من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

البينات والزبر :

[٤٤] عالم الطبيعة وعالم التاريخ وعالم الطب ومن أشبه ، لا يمكن تقليد أحدهم في شؤون الحياة مما يتصل بالدين ، بل عالم الدين الّذي تذّكر بالأدلة وعرف المحتويات.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)

البينات هي الشواهد الواضحة ، أما الزبر فانها الكتب التي تحتوي على العلوم الإلهية. ولان البينات قد جاءت في آيات قرآنية أخرى مقارنة بكلمة الهدى ، مثل قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) ، فإن معناها ـ حسبما يبدو لي ـ هو التفاصيل الواضحة للتعاليم السماوية ، بينما الهدى أو الزبر التي تحتوي عليه ، هي البصائر والإشارات (المحكمات) .. التي فصّلت بعضها فقط.

وبناء على هذا التفسير فإن كلمة بالبينات والزبر متعلقة بقوله تعالى : (أَهْلَ الذِّكْرِ) وقال البعض انها متعلقة بقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا) وقال العلامة الطباطبائي : (أيّ أرسلناهم بالبينات والزبر ، وذلك ان المعنى في الآية السابقة ، أنما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب ، فكأنه لما ذكر اختلج في ذهن السامع انهم بماذا أرسلوا؟ فأجيب عنه فقيل بالبينات والزبر ، أما البينات فلإثبات رسالتهم ، وأما الزبر فلحفظ تعليماتهم). (١)

وأقول : كما أرسل ربنا رسوله بالبينات والزبر ، كذلك كان أهل الذكر يتذكرون بها ، علما بان المتعلق أقرب الألفاظ السابقة ، والأقرب هنا : الذكر ،

__________________

(١) الميزان ـ ج ١٢ ـ ص ٢٥٩ ـ وقريب منه في المجمع وغيرهما.

٦١

خصوصا بإضافة الأهل ، ولا سيما والكلمة غامضة وأكثر إثارة للتساؤل من كلمة «أرسلنا» ثم إن المتعلق ينبغي أن يكون حسب رأيهم كلمة الوحي لا أرسلنا ، فتدبر.

هدف البعثة :

وهكذا انزل الذكر الى الرسول بهدف تحقيق واحد من أمرين :

الأول : أن يكون الرسول قدوة يتبع ، وهذا يشبه التقليد.

الثاني : أن يثير عقول الناس ويحرك الراكد من أفكارهم ، فيحصلون على العلم مباشرة. والهدف الأول يشمل جميع الناس ، بينما يختص العقلاء بالثاني.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

٦٢

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)

٦٣

إنما هو إله واحد

هدى من الآيات :

ان الّذين يعملون السيئات بمكر ، ويعالجونها بأفكارهم معالجة ، ينبغي الا يأمنوا من مكرهم ، فقد يخسف الله بهم جانبا من الأرض ، أو يتعرضون للعذاب من حيث لم يتوقعوا ، أو يحيط بهم عذاب الله وهم يبحثون عن المعاش في البر والبحر ، فلا يستطيعون رد العذاب عن أنفسهم ، أو يأخذهم الله بعذابه وهم متيقظون في كل وعيهم فلا يستطيعون ردّه ، ولكن الله يؤخر عنهم العذاب لأنه رؤف بهم رحيم.

ولماذا يمكرون السيئات؟ لماذا لا يعبدون ربهم؟ أو لا يرون الى خلق الله أنى نظروا كيف يتحول ظلاله عن اليمين الى الشمائل ، وكل هذا الخلق يسجدون لله خاضعين ، بلى كل ما في السماء ، وكل ما في الأرض يسجد لله ، من الأحياء والملائكة ، دون ان يستكبروا شيئا ، وهم يخافون ربهم ان يأتيهم عذابه من فوقهم ، ولذلك يطيعون الله في كل ما يأمرهم به.

أما الناس فبعضهم يتخذون الشركاء من دون الله ، بينما أمرهم الله الا يعبدوا

٦٤

الهين اثنين ، لأنه لا اله إلا الله إلها واحدا ، ينبغي ان يرهب جانبه ، وان لله كل شيء في السموات والأرض ، وله الحاكمية الواجبة ، فلما ذا يحذرون غير الله فيعبدونه؟! بينما النعم منه وعند النعم يستغيثون اليه ، ولكنهم إذا كشف الضر عنهم يشركون بالله ، كافرين بما آتاهم الله من خير ومن كشف الضر ، فدعهم إذا يتمتعون فسوف يعلمون غدا مصيرهم المحتوم.

بينات من الآيات :

الحاكمية الإلهية :

[٤٥] الله هو الحاكم ، وله الدين الواجب ، أما الّذين يشرّعون لأنفسهم الأنظمة الباطلة ، ويبتدعونها بقوة خيالهم ، من أجل الوصول الى أهدافهم السيئة التي يخططون للوصول إليها تخطيطا واعيا ، فإنهم لا يأمنون عذاب الله.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ)

أي مكروا مكرا يعملون به السيئات ، فالهدف كان شيئا ، ولكنهم استخدموا حيلتهم الشيطانية للوصول إليها ، فهم أكثر ذنبا ممن يعمل السيئات مخطأ أو حسب الصدفة ، فهل أمن هؤلاء مكر الله؟ مثلا :

(أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ)

من فوقهم أو من أطرافهم.

يقول العلامة الطباطبائي : هذه الآية والآيتان بعدها إنذار وتهديد للمشركين ، وهم الّذين يعبدون غير الله سبحانه ، ويشرّعون لأنفسهم سننا يستّنون بها في الحياة ، فما يعملون من الأعمال مستقلين فيها بأنفسهم ، معرضين عن شرائع الله النازلة من

٦٥

طريق النبوة ، استنادا الى حجج داحضة (واهية) اختلقوها لأنفسهم ، كلها سيئات. وأضاف قائلا : السيئات مفعول مكروا بتضمينه معنى عملوا : أي عملوا السيئات ماكرين. (١)

وكلمة الدين واصبا في السياق تدل على ما استوحاه العلامة الطباطبائي من معنى التشريع في الشرك.

[٤٦] والبشر بحاجة الى الكسب ، والاكتساب محفوف بالأخطار ، والله سبحانه يحفظ الإنسان حين يسعى لرزقه ، ولكنه إذا شرّع لنفسه قوانين باطلة لسعيه ، فقد يتركه الله فريسة للأخطار.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ)

أي في سيرهم في البر والبحر لاكتشاف الرزق.

(فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ)

لا يهربون من ملاحقة العذاب ، ولا يفلتون من يد العقوبة.

أنواع العذاب الإلهي :

[٤٧] عذاب الله ألوان :

الأول : العذاب الفجائي الّذي لا ينتظره ، ويأتي من دون سابق إنذار مثل الخسف والزلازل.

الثاني : العذاب الّذي يسببه البشر بأخطائه كأن يركب البحر فتنقلب به

__________________

(١) الميزان ص ٢٦٢ ج ١٢.

٦٦

السفينة.

الثالث : العذاب التدريجي كأن يعذب الله أمة بالقحط فيموتوا بالتدريج. ولكل لون من العذاب ألم خاص يدعنا نتحذر منه ، وقد حذّرنا القرآن منها جميعا. فعن اللون الأول من العذاب والثاني حذرتنا الآية الأولى والثانية ، أما عن اللون الثالث فيقول سبحانه

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ)

قال الطبرسي : التخوف والتنقص وهو ان يأخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد ، وتلك حالة يخاف منها الفناء ويتخوف الهلاك ، ويقال : تخونّه الدهر. (١)

وجاء في الحديث المأثور :

«التخوف هو التيقظ»

والواقع ان معنى التخوف الأصلي هو التيقظ اشتقاقا من كلمة الخوف ، ولكن يسمى الهلاك التدريجي بذلك ، لأن الإنسان يخشاه ويسعى جهده لتجنبه ، فلا يستطيع ذلك مما يسبب له ألما جسديا ونفسيا ، وربما كان هذا اللون من العذاب هو الأكثر ألما ، ولذلك طمأن ربنا عباده بأنه رؤف رحيم.

(فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)

فبالرغم من استحقاقهم العذاب التدريجي ، الا انه يتابع نعمه عليهم برأفته ورحمته.

__________________

(١) مجمع البيان ص ٣٦٣ ج ٦.

٦٧

آيات الخلق وحقيقة العبودية :

[٤٨] لماذا الشرك بالله العظيم؟ أو ليس الكون كله ساجد لله ، خاضع لمشيئته.؟

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ)

أولا يرون ناظرين ما خلق الله من أشياء!!

(مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ)

اي يتحرك ظلاله من اليمين الى اليسار.

يقول الطبرسي : التفيؤ التفعل من الفيء ، يقال فاء الفيء يفيء إذا رجع وعاد بعد ما كان ضياء الشمس قد نسخه ، ويضيف قائلا : الفيء ما نسخه ضوء الشمس ، والظل ما كان قائما لم تنسفه الشمس ، ويستنتج من ذلك ان معنى الآية يتميل ظلاله عن جانب اليمين وجانب الشمال.

(عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ)

وربما جاء السياق بلفظ اليمين مفردا بينما جمع الشمائل ، لأنه قد اتخذ جانب اليمين مبدأ الحركة ، بينما جعل جانب الشمال مآلها ، والحركة تبدأ من مكان ولكنها تسير في أماكن مختلفة.

(سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ)

كل شيء يسجد لله داخرا خاضعا صاغرا ، بالرغم من أننا نراها وكأنها واقفة ، حيث لا يتحرك الا ظلاله فقط ، ولكنها في الواقع تسجد لله ، تسبحه وتستجيب أوامره

٦٨

وفي السجود معنى لا نفهمه من الخضوع وهو معنى الفعل.

[٤٩] وكما الأشياء الجامدة التي تتحرك حولها الظلال وهي جامدة ظاهرا ، لكنها تسجد لله ، كذلك الأحياء في الأرض والملاك في السماء.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)

بالرغم من عظمتهم بالنسبة إلينا نحن البشر الّذين نستكبر ونتحدى ارادة الله.

[٥٠] وكل شيء يخشى ربه الّذي يشعر انه فوقه قاهره.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)

العذاب يأتي من فوق وكذلك الثواب ، يقول ربنا : «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» وهذا هو شعور الفرد أيضا تجاه ربه المحيط به علما وقدرة ..

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)

[٥١] ويبقى الإنسان بين الخلق أجمعين يخضع لما هو خاضع لله ، يخضع للشمس والقمر والنجوم ، يخضع للأنوار والأشجار والأحجار ، يخضع للثروة ، والقوة ، والدعاية.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ)

فلما ذا نرهب جانب الطبيعة ، حتى نعبدها ، ولماذا نرهب الطاغوت حتى نستسلم له؟! ألا فلنخشى ربا واحدا صمدا.

(فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)

٦٩

«ومن خاف ربه أخاف الله منه كل شيء ،ومن لم يخف ربه أخافه الله من كل شيء»

إن أكثر ما تتم العبادة من جانب البشر للأشياء ، انما تتم بسبب الهيبة والرهبة ، الا فلتسقط هيبة الطبيعة الا فلنرهب ربها! وخالقها فقط!!

تجاوز الخوف شرط العبادة :

[٥٢] وإذا تجاوزنا الخشية من الطبيعة ، وتحررنا من رهبتها أسلمنا الوجوه لرب العالمين ، وخضعنا لحاكميته وسيادته القانونية ، وبالتالي لدينه الواجب.

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

ومن بيده ناصية الطبيعة له السيادة التشريعية.

(وَلَهُ الدِّينُ واصِباً)

قال الطبرسي : وصب الشيء وصوبا إذا دام ، ووصب الدين وجب. (١)

(أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ)

لماذا نتحذر ممن لا سيادة له؟

إن السيادة لله ، وان التشريع الذي يعكس هذه السيادة هو لله ، وان مخالفة تشريعه وسيادته هي ما نحذر منه.

[٥٣] وعمليا نحن بحاجة الى الله في كل صغيرة وكبيرة ، فما من نعمة الا وهي لله ، وعند فقدها نستغيث به ليعيدها علينا. فله السيادة أم لغيره؟!

__________________

(١) مجمع البيان ص ٣٦٥ ج ٦.

٧٠

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ)

الجؤار : الاستغاثة برفع الصدمة.

[٥٤] ولكنه ما ان يرفع الضر حتى تعود حجب الشرك تفصل بين قلب البشر وربه

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)

والشرك هنا قد يعني الخضوع لقانون غير قانونه ، إن لحظات الحاجة هي أكبر شاهد على سفاهة الشرك ، لأننا آنئذ نرى بوضوح شديد عجز الشركاء ، فهل الطاغوت والسلطة السياسية الفاسدة التي تخضع لها هي التي تنقذ من أمواج البحر حين تكاد تبتلع السفينة؟!

أم ان الثروة والأثرياء تقدر ان تنقذ طفلنا المشرف على الهلاك في غرفة العناية القصوى؟! من الذي نتوسل اليه آنذاك؟ أو ليس الله ، فلما ذا نعود ونخضع لقانون البشر؟!

[٥٥] إن ذلك كفر بنعم الله الّتي وهبها الله لنا.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ)

والشكر هو الذي يدعم النعم ، أما الكفر بها فصاحبه ينتظر اليوم الأسود.

(فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

فان المتعة اليوم ، تستتبع ندما طويلا طويلا.

٧١

وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ

______________________

٥٩ [يتوارى] : يستتر حياء وخجلا.

٧٢

لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)

٧٣

لله المثل الأعلى

هدى من الآيات :

إن الشرك يقتضي أن يتنازل البشر عن جزء من نعم الله عليه لمصلحة الآلهة الّتي يزعم ان لها تأثيرا حقيقيا عليه ، ولا يحق له ذلك وهذ كذب على الله يتحمل المشرك مسئوليته غدا.

وينسبون الى ربهم الأمثال السيئة ، فمثلا لأنهم يكرهون البنات ، يجعلون لربهم البنات ، بينما يجعلون لأنفسهم الذكور الّذين يشتهونهم ، فحين يبشر أحدهم بمولود أنثى ، يبقى وجهه مسودا لزيادة الغضب الذي يكظمه ، وتراه يتخفى عن الناس ، وهو متردد هل يخفي ابنته في التراب أم يبقي عليها على ذلة وهوان؟

وساء ما يصفون به ربهم. انهم لافتقارهم الى مقياس الحق ، وذلك بسبب كفرهم بالآخرة ، يتخذون أسوأ القدوات لأنفسهم.

فدعهم في غيهم ـ بالرغم من نسبتهم السيئة لله ـ فإن الله لو أخذ الناس كلما

٧٤

ظلموا أنفسهم ، لما ترك عليها من دابة ، ولكنه ـ ولحكمة ـ (يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وتراهم يصفون ربهم بما يكرهون لأنفسهم ، ويزعمون أن لهم الحسنى بينما ليس لهم إلّا النار ، وانهم مجموعون إليها ، وهذا ليس خاصا بهم ، فلقد بعث الله الأنبياء بهذه الرسالة للناس ، فزيّن لهم الشيطان أعمالهم ، وهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم.

بينات من الآيات :

الشرك عبودية وذل :

[٥٦] الشرك عبودية وتقيد ، وفقدان لاستقلال البشر وحريته أمام قوى الطبيعة أو القوى الاجتماعية ، ويتجسد الشرك في الأغلال الّتي يضعها الإنسان لنفسه باسم الأنظمة والقوانين ويقيد بها حياته ، وعادة ما يقدس البشر هذه الأنظمة.

وبكلمة : الشرك هو تنازل طوعي عن رزق الله لمصلحة الطبيعة أو لمصلحة مراكز القوى.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ)

من الأصنام ، ورؤساء القبائل ، وقادة الأحزاب ، وقوى التسلط ، وكلما لا يعلم الإنسان ان الله أمر باتباعها ، وان في اتباعها مصلحة الإنسان الحقيقية ، يجعل المشركون لهؤلاء ..

(نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ)

أي جزء من نعم الله ، وذلك بسبب جهلهم بواقع الأصنام الحجرية والبشرية ،

٧٥

وانها لا تملك لهم شيئا ، والله لا يرضى أن يتنازل البشر عن حريته وكرامته وعن حقوقه شيئا ، لأنّه هو الذي رزقه له لا لغيره.

(تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ)

[٥٧] للحياة مثلان ، وفيها خطان ، الأول : مثل القيم السامية الكريمة ، وخط القوة والعلم والحرية ، والثاني : مثل الشهوات والأهواء ، وخط الضعف والجهل والعبودية.

والمشرك يجعل نفسه محور عقيدته ، فيقيس العالم كله بما يشتهيه ويهواه ، وتنقلب عنده المعايير ، ويتخذ مثله من أرذل المثل ، كما يتبع خط الضعف والجهل والعبودية.

إنّه يصبح أنانيا الى درجة ينسب كلّ خير إلى نفسه وينسب الى ربه تعالى الكذب ، وبالرغم من أن الخير والشر عنده ليسا هما الخير والشر في الواقع ، إلّا انه ينسب الى ربه ما يراه هو شرا. إنك تراه ينسب الى الله البنات اللاتي يزعم أنهن منقصة لأبيهنّ ولكنه يرفض أن تكون له البنات ، ويبحث دائما عن الذكور ، فإذا افترضنا ـ جدلا ـ ان البنين خير فلما ذا لا تنسب الخير لربك ، بل لنفسك فقط؟!.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)

من الأولاد.

مكانة المرأة في الجاهلية :

[٥٨] بينما الواحد منهم يشتد غضبه إذا أخبر بأنه رزق مولودا أنثى.

٧٦

وهذا مثل من واقع المشرك الذي يحرم نفسه من أفضل نعم الله من ريحانته من الدنيا ، من بهجة البيت ، من البنت النظرة ، بسبب جهله وشركه وخضوعه للأعراف الجاهلية ، انه حكم سيء جدا.

ولقد كانت عادة وأد البنات من أسوأ العادات الشركية ، وأول ما بدأ لهم ذلك أن بني تميم غزوا كسرى فهزمهم ، وسبى نساءهم وذراريهم ، فأدخلهن دار الملك ،

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)

من شدة الحنق والغضب.

(وَهُوَ كَظِيمٌ)

يكظم غيظه لأنه لا يجد من ينفس عنه غيظه.

[٥٩] ويتهرب من الناس خجلا ، ولكي يختلي الى نفسه ويفكر في حل لمشكلته ، فهل يدفن أبنته حية في التراب ، أم يبقيها ويتجرع الهوان والذل على نفسه؟

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ)

أي يحتفظ بالمولود بما فيه من ذل وهوان.

(أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ)

أي يخفيه في التراب.

(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)

٧٧

واتخذ البنات جواري وسرايا ، ثم اصطلحوا بعد برهة واستردوا السبايا فخيرن في الرجوع الى أهلهن ، فامتنعن عدة من البنات ، فاغضب ذلك رجال بني تميم فعزموا ألا تولد أنثى إلّا وأدوها ودفنوها حية ، ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم ، فشاع بينهم وأد البنات. (١)

عبادة الذات جذر الانحراف :

[٦٠] والجاهلي الذي لا يؤمن بوجود مقياس للحق غير ذاته ، حيث يجعل أهواءه وشهواته ونزعاته الفردية والإقليمية ، والاستكبار على الناس ، وظلمه للضعفاء ، ويجعل خيالاته وأساطيره الموروثة ، يجعل ـ بالتالي ـ كلما يتصل بجانب الضعف والعجز والاستسلام مثلا أعلى لنفسه ، لأنه لا يرى أن هناك يوما يطبق فيه الحق بلا لبس ولا خداع ولا نقيصة ، فلما ذا البحث عن الحق؟ ولماذا يجعله أساسا لحياته ، ومقياسا لتقييم الأشياء؟

وشيئا فشيئا يرحل عن قلبه ذلك الضوء الذي كان يهديه أبدا للحق ، فلا تبقى في قلبه إلّا ظلمات الشهوات.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ)

وهذه الآية الكريمة تشهد بما شهدت به الآية الأخر في سورة (ص) : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ). (٢)

فلقد كان نسيان الحساب ويومه سببا للضلالة.

__________________

(١) الميزان ـ ج ١٢ ـ ص ٢٧٧.

(٢). ٢٦ / ص.

٧٨

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

إن أعلى مثل يتطلع لتحقيقه البشر ، هو الوصول إلى القوة والفضيلة ، لكي يحقق الفضيلة بما يملكه من قوة ، والله عزيز وحكيم ، ومن يتبع مثل الله فهو يصل إلى العزة والحكمة باذنه.

والقرآن يهدي بهذه لكلمة الى ما يحب به كلّ منا بوجدانه ، إذ أن هناك خطان خط الهدى والعقل ، وخط الظلم والطغيان. ومن يؤمن بالآخرة سيصل بإيمانه بيوم الحساب الى الخط الأمثل.

حكمة الأجل :

[٦١] ولكن لماذا يترك الله العزيز الحكيم الناس يخالفون الحق ، بل ينسبون الى الله الأمثال السيئة؟ أفلا يدل ذلك على رضا الله بما يفعلون؟ كلا .. انما هي حكمته ورحمته.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)

إنّ كلّ دابة في الأرض تظلم في أيّ وقت وبالنسبة إلى أيّ شيء ، تكفي سببا لعذاب الله ، ولأن الله الذي خلق الأحياء للإنسان وسخرها له ، فإن ظلم الإنسان يكفي سببا في هلاك الدواب جميعا ، وهكذا أغرق الله فرعون وجزء من دوابه ، وأهلك الله عادا وثمود والمؤتفكة وقوم لوط بدوابهم ومواشيهم.

[٦٢] ويكفي الجاهليين ذنبا ما يفترون على الله ، أفلا نرى كيف يجعلون لله تلك البنات الّتي يكرهونها لهم؟!

٧٩

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى)

ويزعمون أن الأولاد الذكور شيء حسن ، وانهم لهم ، كلا .. أن الأولاد فتنة ، وعدم الوفاء بحقوقهم يؤدي بهم إلى وسط النار.

(لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ)

أي حقا ، وبلا حاجة إلى تفكر.

(وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ)

أي معجلون إلى النار من قولهم : فرط وإفراط ، إذا تقدم ، والإفراط الإسراف ، وسره ان صاحبه يتقدم الآخرين ، ومعنى الآية ـ على هذا التفسير ـ ان أصحاب هذه النظرية أول من يدخل النار.

لماذا التسافل؟

[٦٣] ويبقى السؤال : لماذا هبط هذا الفريق الى هذا الحضيض؟ لماذا افتروا على الله الكذب؟

لأنهم عملوا السيئات فزين لهم الشيطان أعمالهم ، فأصبح الشيطان أقرب صديق لهم ، وكان لهم العذاب الأليم.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ)

ربما يدل لفظ اليوم على مرحلة ما بعد التزيين ، سواء في الدنيا أو بعد الموت ، أما

٨٠