من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

بعد أن يبين السياق هذه الأسوار الثلاثة ، يؤكد على بعض القيم المساعدة على توجيه الإنسان في هذا الاتجاه ، ويبيّن : ان كل عمل يعمله الإنسان يحفظ له سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان الإنسان منتميا الى الأيمان انتماء راسخا أو لم يكن كذلك.

ان العمل لا يضيع عند الله في أي شكل كان ، وبأي صورة ظهر ، والله يعوض الإنسان عن زينة الحياة الدنيا بالزينة الباقية في الحياة الآخرة ، تلك الحياة التي هي الحيوان عند الله المقتدر العزيز.

بينّات من الآيات :

بين الثوابت والمتغيرات :

[٢٧] (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ)

القرآن مصباح ونور ، وعلى الإنسان ان يتلوه وان يتبصر ويتعقل ، وبالتالي فلا يمكن الاكتفاء بالنور عن الرؤية ، لأن الإنسان الذي يغمض عينيه سوف لن يرى شيئا ، حتى ولو كانت الشمس في كبد السماء.

وربما يكون المقصود بالتلاوة هو التدرج ، وأن يبحث الإنسان عن الشيء دفعة دفعة ، وفكرة فكرة ، وهذه قاعدة منطقية معروفة اليوم وهي : إذا أردت أن تعرف شيئا فقسمه الى أجزاء صغيرة ، حتى تستطيع ان تسيطر عليه وتفهمه.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)

وهذا يبين لنا أن هناك خطا ثابتا في الحياة وخطا آخر متطورا ، والخط الثابت هو كلمات الله ، وهو الذي يجب ان يتعلق به الإنسان ، اما الخط المتغير فهو زينة الحياة

٤٠١

الدنيا ، الذي يجب ان يسيطر عليه الإنسان.

(وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)

إذا أردت أن تعتمد على شيء فلن تجد من دون الله من تعتمد عليه وتلتجئ اليه ، فكل شيء ينهار ، ولكن توكلك على الله سبحانه وتعالى سوف يبقى ، وهذا هو السور الذي يحمي كيانك.

الانتماء ، شروطه ومقوّماته :

وبعد أن تهيأ نفسك في البداية ، وتنتهي من تكوين شخصيتك ، فأن عليك ان تبحث عن رفاق المسيرة.

[٢٨] (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)

حينما تريد ان تنتمي الى جماعة فأن هناك عقبات في طريق انتمائك ويجب ان تتجاوز هذه العقبات وان تصبر نفسك عليها ، فلكل انتماء ضريبة وعليك ان تدفعها والسؤال : من الذين تنتمي إليهم؟

أنتم العابدون لله ليلا ونهارا ، ولكن الانتماء الى خطهم صعب وبحاجة الى صبر :

«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ»

ابحث عن هؤلاء وأنتم إليهم ، وتجاوز العقبات ، وضح من أجل انتمائك إليهم ، ولا تبحث حينها عن فوائد ومصالح خاصة ، بل وطّن نفسك على العطاء ، وان حسن

٤٠٢

الانتماء ليس في أن تحمّل افراد التجمع مؤنتك بل في ان تحمل معهم اعباءهم ، لذلك أكد القرآن هنا على كلمة الصبر.

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا)

قد يتأثر الإنسان باهتزاز في رؤيته الى الآخرين ، والى التجمع الذي يجب ان يتعلق به ويتفاعل معه ، وذلك الاهتزاز يأتي نتيجة ضغوط زينة الحياة الدنيا ، قد يرى الإنسان مؤمنا عجوزا أعمى ان دفعه دفعة يسيرة سقط ومات ، يرى الى جانبه ذلك الكافر ولكن البطل القرشي ذا المال والنسب ، فيعدّ هذا أحسن من ذلك ، ويكون شأنه كشأن ذلك الرجل المسلم من أصحاب رسول الله مع ابن (أم كلثوم) ، حيث اعرض عنه برغم ايمانه لأنه أعمى وفقير ، واقبل على من يمتلكون زينة الحياة ويفتقرون الى زينة القلوب (التقوى). فجاءت الآيات من سورة عبس تنذره وتوعده.

اجعل نظرك معلقا على هؤلاء المؤمنين واهتمامك موجها إليهم ، ولا تسمح بتسرب الإزدواجية في الولاء الى نفسك ، فتريد ان تنتمي الى جماعة رسالية ، وفي نفس الوقت تنتمي الى أصحاب الحياة والثروة ، حتى إذا ما أحرز هؤلاء تقدما كنت معهم ، وإذا حصل أولئك على مكاسب انثنيت إليهم ، ليكن ولاؤك خالصا ولا تكن انتهازيا!!

من صفات القائد :

(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا)

هذا التجمع بحاجة الى قيادة ، فمن هو القائد؟ وما هي صفاته؟

القرآن يقول : ان أهم صفة للقائد هي الروح الإيمانية المتصلة بذكر الله ، فلا

٤٠٣

تطع ذلك القائد الذي لا يتبع مناهج الله ، وقلبه فارغ من التقوى ، بالرغم من ان اعماله قد تكون في طريق التقوى ، كأن يصلي ويصوم أو يبني مسجدا وما شابه ، الّا ان قلبه فارغ من ذكر الله. كلا إذ كل يعمل على شاكلته ، (أي على نيته) ونية الإنسان هي التي تصبغ حياته ، وهدف الإنسان هو الذي يحدد مسيرته ، فكثيرون يبنون المساجد والمدارس وينفذون المشاريع الخيرية .. إلخ ، ولكن بعد أن يصلوا الى دفة الحكم يتخذون مال الله دولا وعباده خولا!!

فهل يجوز أن نتبع مثل هؤلاء؟

القرآن يقول : كلا .. ويعطينا مقياسا نميّز به من يصح اتباعهم ، وذلك المقياس هو القلب ، فأن وجدت قلب إنسان مضاء بذكر الله فلك ان تتبعه ، والا فلا يغرّك مظهره.

(وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)

إذا أردت ان تعرف هذا الإنسان يتّبع هواه ، أو يتبع الرسالة ، فأنظر الى تصرفاته ، فالذي يتبع الرسالة تكون تصرفاته وسلوكياته ثابتة مستقيمة ، وتستوحي هداها من برامج الله القويمة. اما تصرفات ذلك الذي يتبع هواه فهي تتغيّر حسب الهوى ، ويكون امره فرطا اي غير منظم ، وهذا هو السور الثاني. والخط الثاني للدفاع ضد غرور الشهوات.

وأما السور الثالث فهو :

[٢٩] (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)

حينما تقرأ القرآن وتستلهم منه ، وتنتمي الى التجمع الرسالي ، آنئذ تحدّ المستكبرين وادخل معهم في المواجهة والصراع ، ولكن كيف يمكن تطبيق هذه الآية

٤٠٤

والدنيا تمتلئ بالقوى الجاهلية؟

الله يقول :

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها)

سرادق النار في جهنم أشبه بالمعتقلات التي تحيط بها أسوارا عديدة ، بحيث يستحيل على المعتقلين ان يتخطوها ويفلتوا منها ، ودركات جهنم محيطة بأهلها ومغلقة عليهم ، فأين المفر؟

(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)

ان أهم شيء يحتاجه الإنسان الملتهب بالنار هو الماء ، ولكنه عند ما يطلب الماء فأنه يؤتي به شديد السخونة كالرصاص المذاب يشوي الوجوه.

والإنسان حينما يشرب شيئا ساخنا يحترق فمه وجوفه ، ولكن المهل لشدة حرارته فأنه يشوي جلد وجه الإنسان قبل ان يشرع في شربه ، فما ذا يمكن ان يحصل للبطن والأمعاء عند ما يستقر بها ذلك السائل الحارق؟

(بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)

ليست جيدة تلك الضيافة التي يضيّف الله بها عباده الظالمين ، في نار جهنم التي «ساءت مرتفقا» ، ولكن الله ذكرهم فأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، وانزل القرآن فلم يستمعوا له ولم ينصاعوا للحق ، واختاروا لأنفسهم هذا المصير الأسود.

[٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)

٤٠٥

وفي المقابل لا يضيّع الله أجر المحسنين ، وانظروا الى التعبير القرآني حيث يقول : «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» ولم يقل انا لا نضيع أجرهم ولعل معناه ان الأجر لا يضيع أنى كان ومن أي إنسان كان ، فالعمل الصالح إذا كان منك ايها المؤمن فأن الله لا يضيعه ، فأما ان يعطيك جزاءه في الدنيا واما في الآخرة ، وكذلك إذا كان من الكافر. فسوف لا يضيعه الله أيضا ، فأما يعطيه جزاءه في الدنيا أو يخفف عذابه في الآخرة.

ولقد قلنا سابقا : ان العمل الصالح تسبقه النية الصالحة ، حيث ان النية الصالحة هي التي تعطي للعمل صبغة الصلاح ، وبدونها يفقد العمل هذه الصبغة مهما كان ظاهره سليما وصالحا.

[٣١] (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ)

اي جنات باقية دائمة بعكس الدنيا التي تزول.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ)

بعكس ذلك الشراب الذي يشوي الوجوه.

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ)

تماما بعكس تلك الضيافة السيئة.

(وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ)

السندس والإستبرق أنواع من الأقمشة الحريرية الفاخرة.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ)

٤٠٦

اي هم في راحة وهدوء لا يجدون ما يجده الإنسان في الحياة من تعب ونصب ، ولا يحملون هموم العمل والاسترزاق.

(نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)

جاء في حديث عن الأمام علي (ع) يذكرّ فيه بدعائم الأيمان يقول : «من تذكّر الجنة سلا عن الشهوات.» فإذا رأيت قصرا لظالم بناه بهدم بيوت الآخرين ، فلا تسمح للشيطان ان يدفعك الى أنت تظلم الناس وتبني قصرا مثله ، ولكن قل إنشاء الله جعل لي قصرا في الجنة أفضل منه.

وإذا حدثتك النفس الأمارة باللجوء الى الكسل ، والراحة ، وترك الأعمال والواجبات المطلوبة منك ، فتحامل على نفسك وقل : إنشاء الله ارتاح على آرائك وثيرة في الجنة.

وإذا لمست رغبة عندك في أن تتمحور حول أصحاب الجاه والثروة ، فأسبق الزمن بمخيلتك ، وانظر الى نفسك وأنت في الجنة بجوار الأنبياء والأئمة والمؤمنين الصالحين ، الذين هم أمراء الآخرة وملوكها ووجهاؤها ، وبين الإنسان والجنة خطوة واحدة لا أكثر وهي الموت ، وبين غمضة عين وانتباهتها تجد نفسك انتقلت من الدنيا الى الآخرة. اذن ليفكر الإنسان بالحياة الأخروية القادمة ، ويتسلى عن الشهوات ، وبمجرد ان يفكر الإنسان بالموت والقبر والحساب ، فأن نفسه تنصرف تلقائيا عن الشهوات ، قال رسول الله (ص): «اذكروا هادم اللذات» أي الموت ، فلنكن معا من الذاكرين.

٤٠٧

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ

٤٠٨

جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)

______________________

٤٠ [حسبانا] : عذابا كالصواعق والآفات.

[زلقا] : الأرض الملساء والمستوية التي لا نبات فيها.

٤١ [غورا] : غائرا ذاهبا في باطن الأرض.

٤٠٩

الإنسان بين تأليه المادة وعبادة الله

هدى من الآيات :

سبق وان تحدثنا عن الإطار العام لسورة الكهف ، والذي يبين لنا نوعين من العلاقة بين الإنسان والطبيعة هما :

أولا : علاقة السيطرة والتسخير للطبيعة.

ثانيا : علاقة الانبهار بما فيها من زينة.

وفي هذه المجموعة من الآيات يضرب القرآن مثلا من تلك العلاقة التي تربط الكفار بالدنيا ، فيعتمدون عليها ويحسبون انها خالدة لهم ، ولكنها لا تلبث أن تنتهي ، وإذ ذاك يكتشفون ان العلاقة الصحيحة ينبغي ان تكون بينهم وبين ربهم ، وان الولاية الحق هي لله لا للمال والثروة ، ولا للجاه والسلطة.

٤١٠

بيّنات من الآيات :

بين الشكر والكفر :

[٣٢] رجل أعطاه الله جنتين ، وتوفرت له كل أسباب الزينة فبطر بها ، وبدل أن يشكر ربه اغتر بما أعطاه من ثروة ونعمة ، وبدل أن يعتزّ بمن أعطاه هذه النعمة ، اعتز بالنعمة ذاتها ، في حين ان من اعطى النعمة خالد دائم والنعمة منقطعة زائلة ، وهو أولى بالشكر والعبادة منها.

وحينما جادله صاحبه في هذا الأمر جدالا حسنا ، وحاول ان يذكره وان ينذره ويحذره من عاقبة بطره وغروره ، أخذته العزة بالإثم ، فكان مصيره ان خسر جنتيه ولم تبق له الا أرضا جرداء خاوية على عروشها ، قد غار ماؤها واحترق زرعها وأصبحت صعيدا جرزا.

وهكذا فقد استولت على الرجل كآبة فجرت قلبه ، وندم ندما شديدا على اغتراره بالنعمة ، واعتزازه بالولد والعشيرة الذين لم ينفعوه شيئا في محنته.

اما ذلك الرجل الفقير بماله وعشيرته ، والغني بإيمانه بربه وتوكله عليه ، فقد أخذ يردد هناك : هنا لك الولاية لله الحق.

وفي حديثه عن الجنتين ، وعن علاقة ذلك المشرك بهما ، يبين لنا القرآن بعض ضروب وعوامل الغنى التي وفرها لنفسه ولكنها لم تغنه عن الله شيئا ، فأصبح يقلب كفيه وليس فيهما الا الحسرة.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ)

اولا : يجسد أحد الرجلين الأيمان المتسامي عن زينة الحياة الدنيا ، بينما يستبد

٤١١

بالآخر حب الدنيا ، ويشغله متاعها الزائل.

ثانيا : امتلاك الرجل لأكثر من جنة ، يشير الى بعض الأساليب الاقتصادية التي يلجأ إليها الرأسماليون لضمان تدفق الأرباح عليهم ، فإذا خسرت جنة هنا فإن الجنة الأخرى والتي تكون في مكان آخر ستعوّض النقص وتعدل الميزانية.

(مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً)

وهذه طريقة يلجأ إليها المزارعون ، فيحيطون بساتينهم بأشجار مقاومة للرياح والأعاصير كالنخيل ، ويزرعون الأعناب في الوسط ، والأرض المتبقية بين هذه وتلك يزرعونها بالخضراوات المختلفة.

[٣٣] (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها)

شاء الله سبحانه ان يملي لذاك الرجل فأفاض عليه الخير فيضا ، وأذن للجنتين ان تدرأ المحاصيل الوفيرة ، وهكذا إذا أراد الله بعبد سوء لسوء نيته فأنه يوسع عليه النعم في بعض الأحيان ، ليستدرجه ويبتلي ما في داخل نفسه من سوء وفساد.

(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً)

لقد اعطى الله لذلك الإنسان تلك الجنان ، فأعطت صاحبها كل ما يتأمله منها من ثمار طيبة ، ولم تظلمه ولكنه ظلم نفسه ، فواجه إحسان الخالق اليه بالإساءة الى نفسه ، عبر غروره واستكباره ، واعراضه عن شكر ربه المنعم المتفضل.

دركات الهبوط :

[٣٤] (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ)

الملاك والفلاحون ومن لهم ارتباط بالأرض والزراعة ، يعلمون ان لحظة الحصاد

٤١٢

لحظة سعيدة في حياتهم ، تبعث في أنفسهم الغرور ، لأنهم بعد صبر وانتظار طويل يرون الثمار وهي وفيرة وزاهية ، فيختالون وكأنها ثمرة جهدهم ، وينسون ان الله هو الذي زرعها وأينعها في هذه اللحظة.

(فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)

أخذ يتعالى على الآخرين ، اعتمادا على أشياء وقتية زائلة ، وليس في الآيات دلالة على أن هذا الرجل كان له أنصار ، ولعل غروره دفعه الى الاعتقاد بأنه ما دام يملك شيئا من المال فكأنه يملك الناس أيضا ، لذلك قال : ـ «وَأَعَزُّ نَفَراً».

[٣٥] (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ)

ان ظلمه لنفسه هو في اغتراره بزينة الدنيا الذي جره للتعالي على الآخرين ، واعتقاده انه ما دام يملك المال فهو يملك الرجال.

(قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً)

هذه هي العلاقة الخاطئة بين الإنسان والطبيعة ، وهي علاقة الاعتماد عليها والركون إليها وكأن الطبيعة خالدة له.

[٣٦] (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً)

في البداية اغترّ بنفسه وقال : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) ، ثم ظلم نفسه باعتقاده أن الجنة خالدة له ، ثم أنكر المعاد ، ووصل الى نهاية دركات الهبوط حينما اعتقد بأن الله ، والدين ، والرسالة ، وكل القيم انما هي في جيبه.

ان الإنسان يظل صالحا للهداية ما بقيت في نفسه جذوة الأيمان ، وما دام يعتقد ان عمله قد يكون خاطئا ولا يرضى الله عنه ، أما حينما يعتقد بأن الله والدين تابعان

٤١٣

له ، ويأخذ يبرر اعماله ببعض الأفكار الخاطئة ، فآنئذ لا تترجى له الهداية ، فأنه يتحول من إنسان الى ما هو أحط من الحيوان. وذلك حين يقول :

(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً)

اعتقد صاحب الجنتين انه ما دام الله قد أعطاه تلك الجنتين وفيهما نخل وأعناب وزرع ، وأفاض عليه الخير في الدنيا ، اذن ففي الآخرة سوف يعطيه أكثر ، وذلك استنادا الى معادلة خاطئة وهي : ان العطاء في الدنيا دليل رشاد وهداية وفي هذه بالضبط هلاك الإنسان وخسارته الأكيدة ، إذ ان بسط الله للرزق وتقديره له ، انما هو لامتحان العباد وليس للتكريم أو الإهانة.

كيف نجبر ضعف الذات؟

[٣٧] (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)

هل وصل بك الحال أن تكفر بالله؟ وأنت تعلم علم اليقين كيف انه خلقك أطوارا فقدّرك ، وانك لا تستطيع ان تعتمد على نفسك وقدراتك ، فكيف تعتمد على الجنة الخارجية التي هي نتيجة قدراتك ومكسب طاقاتك؟

لقد كنت ترابا ، ثم أصبحت نطفة ، ثم استويت رجلا ، اي انك كائن تطرأ عليه التغيرات ولست على حال ثابتة ، وأنت معرض لكل الاحتمالات والأخطار ، فمثلك ينبغي ان يعتمد على ركن ثابت شديد لا يطرأ عليه التغير ، ولا تجوز عليه الاحتمالات وهو الله ، لا أن تعتمد على أشياء متحولة ومتغيرة كذاتك ، لا تغني عنك شيئا إذا هجمت عليك نوائب الزمان.

ان القرآن يعالج طبيعة الإنسان بعمق ، لأن منزّل القرآن هو الله الذي خلق هذا

٤١٤

الإنسان ، والخوف متوغل في اعماق الإنسان الذي يرى ان كل شيء في الكون والحياة ، وحتى ذاته في تغيّر مستمر وحركة دائبة ، ولا شيء يثبت على حاله ، فهو في قلق مما سيحدث له في المستقبل ، لذلك يحاول ان يعتمد على شيء يطمئن اليه ، ولكن بدل ان يدفعه هذا الخوف الى الاعتماد على الله والتوكل عليه ، والمزيد من الالتصاق بمناهجه ، فأنه كثيرا ما يلجأ الى الاستناد الى متاع الحياة الزائل ، والتكاثر في الأموال ، ولذلك ينبه القرآن الإنسان انه عند ما يخاف من تغيرات الحياة وتقلبات الزمان فان هذا شعور سليم ، ولكن عليه الا يوجه هذا الشعور نحو المال لأنه يزول ، بل يوجهه نحو الاعتماد على شيء يبقى.

[٣٨] (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)

أي انني لا أزال على ديني.

ان كثيرا من الفقراء والمحرومين حينما يجدون امامهم أغنياء يركعون لهم ، ويخضعون لسلطان ثرواتهم ، وبذلك يدفعونهم الى مزيد من الاستغلال والاستكبار ، والقرآن يرفض ذلك عبر هذه القصة وكأنه يقول : ايها الفقراء عليكم ان تعتزوا بأيمانكم بالله ، لأنه هو القادر على أن يغنيكم كما اغنى هؤلاء.

(وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)

ويبدو ان السياق هنا يسمي الخضوع للغني شركا واتخاذا لإله غير الله.

[٣٩] (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ)

في البداية اتخذ الفقير موقف الدفاع ، وحصّن نفسه من الخضوع للغني ، ولكنه الآن أخذ زمان المبادرة محاولا إصلاح الغني ، وهذا هو الدور المطلوب من الفقراء ، فقال له : لا بد ان تدرك ان ما حدث انما كان بمشيئة الله واذنه ، وحسب قضائه

٤١٥

وقدره ، لا حسب أرادتك وعلمك. فلما ذا لا تقول :

(لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)

ثم انك الآن لا تستطيع ان تستفيد من هذه الثمار إلا بعون الله ، وهكذا فأن الخير الذي حصلت عليه سابقا كان من الله ، والخير الذي تأمله في المستقبل هو أيضا من الله ، وهذا هو الإطار الذي يجب ان نتعامل به مع الطبيعة والثروة والغنى.

(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً)

ان غرورك واستعلاءك قد يدفعك الى خسارة كل شيء ، وآنذاك سأكون انا الذي تنظر اليّ باحتقار أفضل حالا منك ، لأن القناعة كنز لا يفنى.

ثم اني آمل فضل الله بشكري ، وأنت تعرض نفسك لسخط الله بكفرك.

[٤٠] (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)

هذا هو الفرق ، فالفقير كان يتمسك بأهداب الأمل ويرجو رحمة الله ، بينما الغني كان يعتز بالغرور ، وهذه عبرة كبيرة لك ايها الإنسان : ففي اي لحظة من لحظات حياتك سواء كنت غنيا أم فقيرا ـ أنظر نظرة بعيدة ـ فالغنى قد يتحول فقرا فلا تبطر ، وكذلك الفقر قد يكون طريقا للغنى فلا تيأس ، هذه هي تعاليم الرسالة.

العقاب الإلهي :

يقول المفسرون : ان كلمة الحسبان تدل على الرماية المحسوبة التي يقوم بها الرماة في وقت واحد والكلمة مأخوذة من لفظة الحساب ، ثم اختلفوا : هل الحسبان عذاب من السماء ، أم سيل في الأرض ، أم زلزال ، أم ماذا؟

٤١٦

وأتصور ان الحسبان هو العذاب المحسوب والمخطط له ، وفي هذه الحالة بالذات كان سيلا ، وقد يعني ذلك ان الكلمة تدل على سيل من السماء حول الجنتين.

صعيدا زلقا : اي أرضا جرداء غير قابلة للزراعة مرة اخرى.

[٤١] (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)

أي يتسرب ماء النهر الذي يروي المزروعات الى باطن الأرض ، بحيث لا يمكن الوصول اليه والاستفادة منه.

ماذا حدث بعد ذلك تفصيليا لا نعلمه ، وما نعرفه ان هذا الرجل جاء الى باب بستانه فإذا بثمره الذي اغتر به ، والذي كان حصيلة جهود مكثفة طوال سنين قد احيط به.

[٤٢] (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)

أي جاء عذاب وأصاب الثمار وأتلفها ، ثم دمّر كل النباتات والأشياء الموجودة.

(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها)

من عمر ومن مال ..

(وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)

اي تهاوى بناؤها ووقع على بعضه.

(وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً)

٤١٧

اي لم أشرك بربي شيئا ، فأركن للغنى ، واغتر بالثروة ، واعتقد بأن المال يضمن البقاء والخلود. والقرآن يقول : «أحدا» ولا يقول : «شيئا» ربما للإشارة الى ان الإنسان الذي يعبد الغنى والثروة اليوم سيعبد من يملكها غدا ، وهو بالتالي يسير في خط الشرك.

[٤٣] (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ)

لعله كان لهذا الرجل عصبة اعتقد بأنهم قادرون على دفع عذاب الله عنه ، فهو لم يكن واحدا ، انما كان ضمن مجموعة من الأثرياء نسميهم بطبقة الرأسماليين والمستكبرين ، وعبادته لم تكن للمال فقط ، وانما لتلك الطبقة أيضا.

ولكننا رأينا ان تلك الطبقة تخلت عنه وتركته حينما جاءه عذاب الله ، لأنهم يريدون المرء ما دام ثريا مثلهم ، أما إذا أصيب بنكبة وأصبح فقيرا فلا شأن لهم به.

(وَما كانَ مُنْتَصِراً)

وحتى لو أرادوا ان ينصروه فأنهم لن يستطيعوا ذلك.

[٤٤] (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ)

إذا أردت ان تعبد أحدا ، وتعتمد على ركن ، فأعلم بأن الله هو وليك وقائدك وإلهك فأعبده واعتمد عليه.

(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)

فهو الذي يعطيك الثواب الآن ، ويؤملك به في المستقبل.

٤١٨

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)

______________________

٤٥ [هشيما] : الهشيم ما يكسر ويحطم من يابس النبات.

٤٩ [مشفقين] : خائفين من وقوع مكروه.

٤١٩

ووجدوا ما عملوا حاضرا

هدى من الآيات :

ان سورة الكهف تبين العلاقة بين الإنسان وبين الدنيا وزينتها الزائلة.

وقد ضربت لنا في آيات سابقة مثلا في قصة الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان من نخيل وأعناب وزروع ، فاغتر بهما واعتمد عليهما ، وكانت عاقبته ان خسر الدنيا والآخرة.

ويلخص القرآن في هذه الآيات العبرة من هذه القصة ، فيبين ان مثل الحياة الدنيا وما فيها من زينة ، كمثل الربيع الذي لا يلبث ان ينقضي ، وانما لا تنقضي الباقيات الصالحات.

ويصور القرآن لنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، حيث لا يستطيع الإنسان أن يمسك بيده شيئا الا ما قدّم من عمل ، فان كان ما عمل صالحا ، فهو خير ثوابا وخير

٤٢٠