من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ

______________________

٩ [الكهف] : الغار المتسع في الجبل.

[الرقيم] : اللوح المكتوب فيه قصتهم.

١٤ [ربطنا] : شددنا وقوينا.

[شططا] : الخروج عن الحد بالغلو فيه وأصله مجاوزة الحد.

٣٦١

قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦)

______________________

١٦ [مرفقا] : اليسر واللطف.

٣٦٢

أصحاب الكهف :

السنة التي تجري

هدى من الآيات :

في قصة أصحاب الكهف والرقيم دروس وعبر في بيان ضرورة مقاومة الإنسان لجاذبية الشهوات الدنيوية ، وإثبات قدرته على ذلك عن طريق الإرادة الذاتية أولا ، ثم التوكل على الله ثانيا.

وتبدأ هذه المجموعة من الآيات ببيان الإطار العام لهذه القصة ، ثم تفصل الحديث حولها تفصيلا.

بينات من الآيات :

قصة أصحاب الكهف والرقيم :

[٩] ان قيام هؤلاء لله وثورتهم ضد الطغيان وتحريرهم لأنفسهم من ضغط المجتمع الفاسد ، وبالتالي نصرة الله لهم بطريقة غيبيّة ، لا يشكل شذوذا في سنن الله في الحياة ، ولا تثير عجبا ، لأننا نراها ونلمس آثارها في كل لحظة وفي كل شيء ،

٣٦٣

وهي تدل على وجود حكمة في تدبير الكون وقوّة قاهرة تجري تلك الحكمة.

فآثار القدرة والحكمة الإلهيّة واضحة ، وأصحاب الكهف والرقيم كانوا مجموعة بشر يعيشون مجمل هذه المعادلة الكونيّة الحكيمة ، اذن لا تعجب إذا جاءت يد الغيب وانتشلتهم من وهدتهم وحررتهم من اغلالهم.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً)

يقول المؤرخون : انه حين قتل يزيد بن معاوية. سبط رسول الله أبا عبد الله الحسين (عليه السلام). وطاف برأسه البلاد كان الرأس يتلو من فوق القناة هذه الآية الكريمة.

أو تدري لماذا هذه الآية بالذات؟ لعلّه لبيان تلك المعادلة الكونية ولكي لا يتعجب الناس كيف ان الرأس الشريف يتلو القرآن.

وهكذا فأن ذلك الرأس المبارك يشير الى ان الكون يجري ضمن معادلة حكيمة من ابعادها نصرة المظلوم إذ ان نصرة المظلوم هي ضمن تلك المعادلة التي أجراها ربنا سبحانه وتعالى في كل ابعاد الكون.

ومعنى هذه الآية هو : هل تحسب ايها الإنسان ان ما جرى لهؤلاء هو شيء عجيب؟ كلا ..

هناك آيات وحقائق تعودنا على رؤيتها ، وهناك حقائق لم نرها ، فأنت إذا دخلت مدينة لأول مرة قد تتعجب من لغة وعادات أهلها ، وبناء بيوتها وجسورها ، ونظام الشوارع والسير فيها .. إلخ ، ولكن إذا بقيت فيها لمدة سنة فكل شيء يغدو عندك آنئذ عاديّا.

والمجتمع يبادل بعضه بعضا التعاون والعمل ، والأحساس والفكر ، فيبدو لنا ذلك الشيء طبيعيّا جدّا لأن هذه السنن حياتيّة ، حيث جعل الله الناس يحتاج

٣٦٤

بعضهم الى بعض ، وهذه سنة إلهية عظيمة وعجيبة ، ولكننا لطول الألف بها نراها عادية لا تثير فينا الاستغراب.

والشمس كل يوم تطلع من هنا وتغرب من هناك ، وتجري بدقة ونظام ، هذه سنة عجيبة ولكننا تعودنا عليها حتى أصبحنا لا نهتم كثيرا لهذا الأمر ، اما إذا حدث كسوف كلي للشمس مثلا ، فأن الناس يظهرون اهتماما بالغا لهذا الحدث ويهرع العلماء الى مراصدهم واجهزتهم العلمية لدراسة هذه الظاهرة.

وأن يحكم نظام طاغوتي في بلد ما ويخضع الناس له راضين بالواقع المنحرف ، هذا شيء ألفناه لكثرة حدوثه وانتشاره حتى أصبحنا نعده شيئا طبيعيا ، ولكن ان تتفجر ثورة الهية ويقوم الثوار المجاهدون بإسقاط ذلك النظام الفاسد ليقيموا نظام الحق والعدل والحرية ، فذلك يعد شيئا غريبا وينظر الناس اليه على انه معجزة عجيبة بينما هو في الواقع سنة الهية كسائر السنن التي نألفها.

وربما تشير هذه الآية الى ان الإنسان عند ما يرى حوادث ووقائع جديدة عليه أو يسمع بها لأول مرة فلا يحق له ان ينكرها ، ويكذب بها ، لمجرد انه لم يألفها ولم يتعود عليها ، فعدم العلم بالشيء لا يعني العلم بعدمه ، وانما على الإنسان ان يتأمل في سنن الله في الخليقة ، وينظر الى عظمته وحكمته وقدرته ، ويؤمن بكل ما يصدر عن الله عز وجل من قول وفعل.

والقرآن يذكر لنا : ان الملائكة عند ما بشروا إبراهيم (ع) بهلاك قوم لوط كانت امرأته قائمة ، فضحكت فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فقالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ). قالوا : أتعجبين من امر الله؟

والتعجب الذي ينهى عنه القرآن هو ذلك الذي يؤدي الى الاستنكار وعدم

٣٦٥

التصديق ، اما التعجب بمعنى الانبهار بعظمة الله وقدرته التي تتمثل في بديع خلقه وإتقان صنعه ، الذي يؤدي الى سمو الأيمان وكمال التصديق فشيء حسن ، إذ ان كل خلق الله يثير العجب لدى التأمل والتفكر.

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً»؟!

الكهف هو الفجوة في الصخور الجبلية ، والرقيم هي الكتابة ـ حسب أقرب التفاسير ـ وتختلف التفاسير هل ان أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم؟ أم ان أولئك طائفة اخرى؟

ويشير حديث شريف الى انهم كانوا طائفة اخرى ، ولكن بعض المفسرين يذكرون ان كلمة الرقيم تدل على الكتابة التي نقشها قوم أصحاب الكهف على باب الصخرة ، ولذلك سموا بأصحاب الرقيم.

حرية الإنسان تتحدى :

ومما يثير العجب في قصة أصحاب الكهف ، قدرة هؤلاء الفتية من البشر على الأفلات من أغلال الطاغوت ، وقيود الثقافة الفاسدة ، من دون رسالة ولا رسول. فنحن نعرف ان الله يبعث رسولا الى قوم يعظهم فيؤمن به جماعة ويكفر آخرون ، ولكن ان ينبعث ضمير نقي في مجموعة فتية يعيشون تحت ركام الخرافات وفي ظل الظروف الفاسدة فيثوروا ويتحرروا!! ان هذه قضية تبدو غريبة وتثير العجب ، ولكن لدى التأمل الدقيق يتبين ان فطرة الإنسان مهيأة لتمييز الانحراف من الاستقامة ، وان قدرة الله ونصرته تعين الإنسان الذي يستجيب لنداء فطرته.

فكما ان الله يبعث رسولا ، وينزل عليه الملائكة والكتاب ، ويؤيده بروح منه ، كذلك إذا استجبت ايها الإنسان لنداء فطرتك واتبعت الحقيقة بعد ان عرفتها ، فأن الله يزيدك هدى ويأخذ بيدك ، وهذه هي حكمة بيان قصة أصحاب الكهف

٣٦٦

حسبما يبدو ، فلا تقل انك لست برسول ولم ينزل عليك وحي ، ففيك من الفطرة الإلهية ما لو اتبعتها أعانك الله على ظروفك.

[١٠] (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً)

لقد التجأوا الى الكهف حيث لم يجدوا في الأرض ملجأ ، ولم يكن هناك من يسمع كلامهم ، أو يستجيب لهم فيعينهم ، فأضطروا الى تلك الوسيلة التي لم يكن امامهم غيرها.

والإنسان عند ما تضطره الظروف للالتجاء الى كهف داخل جبل في منطقة معزولة قفراء ، فأن ذلك يعني انه منقطع من كل أسباب القوة والأمن ، ومفتقد لكل نصير ومعين ، وهذا هو ما يحدث للذين يريدون ان يتحرروا من الأغلال ، ويثوروا على الأوضاع المنحرفة.

وحينما لم يجد فتية الكهف أحدا في الأرض ينصرهم التجأوا الى رب السماء سبحانه ، ودعوا الله أن يعطيهم أمرين :

الأول : الرحمة اي الخير والتقدم ، وكل ما في الحياة من أسباب السعادة والفلاح.

الثاني : ان يهديهم الى الطريق السوي صحيح ان فطرتهم أوضحت لهم ان طريق قومهم خاطئ ، ولكنهم لم يكونوا يعرفون الطريق البديل. وقوله تعالى :

«وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً». يدل على ذلك.

خرق السنن الطبيعية :

[١١] (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً)

٣٦٧

ان الضرب على الأذان اشارة لطيفة الى ان أهم علامة للنوم عند الإنسان هي ثقل اذنه ، وانقطاع سمعه ، واما إغماض العين ، فليس كافيا لأن يدل على النوم ، إذ قد يغمض الإنسان عينيه وهو مستيقظ ، ولكنه لا يمكن ان يقطع سمعه وهو كذلك.

هذا من جهة ومن جهة ثانية باستطاعة البشر ان ينام يوما أو يومين بدون أكل أو شرب ، بينما نجد هؤلاء قد ناموا سنين عديدة ، حتى انتهى العهد الفاسد ، وهكذا كانوا يبدون في مظهر الأموات ، ولذلك يقول القرآن :

[١٢] (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)

فشبه ايقاظهم ببعث الموتى ، بسبب طول فترة مكوثهم نياما ، ولكن لماذا بعثهم الله يا ترى؟

ذلك لكي يرى الناس أنه قويّ قدير ، وان حزب الله هو الغالب ، إذ أن هناك حزبان فقط في ساحة الحياة مهما اختلفت العناوين والأسماء ، حزب المستكبرين الراضين بحكم الظلم والجور ، والآخر هو حزب الله الثائرين على الظلم والجور.

وحزب الله لا يملكون الا أنفسهم في البداية ، حتى انهم يضطرون للالتجاء الى الكهف ، أو كما في عصرنا الى العمل السري أو الهجرة من البلاد ، وهذا دليل انقطاعهم عن الوسائل المادية.

حينما نقارن بين أصحاب الكهف وبين الحكومة الطاغوتية آنذاك ، حيث كان الملك وأعوانه يملكون القوة والهيبة والسلطان وكل الوسائل المادية ، نجد ان كفة أصحاب الحق هي الراجحة بالرغم من ذلك لأن الطواغيت كانوا يسيرون على طريق الخطأ ، ولم يستطيعوا ان يحموا ما كانوا يملكون بينما نجد أولئك الذين لم يكونوا يملكون شيئا الا أنفسهم وإرادتهم ، حموها بالإيواء الى الكهف اولا ، ومن ثم

٣٦٨

كسبوا الجولة في ساحة الصراع.

اما التفسير الظاهر للأحصاء في الآية فهو معرفة عدد السنين التي مكثوها في الكهف. وعلى هذا التفسير يكون المراد من الحزبين هما الفريقان الذين اختلفوا في عدد السنين التي قضوها في النوم كما تشير الأحاديث التالية.

هذا هو الموجز لقصة أصحاب الكهف أما التفصيل فتتعرض له الآيات القادمة ..

[١٣] (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ)

القرآن يقص الأنباء بالحق فهو أولا : يذكر الأنباء صحيحة ، وثانيا : يهدف من ورائها اهدافا سليمة ، اي عند ما تورد الآيات القرآنية قصة فإنها تستهدف من ورائها تكوين حكمة صحيحة في ذهن الإنسان ، واقامة حكم الحق في العالم ، وثالثا : ان مجريات القصة تتطابق مع السنن الحق في الحياة وهذه الأبعاد الثلاثة موجودة في كل قصة من قصص القرآن.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً)

ان هؤلاء الفتية بشر ولم يكونوا رسلا ، ولكنهم آمنوا بربهم وتحرروا من ضغط الجاهلية فأيدهم الله ، وكذلك كل إنسان في العالم يملك ارادة التحرر ، وعند ما يضعها موضع التنفيذ فأن هدى الله يأتيه ويؤيده.

وفي الأحاديث إنّ هؤلاء لم يكونوا كلّهم شبابا ولكن القرآن سماهم فتية ، لأن الفتى أقدر على التغيير والثورة ، وعلى ان يبدل مسيرته ومنهاجه ، والقرآن يتحدث عن هذه الثورة في الآية التالية ، ويبدو ان كلمة الفتى تشير إلى من يملك الفتوة وهي الرجولة والبطولة والشجاعة قال ابو عبد الله الصادق (عليه السلام) لرجل «ما الفتى

٣٦٩

عندكم؟ فقال له : الشاب ، فقال : لا ، الفتى : المؤمن ، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخا فسماهم الله فتية بأيمانهم» (١)

[١٤] (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا)

اي ثاروا وانتفضوا ، ولكن لماذا يقول وربطنا على قلوبهم؟

ذلك لأن الإنسان الذي يريد أن يتحرر من ربقة الطاغوت يرى ـ في بداية أمره ـ القضية غامضة ، ثم يتقدّم قليلا فتتضح معالمها أمامه ، ولكنه لا يملك القدرة الكافية على الصمود والمقاومة ، فهنا يزيده الله ارادة وعزيمة ، ويربط على قلبه حتى لا يتردد ، ويستمر في ثورته متحررا من الخوف.

ان بداية القيام أن تنطلق أنت ، ولكن بعد ذلك تجري حلقات النهضة بطريقة متتابعة وبتأييد الهي ، اي ان الله سبحانه وتعالى يتولى أمرها فيزيد الثائرين وضوحا في الرؤية ، ويقوي معنوياتهم ، ويوفر للثورة أسباب النجاح سواء بطريقة عادية أو غير عادية.

(فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

هذه الكلمات الثورية الشديدة القاصفة كالرعد لا تصدر عادة الا عن رسول ، ولكنها صدرت عن هؤلاء بتأييد الله ، اي بعد ان ربط على قلوبهم.

ثم يعلنون انهم عازمون على المضي في الثورة وعدم النكوص ..

(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً)

__________________

(١) نور الثقلين ج ٣ ص ٢٤٥

٣٧٠

وكلمة «لن» تدل على الأبديّة ، أي مستحيل علينا أن نرجع الى واقعنا الفاسد ، ثم يذكرون سبب ذلك :

(لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)

أي ان عودتنا الى افكارنا وأقوالنا السابقة هي ضلال وانحراف وشذوذ.

الجذرية :

لقد ثاروا ثورة جذرية ، وهذه من سمات الثورة الرسالية ، فمنذ البداية قالوا : لن ندعوا من دونه إلها أي لن نخضع لهذا الطاغوت ولا لطاغوت آخر يأتي مكانه ، ولن نقبل ان يطاح بفئة حاكمة ظالمة لتستولي على الحكم فئة أظلم منها ولكن باسم آخر وشعارات اخرى ، أو يذهب ملك فينصبوا ابنه مكانه ويظل النظام الفاسد كما هو.

فكلمة «إلها» تشير الى عدم التخصيص بالملك الذي كان يحكم في زمانهم ، بل الى كل من يتصف بادعاء الندية لله سبحانه وهكذا كانت رؤيتهم صافية. لأن الله سبحانه أيدهم وربط على قلوبهم.

ولذلك جاء في الحديث المأثور عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) انه قال : «اما علمت إن أصحاب الكهف كانوا صيارفة يعني صيارفة الكلام. ولم يعن صيارفة الدراهم» (١)

[١٥] لقد قطعوا آيّة علاقة لهم بالماضي وسفهوه ، ولم يكتفوا بذلك وانما أخذوا يسفهون الآخرين.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)

__________________

(١) المصدر

٣٧١

فاستنكروا موقف قومهم الذين اتخذوا السلاطين والرؤساء آلهة من دون الله.

(لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ)

إذا أراد الإنسان ان يسلك طريقا ما أو رجلا قائدا فليفعل ، ولكن ان يأتي بحجة قاطعة ودليل قوي ، وهكذا خطأ أصحاب الكهف منهج الكفار في اختيار الإله بطريقة غير عقلانية ، ولم يخطئوا النتيجة فقط ، وانما بدأوا بالسبب الجذر للانحراف ، وهذه من أقوى واعمق الثورات الثقافية والسياسية في العالم ، فهي لا تنظر الى النتائج الظاهرة والفساد القائم فقط ، وإنما تبحث عن السبيل الذي سلكه الناس حتى وصلوا الى ذلك الفساد ، أو طريقة التفكير التي أدت بهم الى هذه النتيجة.

سياسة الطاغوت :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)

هذه الآية وآيات اخرى شبيهة تشير الى ان الطغاة يؤطرون عملهم بأطار القدسية ، ويحاولون تضليل الناس وإيهامهم بأن ذلك هو من قبل الله سبحانه وتعالى ، ويربطون أنفسهم بطريقة ما بالله وبالمبادئ السامية.

حتى ان هتلر الذي جلب الدمار للعالم كان يعتبر نفسه المنقذ الذي أرسله الله لأنقاذ البشرية ، والصليب المعقوف انما هو اشارة الى انه يمثل الله في الأرض ، وفي هذه الآية يقول أصحاب الكهف : ان قومهم افتروا على الله الكذب ، فقالوا : ان الله هو الذي أمرنا بأن نعبد تلك الألهة وهو بريء مما يدعون.

تأييد الله :

وأخيرا وصل أصحاب الكهف الى نتيجة وقرروا ان يعتزلوا قومهم في البداية ثم

٣٧٢

يلتجئوا الى الكهف ويطلبون رحمة الله لينصرهم في حركتهم الثورية.

[١٦] (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)

من الذي قال لهؤلاء الفتية إنهم إذا اعتزلوا الناس ، والتجأوا الى الكهف ، فأن الله سبحانه سينصرهم؟ هل كان هناك رسول يبلغهم؟

كلا .. وانما كان ذلك من إلهام الفطرة ، انه حينما يكون عمله الله العزيز فأن الله يؤيّده وينصره.

التأييد الإلهي :

(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)

اي ان الله سبحانه يهيء لكم الوسائل لتطبيق برامجكم. صحيح ان الوسائل منقطعة والطرق مسدودة أمامكم الآن ، ولكن اعتزلوا الكفار والمشركين ، والتجؤوا الى الكهف وانتظروا رحمة الله فهي آتية لا ريب ، وانه سوف يهيء لكم السبل الملائمة مادية ومعنوية.

وهكذا نستوحي من هذه الآية الكريمة أسلوبا للثورة وهو : اعتزال الطغاة وعدم اتباعهم ، وانتظار رحمة الله ، فلا نكون مستعجلين للحصول على النتيجة ، وانما علينا بالصبر وانتظار الفرج. وكانت الثورات الإلهية تبدأ هكذا عادة : يعتزل شخص أو مجموعة اشخاص ، ثم يلحق بهم الآخرون ، وتأتيهم الأموال والسلاح والرجال من حيث لم يحتسبوا ، وفي ذات الوقت يبدأ الحكم الطاغوتي بالضعف مع الزمن ، وتظهر فيه الثغرات فتتهيأ الظروف لتفجر الثورة ومن ثم انتصارها.

٣٧٣

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى

______________________

١٨ [بالوصيد] : الوصيد من أوصدت الباب أي أغلقته وجمعه وصائد.

٣٧٤

طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)

٣٧٥

وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً

هدى من الآيات :

وهذه المجموعة من الآيات الكريمة تبيّن لنا جانبا من قصة أصحاب الكهف ، التي تشهد على هذه الحقيقة أن الإنسان قادر على أن يقلع من أرض الشهوات والضغوط ، ويحلق في سماء القيم بقوّة إرادته وبنصرة الله سبحانه وتعالى.

ان لطف الله بالإنسان لطف دائم وقديم وشامل ، ولكنه بحاجة الى تحرك من قبل الإنسان نفسه ، فلو تحرك الإنسان الى ربّه خطوة فسوف يتقدم اليه ربه فراسخ وأميالا.

ان فتية الكهف حينما تركوا قومهم ، والتجأوا الى الكهف طلبا لرحمة الله سبحانه وتعالى ، فأن الله وسع عليهم الكهف ، وابعد عنهم الشمس حتى لا تحرقهم أشعتها ، فكانت تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله ، بحيث تمنحهم الأشعة اللازمة للحياة دون أن تؤذيهم.

٣٧٦

ومن ناحية أخرى فقد جعل الله نومهم بحيث ، كانوا يتقلبون بسبب خفة نومهم ، وهذا بدوره من رحمة الله سبحانه وتعالى ، لأن بقاءهم على حالة واحدة كان سيضر بأجسامهم كما أنه يخرق ثيابهم.

أما كلبهم فقد كان يربض أمام باب كهفهم باسطا ذراعيه ، كما يفعل عادة عند ما يجلس للمراقبة ، والذي يمر عليهم يحسب أن هؤلاء مجموعة من الناس ، جاؤوا الى هذا المكان للقيلولة ، ثم الذهاب الى عملهم ، لأن نومهم خفيف ، والكلب موجود ، وهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال بالرغم من استيلاء النوم عليهم.

فقد حماهم الله سبحانه وتعالى من الأعداء بسبب الرعب ، فالحيوانات كانت تخاف من الكلب ، أما الناس فكانوا يرتعبون لأنهم إذ اطّلعوا على هذا الكهف وقد نام فيه هؤلاء ، يرون وكأن ابطالا يربضون فيه فيولّون عنهم فرارا ، ويمتلئون منهم رعبا.

لقد أبقاهم الله اجيالا وقرونا على هذه الحالة ، حتى تشابهت حالتهم مع حالة الموتى ، لأن الله لما أيقظهم عبر عن ذلك بالبعث.

جلس هؤلاء من النوم ، وبعد أن انهوا تساؤلهم عن مدّة نومهم ، وحيث بلغ أقصى تقدير لهم أنهم ناموا يوما أو بعض يوم شعروا بالجوع ، وكان أحدهم يملك نقودا وكانت عبارة عن سكة فضيّة دفعها الى وزير الملك ، فتنكر بأن لبس ملابس الراعي وأخذ تلك النقود ، وذهب الى المدينة ليجد أمامه المفاجأة ، فقد لاحظ أن المدينة تغيّرت وأن الأوضاع تبدلت.

كما ان النقود التي كان يحملها كشفت حقيقته وحقيقة جماعته ، لأن حاشية الملك وأعوانه لما افتقدوا هؤلاء كان بعضهم وزراء واداريين كبار ، بحثوا عنهم في كل مكان فلم يجدوهم ، فنشر ذلك الخبر كحادثة مهمة وكتب ذلك في تاريخهم ،

٣٧٧

وكانت الأجيال تحفظ هذه القصة الغريبة وتتناقلها ، الى أن جاء هذا الوزير متنكرا بلباس الراعي ، ومعه تلك النقود المنقوش عليها صورة الملك في ذلك العصر ، فعرف الناس أنهم هم الذين يذكرهم التاريخ المدوّن لديهم.

بيّنات من الآيات :

[١٧] (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ)

ربّما يريد السياق ربط ثلاث حقائق ببعضها في هذه الآية ، وليكوّن في أذهاننا صورة ذات ثلاثة أبعاد :

البعد الأول : يرينا آية الشمس ، وكيف أن الله سبحانه أجراها في مسيرها دون أن تتخطى المدار المرسوم لها ، والتزامها بنظام معيّن ، وهذه لفتة نظر الى السنن الكونية التي يجريها الله بقدرته وحكمته.

البعد الثاني : إذا كيّف الإنسان نفسه مع هذه السنن يستفيد منها ، فالشمس التي تطلع وتغرب في مسيرة محددة إذا تعرض الإنسان الى وهجها بصورة مباشرة فسوف يتأثر ، وإذا ابتعد عنها فسوف يتأذى ، وإذا كان في وضع معيّن فأنه يستفيد منها ، وهكذا فأن تكيّف الإنسان مع الشمس بصورة معتدلة ينفعه.

البعد الثالث : أن تكيّف الإنسان مع سنن الكون لا يمكن الا بهداية الله سبحانه ، لأنه هو الذي يحيط علما بهذه السنن ، ويعرّف الإنسان بها.

ومن خلال التدبّر في الآية يظهر لنا مدى لطف العلاقة بين كلماتها ، يقول القرآن : «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ»

أي أن الشمس حينما تطلع فإنها تبتعد عنهم.

٣٧٨

تزاور : تبتعد وتنحرف. وقال البعض ان مادة الحكمة نابعة من الزيارة وتتناسب مع شروق الشمس كأن الشمس عاقلة ومريدة وهي ليست كذلك ، ولكن الذي قدر للشمس حركتها حكيم وقادر وهو الله سبحانه وتعالى.

(وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ)

أي تعبر عنهم وتتركهم ، وكلمة تقرضهم تتناسب ومغيب الشمس.

(وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)

أي كان مكانهم متسعا ويعيشون فيه براحة تامة ، ويقال أن باب الكهف كان على الشمال ، فكانت الشمس تطلع عن يمينه وتغرب عن شماله ، وهذه هي مواصفات غرفة النوم الصحّية ، أن تكون واسعة ، ولا تشرق عليها الشمس مباشرة ، ولكن قريبا منها ، ذات اليمين وذات الشمال.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ)

وهنا ترتبط قصة الهداية بقصة الشمس ، وحركتها حيث أنها من آيات الله التي تشير الى حكمته وقدرته الواسعة. كما ان بقاء هذه الفئة في الكهف هذه السنين من آيات الله.

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ)

ما دامت هذه من آيات الله وحكمته ، وتدل على أن الله هو الذي جعل الأمور بسنن ثابتة دقيقة ، فعلينا أن نهتدي بهدى الله ، ونلتمس المعرفة منه سبحانه.

(وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً)

٣٧٩

أي يرشده الى طريق الحق ، الله هو وليّ الإنسان الذي يرشده ، ويبيّن له المناهج الصحيحة في الحياة ، والذي يريد أن يتبع برامج الله ومناهجه هو المهتدي ، ومن يعرض عن ذلك فليس هناك اله آخر يهديه من دونه.

[١٨] (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ)

يمرّ عليهم الرجل فيراهم وكأنهم في حالة الاستيقاظ ، وهذا يدل على أن نومهم كان خفيفا ولم يكن مستوليا على كل حواسهم وأعضائهم ، بحيث لم يمكن للناظر أن يكشف لأول وهلة انهم نائمون ، ولعله بسبب عيونهم المفتحة ، وتقلبهم.

(وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ)

وهذا التقليب يسبب راحة الجسد ، كما يسبب عدم تمزق الثياب وتخرقها.

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)

الكلب أيضا يربض على باب الكهف ، وكأنه يتربص بكل من تسوّل له نفسه من إنسان أو حيوان متوحش أن يدخل الكهف ويؤذي أصحابه.

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً)

ومن جهة ثانية فأن مظهرهم كان ينم عن قوتهم وبطولتهم الخارقة ، ويوهم الناظرين بأنهم مستيقضون وليسوا نائمين ، كان يبعث على الخوف ومن ثم الفرار.

(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)

وهذا للدلالة على أن منظرهم ومخبرهم كانا يبعثان على الرعب ، إذ أن من يراهم يخاف وعند ما يهرب ويبتعد فأن قلبه يمتلئ رعبا ومن ثم لا يمكن أن يفكر

٣٨٠