من هدى القرآن - ج ٦

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-09-2
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٢

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)

[٥] والإنسان بحاجة الى الطبيعة من حوله ، يتفاعل معها ، فلا بد ان يكيّف نفسه مع السنن العامة التي تحكمها ، فنرى الانعام كالغنم والبقر والإبل خلقها الله لكي ينتفع بها البشر من عدة أبعاد.

أولا : انها تدفئ جسد الإنسان ، بأصوافها وأشعارها.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ)

ثانيا : ان للانعام (وهي الإبل والبقر والغنم) منافع أخرى في أنها تحمل الإنسان. أو ليس الإبل سفينة الصحراء أو لم تكن الأبقار أفضل وسيلة للزراعة سابقا؟! فهي تحرث الأرض وهي تروي الأسرة باللبن ومشتقاته وهي الى جانب ذلك ثروة عظيمة بسبب سرعة تناسلها.

(وَمَنافِعُ)

ثالثا : يأكل الإنسان من الأنعام باعتبارها أفضل مصدر للغذاء ، وأنسب طعام للإنسان ، ومن أخصب الحيوانات نسلا ، وأسرعها نموا ..

(وَمِنْها تَأْكُلُونَ)

[٦] رابعا : وهي تشبع حاجة نفسية للبشر ، حاجة السيطرة على الطبيعة ، وتسخيرها لأهدافه ، والتفاعل معها. إن منظر الأنعام حين تعود من مراعيها بالليل ليريحها أصحابها في مرابضها. إن هذا المنظر يملأ العين بهجة والقلب سرورا ، ويشبع كلّ أبعاد النفس البشرية التي تحن إلى أمها الطبيعة. كما ان منظرها وهي تسرح أول الشروق ، يطلب أصحابها لها الرزق ، يشبع غرور المسؤولية عند

٢١

البشر.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)

إن الحيوانات الأليفة تشبع تقريبا ذات الحاجة النفسية التي يشبعها الأولاد عند أبناء آدم ولكن بدرجة أدنى.

إن خالق الإنسان وجاعل الغرائز في نفسه ، هو خالق الأنعام التي تشبع هذه الغرائز ، وهذا هو الحق الذي أرسى عليه الله بناء السماوات والأرض.

[٧] خامسا : ويحتاج البشر الى مراكب في البر كحاجته إليها في البحر ، وفي ذات الأنعام وبالذات في الإبل هذه الفائدة الكبيرة ..

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ)

أي تحمل الأنعام أحمالكم الى البلاد البعيدة التي يشق عليكم بلوغها.

(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)

وفر هذه النعم جميعا لكم لأنه ذو رأفة ورحمة ، وربما الفرق بين الرأفة والرحمة يكمن في أنّ الأول يلاحظ النفع الحالي ، بينما يلاحظ في الثاني النفع حالا ومستقبلا.

[٨] والى جانب الأنعام خلق الله للإنسان حيوانات أخر للركوب والزينة ، فيها ـ تقريبا ـ ذات المنافع ولكن بدرجات متفاوتة لا يعلمها البشر ..

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ)

من أنواع المنافع المادية والمعنوية التي لا نعلم مدى حاجتنا إليها.

٢٢

[٩] والله الذي خلق كلّ هذه النعم فصّل لنا كيف نستفيد منها ، ووضع البرامج التي تمنع الإسراف أو الإفساد فيها ، أو الشذوذ في الاستفادة منها!!.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)

فقد كتب على نفسه الرحمة فبين بفضله الطريق القاصد المستقيم إلى الغايات النبيلة ، فلأنه الذي خلق تلك الأحياء لفائدة البشر ، فهو العليم بمنهاج الانتفاع بها ، فهو الذي يبين لنا السبيل المستقيم في ذلك ، ولكنه لم يجبرنا على ذلك جبرا ، فمن الناس من يسلكون السبيل الجائر المائل عن الحق.

(وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)

٢٣

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً

٢٤

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)

٢٥

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

هدى من الآيات :

بعد ان ذكرنا الرب بآياته. من خلق السموات والأرض ، ثم خلق الإنسان من نطفة ، وإعطائه النطق ثم خلق الأنعام. والخيل والبغال والحمير. مبتدء بالخلق الأعظم فالأعظم وأنعمه الأكبر فالأكبر. أقول : بعد ان ذكرنا الرب بها في الدرس السابق لعلنا نخلص العبادة لله ، ونترك الشركاء من دونه.

أخذ السياق ـ بعدئذ ـ يتدرج عبر سائر النعم الأقرب منها إلينا فالأقرب. فذكرنا بالمنافع التي جعلها في المطر. وتغير الأنواء واختلاف الليل والنهار. وما فيها من منافع ونتساءل من الذي انزل المطر من السماء فاخرج المراعي والثمرات ووفر الماء للشرب؟

إنه الله.

ومن الذي أنبت في الأرض زرعا بماء السماء ، وأنبت أشجار الزيتون والنخيل

٢٦

والأعناب وألوانا من الثمرات الأخرى؟

انه الله ، ولكن المتفكرين من الناس هم الذين يهتدون بهذه الآيات وسخر الليل والنهار للإنسان ، وسخر الشمس والقمر كما سخر النجوم. كل تجري في فلك. أن هذه الآيات ينتفع بها من ينتفع بعقله ، وهيّء في الأرض للبشر ألوان المنافع ، فمن تذكر اهتدى بهذه الآيات الى الله. خالقها ومدبرها.

وجعل الله البحر بحيث يستفيد منه الإنسان لحما طريا ، كما أودع في قاعه أنواع الزينة ، وهيأه للسفن التي تمخر فيه ، كل ذلك لكي يسعى الإنسان من أجل رزقه ثم يشكر الله عليه.

وإذا خرجت الى البر رأيت الجبال التي تقوم بدور المراسي (١) تحافظ على تعادل الأرض وتمنع ميلانها ، وأودع فيها مخازن المياه التي تتفجر أنهارا ، كما جعل فيها طرقا يسلكها البشر ويهتدي فيها بعلمه ، ولعله يهتدي الى ربه بذلك العلم.

والله سبحانه أودع في السماء علامات يهتدي بها البشر ، ووراء كل آية حقيقة ، ووراء آيات الكون حقيقة الالوهية ، فهل الذي يخلق كمن لا يخلق ، لماذا لا نتذكر؟

كل تلك النعم ـ التي لو عديتها لما أحصيتها ـ شاهدة على ان الله غفور رحيم بعباده.

بينات من الآيات :

[١٠] الله الذي قدّر الكون بحيث انزل لكم ومن أجل استمرار معاشكم ماء من السماء تشربون منه ، كما ينبت لكم الله به مراع لانعامكم ، ولو لا المطر من اين

__________________

(١) المراسي : جمع مرساة بمعنى انجر السفينة الذي تقف به في البحر.

٢٧

تأكل الانعام؟!

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ)

قال الازهري : الشجر ما ينبت من الأرض قام على ساق أو لم يقم. وهذا الرأي أقرب الى السّياق هنا ، كما هو الأقرب الى أصل معنى الشجر وهو ظهور الشيء أو اختلاطه ببعضه.

(فِيهِ تُسِيمُونَ)

الكلمة مأخوذة من الاسامة ، وهي الرعي يقال اسمت الإبل أي رعيتها.

وقال بعض المفسّرين : ان الآية تدل على ماء الشرب انما هو من السّماء فقط. وهو كذلك واقعا.

[١١] والماء الواحد يهبط على الأرض الواحدة ، فاذا بها تنبت به ألوانا مفيدة من الثمرات.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ)

وأكثر طعام البشرية من الحنطة والحبوب والخضروات وبالتالي من الزرع.

(وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ)

وهي الثمرات الأكثر نفعا للجسم البشري ، والأكثر انتشارا في مختلف الأقاليم.

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)

يوفر الله لكل ارض ما يناسبها ، ويناسب حاجة أهلها ، ففي ثمرة كل ارض

٢٨

المواد الأشد ضرورة بالنسبة الى سكان تلك الأرض.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

مراحل العلم وهدف الانعام :

[١٢] تختم هذه الآيات بالكلمات التالية «يتفكرون ـ يعقلون ـ يذّكرون ـ (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ـ تهتدون ـ» فما هي العلاقة بينها؟ ولماذا جاءت متدرجة. علما بأن التدبر في نهايات الآيات يفهمنا معاني الآيات ولربما أعطانا علما جديدا؟ يبدو ان مراحل تكون العلم عند الإنسان هي التالية :

ألف : مرحلة جمع الحوادث وربطها ببعضها والتعرف على علاقتها الثابتة ببعضها ، والحصول منها ـ بالتالي ـ على قانون عام يحكمها ، وهذا يحصل عن طريق التفكر ، لان التفكر ـ حسبما يبدو لي ـ هو تقليب المعلومات وخلطها واعادة فرزها جاء في المنجد (الفكر ج أفكار : تردد الخاطر بالتأمل والتدبر بطلب المعاني).

والآية الماضية ربطت الحوادث الظاهرة (هطول الأمطار ، واخضرار الأرض واختلاف الثمرات) ببعضها ، وجعلتها جميعا آية الخلق عن طريق التفكر ، فقال ربنا : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» لأنه بسبب تقليب المعلومات نحصل على انها آية الله.

باء : مرحلة تخزين التجارب والاستفادة منها في فهم الحوادث الجديدة ، ويبدو ان هذه العملية تسمى بالعقل ـ حسبما تدل عليه الكلمة ـ إذ أن أصل العقل مستوحى من العقال ، وهو الّذي يحفظ الناقة ، وجاء في الحديث :

«العقل حفظ التجارب»

وربطت هذه الآية بين العقل وبين التعرف على سر تسخير الطبيعة للبشر ، لان

٢٩

فهم هذه الحقيقة أصعب وبحاجة الى تجارب مختزنة أكبر. يقول ربنا :

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

فاختلاف سنن الله في الليل من الظلام والسّكون ، وركون الطبيعة الى الراحة. اختلافها عن النهار وما فيه من الضوء والضوضاء ، والنشاط في السّعي كل ذلك جاء لمصلحة البشر ، كما سخر الله الشمس والقمر.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ)

وقد لا تكون النّجوم جميعا مسخرات للبشر إلا انها تنفع البشر ، وترتبط بتسخير الشّمس والقمر ، آيتي النّهار والليل.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

فعن طريق تخزين التجارب والاستفادة منها سوف يبلغ البشر درجة من العلم تؤهله لمعرفة سرّ الطبيعة ، وان كل شيء فيها قد نظم لمصلحة البشر ، وان عليه ان يستفيد منها لحياته ، ولكن لا يزال أمامنا مسافة حتى نصل الى ذروة العلم ما هي تلك المسافة؟ انها التذكر.

[١٣] بعد العقل يأتي دور التذكر وهو المرحلة المتقدمة في مسيرة المعرفة.

جيم : وهي مرحلة استيعاب التجارب من أجل العمل ، فكيف نستفيد من الطبيعة المسخرة لنا؟ هل كل شيء فيها صالح في كل وقت ولكل شخص؟ كلا .. إذ ان حقيقة الأشياء مختلفة ، وكل شيء نافع لوقت ولشخص ، بالرغم من انها جميعا خلقت للبشر.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ)

٣٠

ما أظهره الله في الأرض وما انشأه وفطره من اجلكم ولمنفعتكم.

(مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)

[١٤] والله سخر الطبيعة للإنسان ، ولكن على الإنسان ان يسعى هو بدوره من أجل إنجاز هذا التسخير في بعض الأحيان ، فليس النّعم تأتي دائما كماء السّماء ، بل قد تحتاج الى معالجة جادة والى المخاطرة كالصيد في البحر. والسّفر عبره للتجارة.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها)

فالبحر مثل مخزن كبير لأفضل أنواع اللحوم تحصل عليها فيه بأقل جهد وكذلك للحلى.

(وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ)

المخر : شق الماء عن يمين وشمال. ويحدث هذا الشّق صوتا يشبه صوت العاصفة ، وهنا يذكرنا القرآن بمرحلة رابعة للعلم هي :

دال : مرحلة الاستفادة العملية من العلم ، تلك التي نسميها اليوم التقنية ، وربما يسميها القرآن بالاكتساب.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

أي تسعوا في البحار للحصول على رزقكم الّذي هو فضل الله ، وبعدها تأتي المرحلة الخامسة وهي :

هاء : مرحلة الرضا النّفسي ، ذلك الّذي يفرزه الشّكر فان إشباع حاجات الجسد

٣١

عن طريق النّعم لا تكفي ، إذا ظلت النّفس قلقة ، تحرص أبدا على شيء مفقود ، اما إذا شكر الإنسان ربه ، وعرف ان النّعمة ليست من حقه ، بل هي من فضل الله ، وتذكر الأيام التي كان يحتاج إليها وكيف حصل عليها بسعيه أو برزق الله ، فان نفسه تمتلأ سكينة وهدوءا «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وتبقى أمامنا درجة نعرج فيها الى ذروة الكمال في درجات العرفان ، وهي درجة الهداية التي تذكرها الآية التالية.

[١٥] كما السّفينة في اعالي البحار بحاجة الى مرساة تحفظها وسط الأمواج المجنونة ، كذلك الأرض التي تسبح في الفضاء تدور حول محور الشّمس ، بحاجة الى ثقل يرسيها ويوقف اهتزازها ، والجبال هي تلك المراسي.

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ)

أي وضع الله فوق الأرض جبالا عالية.

(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)

أي لكي لا تتحرك بكم فتزعجكم إنّ الجبال متصلة من الداخل ببعضها ، لتكون حصنا منيعا للأرض يمنع الزلازل والهزات التي يتعرض لها كوكبنا بسبب الغازات الداخلية. كما انّ الجبال تمنع العواصف الشّديدة التي تجوب سطح الأرض باستمرار ، وتمتص قوتها وهي ـ في ذات الوقت ـ تعطي قوة اضافية للأرض لمقاومة جاذبية القمر ، وفجر خلال الجبال عيونا. بسبب مخازن المياه العظيمة في بطن الجبال.

(وَأَنْهاراً)

٣٢

ولقد كان من الممكن ان تمنع الجبال اتصال البشر ببعضهم ، بيد أنّ الله هيأ بينهما سبلا وهذه من أعظم النّعم الإلهية حيث انك لا تجد سلسلة جبال متراصة كالجدار يفصل بين الأراضي.

(وَسُبُلاً)

كيف يهتدي الإنسان الى مآربه في الأرض عبر هذه السّبل؟ هكذا ينبغي ان يهتدي الى الحقائق من وراء الآيات ، إذ الآيات هي السّبل المؤدية الى الحقائق.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

[١٦] يهتدي البشر عن طريق معالم السّبل الى غاياته في الدنيا ، وهكذا ينبغي ان يهتدي عن طريق الآيات في الأرض وفي السّموات الى حكمة الله وقدرته.

(وَعَلاماتٍ)

كتلك التي يضعها على السّبل.

(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)

وإذا كان البشر يهتدي بالنجم الى سبيله في الأرض ، والعلاقة خفية بين النّجوم في السّماء وسبل الأرض ، فكيف لا يهتدي الى الله عبر آياته؟! وآيات الله أوضح شهادة. وأصرح دلالة ومن آياته في الأرض النّبيّون والأوصياء عليهم السّلام يهتدي بنورهم المؤمنون.

أفلا تذكرون :

[١٧] كيف لا يميّز بين الخالق والمخلوق ، بين اله السّماء والأرض ، وبين

٣٣

الأرباب المخلوقين العاجزين؟!

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)

[١٨] وأنّى ألقينا بنظرنا ، وجدنا آية عظيمة من آيات الله تدلّنا على أحديّته ، وأنّى تقلبنا فانما تحيط بنا نعم الله التي لا تحصى ، فلما ذا الجهل؟ ولماذا الكفر؟!

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

ان كل سنة الهية نعمة ، وكل موهبة نعمة ، وكل قدرة نعمة ، وكل عضو بل كل جزء من عضو ، بل كل خلية نعمة ، ان خلايا المخ تعد بالبلايين وفقدان كل خلية يسبب نقصا.

وربنا الغفور ذو الرحمة ، فلو لا غفرانه ، إذا لسلبنا بعض النّعم بسبب غفلتنا عنها وعن شكرها ، كما انه برحمته ، يفيض علينا من نعمه التي لا تحصى.

٣٤

وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)

______________________

٢١ [أيان] : في اي وقت.

٣٥

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)

______________________

٢٧ [تشاقون] : تخاصمون وتنازعون.

٢٨ [السلم] : الاستسلام والخضوع.

٣٦

التكبر أسبابه وجزاؤه

هدى من الآيات :

من الّذي تحق عبادته؟ الّذي خلق وأنعم وغفر ورحم أم الّذي لا يخلق ذبابا؟ حول هذا كان الدرس السّابق.

ونكرر من الّذي تحق عبادته؟ الله الّذي يعلم السّر وأخفى ، أم الذين يدعوهم المشركون ، من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهم يخلقون؟ وليس فقط لا يعلمون السّر ، بل ولا يملكون الحياة ، ولا شعور عندهم حتى يبعثون يوم القيامة؟!

والله إله الخلق أجمعين ، واحد لا شريك له ، أما المشركون فهم لا يؤمنون بالآخرة والسّبب ان قلوبهم جاحدة للحق لصعوبته عليها ، ولأنهم يفتشون عن العلو فهم مستكبرون.

حقا يعلم لله سرهم واعلانهم ، والله لا يحب المستكبرين الذين يبتغون علوا في الأرض ، فيخالفون الحق بوعي وإصرار ، لذلك يستصغرون الحق الّذي هبط عليهم من الله ، ويقولون انه أساطير الأولين.

٣٧

وهؤلاء يحملون أثقال ذنوبهم من دون ان تنقص عنهم بالتبرير ، ويحملون أيضا شيئا من ذنوب النّاس الذين يضلونهم ولبئس ما يحملون.

وأنّ المستكبرين يمكرون في آيات الله ، ويحاولون منع النّاس عنها بشتى الحيل ، كما فعل الذين من قبلهم ، ولكن الله ينسف بناءهم من الأساس فاذا بالسقف ينهدم عليهم ويهجم عليهم العذاب من حيث لم يحتسبوا.

أما في يوم القيامة فان الله يذلهم بان يقول لهم شماتة : اين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله وتشقون عصى الوحدة من أجلهم؟! فيسكتون. أما أهل العلم فإنهم يقرّون للمشركين الخزي والسّوء لكفرهم.

ومن هم الكافرون؟

أنهم الذين يظلمون أنفسهم ، وعند الموت يتبرءون من أفعالهم وينكرونها ، ويدعون انهم لم يكونوا يعملوا شيئا من السّوء ، بيد ان الله يخبرهم بعلمه بأعمالهم فيدخل كل منهم في النّار ، من باب الذنب الّذي ارتكبه ويبقى خالدا فيها ، وتلحقه اللعنة بسبب تكبره في الأرض.

بينات من الآيات :

من نعبد؟

[١٩] علم البشر محدود ويتكامل عبر مراحل ، ويختص بظواهر الأمور ، والله محيط علما بالسّر والعلن ، وبالسرّ قبل العلن ، لأن كل شيء يقع في السرّ قبل ان يعلن عن ظهوره.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ)

[٢٠] ومن يعلم السّر والعلن أحق بالدعوة ، ممن لا يخلق ولا يعلم!!

٣٨

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)

والسّؤال من هم هؤلاء؟

قالوا : هي الأصنام ، ويبدو لي أنهم الطغاة والمستكبرون الذين ترمز إليهم الأصنام ، ووفق هذه النّظرة نجري في تفسير الآيات التالية.

[٢١] إن أول صفات الآلهة المزيفة هي انها أموات ، لا علم لهم ولا قدرة الا بقدر ما يهب الله لهم من علمه وقدرته.

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ)

وربما جاء التأكيد على انهم غير احياء ، لان المراد بالأموات ليس حقيقة الموت ، فوجب التأكيد.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)

أي انهم ينتظرون الجزاء لكفرهم من دون معرفة يومه ، فهم مسئولون أمام الله.

قال الطبرسي (ره) وهو يفسّر الآيات : الأصنام أموات غير احياء ، وأكثر كونها أمواتا بقوله غير احياء ، لنفي الحياة عنها على الإطلاق ، وما يشعرون أيان يبعثون معناه : وما تشعر هذه الأصنام متى تبعث للجزاء ، وقيل في الآية هم أموات يعني الكفار في حكم الأموات ، لذهابهم عن الحق والدين ولا يدرون متى يبعثون! (١)

وإذا فسرنا الآيات بالأرباب الذين هم بشر ، لا نحتاج الى هذه التفسيرات والوجوه البعيدة عن ظواهر الآيات.

__________________

(١) عن كتاب نور الثقلين ج ٣ ص ٤٨.

٣٩

[٢٢] أما الإله الحق الّذي ينبغي ان تخلص العبادة له فهو الله. وليس عدم ايمان البعض به الا بسبب نقص فيهم ، حيث ان قلوبهم منكرة تستبعد ما يرد عليها من الحق.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ)

وسبب جحودهم هو طلب العلو والاستكبار.

(وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)

[٢٣] ولكنهم يخفون السّبب الحقيقي لجحودهم وهو الاستكبار ، وتكريس عبادة الذات ، بينما الله يعلم اسرارهم واعلانهم ، ويكره حالتهم هذه.

(لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)

كلمة لا جرم مأخوذة من الكسب (حسبما جاء في المجمع عن أبي مسلم) يعني لا يحتاج معرفة هذا الأمر الى اكتساب علم ، لأننا نفهمه بلا تكلف وبوضوح. وقال البعض إن (الجرم) بمعنى قطع التمر من الشّجر وإذا أضيف إليه (لا) فانه يعني ليس هناك شيء يقطع هذا الأمر أو يخالفه.

[٢٤] ولكي يغلفوا استكبارهم بتبرير مقبول عند النّاس ، تجدهم يحسبون أنفسهم تقدميين ، وينسبون الأفكار الصحيحة الى العصور الماضية ، وكأن الزمن يعتّق الحق ويجعله باليا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)

والأساطير جمع أسطورة ـ في مثل وزن أحدوثة ـ وهي ما كتب وربما توحي اللفظة بما كتب باطلا.

٤٠