من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

جزاء الاستكبار :

[٢٥] إن المستكبر يرى في الحق عدوه الخطير ، لأنه يريد ان يستغل النّاس ويبسط عليهم جناح طغيانه ، وإذا كان النّاس عارفين بالحق فلن يسمحوا له بذلك ، لذلك يبث الدعاية تلو الدعاية ضد الحق ، ولكن ما هي العاقبة؟

ان عاقبته تحمّل أوزار الذين يضلهم بدعاياته ، بالإضافة الى أوزاره.

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)

والأوزار هي أثقال الذنوب ، باعتبار ان الذنب لا ينتهي بل سوف يبقى كثقل يتحمله صاحبه يوم القيامة ، وقد يشترك اثنان في تحمل وزر ذنب دون ان يخفف أحدهما عن الآخر ، وقد جاء في الحديث النّبوي الشّريف :

«من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها دون ان ينقص من اجره شيء ، ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها»

والآية توحي بان فرض السّيطرة على أحد ، إذا لم تكن في طريق يعلم الفرد سلامته ، يعتبر جريمة كبيرة.

[٢٦] ولا يكتفي المستكبرون بالدعاية ، بل يتأمرون ضد الحق وجبهته بشتى أنواع المكر والخدع ، ومكرهم يشبه مكر الذين كانوا من قبلهم ، وكيف ان الله نسف أساسهم حتى وقع عليهم السّقف.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)

٤١

هبط السّقف بسبب تزلزل القواعد التي قام عليها وهم تحته.

(وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)

فهم كانوا يزينون السّقف ، ويحاولون المحافظة عليه ، فاذا السّقف ينهدم بسبب نسف قواعده.

ان آيات سورة العنكبوت قد تكون أفضل تفسير لهذه الآية ، حيث ان الكفار الذين اعتمدوا على الماء ، وبنوا بناءهم على قواعد الحضارة غرقوا في البحر فتلاشوا كقوم فرعون ، وكذلك الذين ركنوا الى مناعة بيوتهم كعاد دمّروا بالريح وبالصخور التي بنوا بناءهم بها وهكذا كل قوم اعتمدوا من دون الله على قواعد مادية أتى عليها الله ، ودمرهم بها وهم لا يشعرون ان خطأهم الأكبر كان اعتمادهم على هذه القوة الزائلة.

[٢٧] ثم عذابهم في الدنيا لا العذاب في الآخرة بل ان استكبارهم سوف يجر إليهم العار والخزي.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)

أي تشقون عصى الوحدة من أجلهم ، أو بتعبير آخر كنتم تتعبون أنفسكم دفاعا عنهم ، تناضلون جبهة الحق من أجلهم ، وكان الحري بكم ان تحاربوهم.

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ)

فلهم عذاب نفسي هو العار ، وعذاب جسدي يسوؤهم ، وهذه الآية توحي بقيمة العلم وفائدته. حيث انّ أعظم سبب لاستكبار المستكبرين واستغلالهم للناس هو انعدام العلم عند النّاس.

٤٢

[٢٨] وهل الكافرون هم الذين يجحدون بألسنتهم ، أو ان كل مستكبر عن الحق وظالم لنفسه يواجه ذات العذاب؟

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)

أي في الوقت الّذي كانوا يظلمون أنفسهم ، أما من تاب قبلئذ فحسابه يختلف.

(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)

بالرغم من انهم قبل ذلك كانوا يستكبرون ، ويحسبون أنفسهم فوق الحق ، وفوق المسؤولية ، فوق القانون ويستضعفون النّاس.

(بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

إن الاستكبار يبدأ من ظلم النّاس واستصغارهم وقد يرتكبه واحد من ادنى النّاس تجاه من هو ادنى منه. جاء في نص شريف مأثور عن الأمام أمير المؤمنين (عليه السّلام):

«ومن ذهب يرى ان له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين».

فقلت : انما يرى ان له عليه فضلا بالعافية إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال «هيهات هيهات فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى ، وأنت موقوف تحاسب أما تلوت قصة سحرة موسى» (١).

[٢٩] آنئذ يساقون الى أبواب جهنم ، كل جزء منهم يدخلها من الباب الّذي اختاره في الدنيا لنفسه ، فمنهم من اختار باب الطغيان على العباد ، ومنهم من اختار باب طاعة الطغاة ، ومنهم من يدخل من باب الفساد في الأرض وهكذا.

__________________

(١) الجزء ٦ الصفحة ٣٥٥ (الكلام منقول بتصرف واختصار).

٤٣

(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)

الذين استكبروا عن الحق ، واستكبروا في الأرض وكانت قلوبهم منكرة.

وآيات هذا الدرس إذا ما قسناها بآيات الدرس السّابق التي كانت حول العلم رأيناها تعالج حالة التكبر عن الحق التي هي أخطر أعداء العلم ، وتتدرج من الإنكار الى الاستكبار الى التكبر. كما ان الآيات السّابقة كانت تتدرج من التفكر الى التعقل الى التذكرة الى الشّكر فالهداية.

٤٤

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ

______________________

٣٤ [حاق بهم] : حل بهم وأحاط.

٤٥

شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)

٤٦

والعاقبة للمتقين

هدى من الآيات :

في الدرس السّابق بيّن السّياق موقف الكفار من الرسالة وأما المتقين فان موقفهم هو انها خير ، حيث تهيأ منهاج الإحسان الّذي يؤدي الى الحسنات في الدنيا ، وفي الآخرة جزائهم الأوفى حيث يستقر المتقون فيها بسلام.

هنا لك حيث الجنان الخالدة التي يدخلونها ، يجدون فيها الأنهار تجري من تحتها ، وتتحقق أمانيهم وذلك جزاء المتقين الذين تنتهي حياتهم بخير ، يسلم عليهم الملائكة التي تتوفاهم ، ويبشرونهم بدخول الجنة بأعمالهم الصالحة.

ولا يهتدي الكفار بعقولهم ، بل ينتظرون هبوط الملائكة لينظروا إليها بأعينهم ، أو نزول العذاب الّذي ينذرون به ، ولكن الدنيا دار ابتلاء ، فاذا ظهرت الحقائق فان العذاب لا يرد عنهم ، ولا تقبل توبتهم ، بأنهم ظلموا أنفسهم ولم يظلمهم الله ، هنا لك يجدون سيئات أعمالهم ، ويأخذهم ذلك العذاب الّذي استهزءوا به.

٤٧

ومن الكفار من يبرر انحرافه الفكري والسّلوكي بالفكرة الجبرية ، ويقول : لو شاء الله لمنعنا عن عبادة الشّركاء ، أو اتباع القانون الباطل ، وهذا تبرير قديم ، ولا يسع الرسل سوى البلاغ الواضح ، وبعدئذ تبقى لهم حريتهم واختيارهم ، وابتلاء الله لهم ، والله لم يأمرهم بعبادة الطاغوت ، بل بعث الأنبياء لخلاص النّاس من الطاغوت ، فمنهم من استجاب لدعوة الرسل فهدي ، ومنهم من لم يستجب فاضلّه الله ، والمكذبون بالرسل أخذوا بأشد العذاب باعتبارهم أحرارا في تصرفهم وتكذيبهم ، فانظروا في آثار السّابقين.

والله لا يكره أحدا على الهدى ، بل لا يهدي من يختار الضلالة ، ولا ينصره ولن ينصره أحد.

بينات من الآيات :

جزاء المتقين :

[٣٠] تلك كانت نظرة المستكبرين الى الرسالة ، أما المؤمنون الذين اتقوا فلم تحجب الذنوب عقولهم عن فهم الحقائق فإذا سئلوا عن الرسالة قالوا أنها خير.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً)

ولا يذوق حلاوة الايمان غير المتقين وابرز سمات المتقين هو الإحسان الّذي يثمر حسنات في الدنيا والآخرة.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ)

[٣١] أما دار المتقين فهي متمثلة في جنات خالدة.

٤٨

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ)

وهذا الإطلاق يدل على ان أهل الجنة تتحقق أمانيهم هناك ، فهم راضون عن وضعهم بالكامل ، وهذا الرضا لا يتحقق أبدا في الدنيا ، حتى قال قائلهم : ما كلما يتمنى المرء يدركه! وهذا فارق كبير بين أهل الجنة وأهل النّار.

(كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ)

أما غيرهم من المؤمنين فانّهم يظلون في نار جهنم حتى تذهب آثار الذنوب التي ارتكبوها ، وبعدئذ يدخلون الجنة.

[٣٢] والمتقي يبقى في خطر عظيم حتى يأتيه اليقين وهو الموت ، إذ يخشى ان تزل قدمه قبل ان يصل الى نهايته فاذا استمر على الهدى حتى الموت فهو الطيب.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

وبالرغم من أن هناك مسافة زمنية واسعة بين الموت ودخول جنات الخلد ، الا ان الملائكة تبشر المتقين عند موتهم بأنهم داخلوها حتما ، مضافا الى أنهم يعيشون خلال الفترة في جنان ورياض مماثلة بجنات الخلد ، (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

[٣٣] أما غير المتقين ، فان أكبر خطأ لهم انهم ينتظرون احاطة الخطر بهم حتى يعترفوا به ، وانئذ لا ينفعهم ايمانهم ، ذلك أن الدنيا دار اختبار وانما يختبر مدى ايمان الفرد وتقواه ، وقوة إرادته وعقله إذا انذر بالخطر وأبلغ بالحقائق قبل ان يراها ، أما بعدئذ فكل النّاس سواء ، وكل شخص يهرب من الخطر الّذي يبصره ، ولكن العقلاء

٤٩

وحدهم يتجنبون الخطر في الوقت المناسب ، وعند ما تأتيهم نذره. وتظهر لهم ارهاصاته.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)

أي هل ينتظرون الملائكة حتى يؤمنوا ، وإذا نزلت الملائكة انعدم الابتلاء.

(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)

من العذاب ، فآنئذ يؤمنون ، وماذا ينفعهم ايمانهم إذا رأوا العذاب؟

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

فدمرهم الله شر تدمير.

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

ان مثل هؤلاء كمثل رجل يبصر بعينه بئرا فلا يعترف بها حتى يقع فيها وتتهشم عظامه ، فيقول الآن آمنت انها كانت بئرا! فلما ذا إذا زودت بعين ، أو ليس لكي ترى أمامك الطريق؟! وتتجنّب البئر قبل الوقوع فيه.

لماذا زوّد الإنسان بالعقل؟ أو ليس لكي يبصر الغيب ، أما الشهود فيحس به حتى الحيوان! ولماذا زود بالإرادة؟ أو ليس لكي يتحدى الشهوات ، أما الاسترسال معها فانه ليس بشيء! هكذا الخطر متى يقدر الإنسان على معالجته؟! عند ما ينتبه له بسبب علاماته المبكرة ، أما إذا أحدق به فكيف الفرار؟!

[٣٤] هكذا قامت الدنيا على أساس الانتفاع بالعقل والارادة ، والكفار لم يستفيدوا منهما.

٥٠

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

أي حلّ بهم الفكر الّذي استهزءوا به ، فقد انتقم منهم الفكر الحق الّذي سخروا منه ، كما ان أفعالهم السيئة ، تحولت الى مشاكل وصعوبات دمرت حياتهم.

[٣٥] إذا فأن انتظار تحول الحق المبلّغ به الى واقع مشهود خطأ كبير ارتكبه الهالكون من قبلنا ، وعلينا تجنبه ، وخطأ آخر هو القدرية ، والاعتقاد بان الله لم يتركنا أحرارا في تصرفاتنا ، الا لأنه فوّض إلينا شؤون الحياة فيه نفعل كما نشاء ، ولو كان يريد غير ذلك لأجبرنا على ترك عبادة الطغاة.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)

فلا عبدنا المال المتمثل في الرأسمالية ، ولا عبدنا القوة المتمثلة في الطاغوت ، ولا عبدنا التراث المتمثل في الاباء.

(نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)

فقلنا هذا حلال وهذا حرام حسب اهوائنا ، كما فعل الجاهليون ، حينما حرّموا البحيرة والسائبة ، وكما يضع الجاهليون اليوم قوانين تكبل طاقات الناس. وبتعبير آخر لم نخضع لسيادة السلطة الفاسدة ، ولم نطبق التشريعات البشرية.

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

عبدوا الطاغوت ، وشرّعوا لأنفسهم ، وادّعوا ان الله فوّض إليهم ذلك الأمر ، ولكن لماذا بعث الله الرسل؟

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

٥١

فلا الله فوّض أمر الحياة الى البشر ، لأنه بعث الرسل ، ولا أنه يريد ان يكره الناس على الهداية ، فاذا لم يكرهم فهو راض عنهم ، لأن مهمة الرسل تنتهي عند البلاغ ، لتبدأ مسئولية الإنسان نفسه.

الكلمة البالغة :

[٣٦] وهكذا بعث الله الرسل بكلمة بالغة الوضوح : عبادة الله ورفض الطاغوت.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)

الطاغوت يفرض نفسه على الناس ولا يكفي السكوت عنه ، بل انه رجس يجب الاجتناب عنه ، يجب التحصن منه ، يجب الحذر ، يجب التمرد والثورة عليه ، إذا لم يفوّض الله أمر العباد إليهم ليختاروا لأنفسهم حكومتهم ، أو ليسكتوا ان شاؤوا عمن يريد استغلالهم وتضليلهم ، كلا .. بل أتم حجته عليهم بان بعث في كل أمة رسولا يأتمون به ، ويتفاعلون مع بعضهم ، حتى لا يبقى أحد منهم يقول لم أكن أعلم.

ولكنه لم يشأ ان يكرهم على قبول الهداية.

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)

الّذي يهتدي فالله يهديه ولكن بعد ان يختار ذلك ، والّذي يضل فالله يضله ولكن بعد ان يختار ذلك ، لذل قال ربنا : «حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» أي وجبت ضلالته بعد أن أختار ذلك ، وكلّ يتحمل مسئوليته.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)

٥٢

فلو ان الله يرضى لعباده الكفر ، إذا لم يعذب الكافرين؟!

[٣٧] ومرة أخرى يؤكد ربنا ان الهدى ليس جبرا من الله ، ولذلك فلا ينتظر أحد ان يأتي نبيّ يكرهه على الهداية ، ولا يقولنّ إذا لم يأت من يجبره فما تقصيري. كلا .. أنت مسئول ، والرسول ليس مسئولا عنك.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

فلا يسلّوا أنفسهم بهذه التبريرات ، ولا ينتظروا أحدا لينصرهم ، كلا لا أحد ينصرهم ، الله وحده هو الناصر ، وأنت إذا اهتديت اليه حصلت على سعادتك المنشودة.

٥٣

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)

٥٤

آثار الإيمان بالآخرة

هدى من الآيات :

ولكي يتهرب الكفار من صعوبة العلم بالآخرة ، حلفوا بالله الايمان المغلظة ان الله لا يبعث من يموت! فأكد الله لهم انه قد وعد أن يبعثهم فلن يخلف الله وعده ، وأكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة.

والهدف من البعثة تبيان الحق في اختلافاتهم ، وإثبات كذب الكفار لهم ، وليست هناك صعوبة في البعث (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وفي المقابل نجد الّذين يتحملون مسئولية ايمانهم بالحق ، فإذا هم يهاجرون عن أرضهم حين لا يجدون حربة العمل بالحق ، فيعدهم الله حسنة في الدنيا وأكبر منها في الآخرة ، حيث أخفيت عنهم نعمها التي لا توصف ، لأن هؤلاء يصبرون على الأذى ، ويتوكلون على الله في مقاومة الكفار.

وبعضهم يناقش في صدق الرسول لأنه بشر كسائر الناس ، علما بان الله قد

٥٥

بعث من قبله رجالا لا يميزهم عن غيرهم سوى الوحي ، ألا فسألوا أهل العلم الّذين ذكروا بالبينات والزبر. والقرآن ذكر أنزل على محمد (ص) بهدف توضيح الرسالة التي نزلت عليهم تدريجيا ، والغاية الأسمى لها اثارة عقولهم ، وتحريضهم على التفكير.

بينات من الآيات :

العلم دليل الحقيقة :

[٣٨] السياق القرآني يتبع عادة أكثر من خط فكري واحد خلال درس أو سورة ، لأنه كتاب الله الّذي لا يشغله شأن عن شأن ، وإذا تدبرنا في نهايات آيات هذا الدرس الكريم تبين لنا أن السياق يحدثنا أيضا عن العلم ، بالإضافة الى حديثه عن الإيمان بالبعث ، وعن الهجرة في الله ، وعن الرسالة ، بل يكاد العلم يكون الخط الرابط بين موضوعات الآيات هذه ، ذلك ان العلم مسئولية خطيرة لأنه قرين العمل ، ويهتف به فإن وجده وإلّا ارتحل ، ولو لا العمل بالعلم فإن القرآن لا يسميه علما ، ذلك ان العلم ـ في الإسلام ـ ليس مجرد تراكم المعلومات في الحافظة البشرية كما تراكمها مثلا في الكمبيوتر ، بل هو انكشاف المعلومات بوضوح أمام العقل النير. وعند ما تنكشف الحقائق فإن العمل وفقها نتيجة فطرية لها.

ولكن هل العمل بالعلم سهل؟ كلا .. أو لم يقل الحديث الشريف :

«حديثنا صعب مستصعب»

فإن أمام العمل عقبات نفسية وواقعية لا بدّ من تجاوزها والتغلب عليها.

ولكي يتهرب البعض من مسئولية العلم يجهلون ، ويحلفون الإيمان المغلظة على جهلهم.

٥٦

ومن جهة أخرى فإن العلم بالآخرة يبدو كحجر الزاوية في العلم ، لأن فهم الدنيا وما فيها من مسئوليات وقيم وحقائق لا يمكن دون الاعتراف بالآخرة ، وإلّا فكل شيء في الدنيا يبدو لغزا وسرا كبيرا.

ومن هنا كان إنكار الآخرة بمثابة جهل مطبق بالحياة الدنيا ، هذه التي قد تنتهي في أية لحظة ومن حكمة معروفة.

ومن جهة ثالثة : العلم بالآخرة ، يجعلنا نؤمن بان هناك حقا ثابتا في هذا العالم ، واننا سوف نعرفه ونحاسب على أساسه في يوم ما لذلك لا بد أن نبحث عنه وأن نجعله هو المحور لتفكرنا وعملنا.

وفقدان محورية الحق يشبه سقوط قاعدة البناء ، كلّ شيء فيه ينهدم ، فإذا لم يكن هناك حق وباطل واقعيان ، وإذا لم يكن هناك حسن وقبح عقليان ـ حسب تعبير الفلاسفة ـ فلما ذا ترانا نبحث في العلم؟ وما هو المقياس في الصراعات؟ هل المقياس هو الأنا ، أم الأقوى ، أم ماذا؟

ويبدو ان الآيتين توضحان هذه الحقيقة :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ)

القسم فيما لا يعلم الفرد دليل على تأكيده على جهله وفراره من العلم بالحق ، وإلّا فلما ذا التأكيد على القسم على ان الله لا يبعث الموتى؟

(بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

إن وعد الله حق ، وقد وعد أن يبعث من يموت ، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك.

يقول العلامة الطباطبائي : (أيّ لا يعلمون انه من الوعد الّذي لا يخلف ،

٥٧

والقضاء الّذي لا يتغير لاعراضهم عن الآيات الدّالة عليه ، الكاشفة عن وعده وهي خلق السماوات والأرض ، والعدل والإحسان ، والتكليف النازل في الشرائع الإلهية). (١)

وقال البعض : أن المعنى لا يعلمون وجه الحكمة في البعث فلا يؤمنون به. (٢)

ويبدو أن القرآن ، ينفي علم أكثر الناس كعلم ، كي لا تتخذ الأكثرية مقياسا ، بل يكون المقياس هو الحق الّذي يتبين في الآخرة ، وتنتهي الآية الى بيان حقيقة العلم ومقاييسه ، والله العالم.

لماذا البعث؟

[٣٩] من أهداف النشور بعد الموت تبيان الحق ، وكشف زيف الكفار ، وهكذا يكون من حكم الزمان بالآخرة ، الإيمان بوجود مقياس ثابت للحق ، يرجع إليه الناس ، فيحكم بينهم فيما اختلفوا.

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ)

فلا يستطيع أحد من أن يبدل الحق بالباطل ، ويخدع نفسه ان الباطل قد أصبح حقا ، لأنّ رأي الأكثرية ـ حسبما يزعم أغلب الناس ـ هو مقياس فهم الحق والباطل ، كلا .. ان وراءنا يوما يميز فيه الحق عن الباطل بوضوح كاف.

[٤٠] ويزعم الكفار أن البعث مستحيل ، ولا يعلمون ان الله لو أراد شيئا ، قال له : كن فيكون.

__________________

(١) الميزان ـ ج ١٢ ـ ص ٢٤٧.

(٢) مجمع البيان ـ ج ٥ ـ ص ٣٦٠.

٥٨

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

وتكرار كلمة (القول) ربما جاء لبيان ان الإرادة ليست نعمة في القلب ، أو ترويا في النفس ، كما هي لنا نحن البشر ، انما هو كالقول (فعل) يبدعه الله إبداعا ، وقد جاء في الحديث الشريف عن أبي الحسن ـ عليه السلام ـ حينما سأله أحد أصحابه عن الإرادة : من الله أم من الخلق؟ قال (ع):

«الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يتروى ولا يهمّ ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له : كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همة ، ولا تفكر ، ولا كيف لذلك ، كما انه لا كيف له» (١)

واجب الهجرة :

[٤١] وكثير من الناس يتركون ما يعلمون ، ويعلمون بالجهل خشية المجتمع الفاسد والطاغوت ، بينما ينبغي أن يتمردوا عليهما فإذا ظلموا ، ولم يجدوا حيلة ، هاجروا من تلك الأرض ، وأرض الله واسعة ، دعهم يهاجروا لكي يعودوا أقوى الى بلادهم.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ)

أيّ في سبيل الله ، ومن أجل العمل بأوامر الله.

(مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً)

فسوف يهيء الله لهم : أرضا رحبة ، وحياة حسنة ، وحرية وأمنا.

__________________

(١) الميزان ـ ج ١٢ ـ ص ٢٥٩.

٥٩

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

وعليهم ألا يبحثوا فقط عن أجر الدنيا ، وفائدة العلم انه ينقلنا الى رحاب الآخرة وما فيها من أجر كبير.

[٤٢] كلّ ذلك بشرط أن يتحملوا الأذى في سبيل الله ، وألا يستسلموا لضغوط الطاغوت ، ولا ينسوا قضيتهم الرسالية.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

سبيل المعرفة :

[٤٣] إنهم يجادلون في رسالة محمد (ص) لأنه رجل مثلهم ، وهل بعث الله إلّا رجالا أهم ما يميزهم عن غيرهم الوحي؟!

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ)

وعلى الإنسان أن يبحث عن الحقيقة بنفسه ، فإذا لم يجدها يبحث عمن وجدها من الّذين صاغت المعرفة شخصياتهم ، فتميزوا عن غيرهم بمعرفة البينات والزبر.

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

فإن كنتم تعلمون فلا يحق لكم تقليد الآخرين ، كما لا يجوز إتباع من لا يعرف شيئا عن البينات والزبر ، أو يعرف ولكن لم ينتفع بها عمليا فلم يتذكر هو شخصيا بالوحي ، ولم يتعظ بمواعظه الرشيدة ، وهذه الآية والتي بعدها تحدد شروط التقليد ، أو بتعبير آخر تحدد شروط اتباع الجاهل للعالم ، وهما يشيران الى حقائق عقلية فطر البشر عليها.

٦٠