من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

(وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)

فكم يتعب الأب والام على الابن ، فالام تنهض في الليالي الظلماء من نومها ، وتترك فراش الراحة من أجل ان تغذي طفلها وتهدأه كما يخوض الأب غمار الاخطار من أجل إطعام ولده ويسهر على راحته ، فلا بد ان يطلب الابن لوالديه الرحمة من الله. والآية تدل على : ان الدعاء بحق الآخرين نافع لهم كما ان الشفاعة ـ وهي نوع من الدعاء ـ نافعة بحق المذنبين.

[٢٥] (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)

فالله يعلم بما يجري في نفوس الأبناء من تمنيات وطلبات ، فقد ترى الابن يسب أبويه إذا ما مرضا ، ولكن الله يدعونا الى ابعاد الشيطان ووساوسه عن النفس ، والاستغفار لهما عما مضى فانه تعالى غفور ودود. ولعل الآية تعالج ـ عبر الأمر بالإحسان والرحمة والاستغفار ـ وهي التي تنظم علاقة الأبناء بالآباء في هذه المجموعة من الآيات. ـ تعالج عبرها مشكلة صراع الأجيال ، إذ كل جيل يعيش وضعا مختلفا عن الجيل الماضي ، وبالتالي : ينتقد الجيل الماضي ، كما يتعرض عادة لانتقادات لاذعة منه ، والسبيل الى حل المشكلة :

اولا : بالإحسان ، إذ ان جيل الأبناء ذي القوة النامية يجب ان يجعل بعضا من قدراته للجيل الذي تتلاشى الآن قواه. ليمتص كثيرا من تحفظاته النابعة عن فقده لمصالحه.

وثانيا : بالأخلاق الحسنة ، كالتشاور والاحترام والتذلل رحمة وليس صغارا.

وثالثا : بالعفو عن سيئاتهم والاستغفار لهم فهل انهم كانوا مخطئين أفلا

٢٢١

يستحقون المغفرة من الله؟ بلى ولعل الآية الاخيرة تشير الى انه ليس من المعلوم من هو المذنب بل الله اعلم بكم فلا تخطئوا الآخرين عبثا.

الإنفاق زكاة المال :

[٢٦] (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)

الذي لديه اموال طائلة ولا يعطي حقوقها فانه لا بد ان يكون مسرفا ، لان صاحب الدنيا انما يمنعه من العطاء السرف أو البخل ، وما الإسراف الا استعمال الشيء في غير محله الذي خلقه الله من اجله ، وبذلك فانه انحراف عن مشيئة الله وسننه في الحياة وكل ما خالف أوامر الله وسننه في الخلق فهو نوع من الكفر ، والشيطان كافر ، يقول تعالى :

[٢٧] (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)

والشّياطين من الانس هم الطغاة ومن يبذر ماله لا بد ان يفتش عن مصادر غير شرعية لجمع المال ولا يجدها الا بالتحالف مع الطغاة.

[٢٨] (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)

إذا أنت أعرضت ولم تعطهم القليل أو الكثير ، فقابلهم بالابتسامة ، والرد اللطيف. وهذا ادنى الحق الذي يجب عليك تجاه الرحم والأقرباء.

كيف ننفق؟

[٢٩] ١ ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ)

٢٢٢

وهنا يشبه القرآن البخلاء بالذين يربطون أيديهم بأعناقهم فيخنقون أنفسهم. ذلك انما يجمع الإنسان المال من أجل ان يكون حرا في التصرف. وليسهل عليه الصعاب ، فاذا بخل فان الهدف من امتلاك المال سوف يتلوث ويصبح العكس. إذ سيصبح هو خادما للمال وهكذا يكون البخل هو الفقر الحاضر.

٢ ـ (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

وهناك ـ على العكس من البخلاء ـ أناس يبسطون أيديهم الى درجة انهم يفقدون كل شيء ، فيتحسرون على ما فاتهم ويتأوّهون ، وبالتالي فان الناس سوف يذمونهم ويلومونهم على فعلتهم.

وهؤلاء انما يفقدون توازنهم وحسن التصرف بسبب حبهم المفرط للمساكين ، ولهذا الفريق من الناس يقول تعالى :

[٣٠] (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)

فالله يبسط الرزق بحكمة ويضيق ويقدر بحكمة أيضا. فلا يفكر أحد بأنه سيكون ارحم من الله لعباده. ولعل الآيتين تنظمان سلوك البشر فيما يرتبط بالمال بصفة عامة فعلى الإنسان ان يتوخى القصد في الصرف. فيعطي بقدر ، ولا يبذر ولا يبخل.

الثقة بالله مفتاح السعادة :

[٣١] (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)

كان بعض الاعراب يقتلون أولادهم خشية الفقر والفاقة فطمأنهم الله بقوله :

٢٢٣

(نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً)

لان قتلهم يحرمكم من نعمة الولد من جهة ويحرمهم من نعمة الحياة من جهة ثانية.

[٣٢] (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)

الزنا أسوء طريق يتخذه الإنسان في إشباع غريزته ، لان الزنا ظلم للنفس وتعدي على القانون ، فكما انه من الظلم ان يقتل الإنسان نفسا حرمها الله ـ كذلك حرم الله العبث بمصير الأجيال الناشئة من أجل السرف في الشّهوات. ذلك ان الزنا يهدم البناء الاسري وبالتالي ينسف قواعد البناء الاجتماعي القائمة على أسس التربية والتكامل والتعاون ، وهكذا نجد المجتمعات الجاهلية التي فقدت الاسرة كيف فقدت أكثر القيم الانسانية.

[٣٣] (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)

فالمقتول ظلما يحق لوليه ان يقتص من قاتله ، ولكن بشرط الا يتعدى الحدود ، والا يستبد به غضبه ، فهو في كل حال منصور من قبل الله. وهذه احدى سنن الله في الحياة.

٢٢٤

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)

______________________

٣٧ [فرحا] : فرحا وبطرا واختيالا.

٤٠ [أفأصفاكم ربكم] : أفخصكم ربكم؟

٢٢٥

وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)

______________________

٤١ [صرفنا] : كررنا بأساليب مختلفة وطرق متنوعة.

٤٦ [أكنة] : أغطية وأغلفة.

٢٢٦

الإنسان بين الشّرك

والهروب من المسؤولية

هدى من الآيات :

هناك تساؤل : إذا كانت سورة الإسراء تتحدث عن المسؤوليات التي يجب على الإنسان أداؤها. فلما ذا يتطرق هذا الدرس الى بيان التوحيد والشّرك وابعادهما؟ وبشكل عام لماذا يحدثنا ربنا سبحانه وتعالى عن قضية الشّرك والتوحيد كلما تحدث عن المسؤولية؟

الجواب : ان المسؤولية هي ذات التوحيد ، واللامسئولية هي ذات الشّرك ، بل ان التهرب من المسؤولية والتبرير انما هما الهدف من وراء الشّرك.

النفس البشرية ، قوة نسميها بالقوة المسوّلة عملها تبرير الكسل والجمود ، وتسويل الفحشاء والمنكر ، وهذه القوة التي يثيرها الشّيطان أيضا تزين الاستسلام للدعة والاسترسال مع الشّهوات بطرق أبرزها :

١ ـ الحتميات حيث يخيل للنفس عجزها عن مقاومة ضغوط الطبيعة والمجتمع

٢٢٧

علية. فيتملص عن المسؤولية باسم الحتمية التاريخية. أو الاجتماعية أو الطبيعية أو ما أشبه.

وهذا نوع من تأليه الطبيعة أو المجتمع. وجعلها فوق قدرة الله. وفوق قدرة الارادة التي منحها الله للإنسان.

٢ ـ الفداء حيث يزعم البشر انه إذا كانت أوامر الرب شاقة ، ولا يمكن احتمالها إذا دعنا نتصور وجود أرباب آخرين نهرب من الرب الأعلى إليهم لينقذونا عن صعوبات المسؤولية التي يفرضها ربنا الأعلى سبحانه وتعالى.

وهذه هي فكرة الفداء التي تسربت الى مذهب النصاري.

وسواء فكرة الحتميات أو الفداء فان الايمان بالله الواحد الأحد ، ينفيها ويجعل البشر وجها لوجه امام المسؤوليات الكبيرة.

ان من يؤمن بالله ولا يتخذ بينه وبين عقله حجابا يشعر في اعماق ذاته بان الله قد جعله مستقلا في قراراته حرا فيما يشاء. فاذا وصل الى هذه الحقيقة تحمّل مسئولياته اعتقادا منه بان متغيرات حياته كالصحة أو المرض ، والاستغلال أو العبودية والغنى أو الفقر وما الى ذلك انما هي من عند نفسه أيضا ، والإنسان البسيط غير المعقد والبعيد عن الشّهوات يشعر دوما بهذه الحقيقة وهذا الاحساس يدفع به نحو تحمل المسؤولية ، لأنه حينما يعترف بواقعه يرسم لنفسه خطة حكيمة لكي يصل بها الى اهدافه.

في المقابل نجد إنسانا يتصور بان هناك أشياء اخرى فوق عقله ، تلك ما يسمونها اليوم بالحتميات ـ حتميات التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسيكولوجيا والتربية ـ فيزعم أحدهم بان الحتميات هي التي تصنع الإنسان ، وليس للإنسان ان يتخذ

٢٢٨

قرارا نابعا من فكره وإرادته ذلك لان العقل في نظره ليس الا صورة متطورة للمادة.

لقد قسم الأطباء قديما الناس حسب أمزجتهم ، فهذا مزاجه صفراوي ، وذاك بلغمي والآخر سوداوي وهكذا فزعموا ان ارادة الناس تتبع أمزجتهم اما أحد الفلاسفة الجدد فانه يقول : بان ارادة الإنسان نابعة من الغدة الدرقية ، فاذا صار أحدهم طبيبا والآخر عاملا بسيطا فان ذلك يعود الى مقدار ونوع افرازات الغدة الدرقية في دم الإنسان ، حيث تؤثر هذه الغدة في قراراته.

ويقول الفيلسوف البريطاني المعروف (براندراسل) : انك انما تتبع بما تأكل ، لان العناصر الكيمياوية الموجود في أنواع الاغذية ، تؤثر في مخ الإنسان وقراراته وهكذا سلبت هذه النظريات الشّركية قدرة القرار من البشر وإذا كان الإنسان لا يستطيع ان يقرر لنفسه قرارا ، فهو بمنزلة ريشة في مهب الريح ، لا يستطيع ان يتحمل مسئولية ، إذا فهو غير مسئول عن شيء.

اما الفكر اليوناني القديم فانه يعتقد بتعدد الآلهة ، فللحرب اله وللسلم اله ، وللمطر اله وللنور اله وللظلمة اله وهكذا .. وكان اليونانيون ينحتون أصناما ويتخذونها رمزا لتلك القوى التي كانوا يتصورون بان لها تأثيرا حتميا على أعمالهم ونفسياتهم وهكذا جردوا أنفسهم عن مسئولية أعمالهم حين نسبوها الى الآلهة وهكذا تربط آيات هذا الدرس بين المسؤولية والتوحيد فتبدأ بالنهي عن أكل مال اليتيم (اشارة الى حرمة المال) وتأمر بالوفاء بالعهد (للتذكرة باحترام العهد) وتأمر باحترام المال ، واحترام سمعة الناس وتحرّي الحقائق ، ثم تنهى عن الشّرك بالله وتأمر بتسبيح الله سبحانه ، ولعل محرمات هذا الدرس تسدّ أبواب الظلم ، وتضع قوانين اجتماعية تحافظ على حقوق الناس ، ابتدءا من حفظ حقوق الأيتام (وهم حلقة ضعيفة في المجتمع) واحترام الكيل والوزن واحترام سمعة الناس ، وضرورة الوفاء بالعهود وما أشبه.

٢٢٩

بينات من الآيات :

مسئوليات اجتماعية :

[٣٤] (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)

يحق لولي اليتيم ان يأخذ مال اليتيم فيستثمره لصالح اليتيم ، ولكنه لا يجوز له التصرف في هذا المال الا في هذا المجال ، حتى يبلغ أشده حينما يصل الى مرحلة البلوغ فتسلم اليه أمواله ، ولان اليتيم ضعيف فاحترام ماله يدل على ضرورة احترام اموال الأقوياء بالطبع.

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً)

والعهد ركيزة اجتماعية في الإسلام ، ومحور للتعاون والتبادل الفكري والسياسي والتجاري ، والإسلام يحث على أداء العهود لهذا السبب اولا ، ولسبب اخلاقي ثانيا ، ولان الوفاء بالعهود يجري عليه حكم الشّرع ثالثا : والعهد واحد من اخطر مسئوليات البشر في حياته.

[٣٥] (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ)

القسطاس المستقيم : هو البيع الذي لا غبن فيه ولا غش ولعل احترام الكيل يدل على أكثر من احترام حقوق الناس ، حيث يدخل ضمن احترام قوانين البلد وعدم الخروج عليها لمصلحة ذاتية.

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)

فهذا امر حسن فطريا واجتماعيا ، وأحسن نهاية وعاقبة ، لان الغش لو ساد مجتمعا فستحل به كارثة لا يمكن التخلص منها ثم انك لو تجاوزت حقوق الناس أفلا

٢٣٠

تخشى ان تسلب حقوقك أيضا.

[٣٦] (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)

اي تتبع امرا لا تعلم مبدأه ومنتهاه.

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

حيث تؤكد هذه الآية على مسئولية جوارح الإنسان التي يجب ان تتحرك حسب مقياس صحيح وان مسئولية قلب الإنسان عن أفكاره وهواجسه وظنونه وحسده وحقده وجوارح الإنسان عن غمزها ولمزها ، والغيبة والنميمة.

انها لأعظم مسئولية اجتماعية ولو سمى المؤمن الى مستوى ضبط فؤاده وسمعه وبصره فيما يخص علاقته بالمؤمنين لكان جديرا بان يدخل جنات عدن ..

[٣٧] (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً)

الإنسان المرح هو الذي يعيش حياة اللامسئولية وما يتبعها من ظواهر كالفراغ واللهو واللعب والتكبر على الآخرين.

(إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)

فانك لن تقهر الطبيعة فتشق الأرض ، وتخرقها ، أو تبلغ الجبال عظمة.

[٣٨] (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)

يبدو ان تفسير هذه الآية انه ينبغي للإنسان ان يتكبر أحيانا وذلك حينما يقابل الظالم الجائر حتى لا يشعر بأنه ضعيف امامه ، لذلك يؤكد القرآن بان السيئة (مكروهة) ـ فيكون ما عدى السيئة غير مكروه ـ فالتكبر على المتكبر ليس

٢٣١

مكروها ، بل هو مستحب ، وفي الحديث :

«التكبر على المتكبر عبادة».

[٣٩] (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)

والحكمة هي الجانب العملي من العلم ، وهنا تعني السلوك الحسن.

(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)

لا تتخذ لنفسك إلها غير الله فتلقى في جنهم. يلومك الناس ولا ينصرك الآلهة ، وهذه الآية تشير الى ان الإنسان هو الذي يجعل من الصنم إلها ، ومن الطاغوت إلها وحين يحطم المؤمن الأصنام الثقافية والاجتماعية والاقتصادية فانه يشعر باستقلاله وحريته ويتحمل مسئولياته بعزم راسخ.

[٤٠] (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً)

كان الكفار يريدون النيل من الله سبحانه وتعالى لأنهم يتصورون الملائكة ضعافا ، ولأنهم كانوا يعتبرون الأنثى رمزا للضعف فإنهم نسبوا الانوثة الى الملائكة ، ويردّ سبحانه قولهم هذا :

(إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)

[٤١] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً)

فقد ضرب الله الامثلة في القرآن ليبين لنا آياته ونعرفه بحقائق الايمان ولكن على العكس من ذلك نرى الكفار لا تزيدهم التذكرة الا نفورا من الحق.

٢٣٢

[٤٢] (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً)

فلو كانت الآلهة متعددة ، إذا لاتخذت طريقها الى السماء ، ولقاومت الإله الكبير كما يدعون وتمردت عليه ، ونالت منه واسترجعت حصتها من الألوهية! ولاستطاعت ان تقهر الرب سبحانه علما بأنه لا حول لهم ولا طول فكيف تتخذ آلهة من دون الله.

[٤٣] (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً)

فالله أكبر من هذه الخرافات التافهة وهو الذي.

[٤٤] (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ)

ذلك ان السماوات على عظمتها وما فيها من شموس وكواكب ومنظومات ، والأرض وما فيها من حجر ومدر فانها جميعا تسبيح لله وحده وتشهد على وحدانيته ، ويبدو ان الأشياء كلها ذات شعور بنسبة معينة.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)

فكل يسبح بحمده ولكننا لا نستطيع ادراك ألفاظها وتسبيحاتها لان لكل شيء لغته الخاصة.

٢٣٣

وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

______________________

٤٩ [رفاتا] : ما تكسّر وبلي من كل شيء.

٢٣٤

فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)

______________________

٥١ [فسينغضون] : النغض تحريك الرأس باستهزاء واستخفاف.

٢٣٥

الحجب وضرورة التصحيح

هدى من الآيات :

حينما يتخذ الإنسان موقفا تجاه فكرة ما ، فانه لا يستطيع ان يعرف الحقيقة لأنه قد ينظر إليها من وراء حجاب. وهذه صفة الكافرين بالحياة الآخرة ، وهذه سمة الكثير من الناس ، فلا يتلون آيات القرآن الا من وراء حجاب ، ولا يستمعون اليه الا عبر مجموعة من الأحكام المسبقة التي اصدرتها أنفسهم.

ويبقى السؤال : كيف يمكن للإنسان ان ينظر الى رسالة الله نظرة مجردة عن المواقف المسبقة؟

الاجابة على ذلك : ان قوة العقل محدودة عند الإنسان ، فاذا تراكمت الشّهوات على قلبه ، وتكاثفت غيوم الجهل والضلالة والخرافات عليه ، فانه بحاجة الى عملية صعبة ومجهدة حتى يتجاوز هذا الركام من الترسبات ، كما يحتاج الى هزّة عنيفة ليهدم البناء الفكري الفاسد وثم يقيم محله بناء قويما وليس ذلك بالأمر اليسير. ونتساءل : كيف تتصلب الارادة ، وينمو العقل. وما هي الهزّة العنيفة التي تهدم

٢٣٦

بناء الأفكار الفاسدة ، والمتراكمة فوق بعضها في قلب البشر؟

الجواب :

بالايمان بالحياة الآخرة ، حيث انها قوة التعادل ، وثقل السكينة عند الإنسان ، فمن آمن بالآخرة سلا عن الشّهوات ، وتعالى فوق الضغوط ، وتجاوز العقد النفسية ، وكل ذلك يحفظ قلبه عن الأفكار التي تمليها الشّهوات والضغوط والعقد ، و. و.

اما الذي لا يؤمن بها ، فان الله تعالى يجعل بينه وبين القرآن حجابا لا يراه ، ولا يمكنه إذا اختراقه ، كيف؟ فاذا قلبه مستور ان يفقه ، وإذا اذنه ثقيلة بالوقر وإذا به يهرب عن حقيقة التوحيد ، ويبحث عن الآلهة الكاذبة ، وإذا به لا يستمع ـ وهم يناجون بعضهم ـ ان هذا الرسول مسحور ، وليس بعاقل ، وبسبب هذه الأمثال يضلون الطريق ولا يهتدون الى سبيل الحق.

وجذر مشكلتهم كفرهم بالآخرة إذ يقولون : هل نحن نعود الى الحياة بعد ان نكون عظاما ورفاتا ، دعهم يكونون حجارة أو حديدا ، أو اي شيء كبير في نظرهم ، فان الذي خلقهم أول مرة يعيدهم أما متى؟ فان علمه عند الله فعسى ان يكون قريبا ، يوم يدعوهم الله ، فاذا بهم يستجيبون لداعي الله وهم يحمدون ربهم ، ويزعمون انهم ما لبثوا في القبر الا قليلا.

بينات من الآيات :

[٤٥] (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً)

من الطبيعي ان الذين يتذكرون الموت ويؤمنون بالآخرة وما تشتمل عليه من ثواب وعقاب ، فإنهم يشعرون بالمسؤولية دائما ، وينظرون الى القرآن نظرة واقعية

٢٣٧

بعيدا عن الرؤى والخيال ، بل نابعة عن موضوعية كاملة وتدبّر ، ولذا فان افئدتهم بصيرة وبصيرتهم نافذة. اما الذين لا يؤمنون بالآخرة فإنهم محجوبون عن الواقع بسبب عدم ايمانهم.

وقد قال المفسرون عن «حِجاباً مَسْتُوراً» انه لم يكن أحد من الكفار يمكنه رؤية الرسول (ص) حينما يقرأ القرآن حتى لا يصيب رسول الله بأذى.

ويبدو ان التفسير الأقرب القول بان الحجاب المستور ، وهو النظرة السلبية التي يتخذها الكفار إزاء آيات القرآن والآيات التالية تفسر ـ فيما يبدو لي ـ معنى الحجاب المستور.

[٤٦] (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ)

لكي لا يفقهوا القرآن ، جعل الله قلوبهم في اكنة. ولفظة الاكنة ، جمع للفظة كنان وهو الستر وهذا الستر هو ذلك الحجاب المستور الذي ضربه الله بين القرآن وبين قلوب الذين كفروا بالآخرة عقابا لهم على تكذيبهم بالبعث ، واستهانتهم بقدرة الله على اعادة الخلق واستجابتهم لشهواتهم وعصبياتهم.

ونتساءل هل هذا الحجاب هو تلك السنة الإلهية التي جرت في خلقه ان من يتعصب لفكرة فاسدة فانه لن يرى الحقيقة ، أم انه فعل الهي جديد ، حيث يزيد الله الكافرين ضلالة وكفرا ، ويدعهم في ظلمات يعمهون؟

بلى انه فعل جديد ، انه حجاب يجعله الله بين الكفار والقرآن. وانه لعقاب عظيم ان يشاء الله ضلالة البشر ، بعد ان كفر بالهدى ، وان علينا الحذر أبدا من هذا العقاب العظيم ، ونسأل الله دائما الهداية ، والا يضلنا بعد ان هدانا ، انه مجيب الدعاء.

٢٣٨

(وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)

الوقر : هو الثقل. والاذن الوقرة هي الثقيلة السمع. وفي هذه الحالة لن يكون باستطاعة الاذن أداء وظيفتها بشكل جيد ، كما انه إذا ما أصيب العقل بضعف فسوف لن يستوعب ما تنقله الاذن ولا سائر الجوارح.

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)

ولان الكفار لم يعتقدوا بوحدانية الله فإنهم كانوا ينفرون من سماع القرآن لان أفكار القرآن تخالفهم وانما كان فرارهم بسبب خوفهم من صحوة الضمير.

[٤٧] ان جوارح البشر نوافذ قلبه على العالم الخارجي ، وإذا كان القلب قد ران عليه الشّهوات والتعصب لافكار باطلة ، فان الجوارح تشل أو تعمل خلاف المطلوب ، ذلك ان القلب المريض سوف يفسر كل الحقائق التي تتوارد عليه عبر الجوارح تفسيرا باطلا يتناسب وامراضه التي رانت عليه وكما ان من يضع على عينيه نظارة ملونة يرى كل شيء بذلك اللون ، كذلك من وضع على قلبه سماعة مضللة فانه يسمع كل شيء عبرها ، بصورة خاطئة ، انه قد صنع لنفسه قوالب ثقافية معينة يضع كل معلوماته الجديدة فيها فلا يزداد بالحقائق الا ضلالا ، ربنا يقول :

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ)

ولعل (الباء) هنا للاستعانة وتعبر عن تلك الأحكام المسبقة والقوالب الفكرية الجاهزة التي بها يستمعون الى الحقائق فيفسرونها حسب أهوائهم والآيات التالية توضح تلك القوالب :

(إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا

٢٣٩

رَجُلاً مَسْحُوراً)

كانوا يبررون مواقفهم بحجج واهية يقولون انه مسحور وليس بساحر يمارس الكذب والدجل بينما كانوا يدعون الرسول (ص) (بالصادق الأمين) فلم يبق هناك مجال للتهمة سوى القول بأنه مخدوع بسحر الساحرين فهو مسحور. ويسفه القرآن هذه التهمة فيقول :

[٤٨] (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)

لأنهم اتهموا رسول الله (ص) تهما واهية وأضلوا الطريق ، وانحرفوا عن الجادة ، وبذلك صاروا لا يفقهون آيات القرآن ولا يعرفون مغزاها ، ولا يهتدون الى سبيل الحق.

وكما قلنا سلفا : ان الايمان بالآخرة ضمان للتفكير السليم في الحياة ، وان الكفار لم يكتفوا بإنكار الآخرة ، وانما كانوا يسعون لتبرير اعتقاداتهم بأفكار سخيفة ، وشبهات واهية ، ومنها الشبهة التالية :

[٤٩] (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)

إذا كان الإنسان مبعوثا يوما ما فلم يصبح رفاتا اي خلقا يتلاشى؟

هذا ما كان يتساءل الكفار عنه مستنكرين فأجابهم الله :

[٥٠] ـ [٥١] (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ)

فسواء أكنتم حجارة أو حديدا أو اي شيء آخر ، تتصورونه في أذهانكم كبيرا

٢٤٠