من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

صالح ينذر قومه

هدى من الآيات :

أهلكت عاد ، وبنت ثمود مدينتها فبعث الله إليهم واحدا منهم (صالحا) ودعاهم الى توحيد الله ونبذ الشركاء من دونه ، وبين لهم ان مدينتهم ليست من عمل الشركاء بل من نعم الله ، فهو الذي انشأهم واستعمرهم في الأرض ، وان عليهم ان يستغفروه ، ويصلحوا أخطاءهم الماضية ، وان يتوبوا اليه فيعملوا في المستقبل بهداه فانه قريب يسمع استغفارهم ، ومجيب يحقق طلباتهم ، ولكنهم رفضوا رسالة صالح لا لأنهم شكوا فيه وفي أمانته وأخلاقه ، ولا لأنهم لم يفقهوا ابعاد الرسالة ، بل لأنهم تعصبوا لآبائهم ، وقال صالح : انه على بينة واضحة ، وان الله سبحانه قد منح له فضلا منه ورحمة فهو لا يترك ربه ليسمع كلام قومه الذين لا يزيدونه غير خسارة وضرر. وحين طالب قومه بآية قال لهم : هذه ناقة الله. أنها آية لكم فاتركوها تأكل في ارض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب.

هكذا كانت رسالة صالح الى ثمود على نهج رسالات الله الى قوم نوح وعاد ،

٨١

داعية الى توحيد الله ، وكان جواب الجاهلين واحدا وهو التعصب للآباء ولأفكارهم الباطلة ، أما العاقبة فهي واحدة ، كما سيأتي في الدرس القادم (إنشاء الله).

بينات من الآيات :

ركيزة الحضارة :

[٦١] من ميزان رسالات الله ، انها تأتي بلغة الذين تهبط لهم ، وعلى يد واحد منهم ليكون أبلغ في التأثير ، وابعد عن العصبية.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً)

يقال بان ثمود قوم عرب عاشوا في القرى بين الشام والمدينة.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)

ونزلت هذه الكلمة على رؤسهم كالصاعقة لأنها استهدفت تغيير مسار تفكيرهم ، ومنهج حياتهم وقيم سلوكهم ، ونظام مجتمعهم السياسي والاقتصادي.

عبادة الله يعني القبول بمناهجه وقيمه. عبادة الله تعني نبذ المسلّمات الثقافية التي يؤلهها الناس ، ويعتبرونها مقدّسة لا يحوم حولها ريب ، ولا يقترب إليها التفكير ، ولا يتناولها النقاش ، تلك المقدسات الموجودة في كتب الكهنة ، والتي يحكم من يخالفها بالخروج عن المجتمع ، ويجازى بأشد العقاب.

وعبادة الله تعني بالتالي رفض سلطة رؤساء العشائر ووجهاء البلد ، وأصحاب الثروة والقوة ، لذلك كانت ردود الفعل الاولية لهذه الدعوة ، هي الرفض المطلق خصوصا وان المستكبرين والمفسدين يوهمون الناس أبدا بأن التقدم والرفانه والأمن والازدهار وحتى الرزق الطبيعي الذي يوفر لهم كل ذلك جاء نتيجة الكيان

٨٢

الاجتماعي والثقافي ، والنظام السياسي والاقتصادى الذي يشرفون على تسييره ، فلو تزلزل الكيان وانهدم النظام فان كل الخيرات مهددة بالزوال هي الأخرى. لذلك ذكرهم رسولهم صالح (ع) بأن الخيرات إنما هي من الله الذي انشأهم ، وجعلهم قادرين على عمارة الأرض.

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها)

فالله هو الذي أودع في البشر الطموح وأعطاه القدرة ، وطوع له ما في الأرض ، وتلك هي شروط عمارة الأرض وبناء المدينة ، وليس النظام الفاسد سوى سارق لخيرات الناس ، وهاد لهم الى الهلكة. ولولا رفض الناس للنظام الفاسد ، وعودتهم الى الطريق المستقيم فان المدينة مهددة بالفناء.

(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)

فمن أسماء الله الحسنى ، وكذلك من نعمه الكبرى هي انه سبحانه وتعالى فتح امام الناس باب الاستغفار والتوبة ، واعطى الناس القدرة على تصحيح مسيرتهم الضالة ، وتطهير آثار الماضي الفاسد ، كما أعطاهم الفرصة لفتح صفحة جديدة مع الله ، ومع سنن الله ، ولنا في هذه الآية وقفتان للتدبر :

الاولى : ان ما في عالم اليوم من مدنية مزدهرة ، ليست بسبب الأنظمة الجاهلية الحاكمة هنا وهناك ، فليست الرأسمالية المادية ، ولا الاشتراكية الجاهلية هما سبب تقدم امريكا وأوروبا واليابان من جهة ، وروسيا وأوربا الشرقية من جهة ثانية ، ولقد رأينا كيف ان بلدانا كثيرة في العالم الثالث ازدادت تخلفا لما قلدت الغرب في ماديتها الرأسمالية ، أو الشرق في جاهليتها الشيوعية أو الاشتراكيّة ، فمصر عبد الناصر لم يزدها تقليدها للشرق إلّا سوء ، وكذلك مصر فاروق وأنور السادات ، ما ازدادت بالرأسمالة إلّا سوء ، والسبب : أن التقدم لم يكن بسبب النظام

٨٣

المادي ولا حتى بسب فصل الدين عن السياسة ، أو الانفصال عن الجذور التاريخية مثل ما فعلته تركيا اتاتورك ، وانما السبب وراء المدنية والتقدم هو السعي من أجل عمارة الأرض عبر الالتزام بسنن الله الصالحة ، كالعمل والاجتهاد والتعاون والتطلع ، وما دامت هذه الشعوب ملتزمة بهذه السنن فهي تحافظ على مكاسبها ، وحين تنحرف وتعوض عن السعي بالفخر ، وعن الاجتهاد بالغرور ، وعن التعاون والتطلع بالمفاخرة والاستغلال ، فانها مهددة بفقدان مكاسبها ، وهذه الحقيقة تدعونا الى الإعتقاد بأن الأنظمة المادية ، والعادات الجاهلية السائدة على الشعوب المتقدمة سوف تضيع مكاسبها وتفسد مدنيتها ، وان بداية الضياع هو تجيير جهود الناس ومساعيهم لمصلحة فئة الأغنياء المتسلطين في الغرب ، أو حزب المستكبرين الحاكم في الشرق.

الثانية : ان الحضارات البشرية تبدأ بتطبيق سنن الله في تسخير الحياة كالسعي والتعاون ولكنها تنسى دور هذه السنن في تقدمها ، وتتوجه الى الأصنام وتزعم انها هي واهبة التقدم والرفاه ، وهذا الانحراف عادة بشرية تكاد تكون سنن ثابتة لولا حرية البشر التي تتحداها ، ولولا رسالة الله التي تذكر البشر بهذه الحرية ، ومن هنا لا يعترف الإسلام بحتمية الانهيار في الحضارات ، بل يضع لها فرصة الاستمرار عن طريق إصلاح نفسها ، والتوبة الى سنن الله ، وهذا ما تشير اليه هذه الآية التي تعطي المزيد من الأمل في الاستمرار في نهايتها وتقول : إن الله قريب مجيب ، أيّ ان إصلاح الفاسد ، وتجديد الحضارات (بالاستغفار والتوبة) أيسر مما يزعم البشر.

ضلالة الآباء أم هدى الرسالة :

[٦٢] وكان قوم صالح غارقين في الماضي يعتزون بامجادهم الغابرة ، ويقلدون آباءهم ، ولذلك عادوا صالحا بالرغم من ثقتهم بشخصه.

٨٤

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا)

ولقدسية الماضي في أعينهم ارتابوا في الرسالة سلفا ومن دون تفكر ، وقالوا :

(وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)

ربما تشير الآية الى ان قوم صالح لم يكتفوا بالشك فيه ، بل اتهموه بالباطل ردا على تجهيل آبائهم ، ورميهم بالضلالة.

[٦٣] ودافع صالح عن نفسه ، وبين سبب استقامته على هدى الرسالة رغم ضغوطهم ، وضرب لهم مثلا بعمله هذا ، لكي يقاوموا ضغط الماضي ، ويتحرروا من قيوده ، فبين انه على سبيل واضح بينه له ربه ، وقد انتهى به السير في السبيل الى تحقيق مكاسب عملية من الهدى والطمأنينة و.. و.. وانه يخشى ربه ان عصاه ، وأنهم لا يقدرون على تقديم العون له.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً)

فلما ذا لا تشكون في طريقتكم ، وتفكرون بأن هذا الطريق قد يكون صحيحا؟! لا سيما وهناك خوف الضرر.

(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ)

ان البشر يفكر في تغيير طريقته لو أحس بالخطر وخاف منه ، ولذلك ينبه القرآن الى احتمال الخطر في حالة عدم التفكير في صدق الرسالة.

(فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)

٨٥

فبالإضافة الى احتمال الخطر ، هناك احتمال الضرر والخسارة ، وانعدام الربح والكسب.

[٦٤] وكآخر محاولة لهدايتهم ، ولقطع حجتهم ، وبعد أن طالبوه بالآية الواضحة ، أخرج الله لهم ناقة ، وقال لهم صالح (ع) :

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ)

٨٦

سورة هود

فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)

٨٧

الا بعدا لثمود

هدى من الآيات :

انتهى وضع ثمود بمواجهة الرسالة وعقروا الناقة ، وحانت ساعة الجزاء الشديد ، حيث أمهلهم الله ثلاثة أيام فأتاهم وعد الله غير مكذوب ، ونجى الله صالحا والذين آمنوا معه نجاة نابعة من رحمته ، وانقذهم من خزي ذلك اليوم المعيب ، وتجلت صفتا القوة والعزة لربنا الجليل ، فبقوته قدر على إهلاك الأعداء ونجاة المؤمنين ، وبعزته فعل ذلك ، وكان نوع العذاب صيحة أخذت الذين ظلموا فأصبحوا كأنهم هامدين في ديارهم ، وانتهى كل شيء ، ولم يبق من ثمود اي اثر كأنهم لم يكونوا هنا ، ولم يتمتعوا بالرفاه وان ذلك كان جزاء كفرهم الذي سببه ابعادهم عن رحمة الله.

بينات من الآيات :

جزاء السكوت :

[٦٥] جاءت نهاية ثمود التي انحدروا إليها شيئا فشيئا بسبب استكبارهم عن الحق ، وذلك حينما عقروا الناقة الاية الإلهية التي طالبوا بها ، والتي لم تكن تضرهم

٨٨

شيئا ، بل كانت تنفعهم ، ولم يعقر الناقة سوى أشقاهم وهو شخص واحد ، إلا ان رضا الجميع بفعله وسكوتهم عنه جعلهم شركاء في الجريمة ، ونسبت الخطيئة إليهم جميعا.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)

ان السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية الفاسدة هي التي بادرت بعقر الناقة في جو من الاستسلام الساذج ، وكانت تلك النتيجة الطبيعية للجمود والتقليد والاعتزاز بالمكاسب ، وهكذا كان شأن الديكتاتوريات عبر التاريخ ، انها تنوم الناس على انغام المكاسب الظاهرة فتسلب منهم قدرتهم على التفكير السليم بعدئذ تقوم باستغلالهم واستثمار طاقاتهم حسب ما تشاء ، وتوردهم المهالك من دون اي خوف من التمرد أو المقاومة.

[٦٦] وهكذا فعلت السلطات المستكبرة بقوم ثمود ، ولكن ثمود هي التي فعلت بنفسها هذه الجريمة حين سكتت في أول الأمر عن تلك السلطات. ان الرضا بالديكتاتورية هي الخطوة الأولى الى المجزرة ، لان الديكتاتورية تسلب أعز شيء عند الإنسان هو عقله وتفكيره ... فيكون ضررها أكبر من نفعها مهما كان نفعها كبيرا. لذلك جاء الأمر الالهي الحاسم.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)

العزة هي مظهر القوة في الحقل الاجتماعي ، والله لا يدع قيم الحق قائمة في النفوس والعقول وبين اضلع الكتب والخطب ، بل يجسدها في ضمير الواقع فاذا بالظلم يتحول إلى ظلمات ، والجريمة الى عقاب ، والفساد الى خراب.

٨٩

[٦٧] وإذا بالسكوت عن الظلم ، والرضا بالجريمة ، والاستسلام أمام الفساد يتحول كل ذلك الى صيحة مدمرة. هي صيحة الحق الذي سكتوا عنه ، وهي عقاب الجريمة التي رضوا بها ، وهي نهاية الفساد الذي استسلموا له.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ)

لقد كانت الصيحة في لحظة واحدة بحيث اسكتت حناجر الساكتين عن الظلم ، واهمدت حركة المغرورين بمكاسبهم ، وجعلتهم يسقطون على وجوههم (في حالة الجثوم) تلك الوجوه التي استكبرت عن قبول الحق.

[٦٨] اين تلك الديار التي تمتعوا بها وأقاموا دهرا فيها؟! اين الصخب والحركة ، واين العمارة والأثاث؟! لقد شمل التخريب الساحق كل زاوية من زوايا ديارهم ، وكأنها كانت خالية من السكان ...

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها)

اي لم يقيموا فيها.

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)

لقد كفروا بعبادة الله وبرسالته ، وبرسول الله الذي بعث ليطاع باذنه ، ولكن كفرهم هذا كان ـ في الواقع ـ متوجها مباشرة الى ربهم جل جلاله ، وهذه هي الحقيقة الكبرى التي ينساها أو يتجاهلها البشر فيفصل بين الله ورسالاته ، ويريد ان يكفر بالرسالات كفرا عمليا ويحتفظ بإيمانه بالله ، وهذا هو التناقض البعيد والمستحيل.

ان ثمود بعدت عن رحمة الله ، وعن الذكر الحسن ، وعن ثواب الآخرة بسبب محاولتها الفصل بين الله ورسوله. فهل نكرر التجربة؟!

٩٠

سورة هود

وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)

____________________

٧٠ [أوجس] : الإيجاس الاحساس وأوجس ، ويقال أوجس خوفا أي أضمر.

[خيفة] : خوفا.

٧٢ [بعلي] : البعل الزوج وأصله القائم بالأمر.

٩١

أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ

هدى من الآيات :

يتابع السياق القرآني قصة الرسالة في عهد إبراهيم (ع) ، ويلخص قصته التي تتصل بقوم لوط. ويبدأ الحديث بجو السلام والبشارة التي يختلط بها الخوف ، لقد جاءت رسل الله وملائكته الى إبراهيم (ع) يزفون اليه البشرى بأبنائه ـ الذين كانوا يشكلون امتدادا لخطه ـ ، وهلاكا لأعدائه.

فجاء إليهم إبراهيم بالطعام وكان عجلا مشويا ، ولكنهم لم يلامسوه فتوجس منهم خيفة ، وأثير عنده سؤال : لماذا لا يأكلون؟! فطمأنوه وقالوا : اننا رسل الله وقد أرسلنا الى قوم لوط ، وبينما كانت امرأته قائمة تصلي أو تقوم بخدمة الضيوف ضحكت تعجبا وفرحا بهلاك قوم لوط فبشرها الله بإسحاق ومن بعده يعقوب ، ولم تتمالك من شدة التعجب فصاحت : كيف ألد وانا عجوز وبعلي شيخ طاعن في السن؟! فردّ عليها الرسل قائلين : لماذا تعجبين من امر الله. ان رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت لان الله يفعل ما يحمد عليه وهو رفيع المقام سبحانه؟!

٩٢

هكذا مهد الله لقصة أصحاب لوط الذين كانت رسالة إبراهيم (ع) ـ نازلة لهم أيضا ـ.

بينات من الآيات :

إبراهيم والبشارات الثلاث :

[٦٩] ظل إبراهيم يقاوم ويقاوم. ولم يرق الى قلبه السامي اليأس أو الشك ، وحانت الآن ساعة البشارة المنتظرة. لقد أرسل الله اليه رسله بصورة رجال حسان الوجوه تعظيما له وتكريما لجهاده الطويل ، فجاءوا يبشرونه :

أولا : بان الله اذن له بالنصر.

ثانيا : بان أعداء الرسالة سيهلكون ، الا وهم قوم لوط الذين بعث الله إليهم أول المؤمنين برسالة إبراهيم.

ثالثا : بأن الله سوف يرزقه ـ بعد طول المعاناة واليأس ـ أولادا يتابعون دربه ...

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ)

تبادل رسل الله أول ما تلاقوا مع إبراهيم (ع) وربما كانوا الوحيدين من ضيوف إبراهيم الذين اخرجوا الشيخ الذي أكلت سنون النضال عمره المبارك من غربته الروحية في رحم الصحراء. لذلك بادر إبراهيم بإحضار الطعام السمين إليهم وهو عجل مشوي.

(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)

العجل ولد البقرة والحنيذ المشوي.

٩٣

[٧٠] وانتظر إبراهيم ضيوفه ليأكلوا أو حتى ليبادروا الى التهام العجل الحنيذ على عادة الراحلين عبر الصحراء ، ولكنهم لم يفعلوا ، فأنكرهم كيف لا يأكلون؟! وخاف منهم لأن الضيف الذي لا يأكل يضمر الشر ، ولكنهم سرعان ما بددوا خوفه الذي أحس به ، واظهروه على حقيقة الأمر ، وأعلنوا مهمتهم وهي بشارته بهلاك قوم لوط بعد طول عنادهم.

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ)

[٧١] وظهرت في الصورة المرأة الصبورة التي رافقت زوجها إبراهيم في جهاده الطويل وهي سارة بنت هارون ابنة عم إبراهيم ، وزوجته ورفيقة دربه ، فاذا بها تضحك من بشارة الرسل وهي قائمة تصلي ، أو تخدم الضيوف.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ)

وهنا بادر الرسل بإطلاق البشارة الثانية والأعجب حيث بشروها بانجاب الأولاد ...

(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)

[٧٢] وتعجبت كيف تلد وهي عجوز وزوجها شيخ طاعن في السن.

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)

[٧٣] وعاد الرسل يبشرونهم بثالثة البشارات وأعظمها وهي مرضاة الله التي تتجسد في الرفاه والخير والرحمة من الله ، وفي الانتشار والتقدم والتعامل ، وبالتالي البركات من جهة ثانية ، لأنهم أهل بيت الجهاد والايمان ولأن الله حميد مجيد.

٩٤

(قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)

ان ربنا يحمده الناس بكرمه وفضله الواسع.

٩٥

سورة هود

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا

____________________

٧٤ [الرّوع] : الافزاع ، ويقال راعه يروعه إذا أفزعه ، وارتاع ارتياعا إذا خاف ، والرّوع بضم الراء النفس يقال ألقى في روعي في نفسي ، وسميت بذلك لأنها موضع الروع.

٧٥ [آواه] : كثير الدعاء.

[منيب] : راجع الى الله سبحانه في جميع أموره.

٧٧ [سيء بهم] : ساءه مجيئهم.

[ذرعا] : طاقة ووسعا.

[عصيب] : الشديد في الشر ، وأصله من الشر يقال عصبت الشيء أي شددته.

٩٦

اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)

____________________

٨٠ [ركن] : الركن معتمد البناء بعد الأساس.

[شديد] : الشدة تجمّع يصعب معه التفكك.

٨١ [بقطع] : القطع القطعة العظيمة تمضي من الليل ، وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين.

٨٢ [سجيل] : الحجارة الشديدة.

[منضود] : متتابع في الإرسال أي بعضه يلاحق بعضا ، والمنضود من نضدت الشيء بعضه على بعض.

٨٣ [مسومة] : المسومة من السيماء وهي العلامة.

٩٧

جعلنا عاليها سافلها

هدى من الآيات :

وبعد ان ذهب عن إبراهيم الروع بسبب خوفه من الملائكة المرسلين. واستلم منهم البشرى. هنالك أخذ يتضرع الى الله لنجاة قوم لوط. حقا كان إبراهيم قمة في الحلم. حيث لا يزال يرجو نجاة قومه. وقد اكتسب ذلك بعلاقته بربه العظيم. بيد ان الله أخبره ان أجل قوم لوط قد أتى. وان لا مرد لعذاب الله.

في الجانب الآخر من الصورة نجد لوطا (ع) يضيق ذرعا بالمرسلين ، لعلمه بفساد قومه الذين أخذوا يهرعون إليه ، استمرارا لعاداتهم السيئة. وطلب منهم لوط ان ينكحوا النساء اللاتي هن اطهر لهم من الشذوذ. ورجاهم بألا يتعرضوا لضيفه. وانتخاهم وقال أليس فيكم رجل رشيد؟!

فرفضوا. وعرف لوط الا ملجأ له الا الله ذا الركن السديد. هنالك كشف الرسل عن أنفسهم. وطمأنوه وأمروه بأن يترك المدينة ليلا. لأن ميعاد العذاب قريب عند

٩٨

الصباح وهكذا جعل الله مدن قوم لوط عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود. سجلت باسمهم. وكانت جزاء الظالمي. وهلكوا وبقيت منهم عبرة للتاريخ.

بينات من الآيات :

[٧٤] حين سكنت نفسية إبراهيم (ع) من المفاجآت ، وبشّر بالنصر ، عاد إليه حنانه المتدفق نحو إنقاذ الناس من الجاهلية ، وأخذ يجادل ربه في قوم لوط ويتضرع اليه ان يؤتوا فرصة اخرى للهداية.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ)

[٧٥] ويشهد جدل إبراهيم (ع) ودفاعه المستميت عن الناس على مدى اهتمام الرسل بالناس ، وان دعوتهم ليست من أجل مصالح ذاتية ، بل من أجل حبهم العميق للآخرين.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)

فبحلمه العظيم صبر على أذى قومه ، على أمل ان يهتدوا في يوم من الأيام ، ولا يزال ينتظر هدايتهم لا هلاكهم ، ولأنه دائم التضرع الى الله ، وقلبه متصل أبدا بالله عن طريق المناجاة نراه يدعو الله لكي ينقذ قوم لوط ، ويعطيهم فرصة اخرى للهداية دون ان يعلم الغيب ، وانه لا أمل فيهم أبدا ، ولذلك فهو أواه ، بيد انه يسلم لله الأمر وينيب الى ربّه ولا يجعل الدعاء إذا لم يستجب سببا لعدم رضاه من الله فهو إذا منيب.

[٧٦] ولأن إبراهيم منيب تجده يعود عن قراره بطلب الخلاص لقوم لوط ، وذلك

٩٩

حين قال له ربه :

(يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)

فما دام الأمر لم يصبح جديا ومحتما يجوز ان يسعى الفرد لتغييره ، بالعمل أو بالدعاء ، وأما إذا قضى الله أمرا فلا يمكن تغييره.

في ضيافة لوط (ع):

[٧٧] وانتقل رسل الله من عند إبراهيم (ع) الى بيت لوط (ع) ، وحدثت هناك المفاجأة الثانية حيث ضاقت الأزمة لتنفرج ، واشتدت لتحل.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ)

ان لوطا (ع) حسب ان هؤلاء الرسل الذين جاؤوا إليه في صورة فتية حسان الوجوه ، حسبهم انهم ضيوفه وكان قومه يفعلون الفاحشة بالضيوف ، لذلك استاء منهم وضاق ذرعا بحضورهم ، ورأى ان ذلك اليوم شديد عليه ، وانه لا حيلة له في عمل شيء أبدا ، لأنه وحيد بين قوم طغاة لا يؤمنون بدين ، ولا يدينون بشرف.

[٧٨] ولما رأى قومه الفتية أسرعوا الى بيت لوط (ع) ليفعلوا ما اعتادوا عليه من الفاحشة ، ودعاهم لوط (ع) الى ترك الشذوذ الجنسي والعودة الى سنة الله في الحياة بالزواج من البنات.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)

أي يسرعون الى بيته.

١٠٠