من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

فمن يبدل رحمة الله ببضع دراهم يكسبها من نكث العهد أو بسلطه زائلة أو ما أشبه؟!

خلود الجزاء :

[٩٦] علما بأن ما عند الله من خير يبقى ببقاء الله سبحانه ، بينما حطام الدنيا يزول بزوال العوامل التي أنشأته.

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ)

إن الحق الذي يضمن الله ثباته ، أبقى من الباطل الذي يضمنه غرور الإنسان ، وخداع الشيطان ، لقد خلق الله السّموات والأرض بالحق ، فلذلك تخدم حركة الكون سلطة الحق ، بينما الباطل يجري في عكس حركة الطبيعة والتاريخ.

فطرة الإنسان حق ، لأن القوانين النفسية والجسمية والاجتماعية السّائدة على أبعاد حياة البشر لا تتغير منذ خلق الله آدم وإلى الأبد ، فاذا كانت فطرة الإنسان قائمة على أساس الوفاء بالعهد ، فان المجتمع القائم على أساس شرف العهد يكون أبقى ، وخير الله أكثر مما يحصل عليه بعض الأفراد بسبب الغدر والمكر.

إلا أن الحق بحاجة إلى الزمن حتى يظهر ، ولذلك فإنا بحاجة إلى الصبر حتى يخدمنا الزمن.

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

فان طيبات العمل تنمو في عمق الزمن ، بينما يذهب العمل السّيء كما يذهب غثاء السّيل برغم ظهوره وبروزه ، وقال الحديث : «للباطل صولة وللحق دولة».

١٢١

الحق صلاح :

[٩٧] الحق في واقع السّعي صلاح ، فمن اتبع الحق فان عمله صالح ، ينمو مع نمو الطبيعة ، ويزرع بذلك بذور الحياة الطيبة لنفسه في ارض الزمن المباركة ، ليحصد جزاء حسنا في الدنيا واجرا كريما في الآخرة.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

وهكذا يغفر الله لمن عمل صالحا سيئات عمله ، ويحفظ له صالحات عمله ليجزيه بها خيرا.

وجاء في حديث مأثور أن «الحياة الطيبة هي القنوع» ولا ريب أنه كنز من كنوز الله التي لا تنفد ، وتطيب الحياة كلما طابت النفس البشرية في مواقفها منها ، فإن الرضا أطيب من كل الطيّبات.

وكلمة اخيرة : إنّ العهد ليس فقط أساس التعامل المالي في المجتمع ، بل قبل ذلك أساس التعاون السّياسي ، وإذا انعدم شرف العهد في أمة ، فسوف يبدأ بالتشرذم السّياسي ، وقديما قيل : «لا وفاء لملك وأن الملك عقيم».

ولذلك أكد القرآن الحكيم في هذا الدرس على حرمة نقض العهد من أجل سلطة قوم على آخر ، وأن تكون أمة هي أربى من أمة.

١٢٢

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)

١٢٣

كيف نفهم الكتاب؟

هدى من الآيات :

كان الدرس السّابق بعض تعاليم القرآن الاجتماعية الرشيدة التي لا ينكرها الا الجاحدون ، وهي تدل على ان الكتاب من الله ، بيد أن الكتاب لا يفهمه إلا من تخلص من سلطان الشيطان ، ولا يتخلص منه إلا المتوكلون الذين يستعيذون بالله من شره ، اما الذين يقوّلونه ويجعلونه شريكا في أمورهم بطاعته ، فإن الشيطان يتسلط عليهم ولا يدعهم يبصرون نور القرآن.

وقد ينسخ الله آية بآية لعلمه بالمصالح العامة التي تتغير وفق الظروف ، فآنئذ يجد المشركون فرصتهم في اتهام الرسول بأنه مفتر ، لجهل أكثرهم بحكم الآيات. كلا .. إنّ القرآن كتاب الله الذي أنزله روح القدس بالحق من الله ، ليكون تثبيتا لإيمان المؤمنين ، وهدى لهم ، وبشرى إلى حياة أفضل.

ويقولون : إنّ الرسول يتعلم من بعض النصارى المبادرين بالإسلام ، دون ان يعرفوا الفرق بين لسان النبي ولسانهم ، فبينما ذلك اللسان أعجمي نرى القرآن

١٢٤

يحدثنا بلسان عربي مبين ، وليس الجدل في القرآن إلا بسبب جحودهم به ، ولا يهدي الله قلبا جاحدا ، بل يذيقه عذابا أليما.

وكيف يفتري الكذب شخص مخلص لربه ، محسن إلى الناس كمحمد (ص) والذي يعرف أن الكذب أبعد خصلة عن المؤمن ، ولا يفتري الكذب الا الذين لا يؤمنون بآيات الله ، وأولئك هم الكاذبون حقا؟!

بينات من الآيات :

توكل على الله :

[٩٨] القلب البشري يلفه الظلام الآتي من طبيعة الضعف والجهل فيه ، ومن تأثير جاذبية الطبيعة ، وبالرغم من أن هذه النفس قد أوتيت قبسا من نور الحقيقة هو الذي نسميه بالعقل والارادة ، إلا أن على الإنسان أن يتحدى الظلام المحيط بنفسه عن طريق إثارة عقله ، ويتحدى ضعفه ويأسه وخوفه بالتوكل على الله.

ان أقوى الحجب التي تمنع النور عن قلب البشر هو : الخوف من الحقيقة ، والجبن عن مواجهة القوى الفاسدة والباطلة التي ترفض الحقيقة.

الاستعاذة بالله ، والطلب المباشر منه لكي يحفظ الإنسان من خطر القوى التي ترفض الحق ، إنه العلاج المباشر لمشكلة الخوف من الحقيقة ، ولمقاومة سلطان الشيطان على القلب.

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)

لكي نبلغ قمة الحقيقة المتمثلة بالقرآن لا بد أن نتجاوز جاذبية الأرض ، والقوة التي بها نقاوم هذه الجاذبية المتجسدة في الشهوات هي قوة التوكل على الله ،

١٢٥

والاستعاذة نوع من التوكل ، وتفترق عنه في أن الاستعاذة طلب ملح من الله بإنقاذ الإنسان من شر محدق ، وأي شر أخطر من شر العقيدة الباطلة ، أو من شر الجهل بالحقيقة الذي تخلقه وساوس الشيطان في القلب؟!

وفي طول فترة تلاوة القرآن لا بد أن يستعين البشر بربه.

التوكل حصن المؤمن :

[٩٩] الشيطان ينفذ الى قلب الشخص ، ويتجسد في شكل القوى السّياسية والاجتماعية المحيطة به ، ولكن المؤمن الذي يتوكل على الله يحفظه الله من هذا الشيطان الذي يجري فيه مجرى الدم.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)

بينما الذي لا يؤمن بالله يتسلط عليه الشيطان ، فيضله عن الحقيقة لضعف إرادته.

[١٠٠] الذي يتخذ الشيطان وليا وقائدا مطاعا ، فيشرك بالله ويتخذ من الشيطان شريكا مزعوما لله ، ويعبد الله حينا ويعبد ويطيع الشيطان حينا آخر ، إنه يقع فريسة الشيطان الذي لا يستطيع ان يتخلص من شره إلا بالاستعاذة بالله.

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)

يبدو أن هناك فريقين يتسلط عليهما الشيطان ، إنسيا كان شيطانهما أو جنّيا ، ظاهرا كالطغاة والمستكبرين ، أو باطنا كالعقائد الفاسدة والعقد النفسية.

الفريق الأول : الذين يتخذون الشيطان وليا ، ويخلصون الانتماء اليه كمثل

١٢٦

أئمة الكفر ، والملأ من حول الفراعنة ، والبطانة من حول الطغاة.

الفريق الثاني : الذين يطيعون الشيطان خوفا وطمعا وسواء هذا الفريق أو ذاك فإنهم جميعا يصبحون عبيد الشيطان ، ويفقدون حريتهم واستقلالهم وثرواتهم التي يصادرها الشيطان.

القوى الاستكبارية في الأرض المتمثلة اليوم في «امريكا» و «روسيا» واقمارها المفسدين ، لم يفوضوا بالسيطرة على الشعوب المستضعفة من قبل الله الحكيم سبحانه ، إنما نحن الذين خضعنا لإديولوجيتهم فأخضعونا لمصالحهم ، أو خضعنا للثروة والقوة رهبا ورغبا ، فامتلكوا دوننا ناصية الثروة والقوة ، واستعبدونا صاغرين.

والآن كيف نتخلص؟

لا بد أولا من التحرر عن إديولوجية الاستعمار ، وعن التبعية المطلقة للمال والرجال ، ثم العودة إلى الله ، والاستعاذة به من شر الشيطان ، ذلك لأن الطبيعة ترفض الفراغ ، والقلب البشري ينقاد إما لسلطة الله أو لتسلط الطاغوت ، فإذا رفضنا ولاية الله استعبدنا الشيطان ، ولا حياد بين الحق والباطل ، كما لا مسافة بين الكفر بالله ورفض حاكميته على الإنسان ، وبين الإيمان بالطاغوت والخضوع لتسلطه واستغلاله.

والسّياق القرآني يشير إلى هذه المعادلة ، إذ يأمرنا ربنا بالاستعاذة بالله والتوكل عليه ، ثم يبيّن أن الشيطان عاجز عن التسلط على المتوكلين بالله.

ونتساءل معا : هل تعني الاستعاذة مجرد التوجه القلبي الى الله؟ أم ان تطبيق مناهج السّماء في الوحدة والصبر ، والاستقامة والسّعي ، والقيادة الرشيدة ، كل أولئك بعض معاني الاستعاذة بالله ، وبالتالي طرق مقاومة العبودية للشيطان الانسي

١٢٧

والجني؟

شيطان الفكر :

[١٠١] الشيطان الثقافي أخطر على الإنسان من زملائه شياطين الثروة والإرهاب والزينة؟

ذلك لان قدرة الإنسان على التمييز بين الحق والباطل ليست عالية ، وذلك لسبب بسيط أن القلب البشري يتعرض لعواصف الشهوات ، فيخبو ضوء العقل ، ولو لا تدخل قوة غيبية هي قوة الإيمان والتوكل ، فإن رياح الشهوة تكاد تطفئ مشعل العقل.

من هنا كانت الشبهات خطيرة ، ومن هنا أيضا لم يتخلص حتى المؤمنون من وساوس الشيطان ، فغفر الله لهذه الأمة المرحومة ما يوسوس به الشيطان إذا لم يعتقد به المؤمن.

ومن الشبهات ما أثاره الشياطين حول تبدل الأحكام الشرعية وفق متغيرات الظروف فقالوا : إذا كان الرسول صادقا إذا لم يأت كل يوم بقانون جديد ومخالف للقانون السّابق؟ بل قالوا : إذا كانت رسالات السّماء صادقة إذا ما اختلفت شرائعها؟

ولكن الله اعلم بما ينزل ، وهم جاهلون ولا يعلمون أن الحياة تتغير ، وكل قانون يناسب وضعا معينا ، فإذا نزل فيه كان حكيما ، وإذا تخطاه كان سفها.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ)

فهو عالم بحكم النسخ والتغيير.

١٢٨

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

وإذا ترسخت هذه الشبهة في قلب فليس من السّهل إزالتها ، لذلك كان علينا الاستعاذة بالله أبدا حين قراءة القرآن ، بل حين دراسة أيّة قضية علمية حتى لا يختلط الحق والباطل في أذهاننا.

[١٠٢] ان الذين يكذبون ويبدلون آراءهم كل يوم ، بل بين ساعة وأخرى انما يتبعون أهواءهم ، بينما الكتاب نزّله الله بسبب روح القدس المعصومة عن الزلل ، والمقدسة عن الأهواء ، وحكمة هذه الروح التي ترافق الرسول أن تثبّت المؤمنين وتعصمهم من غواية الشيطان ومن شبهاته.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ)

فالحق المتمثل في سنن الله ، في الآفاق والأنفس ، هو باطن آيات الله ، كل آية مظهر لسنة إلهية راسخة في ضمير الخلق. والسّنن ليست واحدة وكذلك الآيات. والاختلاف بين الخلق موجود ، ودليل على وحدة خالقهم ، كذلك الاختلاف في آيات الله الكاشفة لتلك السّنن موجود ، وكاشف عن علم الله سبحانه.

(لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا)

فالذين آمنوا يعتصمون بروح القدس ، ويظلهم روح القدس بقبس من نوره.

(وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)

فمن أسلم وجهه لله ، هداه الله بالقرآن وبشره بحياة طيبة ، وإذا تكامل فانه سوف يصبح مؤمنا ، والمؤمن يملك قوة الهية تحفظه من كيد الشيطان ، ومن شبهاته وهذا يسمى بالعدالة ، ويقولون خطأ أنها ملكة في النفس؟

١٢٩

من شبهات الشيطان :

[١٠٣] وشبهة اخرى يطرحها الشيطان.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ)

يلحدون : أي يميلون. فقد قالوا : أن رجلا اسمه (ابو فكيهة مولى بني الخضرمي) كان اعجمي اللسان ، وكان قد اتبع نبي الله وآمن به ، وكان من أهل الكتاب ، قالوا أنه يعلّم الرسول!!

وبعض التفاسير تقول : إنه غير هذا الرجل ، ولكنه على أي فرض كان أعجمي اللسان ، والقرآن نزل بلغة عربية واضحة.

(وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)

الرد على الشبهة :

إنّ الترجمة تحمل طابعها مهما كانت بلاغة المترجم ، لان كل لغة تعبر عن ثقافة خاصة صيغت تلك اللغة على مقاسها ، واللغة العربية لم تكن قادرة على التعبير بدقة عن الأفكار الدخيلة ، ولم تكن واضحة بذلك الوضوح المتناهي في البلاغة والنفاذ الى القلب ، لو لا أن ملاقيها قد تعمق في فهم المحتوى ، واهتدى إلى الموضوع الذي يعبّر عنه ، وواضح أن التعبير المفصل لا يكون من دون فهم عميق للفكرة ، فكيف يعبر الرسول عن كل تلك الأفكار المفصلة والدقيقة إذا كان مجرد مترجم؟!

[١٠٤] ثم ان القلب الذي لا يؤمن بالله لا يقدر أن يعبّر عن الله ، وأن ينطق باسم الله بهذا الوضوح والصراحة والقدرة ، ذلك لأن.

١٣٠

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

[١٠٥] والمؤمن بالله لا يفتري على الله ، خصوصا ورسول الله أكّد بوضوح مدى جريمة الافتراء على الله ، فكيف يرتكب بنفسه لو كان مؤمنا هذه الجريمة؟!

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)

الذي يؤمن بآيات الله ، وشخص رسول الله هو أظهر مصاديقه بلا ريب ، فإنه يخشى من الكذب ، بل إنه قوي لا يحتاج إلى الكذب ، وعالم لا يتورط في الكذب.

ولذلك جاء في الحديث النبوي : عن عبد الله بن جراد أنه سأل النبي (ص) قال : «هل يزني المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك! قال : هل يسرق المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك! قال : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا» (ثم اتبعها نبي الله) (ص) «(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

١٣١

مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ

______________________

١٠٩ [لا جرم] : حقا ـ لا محالة.

١٣٢

نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)

______________________

١١٢ [رغدا] : طيبا واسعا.

١٣٣

عاقبة الارتداد

هدى من الآيات :

في الدروس السابقة حذرنا الرب الكريم من الكفر بعد الإيمان ، والزلل بعد الثبات وذلك بمناسبة الحديث عن النكث والحنث. وها هو الدرس يفصّل القول في الكفر بعد الإيمان بصفة عامة ، فيحذر من غضب الله الذي يحل بمن يرتد عن دينه ـ قولا أو عملا ـ إلّا الذي أكره على الكفر بطريق لسانه ، بينما لا يزال قلبه مطمئنا ، وإنما المرتد من استقبل الكفر بصدر رحب وذلك له عذاب عظيم ، لأنه فضّل الحياة الدنيا على الآخرة ، فسلب الله منهم نور الهدى ، ويطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وهم غافلون عن أوضح الحقائق من حولهم ، وبالتأكيد سوف يخسرون أنفسهم في الآخرة.

بينما الثابتون على الهدى برغم ما يتعرضون له من مكروه ، ويهاجرون الى الديار الآمنة من بعد الابتلاء ، فإن الله بالنسبة إليهم غفور رحيم ، يشملهم برحمته في يوم تأتي كلّ نفس تدافع عن ذاتها ، فلا تعطى إلّا جزاء عملها الأوفى ، دون أن

١٣٤

نظلم من عملها شيئا.

وأما من يكفر بعد إيمانه فإن الله يضرب له مثلا من واقع قرية كانت آمنة مطمئنة يأتها رزقها واسعا طيبا ، من كلّ مكان ، ولكنها كفرت بأنعم الله فشملهم الجوع والخوف بسبب أفعالهم ، وكلما حاول رسولهم أن يهديهم لم يسمعوا له ، بل كذبوه وكانوا ظالمين لأنفسهم في ذلك.

بينات من الآيات :

الإيمان مسئولية :

[١٠٦] ما هو الإيمان؟ هل أنه مجرد العمل؟ أم مجرد كلام؟

كلا .. انهما مظهران للإيمان ، ولكن الإيمان شيء آخر. أنه موقف الشخص من الحياة الدنيا ، ومدى اطمئنانه بها ، واستحبابه لها بالقياس الى الآخرة ، فالذي يريد الدنيا بقلبه ويفضلها على الآخرة فإن الله لا يهديه سبيلا.

وإذا كان الإيمان موقفا قلبيا فما هو دور القول؟! أو ليس مواقف البشر تتحدد بأقوالهم؟!

بلى .. ولكن قد يتلفظ الإنسان بلسانه ما ليس في قلبه ، كما المنافق الذي يدّعي بلسانه أنه مؤمن والواقع انه كاذب ، وكذلك الذي أكره على الكفر بلسانه ، بينما بقي قلبه مطمئنا بالإيمان ثابتا عليه.

هكذا كان «عمار بن ياسر» الذي تعرض لتعذيب وحشي من قبل كفار قريش ، فأعطاهم بلسانه ما أسرّهم ، حيث مدح آلهتهم ونال من رسول الله (ص) لإنقاذ نفسه ، فنزلت فيه الآية الكريمة تقرر تقاته منهم ، وأمره الرسول أن يعود لمثل

١٣٥

ذلك إذا عادوا عليه ..

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ)

وهل يكفر أحد بعد أن آمن؟ أو ليس الإيمان معرفة وعلما؟ وكيف يتحول الفرد بين لحظة وأخرى من عارف الى جاهل!!؟

بلى .. الإيمان علم ، ولكن العلم وحده لا يكفي ، بل للإيمان عنصر آخر هو : اليقين ، وعقد القلب والثبات ، ومواجهة الضغوط ، الإيمان موقف وانتماء وسعي وفداء ..

جاء في حديث شريف : عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال : «فأما ما فرض على القلب من الإيمان. الإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، إلها واحدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله من نبي أو كتاب ، فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله ، وهو قول الله عز وجل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً)»(١)

ومن الناس من يتنازل عن موقفه وانتمائه فور ما يتعرض لضغط ، فيكفر بعد الإيمان ، ومنهم من يصمد ، ومنهم من يخلص نفسه باستخدام التقاة ، فيكتم إيمانه كما فعل عمار الذي قال ربنا عنه وعن أمثاله ..

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)

والحديث المأثور في قصة عمار يقول : لما أراد رسول الله أن يهاجر الى المدينة قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر الى آخر الليل ، ومن لم تكن به

__________________

(١) الميزان ـ ج ١٢ ـ ص ٣٥٩.

١٣٦

قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي.

فأصبح بلال المؤذن ، وخباب ، وعمار ، وجارية من قريش كانت أسلمت (وهي سمية أم عمار حسبما جاء في حديث ، وأضيف أيضا اسم ياسر والد عمار) فأصبحوا بمكة ، فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فأخذوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد .. أحد .. وأما خباب فأخذوا يجرونه في الشوك.

وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أوتاد ثم مدها ، فادخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، (١) ثم خلّوا عن بلال وخباب وعمار ..

فلحقوا رسول الله (ص) فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به ، فقال له رسول الله (ص) كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ قال : لا .. فأنزل الله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

هكذا صمد عمار فلم يستجب لضغوط قريش ، بل تحداهم بالتقية وظل على موقفه الثابت.

وآخرون ينهارون فيتقبلون الكفر برحابة صدر ، فيتعرضون لغضب الله سبحانه ..

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ

__________________

(١) وهكذا قتل زوج هذه الجارية الشهيدة ياسر وهما أبوا عمار بن ياسر الذين كانا أول شهيدين في سبيل الله في الإسلام ..

١٣٧

عَظِيمٌ)

ذلك لأنهم أرادوا إرضاء الطغاة فغضب الله عليهم ، وأرادوا الحصول على نعم الدنيا فلحقهم عذاب عظيم في الآخرة ، ولفظة «فعليهم» خبر لفظة من كفر بالله.

جذر المشكلة :

[١٠٧] وجذر المشكلة يتصل بموقفهم من الدنيا التي فضلوها على الحياة الآخرة ..

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ)

أي بلغ حبهم للدنيا مستوى فضّلوها على الآخرة ..

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)

فمن استحب الدنيا على الآخرة ، يغضب الله عليه بسلب نور العقل عنه ، فيتركه في ظلمات جهله الذاتي ، لأنه قد اختار منذ البدء الكفر.

وهذه الآية توحي بان المعرفة واليقين والهدى ، كلّ ذلك يأتي بعد الإختيار السليم ، وتفضيل الآخرة على الحياة الدنيا.

الارتداد انحطاط :

[١٠٨] الذي يرتد عن الإيمان لا يهبط فقط الى مستوى الشخص العادي الذي لمّا يؤمن ، بل يهبط أكثر منه بكثير ، إذ يسلب منه الله «جل جلاله» فرصة الهداية الى الأبد بسبب موقفه الجحودي ..

١٣٨

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ)

بل يصبح هؤلاء كمن لا شعور له غافلين عن أبسط الحقائق وأوضحها ..

(وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)

[١٠٩] ولأنهم اختاروا الدنيا على الآخرة فلا ريب أنهم يخسرون الآخرة ..

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)

سبيل المغفرة :

[١١٠] كم ينبغي أن نصمد في مواجهة الضغط حتى لا نحسب من المرتدين؟

يضرب الله لنا مثلا فيقول :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

أجل انها مسئولية كبري ينبغي أن يستعد كلّ مؤمن لها ، ويعقد العزم على أدائها بإذن الله ، الهجرة النفسية والبدنية عن المجتمع الجاهلي بعد التوخي للفتنة (أو تدري إن أصل كلمة الفتنة إدخال الذهب النار لتظهر جودته!!).

وليست الهجرة نهاية المطاف ، بل لا بدّ من الجهاد للعودة الى الوطن السليب ، وتحريره من طغيان المفسدين ، والصبر على صعوبات الجهاد ..

وآنئذ يغفر الله لهم ذنوبهم السابقة ، مثل سكوتهم السابق على الظلم ، بل خضوعهم للظالم وهو أكبر ذنب ، بل هو الشرك ذاته ، كما يغفر الله هفواتهم

١٣٩

اللاحقة.

[١١١] وغفران الله نعمة كبري يدّخرها المجاهدون الصابرون ليوم القيامة ، حيث يأتي كلّ فرد وحده لا أحد ينصره أو ينفعه غير عمله ..

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها)

أي كلّ إنسان يدافع عن نفسه فلا يجد إلّا الحق ..

(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

عاقبة الارتداد في الدنيا :

[١١٢] كلّ ذلك في الآخرة ، أما في الدنيا فإن الكفر بعد الإيمان ينتهي بالمجتمع الى سلب نعم الله ، كمثل تلك القرية التي كانت تتمتع بالرفاه والسلام فكفرت ، فأنزل الله عليها الفقر والحرب.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ)

يبدو من الآية ان للأمن درجات ، وهكذا للرفاه الاجتماعي درجات ، وان هذه القرية كانت تعيش في أمن ظاهر وأمن قلبي ، وهو أفضل درجات السلام ، كما كانت تعيش على رزقها ورزق ما حولها من القرى ، وهذا أفضل درجات الرفاه ..

(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)

١٤٠