقنع ، بل ان كل الحجج والأدلة المنطقية تناقضه وتؤيد ما هو ضدّه ، ولذلك فإنهم بهذا يعرضون أنفسهم لسخط الرب الذي أعدّ لهم مكانا يليق بهم وهو جهنم.

الأخسرون أعمالا :

[١٠٣] (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً)

[١٠٤] (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)

قديما حينما كانوا يريدون التأكد من جنون شخص كانوا يحضرون له برميلا بلا قعر ، ويطلبون منه أن يملأه ماء ، فان كان عاقلا امتنع عن ذلك ، وان كان مجنونا فانه يشرع في العمل بجد.

والأخسرون أعمالا هم كهذا المجنون ، يبذلون مساعيهم وجهودهم في الحياة ثم لا يقبضون شيئا ، كمن يصطاد الهواء بالشبك ، انهم لا يعلمون ما هو الشيء الباقي وما هو الشيء الزائل فمثلا يتعب الواحد منهم على أولاده ، ويضع جهوده ودينه وقيمه عليهم حتى يكبروا ، وما ان يبلغوا أشدهم ويعتمدوا على أنفسهم حتى يتركوا أباهم وحيدا في حسرته ، وأقصى ما ينفعونه تشييعه الى مثواه الأخير ، وقراءة الفاتحة على روحه أما في القبر والمحشر وعند الميزان فلا يغني أحد عن أحد شيئا.

وكذلك عند ما يسعى الإنسان من أجل الأموال ليكرّس الملايين فوق بعضها ،

٤٩٤

لقد مات (فورد) صاحب شركة السيارات المعروفة في خزائن أمواله ، حيث كانت عنده خزانة حديدية ضخمة مؤلفة من عدة غرف متداخلة لكل منها باب ، وكان يحتفظ بذهبه ومجوهراته وأشيائه الثمينة في الغرفة المركزية ، وفي يوم دخل الى مكانه المحبّب هذا ليتمتع ناظريه ويرفّه قليلا عن نفسه وكان كلما يدخل بابا يوصده من ورائه ، حتى إذا دخل في غرفة السعادة أوصدها على نفسه ، وقد نسي المفتاح في الخارج ، وعند ما شبع من النظر الى متاع الدنيا الرخيص أراد الخروج فلم يقدر ، فظل يصرخ ويصرخ ، ولكن صوته لم يكن ليخترق تلك الجدران الحديدية المتراكبة فوق بعضها ، فمكث عدّة أيام على هذا الحال الى أن مات.

ان هذا الإنسان الضال لم تنفعه أمواله ، ولم تنقذه من الجوع والعطش في الدنيا حيث المال له قيمة ، فما بالك في الآخرة حيث لا قيمة للمال إطلاقا؟!

[١٠٥] (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ)

ان السبب في وصول الإنسان الى هذا الدرك الأسفل هو : اعراضه عن آيات الله ، وعدم استعداده للقائه ، وهذا هو الكفر بالمبدأ والمعاد.

وأساسا يؤمن الإنسان وجدانيا بالله ، ويبحث بفطرته عن المعاد ، ولكن من الصعب عمليا أن يصل الإنسان الى مستوى الايمان بالله واليوم الآخر ، لذلك فهو يحتاج الى مزيد من الارادة والعزم ليصعد على هذه القمة فيحوّل ايمانه من اطار الفطرة والوجدان الى اطار العمل والتطبيق.

ان نفوس الكفار أصغر ، وعزائمهم أضعف ، وهممهم أتفه من أن تصل الى حقيقة الايمان ، لذلك تجدهم ينكرون آيات الله ويكذّبون بلقائه.

(فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)

٤٩٥

ان أعمال الإنسان لا تحفظ الا في اطار الايمان بالله واليوم الآخر ، كما يحفظ الماء في البرميل السليم ، أمّا وضع أعماله في أي ظرف آخر فسوف تكون كالماء الموضوع في برميل لا قعر له.

(فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)

برغم أنهم كانوا في الدنيا أثرياء وأصحاب سلطة وجاه ، وكان لهم وزن عند كثير من الناس ، الا أنهم يوم القيامة يأتون وليس لهم أي وزن ولا كرامة من عند الله ، وسوف يكونون أذل الناس وأحقرهم هناك.

[١٠٦] (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)

ان الإنسان عند ما يلجأ الى الهزء والسخرية في مقابل الحقيقة ومن يحملها ، فانه يكون في أقصى درجات العناد ، والانغلاق على النفس ، وقساوة القلب ، ان له الحق في أن يتشكك في بادئ الأمر ، ويطالب بالدليل ، ويجادل بالعقل الى أن يقتنع ويطمئن ، أما أن يواجه الرسول والرسالة بالاستهزاء ، فهذا دليل على أنه لا يريد اتباع الحق أساسا ، فيا ترى أي مكان يليق بمثل هذا غير جهنم؟!

جزاء المؤمنين :

[١٠٧] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)

[١٠٨] (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً)

يجب على الإنسان أن يكتشف أعماق ذاته ويتساءل : لماذا خلقت؟ وما الذي أطمح إليه؟

٤٩٦

انه في محاسبة رياضية بسيطة يستطيع أن يفهم أن هذه الدنيا وما فيها ليست كافية لاستيعاب طموحه ، فمن طموح الإنسان الخلود والاستمرار في الحياة ، انه لا يريد أن ينقلب الى العدم بعد الوجود ، وإذا كانت الدنيا قد خلقت لنا وخلقنا لها فلا أقل من أن نبقى خالدين فيها.

أحد الفلاسفة القدامى كان يقول : أنا مستعد أن يضعوني في جوف حمار ميّت ، وأظل أتنفس من دبره ، في مقابل أن أبقى حيّا في الدنيا!!

هذا الكلام غير منطقي ، ولكن يعبر عن نزعة حب البقاء عند الإنسان.

ولكن هل بقي أحد في الدنيا؟ كلهم أرادوا البقاء وكلهم ماتوا ، اذن فالدنيا ليست لهم ، وطموحهم هذا لن يتحقق فيها.

وبعيد عن حكمة الله ورحمته أن يخلق في كيان الإنسان رغبة لا تتحقق ، أو حاجة لا تلبى ، انه عند ما خلق العين خلق في مقابلها شيئا يرى ، وعند ما خلق الأذن خلق في مقابلها شيئا يسمع ، وعند ما خلق الجهاز الهضمي ، خلق في مقابله شيئا يؤكل ، وهكذا قل في سائر الحواس والأعضاء والغرائز ، وكذلك حينما خلق طموح الخلود ، والحصول على ملك لا يبلى؟ خلق وراءه حقيقة مناسبة له ، فما هي تلك الحقيقية.

انها جنة الفردوس في الدار الآخرة ، وهذا هو أبسط دليل وجداني على ضرورة البعث.

كلمات الله :

[١٠٩] (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)

٤٩٧

لو تحوّل الماء الموجود فوق الكرة الأرضية الى حبر لكتابة آيات علم الله وقدرته وحكمته ، وآثار فضله ونعمته ، لجفّ هذا البحر ولما يكتب الا النزر اليسر منها.

ترى أنهم في مجال الفضاء فتشوا عن أحدث الوسائل الالكترونية التي تساعدهم على رؤية النجوم والكواكب ، فاكتشفوا بعض المجرات ، ثم عادوا وصنعوا أجهزة أحدث فاكتشفوا مجرات جديدة ، وهكذا الى أن قال قائلهم : ان الله لا يزال يخلق ، فكلما صنعنا مراصد أضخم لرؤية ما تحويه السماء ، خلق الله في تلك الفترة مجرات جديدة لم تكن موجودة من قبل ، ولعلّ هذا هو مصداق الآية الكريمة : «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» ٤٧ / الذاريات.

وخلق الله أسرع من صنع الأجهزة التي نرى بها هذا الخلق ، فكيف تنتهي كلمات الله؟

هذه المجرات الواسعة في الفضاء المتناهية في الضخامة وتلك الذرات المتناهية في الصغر ، كلما درسوها وبحثوا حولها وجدوا فيها خصائص غير مكتشفة سابقا ، وآخر خصيصة اكتشفوها في الذرة استفادوا منها في صنع القنبلة النيوترونية.

ترى كم مجلد كتبوا حولها ، في طريقة صنعها ، والأسرار المرتبطة بها ، والمعلومات الخاصة باستعمالها؟

هذا بالنسبة للذرة المتواضعة التي لا ترى بأقوى المجاهر وهي واحدة من كلمات الرب ، اذن فكلمات الله لا تنتهي ، ولهذا يجب أن يتحدد غرورك أيها الإنسان ، ولا تظن أنك قد وصلت الى نهاية الحقيقة ، وانك على الطريق الصواب ، دائما ضع علامة استفهام أمامك ، وابحث عن الحقيقة ولا ترى نفسك أكبر منها أبدا.

[١١٠] (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ)

٤٩٨

ان الرسول ليس سلطانا ذا صولجان ، ولا ثريا ذا كنوز ، انما هو بشر مخلوق مثل الآخرين ، وميزته الوحيدة أنه يوحى اليه من السماء ، وهذا الوحي يتلخص في جملة واحدة هي :

(أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)

لذلك أسقطوا الأصنام في أنفسكم ومجتمعكم ، واعبدوا الله وحده.

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)

انهما شرطان بسيطان ، ولكنهما يمثلان مسئولية الإنسان في الحياة ، ويشكلان سفينة نجاته ضمن مسيرته في خضمّ الأمواج المتلاطمة ، والأعاصير العاصفة ، نحو الله الذي هو منتهى أمل العارفين ، وغاية آمال الطالبين.

٤٩٩

الفهرست

سورة النحل

فضل السورة........................................................... ٥

الإطار العام............................................................ ٧

وعلى الله قصد السبيل (١ ـ ٦)......................................... ١٧

لعلكم تهتدون (١٠ ـ ١٨)............................................. ٢٦

التكبر اسبابه وجزاؤه (١٩ ـ ٢٩)........................................ ٣٧

والعاقبة للمتقين (٣٠ ـ ٣٧)............................................ ٤٧

آثار الإيمان بالآخرة (٣٨ ـ ٤٤)......................................... ٥٥

إنما هو إله واحد (٤٥ ـ ٥٥)........................................... ٦٤

لله المثل الأعلى (٥٦ ـ ٦٣)............................................. ٧٤

الكتاب مقياس الحق ومظهر الرحمة (٦٤ ـ ٧٤)............................ ٨٤

يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها (٧٥ ـ ٨٣).................................. ٩٨

لا يؤذن لهم ولا هم يستعتبون (٨٤ ـ ٨٩).............................. ١٠٧

العلاقات المثلى في المجتمع الاسلامي (٩٠ ـ ٩٧)......................... ١١٤

كيف نفهم الكتاب؟ (٩٨ ـ ١٠٥).................................... ١٢٤

عاقبة الإرتداد (١٠٦ ـ ١١٣)......................................... ١٣٤

السبيل الى شكر النعم (١١٤ ـ ١١٩)................................. ١٤٤

شكر النعمة وبرامج الوحي (١٢٠ ـ ١٢٨).............................. ١٥٠

٥٠٠