من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

التسبيح والحمد والتكبير هو نسب الله وصلة العبد به سبحانه وتعالى.

بينات من الآيات :

[١٠٥] ما هو محتوى الرسالات؟ انه الحق الذي انزل الله به القرآن ، وانه الذي الحق بقي القرآن عليه دون ان تمد اليه يد التحريف ، ولكن ما هو الحق؟

١ ـ وجود الكون والإنسان حق.

٢ ـ قوانين الطبيعة ، تلك السنن الالهية التي أجراها الله في كل شيء حق.

٣ ـ عقل البشر الذي أودعه الله قلب كل إنسان وبه يستوعب واقعيات الأشياء حق.

والقرآن حقيقة واقعة وقد نزل ليعكس الحقائق ويهدي الى السنن ويثير العقول كمحتواه حق لا ريب فيه.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)

لقد قدر الله ان ينزله بالحق (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) ، وتحقق هذا التقدير (وبالحق نزل) وان محتواه حق (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) وثمراته حق (وبالحق نزل) وان الحق الذي أنزله الله به (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) سوف يستمر (وبالحق نزل). أو لم يقل ربنا : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ، فلم ولن يقدر أحد على تغييره ، هكذا ينبغي ان تفهم هاتان الكلمتان.

قال بعض المفسرين : ان نزول القرآن كان مصاحبا للحق ، كما ان الحق كان مصاحبا للقرآن ، ونتساءل ما هو معنى الباء في قوله بالحق؟

٣٢١

الباء : حرف جر للاستعانة فان قلت : اكتب بالقلم ، اي استعن بالقلم في الكتابة وهذا المعنى يصح في الآية ، إذ ان الحق محتوى القرآن وجوهره بل ان كل آية فيه دليل حق ، لان القرآن جاء لاحقاق الحق كله.

قال تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (٧ / الأنفال)

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً)

الرسول بالنسبة الى من أرسل إليهم لا يعدو ان يكون مبشرا لهم بالخير ان هم آمنوا ، ونذيرا لهم بالعذاب ان هم كفروا ولم يكن الرسول كفيلا أو وكيلا عليهم ولم يؤت صلاحية تغيير القرآن ، وقد عصمه الله من ان يغير فيه شيئا.

[١٠٦] (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ)

للقرآن عدة أسماء فمرة يقال : انه كتاب لأنه يكتب ، ومرة يقال : انه فرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل ، ومرة يقال : انه ذكر لأنه يذكر ، وهكذا يسمى القرآن قرآنا لأنه يقرأ ، وهكذا تختلف المسميات. والمسمى واحد ولعل ذلك من أجل الا يعتقد الإنسان ان أهمية القرآن تكمن في كتابته أو في قراءته ، ولكن أهمية القرآن تكمن في جوهره. وما هذه الأسماء الا تلخيص لاهداف القرآن واشارة إليها.

(فرقناه) اي فصلناه وفرقناه «على مكث» : اي بتأن وتؤده ، بين فترة واخرى حتى يستوعبه الناس.

(وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)

في الآيتين السابقتين قال الله كلمة واحدة باختلاف بسيط ، فقال مرة : أنزلناه ،

٣٢٢

ومرّة نزّلناه ، فما هو الفرق بين الكلمتين؟

الفرق هو ان كلمة (أنزلناه) اي أنزلناه جملة واحدة و (نزّلناه) اي على اقساط وهذا يؤكد ما قيل : ان القرآن نزل مرتين على قلب الرسول (ص) مرة في ليلة القدر ، والمرة الاخرى خلال ثلاث وعشرين سنة حسب المناسبات والظروف لكي تترسخ آياته وتعاليمه في ضمير المؤمنين وفي واقع الحياة الاجتماعية.

[١٠٧ ـ ١٠٨] ان النفس العالمة لا تستطيع ان تصبر امام النور الباهر المنبعث من القرآن ، ويخرّ صاحبها سجودا.

ولكن من هم الذين أوتوا العلم؟

الذين أوتوا العلم هم أحد اثنين :

١ ـ اما أولئك الذين أعطاهم الله العلم من أهل الكتاب عن طريق الرسالات الالهية السابقة ، وعند ما سمعوا الآيات القرآنية استوعبوها ورأوا ان هذه الآيات مصدقة لما أوتوه ، بل هي أعظم فسجدوا للحق وخضعوا له.

٢ ـ واما ان يكونوا من العرب الذين غمرت نفوسهم بزخات العلم ، فكانوا غير أولئك الجهّال الذين يبحثون عن الأمور التافهة لذلك فهم عند ما يستمعون الى صوت الحق ، ويرون النور الباهر يؤمنون به ، ويستجيبون لندائه.

كان اويس القرني يعيش في الصحراء عيشة العز والشرف ، فعند ما سمع بالرسول وبقرآنه ، آمن به وبقرآنه من دون ان يراه فصار بذلك من المقربين الى رسول الله (ص) ، وأسلم وأحسن إسلامه فكان يقضي نهاره بالصوم وليله بالعبادة ، ومثل أو يس أبو ذر والمقداد وكثيرون آخرون.

٣٢٣

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا)

لا يهمنا ان تؤمنوا أو لا تؤمنوا ، فلسنا محتاجين الى ايمانكم ، إذا كان الله يريد ان يضلكم ، فهناك من يؤمن بالقرآن ايمانا عميقا ، وهم أهل المعرفة.

(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ)

أي أوتوا العلم من قبل نزول القرآن.

(إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً)

الخرور : هو الوقوع السريع.

خرّوا بسرعة على وجوههم ، ولعلهم نسوا أنفسهم امام القرآن ووقعوا على أذقانهم ولم يقعوا على جباههم ، لأنهم وقعوا من دون اختيار ، فوقعوا على أذقانهم ثم سجدوا بوجوههم.

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً)

يبدو من هذه الآية انهم كانوا يتوقعون شيئا وقد تحقق في القرآن أو انهم عبروا ـ بهذه الكلمة ـ عن غاية ايمانهم ، ومنتهى يقينهم حيث نزهوا الله عن خلف الوعد ، وأكدوا ان وعده في الكتاب بنصر المؤمنين في الدنيا ، وحسن جزائهم في الآخرة حق. وسيتحقق اكيدا. وهذا أحد معاني الحق الذي جاء في الآية السابقة «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ».

ان مخففة بمعنى «إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً».

[١٠٩] (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)

٣٢٤

يبدو ان للإنسان امام الحالات الغريبة ، حالتين متدرجتين :

الاولى : الانصعاق والدهشة.

الثانية : الانبهار الواعي.

ولعل الآية التالية تشير الى هاتين الحالتين حيث يقول سبحانه : «اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» (٢٣ / الزمر) في البدء يرتجف الإنسان ويصعق ، ثم يستوعب الصعقة وهكذا المؤمنون فهم يخرّون أولا لقوة النور ، وما يلبثون ان يتعودوا على قوة النور ، فيخرون خشوعا لله سبحانه.

توحيد الله :

[١١٠] (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

كتب العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان بحثا مطولا في هذه الآية فقال ما محتواه : ان البوذيين والمجوس وغيرهم من اتباع الأديان ، ومن تأسى بهم يعتقدون ان لله مظهرا وجوهرا ، وان مظهر الله يختلف عن جوهره ، فمظهره هي أسماؤه وهي منفصلة عن جوهره ، أو بمعنى آخر منفصلة عن ذاته ، ويعتقدون بان الله أجل من ان يسمى بهذه الأسماء ، وأسماؤه انما هي الملائكة ، فكل ملك من الملائكة يحمل صفة من صفات الله ، فأحد الملائكة يمثل العلم ، وآخر يمثل العزة ، وآخر يمثل القدرة ، فهم يعبدون الملائكة ويجسمونها بتجسيمات مختلفة ، وبالتالي فهم لا يعبدونها الا

٣٢٥

لتقربهم الى الله زلفى ، فصنعوا لله ثلاثمائة وستين إلها ، كل إله يختلف عن الآخر ، فجمال الله يختلف عن عمله وعلمه يختلف عن جلاله ، وجلاله يختلف عن قدرته وهكذا ..

هذه هي الوثنية ، أما عقيدة التوحيد فترفض ذلك وترى ان أسماء الله تشير الى الحق الواحد فالله رحيم عزيز ، وبيد ان العزة والرحمة تشير ان الى ذات واحد ، وهكذا جبار وكريم ، ورؤف .. إلخ ، وهذه الأسماء مجرد آيات تشير اليه سبحانه فعند ما نقول : سميع بصير ، فهو سميع بصير بدون آلة سمع أو بصر ، وقد قال الشاعر :

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكل الى ذلك الجمال يشير

قال كفار قريش عن الرسول (ص) مرة : انظروا الى هذا الصابئي يأمرنا ان نعبد إلها واحدا وهو يعبد الهين ، يقول : الله ، الرحمن ، فجاءت الآية لتقول : سواء قلت الله أو الرحمن أو الرحيم أو الواحد أو القهار فان ذلك يدل على شيء واحد ، وان الأسماء الحسنى كلها لله وهي ليست بعيدة عنه ـ فهي صفات له ، وهي غير ذاته.

جاء في الحديث عند سؤال هشام بن الحكم الامام الصادق (ع) عن اشتقاق كلمة (الله) فقال له : «يا هشام! الله» مشتق من «اله» و «إله» يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد ، أفهمت يا هشام؟ قال : فقلت : زدني فقال : «ان الله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ، ولكن الله معنى يدل عليه هذه الأسماء ، وكلها غيره ، يا هشام! الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب أسم للملبوس ، والنار اسم للمحروق ، أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل أعداءنا ، والمتخذين مع الله عز وجل غيره؟» قلت : نعم

٣٢٦

قال : فقال «نفعك الله به وثبتك قال هشام : فو الله ما قهرني أحد في علم التوحيد حتى قمت مقامي هذا» (١)

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)

جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق (ع):

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسمع نفسك ، واقرأ بين ذلك» (٢)

ولعل الآية تشير الى فكرة هامة هي انه لا ينبغي الصراخ في الصلاة لان الصراخ ليس من آداب الدعاء ولا يجوز الإخفات الى درجة بعيدة صحيح ان الله بعيد عنك بعلوه وجلاله الا انه قريب منك بلطفه وعلمه ، وكما جاء في الدعاء (الذي بعد فلا يرى ، وقرب فشهد النجوى) ولذلك شرع في الصلوات الإخفات في الصلاة النهارية ، والجهر في الصلاة الليلية.

الله يتجلى في كتابه :

[١١١] لم تحر البشرية في مسألة كحيرتها في الرب ، لان عقل الإنسان محدود فبالرغم من ان الله علمه الأسماء كلها ، قصر عن معرفة كنه وجود الله سبحانه ، إذ أن علمه وعقله ، وكل وجوده أقل من ان يحيط برب السماوات والأرض ، فكيف يحيط بكنهه وهو لم يحط بنفسه علما. بل الاحاطة بكنه الطبيعة من حوله الا أن الله سبحانه ما ترك الإنسان سادرا في حياته تلك ، فقد عرفه نفسه وتجلى له مرتين : مرة في آفاق العالم ومرة في نفسه عبر الذكر الحكيم. وآيات الذكر تذكرنا بآيات الطبيعة.

__________________

(١) البحار ج ٤ ـ ص ١٥٨

(٢) نور الثقلين ج ٣ ص ٢٣٤

٣٢٧

فنحن اذن أحوج ما نكون الى القرآن لكي نعرف ربنا ، ونعرف أسماءه الحسنى. وان معرفة الله سبحانه أعظم فائدة يستفيدها الإنسان من خلال قراءته للقرآن ، لو قرأها من دون حجاب بينه وبينها ، وهي بالتالي أعظم شهادة على صدق رسالات الربّ.

جاء في الحديث المأثور :

«إنّ الله تجلى في كتابه لعباده ولكن الناس لا يبصرون»

فهذا القرآن أنزل الله فيه ما لو نزل على جبل لفته فتا ، فقال : «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ* وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (٢٢ / الحشر)

هذا هو حال الجبل الأصم من عبر القرآن ودروسه فكيف بالإنسان.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً)

الحمد لله على انه لم يتخذ ولدا ، لعل أحد معاني هذه الكلمة انه سبحانه لم يفضل عنصرا على عنصر ولا جوهرا على جوهر الا بالتقوى ، مما اعطى للجميع فرصة التعالي اليه ، والكمال بفضله. والآية تفضح ما يعتقده الوثنيون من ان الله أولادا هم الملائكة.

جاء في الحديث :

«الحمد لله الذي لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك»

وحيث نفي الولد ، نفي الشرك لان من لم يلد صمد الا جزاء ، فكيف يكون مولودا ومن لم يكن مولودا لا يكون شبيها بشيء ، فلا كفو له ولأنه لا شريك له لا

٣٢٨

ولي له من الذي ينصره لأنه غني بدأته فكيف يستعين بغيره ..

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ)

قيل ان هذه الآية جاءت ردا على اليهود والنصارى حين قالوا : اتخذ الله ولدا ، وعلى مشركي العرب حيث قالوا : لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك ، وعلى الصابئين والمجوس حين قالوا : لو لا أولياء الله لذل الله. (١)

وقد جاء في الدعاء المأثور : (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا فيكون موروثا ، ولم يكن له شريك في الملك فيضاده فيما ابتدع ، ولا ولي من الذل فيرفده فيما صنع) (٢)

لم يكن عند الله شريك فيضاده أو يساعده ، لأنه لو كان له شريك يضاده لتزعزع النظام ، ولو كان له شريك يساعده فالأول قوي والآخر ضعيف فما هي حاجتنا الى الضعيف.

في الحديث المأثور عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (ع) وكان من قول أبي عبد الله (ع) «لا يخلوا قولك انهما اثنان من ان يكونا قديمين قويين ، أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا ، فان كانا قويين فلم لا يدفع كل منهما صاحبه وينفرد بالتدبير ، وان زعمت ان أحدهما قوي والآخر ضعيف ، ثبت انه واحد كما تقول للعجز الظاهر في الثاني فان قلت : انهما اثنان لم يخل من ان يكونا متفقين من كل جهة أو متفرقين من كل جهة فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا ، والتدبير واحدا ، والليل والنهار والشمس والقمر ، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على ان المدبر واحد ثم يلزمك ان

__________________

(١) مجمع البيان

(٢) دعاء عرفة للإمام الحسين (ع) مفاتيح الجنان

٣٢٩

ادعيت اثنين فرجه ما بينهما حتى يكونا اثنين ، فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزماك ثلاثة فان ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين ، حتى يكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثم يتناهى في العدد الى مالا نهاية له في الكثرة» (١)

ان ما يتوهمه المتوهمون هو مخلوق لهم ، مردود عليهم ، فالله لا يوصف بتمثيل ولا يشبه بنظير فبدل ان يفكروا في ذات الله يجب عليهم ان يتفكروا في خلقه الذي يقودهم اليه.

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)

ليس من الصحيح ان نقول ان الله أكبر من كل شيء ، فهل هناك شيء يحتمل ان يكون أكبر منه!؟ وانما نقول هذا الشيء أكبر من هذا الشيء لوجود تقارن بينهما ، ولكن الأصح ان الله أكبر من ان يوصف ، لا ان تقول الله أكبر من الشمس فهناك إذ ليست هنا لك مقارنة بينهما ، كيف تضع الحقير المخلوق بجانب الخالق الكبير؟! ولكن يمكنك ان تقول : ان الشمس أكبر من القمر.

جاء في الحديث عن أبي عبد الله (ع) قال لجميع بن عمير :

«اي شيء الله أكبر»؟

فقلت : الله أكبر من كل شيء ، فقال : «وكان ثم شيء فيكون أكبر منه»؟ فقلت : فما هو؟ قال : «أكبر من ان يوصف» (٢) وجاء في حديث آخر : عن أبي عبد الله (ع) قال رجل عنده : الله أكبر فقال : الله أكبر من اي شيء؟ فقال من كل شيء ، فقال : حددته فقال الرجل : كيف أقول؟ قال : قل الله أكبر من ان يوصف (٣)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٢٣٨

(٢ ، ٣) نور الثقلين ص ٢٣٩ ج ٣

٣٣٠

سورة الكهف

٣٣١
٣٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة

عن الامام الحسين (ع) قال :

«من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة لم يمت إلا شهيدا ، ويبعثه الله من الشهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشهداء»

نور الثقلين ، ص ٢٤٥ ، ج ٣

عن الرسول الأكرم (ص) قال : «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال ، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة»

م البيان ، ص ٤٤٧ ، ج ٣

الاسم :

معلوم ان اسم (الكهف) أخذ من قصة تاريخية وقعت بعد مبعث عيسى بن مريم (عليه السلام) وكانت شائعة بين أهل الكتاب ، بل في أوساط الجزيرة العربية ، ولأهمية القصة سميت السورة بالكهف الذي هو رمز حماية الله للإنسان من الأخطار إذا التجأ إليه.

٣٣٣
٣٣٤

الإطار العام

تمهيد :

نور الشمس يغمر الأرض فيضيء الأشياء والأشخاص ، ويظهر الألوان ، ثم يقف دوره عند هذا الحد ليبدأ دور العين بعملية الرؤية والملاحظة ، وكذلك القرآن يؤدي دوره عند ما ينشر الهداية ويبيّن الحقائق ، وبعد ذلك يبدأ عمل القلب والبصيرة في ادراك هذه الحقائق واستيعابها ، وإذا اقفل الإنسان بصيرته وقلبه فأنه لن ينتفع بهدى القرآن ولن يعرف الحقائق ، تماما كمن يغمض عينيه فأنه لا يرى الأشياء رغم سطوع نور الشمس عليها ووضوحها.

وهكذا فأن القرآن لا يلغي دور العقل والتفكر ، لكن العقل من المتعذر عليه ان يكشف الحقيقة بدون القرآن ، كالعين التي يستحيل ان ترى الأشياء بدون الضوء ، وهكذا التفكر لا يلغي دور القرآن ، كما ان العين لا تلغي دور الضوء.

٣٣٥

وبناء على ذلك فلا يجوز للإنسان أن يقول : ما دام القرآن موجودا فلا حاجة لأن اعقل وأتفكر واتبصر ، والا كان مثله كمثل من يترك النظر والملاحظة ويضع حجابا على عينيه انطلاقا من ان النور موجود ، والأرض مضاءة ، والألوان ظاهرة ، ان وضوح الأشياء واضاءتها يساعد على الرؤية ، وليس هو الرؤية بذاتها.

مفردات قرآنية :

ولذلك نرى القرآن يصف نفسه بالنور والذكر والبصيرة والهدى ، فنجد كلمة النور في آيات مثل :

١ ـ «نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ»

٢ ـ «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً»

٣ ـ «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»

وكلمة الذكر ترد في القرآن بصيغ مختلفة مثل :

١ ـ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»

٢ ـ «وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»

٣ ـ «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»

٤ ـ «كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ»

٣٣٦

وهي تعني ان عقل الإنسان يعرف الحقيقة ولكنه ينساها ، وكذلك قلبه يشعر بها ولكنه يغفل عنها ، فيحتاج الإنسان الى من يذكره ويلفت انتباهه إليها.

وكلمة البصيرة تعبر عن الحقيقة البينة التي يبصر بها الشيء على ما هو به عليها في المجمع.

مجمع البيان ج ٤ ص ٣٤٥

«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ»

ومجموع البصائر التي تفضل الله سبحانه بها على عباده تمثل الهدى وهو نور القلب والعقل.

١ ـ «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»

٢ ـ «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» وهذه الصفات لو تدبرنا فيها قليلا لرأينا انها تعني الحقيقة التي تساعد العقل على التفكر ، والقلب على التدبر ، وليس ما يلغيها ويحل محلها.

اتجاه خاطئ :

وإذا تثبتت الفكرة وتوضحت ، فلا بدّ ان ندين الاتجاه الخاطئ في التفسير سابقا وهو : تحويل القرآن الى شيء بديل عن التفكير أو العقل ، بينما القرآن هو طريق الفكر والعقل ، والذي يجعل القرآن بديلا عن الفكر هو كمن يريد ان يجعل النظارة بديلا عن العين ، أو النور بديلا عن الرؤية ، أو كالذي يجعل الأرقام في الرياضيات

٣٣٧

بديلا عن الحقائق التي وراءها.

التفسير والتدبر :

ولعل هذا هو الفرق جليّا بين كلمتي : التفسير والتدبّر وهكذا الفرق بين كلمتي التفسير والتأويل.

فالتفسير هو : شرح وتوضيح الآيات القرآنية ذاتها فيما يرتبط بالقرآن ذاته ، حروفه وكلماته وجمله وآياته ، وسياق المجموعة التوجيهية في القرآن وارتباط السور مع بعضها.

بينما التدبّر شيء آخر ، وهو ما دعا القرآن الى ان يكون وسيلة لمعرفة التأويل أو النهايات والنتائج الواقعة لآياته ، والكلمة مشتقة من (الدبر) وهو مؤخرة الشيء ، وهذا يوحي بأن التدبّر هو عدم الوقوف عند ظواهر المعاني والحوادث ، بل محاولة معرفة ما ورائها.

قال الطبرسي (قدس الله روحه) التدبر : النظر في عواقب الأمور.

مجمع البيان ج ٣ ص ٨١

وعاقبة الأمر : هي ما يؤول اليه الأمر ، وهو تأويله.

قال الله سبحانه وتعالى : «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ» (٥٣ / الأعراف).

وقال في قصة يوسف : «قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» (٣٧ / يوسف)

٣٣٨

فتأويل الإنذار ما تحقق ما انذر به واقعا وتأويل الرؤيا تحولها الى حقيقة واقعة ، ويبدو ان التدبر هو البحث عن التأويل.

ولهذه الكلمة عدّة أبعاد :

البعد الأول :

هو التفكير منذ البداية في آخر الأمر ومآله ، فالقرآن عند ما يقول الظلم ظلمات وعاقبته خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة ، فلا نتوقف عند ذلك ، وانما نأخذ هذه المعلومة شمعة ونذهب الى الواقع الخارجي ، نذهب الى الحياة ونفتش عن ظلم ثم نجعل تلك الشمعة عند ذلك الظلم الذي يأخذ مجراه عمليا ، ونتحرك معه الى ان نرى نتيجته النهائية.

وعند ما يحدثنا القرآن عن قوم عاد وكيف انهم بطشوا بطش الجبارين ، وبالتالي انتهى مصيرهم الى الدمار ، فعلينا ان لا نقرأ ذلك قصة ونستغني بها عن التفكير ، وانما نحمل تلك القصة مصباحا وهاجا بأيدينا ، ثم نبحث في الحضارة المادية ، وعن طريق هذا المصباح نعرف مصيرها في المستقبل والى اين تنتهي عاقبتها.

البعد الثاني :

ينبع من ذات كلمة (التدبر) وهي من الصيغ التي تنطوي على الاشارة الى بذل المجهود في الأمر ، والذي يستخدم الإنسان فيه طاقاته ، فكلمة تصرّف غير كلمة صرف إذ الأولى تعني السيطرة على الشيء ، ومحاولة صرفه بقوة أو بجهد ، كذلك التحدّث يعني استخدام الجهد في الحديث ، وهكذا فأن التدبر يعني بذل الجهد في التفكير للوصول الى نهايات الأمور ، وهنا نصل مرة اخرى الى ذات الحقيقة وهي ان القرآن ليس بديلا عن جهد الإنسان.

٣٣٩

البعد الثالث :

هو ان كلمة التدبر مرتبطة بالواقع الخارجي ، فبينما التفسير يرتبط بذات الآيات حيث نكتشف معنى الآية الكريمة عن طريق تفسير الآيات ببعضها ، ومعرفة معاني المفردات من المراجع اللغوية ، وربط الجمل ببعضها ، والاستفادة من السياق ، واستخراج معنى الكلمة من مقارنتها بمفردات مماثلة جاءت في آيات اخرى من القرآن الحكيم ، وتفسير الآيات بالروايات والأحاديث الشريفة وبالاستفادة من العلم الحديث.

فإننا في التدبر أو التأويل ، وبعد انتهاء عملية التفسير ، ومعرفة الآية معرفة ذاتية ، فإننا نحمل الآية القرآنية الى الواقع الخارجي ، ونبحث عن انطباقها على الناس والأشياء والأحداث المتغيرة.

فإذا جاء في القرآن كلمات مثل : الذين آمنوا ، الذين كفروا ، المنافقون ، المستكبرون ، المستضعفون ... فينبغي علينا ان نحاول تحديدهم وتشخيصهم واقعيا ، ولا نكتفي بمعرفة معاني هذه الكلمات ومدلولاتها اللغوية فقط.

وإذا قرأنا عن مجتمعات مثل : عاد ، ثمود ، قوم لوط ، أصحاب الايكة ، أصحاب موسى (ع) أصحاب محمد (ص) فيجب ان نبحث عمن يمثلهم في واقعنا الحاضر الذي نعيشه ، فمن الذي يتبع عليا والحسين (عليهما السلام) اليوم؟ ومن الذي يمثل دور معاوية ويزيد؟ وهكذا.

فالتدبر هو : البحث عمن يمثل دور القصص والآيات القرآنية في الواقع الخارجي ، وبالتالي معرفة معاني الأشياء عمليا ومحاولة تحسسها والاقتراب منها.

والتدبر بحاجة الى جهد فكري وآخر جسدي ، فلا يمكننا ان نتدبر ونحن نغلق

٣٤٠