من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً

هدى من الآيات :

كنا مع خضر وهو يعلم موسى علما عمليا ، ويدر به على فهم الحياة ، وتحمل مصاعبها ، وتدبّر عواقب أحداثها ، ورأينا كيف أن موسى كان ليتفجر غضبا كلما رأى عملا يتنافى مع مظاهر الشريعة ، الى ان قال خضر لموسى : «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» ولكني سأفسّر لك ـ قبل الفراق ـ تلك القضايا التي كانت غامضة عليك ، وأخذ يفسرها الواحدة تلو الاخرى.

يتبين لنا من ذلك ان بعض الأحكام التي يأمر الله بها أنبياءه الكرام مختلفة عن الأحكام العامة التي يأمر بها الناس العاديين ، فلقد كانت السفينة ذات ملكية خاصة ، واحترام الملكية واجب ، الا ان علم خضر المستمد من الله بوجود ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ، ان ذلك العلم دفعه وبأمر من الله الى خرق السفينة ، لكي تبقى بيد أصحابها المساكين إذ كان الملك لا يأخذ السفن المعيبة.

وكذلك يجب احترام النفس ، ولكن احترام النفس محدود بعدم وقوع ضررها

٤٦١

على الآخرين ، أما إذا كانت النفس ضارة ، فان الله سبحانه وتعالى يأذن لولي الأمر من قبله بإعدامها ، وإنقاذ المجتمع من شرها ، كما قدّر لخضر بأن يقتل الغلام لكي لا يصبح ضارا بالآخرين ، وكذلك مسألة الجدار ، وهذا هو ظاهر ما نستفيده من الآيات الكريمة ، وهناك عمق آخر سوف نتدبر فيه ونذكره.

بينات من الآيات :

لماذا خرق السفينة؟

[٧٩] (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها)

ان السفينة كانت لمساكين ، ومن عادة الملوك ورؤساء الدول قديما وحديثا أن يأمروا بمصادرة وسائل النقل كلما واجهت دولهم حربا ، لان الحرب بحاجة الى وسائل النقل كالسفن والجمال قديما ، والسيارات والباخرات والطائرات حديثا ، فهي اما تصادرها مصادرة تامة ، وأما أن تسخرها للأعمال الحربية فترة الحرب ، وهذه السفينة أيضا كانت من ضمن السفن المعرضة للمصادرة لو لا أن خرقها لتصبح معيبة ، وبذلك لا تشملها أحكام المصادرة التي كانت مقصورة على مصادرة السفن الصالحة فقط.

(وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)

الآية لم تقل ان ذلك الملك كان يأخذ السفن الصالحة فقط ، لكن الكلمة السابقة تدل على هذه المعنى ، وهذا من بلاغة القرآن.

لماذا قتل الغلام؟

[٨٠] (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما

٤٦٢

طُغْياناً وَكُفْراً)

ان السبب في قتل الغلام من دون سابق إنذار هو : ان هذا الغلام كان سيسبب لأبويه المؤمنين الصالحين الطغيان والكفر ، لأنهما ، من فرط حبهما لهذا الغلام كانا سيتبعان أهواءه ، في حين أنه كان قد تربى على الدلال والفساد الخلقي ، لذلك كان خضر يخشى على أبويه المؤمنين أن يطغيا بسببه ، ولذلك قتله ، لأنه وجود ضار.

[٨١] (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)

لقد كان خضر يسعى من أجل ان يبدل الله هذا الغلام بمولود أفضل زكاة ، أي نموّه يكون نموا زاكيا بدل ذلك النمو الطاغي ، فهناك نمو زاك ونمو طاغ ، النمو الزاكي هو : نمو طاهر خال من السلبيات ، أما النمو الفاسد فهو : نمو خبيث مليء بالسلبيات.

وكذلك فرق بين صلة الرحم وبين الكفر بسبب الرحم فالعلاقة التي تربط بين الأب وأبنه إذا كانت علاقة بعيدة عن الايمان بالله سبحانه وتعالى وشكره ، فان هذه العلاقة هي علاقة الكفر وتناقص الشكر لله سبحانه ، بينما إذا كانت العلاقة هي علاقة الشفقة التي هي امتداد لعلاقة الإنسان بالله ، كأن أقول : اني أحب أبني وأساعده لأنه نعمة من الله سبحانه ، فهنا تكون العلاقة امتدادية ، وآنئذ تصبح هذه العلاقة علاقة الرحم ، والتي يعبر عنها القرآن فيقول : «وَأَقْرَبَ رُحْماً» والكلمتان الأخيرتان جاء بهما القرآن لتتقابل مع الكلمتين الأوليتين ، فالزكاة والرحم في مقابل الطغيان والكفر.

بين المصلحة العامة والخاصة :

الأحكام الشرعية عموما ليست محصورة بمصلحة الإفراد ، وانما هي متجهة الى المصلحة العامة والمصلحة العامة هي : مصلحة الإفراد مجتمعين ، بينما المصلحة الخاصة

٤٦٣

هي : مصلحة الإفراد منفصلين ، ومن الطبيعي ان تتفوق مصلحة الإفراد مجتمعين على مصلحة الإفراد منفصلين ، وبصورة خاصة عند التعارض ، فمثلا مصلحة مليون إنسان أهم من مصلحة خمسة أفراد.

وعند ما نقول المصلحة العامة فنحن نقصد بها مصلحة البشر ، وليس من المعقول ان يترك الإسلام مصلحة البشر ككل من أجل مصلحة أفراد قلائل.

ان الثقافة الرأسمالية التي تؤكد على المصلحة الفردية هذا التأكيد المبالغ فيه ، انما هي ثقافة استغلالية يبرر بها المنحرفون الجشعون استثمارهم للآخرين ، وسيطرتهم اللامشروعة عليهم ، وأنهم ينادون بالملكية وبالمصلحة الفردية ، وأي مصلحة للفرد في مقابل مصلحة المجموع؟ وأي حرمة وحرية لفرد في مقابل حرمة وحرية الناس ككل؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟ وهل هي مصلحة أم مضرة؟

أننا نشك في أن تكون هذه الكلمة صادقة (المصالح الفردية) بل الأصح ان تسمى بالمضار الفردية ، فالخير والشر لا يقاسان بالفرد ، بل يقاسان بالمجموع ، الخير هو ما ينفع الناس ، والشر ما يضر الناس ، فاذا نفعني شيء وضرّ الآخرين فهو شرّ ، ومفهوم الكلمة منذ البداية مفهوم شامل جماعي ، ولا ريب أن كل شر في العالم ينفع شخصا ما ، فهل يتبدل مفهوم الشر لأنه ينفع شخصا واحدا أو مجموعة صغيرة من أبناء المجتمع الانساني؟

وربما تكون الآيات الكريمة دالة على هذه الحقيقة وهي : ان المصلحة حقا والمنفعة صدقا انما هما بالقياس الى المجموع ، وأن الأحكام الشرعية لا تعطي صفات مطلقة لبعض المفاهيم ، فالملكية الفردية ليست سدّا أمام الإسلام ، وكذلك حرمة الإفراد علما باني لا أنفي اهتمام الإسلام بالملكية ، ولكنه محدود بمصالح الآخرين ، وعند ما يبدأ الضرر بالآخرين فان حرمة الملكية تنتهي.

٤٦٤

في العلاقة مع النعم :

ان نظرة الإسلام للحياة الدنيا وزينتها هي : ان كثيرا من أشياء الحياة الدنيا تبدو أمام الإنسان مفيدة ، ولكنها عند الله غير مفيدة لما يعلم من مستقبلها ، فان يشرب الإنسان الخمر ، ويجلس على مائدة القمار ، ويأكل من أموال اليتامى ، قد تبدو مفيدة ولذيذة له حاليا ، ولكنها تحمل في طياتها عواقب سيئة جدا ، والعكس كذلك صحيح ، فأيهما أفضل الإنسان السالم أم الإنسان المريض؟

قد يكون الإنسان المريض أفضل في بعض الأحيان ، لان الإنسان السالم في دولة الإرهاب يضعونه في السجن ، أما المريض فيتركونه آمنا في بيته ، وفي بعض الأوقات تكون نظرتنا الى الحياة ، غير حكيمة فلا نرى المستقبل فنحبّ ما يضرنا ، ونكره ما ينفعنا. كلا .. يجب ان نرضى برضا الله ونسلم لقضائه فاذا أعطانا ربنا شيئا ليس بذلك الكمال المطلوب ، فمن الخطأ ان نصر على الحصول عليه ، فباصرارنا قد يأتينا الله به ولكن يكون في ذلك ضرر لنا.

فمن جملة سنن الله في هلاك الأقوام فتح أبواب الرحمة عليهم ، فاذا فتح أبواب الرحمة كلها على أمة فان ذلك تدبير لهلاكها ، وكذلك بالنسبة للإنسان ، فاذا رأيت النعم تنهال عليك من كل مكان فالزم الحذر ، وكن يقضا ، لان هذه النعم قد تكون استدراجا وان الله يريد ان يجرب أرادتك وقدرتك على المقاومة ، ويريد أن يعطيك رزقك مرة واحدة حتى لا يكون لك نصيب في الآخرة ، على الإنسان ان يكون معتدلا وحكيما في تصرفاته مع زينة الحياة الدنيا ، ولا يبالغ فيها ولا يطالب ربه ان يعطيه كلها مرة واحدة.

من جهة اخرى فان علاقة الإنسان بنعم الحياة يجب أن تكون علاقة الشكر وليست الكفر ، وعلاقة الزكاة وليس الطغيان.

٤٦٥

ان علاقة الشكر هي : علاقة المحافظة على العوامل والأسباب التي أدت الى النعمة فاذا قمت بثورة ونجحت فيها ، ووصلت الى السلطة ، ففكر في الذي دفعك الى السلطة من العناصر البشرية والعوامل المعنوية ، وإذا عرفتهما فحافظ عليهما ، فاذا حافظت عليهما فأنت شاكر لنعم الله تعالى ، أما إذا لم تحافظ عليهما فأنت كافر ، والذي لا يحافظ على الأسباب والعوامل التي أدت الى حصوله على النعمة تتركه النعمة وربما بلا رجعة ، أما علاقة الكفر فهي الإهمال لتلك العوامل. كذلك علاقة الزكاة ، فقد جاءت في القرآن بمعنى : الإنفاق وفي اللغة تأتي بمعنى : التطهير والنمو ، وذلك لأن كل إنفاق وكل عطاء انما هو بمعنى النمو فالإنسان لا تنمو عضلاته الا عند ما يستخدمها في العمل ، ولا ينمو عقله الا عند ما يستخدمه في التفكير ، ولا تنمو قدرات لسانه الا عند ما يستخدمه في النطق والكلام ، وهكذا فان كل شيء في الحياة يزكو وينمو عن طريق العطاء والإنفاق ، والعكس صحيح ، فاذا ادّخر الإنسان جهوده فسوف تكون هذه الجهود سببا للطغيان ، والطغيان يكون سببا للهلاك والانتهاء.

هكذا يعطينا القرآن الحكيم ـ فيما يبدو ـ درسا في العلاقة مع زينة الحياة الدنيا ، وقد سبق وان قلنا ان سورة الكهف دروس وعبر تصحح علاقتنا مع الحياة الدنيا وما فيها من زينة ، وأموال ، وأولاد .. إلخ.

لماذا بنى الجدار؟

[٨٢] (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)

فلو انهدم الجدار وجاء أهل المدينة وأرادوا أن يبنوا مكانه شيئا ، لاكتشفوا ذلك

٤٦٦

الكنز الذي كان عبارة من دراهم ودنانير ، أو كما جاء في الأحاديث : ان هذا الكنز كان كتبا خاصة باليتيمين ، حيث كتب أبوهما فيهما مختلف الأشياء ، واحتفظ بها تحت الجدار فأراد الله أن يبلغا سن الرشد ويستخرجا كنزهما ويستفيدا منه ، فقد روى القمي عن الصادق عليه السلام «كان ذلك الكنز لوحا من ذهب فيه مكتوب بسم الله لا إله إلا الله محمد رسول الله ، عجبت لمن يعلم ان الموت حق كيف يفرح ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، عجبت لمن يذكر النار كيف يضحك ، عجبت لمن يرى الدنيا وتصرف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها» (١).

ان هذه الآية والآية السابقة تدلان على فكرة هامة وهي : ان الله سبحانه وتعالى يكرم الإنسان لأجل أبويه وانه إذا عمل الإنسان عملا صالحا فان الله يكرمه ليس في ذاته فقط وانما في أبنائه أيضا ، وان كثيرا من حكم الحوادث في الحياة التي تقع دون أن نعرف طبيعتها مرتبطة ليس بالشخص ذاته ، وانما مرتبطة بشخص آخر ، فلربما أكرم الله مريم الصديقة ، وأنشأها ، وربّاها منذ نعومة أظفارها تلك التربية الزكية بسبب والدتها التي نذرت ما في بطنها محررا ، وأكرم عيسى بسبب أمه مريم الصديقة ، وربما أكرم الله سبحانه كثيرا من الرجال المصلحين الذين ترى فيهم منذ طفولتهم آيات الشجاعة والذكاء من أجل آبائهم أو أمهاتهم جاء في الحديث عن العياشي عن الصادق عليه السلام : «ان الله ليحفظ ولد المؤمن الى الف سنة ، وان الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة ، وقال : ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله» (٢).

__________________

(١) تفسير الصافي ج ٣ ص ٢٥٧

(٢) المصدر

٤٦٧

وهذا التكريم يشجع على العمل ، فحتى لو فكرت أنك لن تحصل على النتيجة في حياتك ، ولكن الخير حتما آتيك ان كنت لم تزل حيا ، والا فسوف يأتي من بعدك أبنائك.

كما ان العكس صحيح أيضا حيث : ان الله سبحانه وتعالى قد يكتب هلاك إنسان يعلم انه لو بقي حيا لأضر بالآخرين ، وقد قدّر هلاك ذلك الغلام لكي لا بسبب طغيانا وكفرا لوالديه ، فاذا رأيت شيئا لا تفهمه فلا تنكره ، فلربما كانت هناك حكمة خفية من هذه الحكم.

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)

وفي نهاية هذه القصة القصيرة نذكركم مرة أخرى بأن السعي وراء العلم والخبرة يجب أن يكون هدف الإنسان المؤمن أبدا ، والخبرة هي علم الممارسة الحية لحوادث الحياة ، وهذه الخبرة هي من حكم الله في الحياة ، أو بتعبير آخر هي التي تجعل الإنسان أكثر إيمانا وفهما لحكم الله في الحياة ، وبالتالي أقرب الى الأحكام الشرعية.

٤٦٨

وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ

______________________

٨٦ [حمئة] : ذات حمأة (الطين الأسود).

٨٧ [نكرا] : منكرا فظيعا.

٤٦٩

سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥)

______________________

٩٤ [خرجا] : بعض من المال.

٩٥ [ردما] : السد والحاجز الحصين.

٤٧٠

الموقف السليم من السلطة

هدى من الآيات :

في سياق الحديث القرآني عن موقف الإنسان من زينة الحياة الدنيا ، تتناول هذه الآيات الموقف السليم من شهوة التسلط ، والتي هي أكثر إثارة وأشد جاذبية من أية زينة أخرى في الحياة الدنيا ، وضرب الله لنا مثلا من ذي القرنين الذي كان في العهود السالفة ، والذي لا نعلم بالضبط فيما إذا كان هو الإسكندر المقدوني الذي فتح كثيرا من بلاد العالم انطلاقا من اليونان أو هو ملك من حمير ، أو هو الملك الفارسي كورش الأول ـ كما تؤكده الدراسات الحديثة ـ أو هو رجل آخر لم يذكر التاريخ لنا المزيد من قصصه ، سواء كان هذا أو ذاك فلقد كان رجلا صالحا ، لم تخدعه بهارج السلطة ، ولم تخرجه الزعامة والسيطرة عن حدود الشرع ، وفي هذه القصة يذكرنا القرآن بعدة حقائق منها :

أولا : أن ما حصل لذي القرنين من سلطة ، إنما كان بسبب منه وسبب من الله ، أما السبب الذي كان منه فهو : إتباع هدى الله ، والاستفادة من الإمكانات المتوفرة في الطبيعة ، وأما السبب الذي كان من الله : فقد علمه الله طريق الحياة وسننها ،

٤٧١

وأساليب السيطرة عليها وتسخيرها ، فعمل في سبيل ذلك بهمة فكان العمل منه وكان من الله التوفيق والبركة.

ثانيا : أن ما قام به ذو القرنين من أعمال كان ضمن إطار قدرة الله ، وعلمه ، وإحاطته ، فلا أحد يبلغ من السلطة مكانا في ملكوت الله الواسعة إلا بأذن من الله.

ثالثا : كان ذو القرنين رجلا صالحا ، لم ينظر إلى الدنيا نظرة منحرفة ، فحينما أوتي السلطة ، أوحى إليه الله (ألهمه إلهاما) : أن بقدرتك أن تسير في الناس بما شئت ، أما أن تعذب ، وأما أن تعمل بالحسنى.

فقال ذو القرنين : إنني سوف أسير في الناس بالعدل ، فمن ظلم فانّي أعذبه ، ومن لم يظلم فسوف أرحمه.

وانطلق الرجل في عملية تعميقية للسلطة من قاعدة : إنها نعمة وفضل من الله ، وأنه يجب أن يستفيد منها استفادة مشروعة ، فجعلها لاقامة العدل ، ودحض الباطل.

هذه المقالة توحي إلينا بحقيقة أخرى وهي عبرة هذه القصة ، وهي : إن الإنسان قادر على التغلب على شهواته ، وعلى موقعه الاجتماعي ، فلأنك من طبقة الأثرياء أو من حاشية السلاطين وشريف من الأشراف ، هل يجب عليك أن تخضع حتما لسلبيات طبقتك أو مركزك أو مالك؟ كلّا .. إن باستطاعتك أن تنفلت من قيود المادة وأن أحاطت بك ، وأن تحلق في سماء القيم ، باستطاعتك أن تكون سلطانا أو غنيا وتقاوم سلبيات طبقتك ، وأن تكون شريفا ولا يستبدّ بك حب الشرف والجاه فيخرجك عن طاعة الرّب.

والقرآن الكريم يعطي الإنسان الثقة بأنه قادر على أن يتفوق على جاذبية الأرض والمادة. أن هذا الإيحاء المكرر والمستمر في القرآن الكريم هو حجر الأساس

٤٧٢

في تربية الإنسان ، فلو لا شعور الإنسان بالثقة بذاته ، وبقدرته على التغلب على ضغوط الحياة ، لما استطاع أن يصبح إنسانا صالحا مستقيما.

رابعا : أن على المؤمنين أن يعملوا من أجل رفاهية الإنسان في الأرض ، وأن الإسلام لم يأت لمصلحة طائفة معينة من البشر وليس هدف الحكومة الإسلامية بناء دولة قوية ذات صناعة متقدمة ، بل عليها أن تسعى من أجل كل المستضعفين في الأرض ، سواء كانوا مسلمين أو لم يكونوا ، لأن الإنسان كإنسان محترم في الإسلام ، وعلى المؤمن أن يعمل من أجل رفاهية الإنسانية عامة.

وكذلك الحزب الإسلامي والتجمع الايماني ليس هدفه السلطة ، إنما عليه السعي من أجل الناس ، لرفع الضّيم عن كل الناس سواء وصل الى السلطة أو لم يصل ، نعم .. قد تصبح السلطة أداة لتنفيذ هذه المهمة ، ولكن السلطة بحد ذاتها ليست هدفا.

أن الإسلام لا يدعوك الى العنصرية بأن ترى نفسك أحسن من الآخرين ، وتعتبر نفسك مركز الدنيا فتسعى من أجل إيصال نفسك الى مركز القدرة ، أن تلك العنصرية يعارضها الإسلام بقوة ، وهي الانحراف الذي وقع فيه اليهود في التاريخ ، فبعد أن كانوا مجموعة عاملة من أجل الناس أصبحوا مجموعة عاملة من أجل أنفسهم على حساب الناس ، فاعتبروا أنفسهم أبناء الله وشعبه المختار.

لقد كان ذو القرنين عبدا صالحا ، تحرك في العالم شرقا وغربا ، ومن الطبيعي ان أبناء العالم ذلك اليوم لم يكونوا مؤمنين ، ولكنه حينما وصل الى منطقة معينة ، وطلب منه أهلها أن يبني لهم سدا ، لم ينهرهم بل قال : نعم ، أن الله مكنني وأعطاني السلطة من أجل رفاهية الإنسان ، من أجلكم أيها المحرومون سواء كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين ، فبنى لهم السد ولم يطالبهم بأجر ، وهذا مثل أعلى للدولة

٤٧٣

الإسلامية.

فلنفترض أنه قد أصبحت دولة إسلامية بمثابة أمريكا وروسيا في القوة والسلطة ، فهل تبحث كإمريكا وروسيا عن أسواق جديدة لتصدير سلعها؟ ومواد خام جديدة لتستفيد منها؟ أو شعوب جديدة لتستعمرها؟ كلا .. إنما يجب أن تسعى تلك الدولة المسلمة الغنية من أجل رفاهية الإنسانية في العالم ، وتبحث عن أي مظلوم في العالم فتهرع إليه لتنقذه من الظلم ، وتبحث عن أي محروم لتنتشله من الجوع والحرمان.

هذا هو هدف الأمة الإسلامية ، وهذه في الواقع هي الحدود التي تفصل بين الأيمان والجاهلية ، فليست الحدود هي الشعارات والكلمات ، وحتى الطقوس والعبادات ، إنما المؤمن هو الذي يخرج من ذاته من أجل الآخرين ، «وإنما المسلم من سلم الناس من يده ولسانه» والدولة الإسلامية هي التي تخرج من ذاتها من أجل رفاه الآخرين.

بينات من الآيات :

عودة للتاريخ :

[٨٣] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ)

أن الذي ينفعنا من التاريخ هو أن نتذكر به ونعتبر ، إذ أن الحقائق معلومة ، وفطرة الإنسان شاهدة عليها ، ولكن الإنسان ينسى وتحجبه عن الحقائق شهواته وضغوط حياته ، لذلك قال ربنا :

(قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً)

لذلك فأن الإنسان بحاجة الى من يذكره ، والتاريخ خير من يذكر الإنسان ، والقرآن إنما يقص علينا قصص التاريخ لكي يذكرنا ويوجهنا من خلالها.

٤٧٤

من هو ذو القرنين؟

هناك ثلاثة آراء فيه :

١ ـ قال البيروني وقوم من المفسرين إنه ملك من الحمير في اليمن ، وملوك اليمن تبدأ أسمائهم بكلمة (ذي) والسد هو سد المأرب المعروف ، بيد أن شواهد التاريخ لا تؤيد هذا الرأي ، لأنه لم يعرف ملك من اليمن امتلك الشرق والغرب ، ولأن سد المأرب لا تنطبق عليه مواصفات القرآن للسد.

٢ ـ ودافع الرازي وجماعة عن الرأي القائل بأنه الإسكندر المقدوني ، لأنه ملك الشرق والغرب ، ولأن قصته كانت معروفة عند الناس فسألوا النبي عنها ، إلا أنه ناقش في هذا الرأي أيضا بأن الإسكندر كان تابعا لأرسطو ، وتعاليم أرسطو لم تكن إلهية فلا تنطبق عليه آيات القرآن ، علما بأنه لم يعرف عنه بناء سدّ بتلك الصفات التي يذكرها القرآن.

٣ ـ أما الباحث الهندي المسلم (أبو الكلام آزاد) الذي شغل لفترة ما منصب وزارة الثقافة الهندية فقد رأى أنه كان كورش الكبير الذي فتح الشرق والغرب وقدم بحثا مفصلا في ذلك وأستدل على رأيه بأن الرجل صالحا حسب ما نقل عن المؤرخين اليونانيين ، مثل هرودوت ، علما بأنهم أعداؤه ، وأن اليهود يقدرونه لأنه أنقذهم من أعداء الدين ، ويعتقد أنهم إنما سألوا عنه النبي لوثيق العلاقة بينهم وبينه ولوجود إشارة إليه في كتبهم ، وأضاف الباحث أنه وجد في حفريات منطقة الاستخر تمثال لكورش له جناحا عقاب وعلى رأسه تاج فيه قرن كبش مما يتناسب ومعنى ذي القرنين عند بعض المفسرين.

وأيدّ رأيه أيضا بأن السد الحديدي الموجود حاليا في جبال «قوقاز» في منطقة تسمى حاليا (داريال) بين وادي «ولادي كيوكز» ووادي «تفليس» تنطبق عليه

٤٧٥

توصيف القرآن للسد علما بأن كورش هو الذي بناه ، دفاعا عن أهل المنطقة في مواجهة قبائل «يأجوج ومأجوج» المتوحشة التي كانت لهم هجمات على البلاد المتحضرة طوال التاريخ ، حيث كانت الأخيرة منها بقيادة جنكيز خان المغولي (١) هذا. ولكن الأحاديث الواردة في قصة ذي القرنين تتناسب وهذا القول والله أعلم.

[٨٤] (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)

مكن الله ذا القرنين في الأرض ، وذلك عن طريق تعريفه بالأسباب والعلل ، فذا القرنين علمه الله أسباب الحياة ، واستطاع عن طريق علمه أن يتمكن في الأرض ويسخّر الطبيعة.

[٨٥] (فَأَتْبَعَ سَبَباً)

لقد تحرك ذو القرنين في طريق السبب ، واختار أحد الأسباب واتبعه بعد أن أتاه الله من كل شيء سببا ، أن علم الإنسان كثير ، ولذلك فهو يختار من بين معلوماته عما يمكن أن يطبق عمليا في إطار حياته المحدودة ، وإذا أراد أن يتبع كل ما يعلم فأن حياته لن تكفي لذلك حتما.

سياسة العدل :

[٨٦] (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً)

وصل ذو القرنين الى آخر الأرض المسكونة غربا ، وحينما وقف هناك رأى الشمس تسقط في بحر أو مستنقع مائي أو ما يشبه ذلك والإنسان إذا كان في البر فأنه يرى الشمس وكأنها تسقط في الأرض الملساء ، وإذا كان عند البحر يرى

__________________

(١) تفسير «نمونه» للشيرازي ـ ج ١٢ ، ص (٥٤٥ / ٥٤٩)

٤٧٦

وكأنها تسقط في جانب من البحر ، وإذا كان في مكان وراءه مياه آسنة حينئذ يرى الشمس فيها. الحمأة : الطين الأسود العفن ، ويبدو أن المنطقة التي بلغها ذو القرنين غربا ، كانت مليئة بالمياه الآسنة ، حتى اعتقد أن الشمس تسقط فيها ، ويقال : إنه وصل الشاطئ الغربي لمنطقة آسيا الوسطى حيث يرى الشمس وكأنها تسقط في الخلجان العديدة المنتشرة في منطقة ازمير بتركيا ، ولعل المنطقة كانت في ذلك العصر مليئة بالمياه الآسنة لكثرة هطول الأمطار في هذه البقعة من العالم في ذلك اليوم كما تشهد على ذلك البحوث العلمية الحديثة.

(قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً)

كان أمام ذي القرنين وهو صاحب السلطة أن يتخذ أحد الطريقين ، اما طريق الجور والإرهاب ، واما طريق العدل والإصلاح.

[٨٧] (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً)

يقول بعض المفسرين أن الظلم هذا هو الشرك. وأن الله إنما خيّر ذا القرنين بين التعذيب والتيسير ، لأن أولئك الناس كانوا كفارا ، وكان يمكنه أن يعذبهم حتى ينزعوا عن الكفر ، كما أنه كان يمكنه أن يبدأهم بالدعوة فمن آمن منهم عدل معه ، ومن أشرك عامله بالعنف ، قال العلامة الطبرسي في مجمع البيان : (في هذا دلالة على أن القوم كانوا كفارا ، والمعنى أما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك ، وأما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى ، وتستنقذهم من العمى (١) ويبدو أن هذا التفسير أصح ويدل ذلك على : أن السلطة الإسلامية هي السلطة التي تتعامل مع الناس حسب معتقداتهم ، ولكنني أرى أن الظلم هنا إنما هو بمفهومه المعروف كاغتصاب حقوق الآخرين ، بدليل قوله سبحانه وتعالى :

__________________

(١) مجمع البيان ـ ج ٦ ص ٩٤٠

٤٧٧

[٨٨] (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)

مما يدل على أن السلطة الإسلامية تعامل الناس على أساس أعمالهم وليس على معتقداتهم ، صحيح أن المعتقدات تنتهي في الأعمال ، والأيمان ينتهي الى العمل الصالح والشرك ينتهي الى الظلم ، ولكن المهم أن الجزاء ليس بالمعتقدات وإنما على الأعمال.

(فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً)

لقد أدى إيمان ذي القرنين بالله واليوم الآخر الى اتخاذ السياسة الصحيحة في الحكم والإدارة ، وهي إتباع العدل والحق ، وخدمة الناس وتيسير أمور الرعية ، وتحريرهم من الروتين والبيوقراطية التي يتبعها الحكام المنحرفون.

[٨٩] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)

ذو القرنين استفاد أيضا من الأسباب ، واستخدم عمله وعلمه في طريق آخر نافع.

[٩٠] (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً)

أين وصل ذو القرنين شرقا؟ لا أعلم ، إلا أن المنطقة كانت بدائية حيث أن القوم فيها لم يكن يملكون بيوتا تكنّهم من حرارتها ، كما جاء في حديث مأثور عن الباقر (عليه السلام):

«لم يعلموا صنعة البيوت» (١).

وقال البعض أن المنطقة كانت سهلا بحيث تظلها الجبال ولعلهم كانوا يفتقرون

__________________

(١) الصافي ج ٣ ص ٢٦٢

٤٧٨

الى الثياب أيضا.

[٩١] (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً)

هذا التحول من المغرب الى أول المشرق كان دليلا على قدرة ذو القرنين وسلطته ، ولكنها لم تكن بعيدة عن سلطة الله ، فقد كان الله محيطا به.

[٩٢] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)

[٩٣] (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)

بين السدين اي بين الجبلين حسب الظاهر ، وقد سبق الحديث عن انه قد يكون في منطقة القوقاز وهكذا تكون حملته شمالية.

(وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً)

كانت لغة هؤلاء بعيدة جدا عن تلك اللغة التي كان يتحدث بها ذو القرنين ، بحيث لم يكد يفقهها ، وإنّ الله الذي علم الإنسان البيان أوجد وسيلة للتفاهم بين الطرفين.

يأجوج ومأجوج :

[٩٤] (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)

يقال ان يأجوج ومأجوج هي قبائل مغولية بدوية ، كانت تغير على تلك البلاد ، فتعيث فيها فسادا ، ولعل ذو القرنين قد سار الى تلك البلاد لمقاومة خطرهم (على تفسير انه كورش الكبير) ..

٤٧٩

(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)

من عادة الملوك الذين يدخلون البلاد انهم يقدمون خدمة للناس ، ولكنهم في مقابل ذلك يستعمرون البلد ، ويستغلون موارده ، ويريدون من اهله ان يوقعوا على وثيقة العبودية الكاملة لهم ، وهؤلاء أيضا ظنوا ان ذا القرنين من هؤلاء السلاطين والملوك ، ويبدو انهم استعدوا لاعطاء المزيد من خيراتهم من أجل درء خطر يأجوج ومأجوج عن أنفسهم.

ولكن ذا القرنين لم يطالبهم بالخراج ، أو يأخذ منهم مالا ، وانما.

[٩٥] (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)

ان الله مكنني وسخر الحياة لي من أجل خدمتكم وخدمة المحرومين والمستضعفين ، ثم اني ابحث عن الطرق المشروعة لاستغلال الحياة ، بلى .. ان السلطة إذا أرادت ان تسخر الناس لاهدافها ، وتستثمر مواردهم ، فانها لا تدوم ، اما إذا عملت من أجل استغلال موارد الطبيعة مثلا ، تستفيد من الاراضي البور وتبدأ بتصنيع البلاد واستخراج معادنها ففي ذلك خيرها وخير الشعب.

(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً)

لقد طالبهم ذو القرنين فقط بطاعته في طريق بناء السد (الردم) اي التعاون معه في سبيل إنجاز المهمات الصعبة وهذه هي العلاقة المثلى بين السلطة والشعب.

٤٨٠