من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

يوسف خطة حكيمة

هدى من الآيات :

فلما اعترفوا بجزاء السارق. امر بتفتيش أمتعتهم ، ولكن بدأ برحالهم ، ثم فتح امتعة أخيه واستخرج الصاع منها ، وحق له ان يحتفظ بأخيه عنده جزاء سرقته ، بينما لم يكن بإمكانه حسب انظمة الملك ان يفعل ذلك الا ان الله علمه خطة حكيمة ، وهكذا يتفاضل الناس في العلم بما يعلمهم الله سبحانه.

ولكي يبرءوا ساحتهم قالوا بأنه ليس شقيقنا ، وان شقيقه يوسف كان قد سرق هو الآخر ، فكتم يوسف الحادثة في نفسه ، واكتفي بان قال لهم : كلا .. أنتم شر مكانا بما تتهمون شخصا غير حاضر ، كما توافقون على تهمة غير ثابتة بحق أخيكم ، والله اعلم بما تقولون!!

ولكنهم لم يقدروا على فصل مصيرهم عن مصير أخيهم بعد ان أخذ منهم أبوهم الميثاق ، فتوسلوا بالعزيز للعفو عنه لمكان والده العجوز ، وطلبوا منه ان يأخذ أحدهم مكانه ، ولكنه رفض وقال : انه ظلم ان نستعبد غير السارق ، أما هم فتنكبوا جانبا

٢٤١

وتناجوا بينهم ، فذكرهم كبيرهم بعهده الإلهي مع أبيهم ، وبما فعلوا سابقا بيوسف ، وقال : اني سأبقى هنا حتى يسمح لي أبي ، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ، وأمرهم بأن يعودوا الى أبيهم ، ويقولوا له ان ابنك سرق ، ولكنا لا نشهد ضده الا بقدر ما علمنا من ظواهر الأمور دون ان نعلم الغيب ، وبإمكانك ان تسأل أهل مصر ، أو تسأل القوافل المسافرة. وانا لصادقون.

بينات من الآيات :

استخراج السقاية :

[٧٦] بدء يوسف يفتش اوعية اخوته من أبيه التي كانت مليئة بالحنطة بتهمة وجود الكيل داخلها ، ولم يفتش متاع أخيه الا أخيرا ، فوجدوا الصاع فيه.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ)

اي استخرج السقاية من امتعة أخيه من امه بنيامين ، وانما فعل كل ذلك مبالغة في السرية ، واحكاما للخطة.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ)

اي هكذا علمنا يوسف الخطة والكيد : كل فعل لا يعرف الآخرون هدفك منه الذي قد يكون الإضرار بهم أو الانتفاع منهم دون معرفتهم بوجهه.

ولم يكن باستطاعة يوسف وهو عزيز مصر ان ينفذ قانونا اجتماعيا يرعاه ملك مصر. ان يظلم الناس ، ويستعبد الذين جاؤوا لشراء الطعام الا بالكيد الذي علمه الله.

(ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

٢٤٢

ولقد شاء الله ان يأتي بعائلة يوسف الى مصر ، فعلّم يوسف هذه الخطة ، واجرى مشيئته على يد وليه الصالح يوسف (ع) وهكذا نعلم ان محتوى الأحكام الشرعية والحكم البالغة التي هي وراء سن الأحكام ، وتشريع الأنظمة وان الله كلف الأنبياء بقدر عقولهم ، فمنهم من فرض عليه التقيد بحرفية الأنظمة الشرعية كسائر الناس ، ومنهم من أوجب عليه العمل وفق الغايات السامية التي يوحي بها إليهم الله ، ليحققوا مشيئة الله كالأنبياء والأئمة والعلماء الذين بدورهم يختلفون في درجاتهم ، وعلى الأقل علما منهم ان يهتدي بنور الأكثر علما ، والله يرفع من يشاء بحكمته وعلمه ممن هم أصلح من غيرهم.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)

خبث التهمة :

[٧٧] فور ما تراءى لهم ان أخاهم قد سرق نسوا عهدهم مع والدهم يعقوب بإعادة أخيهم بنيامين اليه سالما ، ونسوا ما فعلوه بأخيهم يوسف ، فاذا بهم يؤكدون تهمة أخيهم ، ويتبرءون منه ، ويعودون الى اتهام يوسف بالسرقة أيضا.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)

وبذلك اخطأوا مرتين : عند ما أكدوا تهمة بنيامين ، وعند ما اتهموا أخاه يوسف بالسرقة من دون اي سبب سوى إنقاذ أنفسهم من المشكلة ، ويبدو ان شبح الجريمة التي قاموا بها بحق أخيهم يوسف ظل يلاحقهم ، فاذا بهم حساسون من إلصاق اية تهمة بهم خشية ان يفضح أمرهم ، وإذا بهم لا يزالون يبررون بيعهم لأخيهم الحر بأنه كان قد سرق ، فاستعبد وبيع جزاء سرقته ، وكانت التهمة شديدة الوقع على قلب يوسف ولكنه ملك نفسه ، ولم تظهر على ملامحه آثار الغضب.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ)

٢٤٣

ولكنه اكتفي بتأنيبهم على ذكر أخيهم بسوء.

(قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً)

ويطرح المفسرون هذا السؤال : ماذا كان التبرير الظاهر ليوسف حينما قال لهم : «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً»؟ فأجاب بعضهم : ان هذا القول أسره يوسف في نفسه دون ان يبديه لهم ، وبعضهم قال : بل ظهر للناس الشقاق القائم بينهم وبين أخيهم بنيامين مما كان يكفي لتأنيبهم ، وربما كان يوسف يذكرهم بأن جفاءهم لأخيهم هو السبب في سرقته لو انه فعلا ارتكبها ، ولكنه هز ضميرهم بقوله :

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ)

وانه هل هو فعلا صحيح أم لا؟ وبالتالي. هل قد سرق اخوه أم ان ذلك ليس سوى تهمة؟

[٧٨] وتذكروا موقفهم مع أبيهم يعقوب ، واكتشفوا ان مصيرهم بالتالي مرتبط بمصير أخيهم ، فأخذوا يتضرعون الى عزيز مصر بأن يعفو عن أخيهم أو ان يأخذ أحدهم مكانه.

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

وهكذا يتردد البشر بين حالتين متناقضتين فبين ان يتهم الأبرياء بالسرقة وبين ان يفدي بنفسه في سبيل الوفاء بعهده.

[٧٩] اما يوسف (ع) الذي رتّب كل تلك الخطة للإبقاء على أخيه عنده ، فرفض العرض.

٢٤٤

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ)

وذكرهم بذلك ان الإحسان يجب الا يمنع تنفيذ القوانين السائدة. والا ينقلب الى ظلم ، فالإنسان يحسن في إعطاء ماله وما هو اولى به ، ولا يحسن في اموال الناس وحقوقهم ، ولذلك جاء في الإسلام :

«لا شفاعة في حد»

الموقف المسؤول :

[٨٠] ألحوا على يوسف ـ عبثا ـ بترك أخيهم بأية وسيلة ممكنة ، فلما بلغوا حد اليأس اجتمعوا الى بعضهم يتناجون فقال كبيرهم وأسمه روبين كما يقال ، وهو ابن خالة يوسف وهو الذي نهاهم من قتله من قبل قال لهم : إننا قد عاهدنا الله عند أبينا الا نفرط في أخينا ، وقد كنا فعلنا مثله مع يوسف ، فتعهدنا وأخلفنا ، ولا يمكن ان نكرر الأمر ، واني سأبقى هنا انتظر امر الله ، فأما يأذن لي أبي أو يأذن لي ربي.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ)

قال ابن كثير : «استيأسوا منه» و «استيأس الرسل» ويئس واستيأس بمعنى مثل سخر واستسخر وعجب واستعجب.

ولكن يبدو ان اليأس هو : العلم الصادق بعدم فائدة المحاولة بينما الاستيئاس هو الظن بذلك الذي يداخله الضعف النفسي للبشر ، وإذا كان هذا المعنى صحيحا فان ذلك يعني ان اخوة يوسف كانوا غير مستقيمين نفسيا بسبب الجريمة السابقة التي ارتكبوها بحق أخيهم ، ولذلك فهم يأسوا سريعا ..

(خَلَصُوا نَجِيًّا)

٢٤٥

اي انفردوا عن الناس حتى أصبحوا خالصين من دون غريب يشاركهم الأمر ، وهدف خلوصهم وانفرادهم كان النجوى ، وهنا من أبلغ ما نفهمه من آيات القرآن في اناقة الظاهر وعمق الباطن ، وتنوع المعنى.

(قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ)

اي بعد ان أخذ أبوكم منكم موثقا أيضا.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)

اي حتى يأذن لي صاحب الحق أو صاحب التشريع ، وهكذا تجلت في أخيهم الأكبر روح المسؤولية ، وظهر انه تاب الى ربه توبة نصوحا.

[٨١] وأمرهم روبين وهو أكبر الأخوة بالعودة ، وبيان كل الحقيقة ومن دون اضافة آرائهم إليها ، قال لهم :

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)

ولكن دون ان تؤكدوا التهمة ، بل قولوا لأبيكم أيضا.

(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا)

إذ رأينا انهم اخرجوا السقاية من وعائه ، ولم نشهد بأكثر من هذا.

(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ)

لم نكن حافظين لما يجري في الواقع ، ولذلك لا نعرف هل سرق أخونا أم لا ، ولعله تهمة ، يبدو ان تفريطا حصل منهم بشأن أخيهم حيث قبلوا من دون تردد تهمة

٢٤٦

السلطات ضد أخيهم وذلك بسبب سوء ظنهم به وبأخيهم يوسف من قبل.

[٨٢] وبإمكانك ان تسأل المجتمعين ببلد مصر ، أو تسأل العائدين من هناك.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها)

اي أهل القرية.

(وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها)

اي : ايّ مسافر قادم مع قافلتنا.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ)

٢٤٧

سورة يوسف

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ

____________________

٨٣ [سوّلت] : زينت وسهلت.

٨٤ [يا أسفي] : يا حزني.

[كظيم] : الكظم اجتراع الحزن وهو أن يمسكه في قلبه ولا يبثه في غيره.

٨٥ [تالله تفتؤا] : لا تزال.

[حرضا] : الحرض المشرف على الهلاك.

٨٦ [البث] : الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه.

٨٧ [فتحسّسوا] : التحسس طلب الشيء بالحاسة.

٢٤٨

إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)

____________________

[روح الله] : الروح الراحة ، والروح الرحمة ، وأصل الباب من الريح التي تأتي بالرحمة.

٢٤٩

ولا تيأسوا من روح الله

هدى من الآيات :

وعاد اخوة يوسف (ع) الى أبيهم وبغم جديد ، وخرق للميثاق ، فلم يصدقهم يعقوب (ع) بان أخاهم سرق ، واتهمهم بتدبير حيلة جديدة ، ولكنه تذرع بالصبر الجميل ، ووضع كل أمله على الله العليم الحكيم ، وترك أبناءه وأعاد نوحه على ابنه يوسف (ع) وأسفه عليه حتى مشى البياض في سواد عينه ، وكادت تعمى ، وحتى بدى للناظر في مظهره المليء ، بالهموم. الكاظم نفسه عنها. أما هم فقد أشفقوا عليه وقالوا : انك لا تزال تذكر يوسف حتى تشرف على الهلاك أو تهلك فعلا ، ولكن يعقوب تمسك بهدى ايمانه فلم ييأس وقال : اني أشكو همومي واحزاني الى الله الذي اعلم انه ارحم الراحمين ، وانه يفي بوعده باستخلاف يوسف وسجود اخوته امامه وأمرهم بتكرار ، المحاولة لعلهم يقرون على يوسف ، ونهاهم عن اليأس الذي هو بضاعة الكفار الذين لا يؤمنون بالله وبرحمته الواسعة ، واستجاب اخوة يوسف لأمر والدهم الذي أشفقوا عليه ، وبلغ ندمهم على فعلهم السابق مبلغ التوبة النصوح.

٢٥٠

فذهبوا الى مصر ودخلوا على العزيز وقالوا له بلهجة المتضرع : اننا قوم قد أحاط بنا البلاء حتى تحسسنا بألم الفقر ، ولا نملك الا بضاعة رديئة. ونسألك ان تعتبرها جيدة فتوفي لنا الكيل بقدر البضاعة الجيدة ، وتصدق علينا بإطلاق أخينا فالله يجزي المتصدقين الذين يحسنون الى الناس ابتغاء مرضاته ، ورأى يوسف ان الوقت قد حان للكشف عن نفسه فقال.

هل تذكرون ما فعلتم بيوسف في أيام جهلكم تحسبون ان باستطاعتكم سلب حب أبيه عنه؟ وكان أبوهم قد أعطاهم الأمل في البحث عن يوسف ، وجاء سؤال العزيز عن يوسف غريبا فقالوا : أإنك لأنت يوسف. قال : انا يوسف وهذا اخي. انظروا كيف منّ الله علينا بسبب التقوى والصبر والإحسان ، وبالرغم من انفة اخوة يوسف الشديدة من الاعتراف بفضل يوسف سابقا. الا أنهم حلفوا الآن بالله بأن الله قد فضّله عليهم ، وانهم هم الخاطئون ، فعفي عنهم يوسف ، واستغفر الله لهم وأملهم من رحمة ربهم الذي هو ارحم الراحمين وطلب منهم العودة الى أبيهم مع قميصه ليستعيد بصره الذي فقده لحزنه ، وليأتوا بأهله جميعا ليشهدوا نعم الله عليه.

بينات من الآيات :

نفحات الأمل :

[٨٣] لماذا اتهم يعقوب أبناءه بالكذب بعد ما اخبروه بواقع ما جرى عليهم من احتجاز السلطات لأخيهم بتهمة سرقة صواع الملك ، وقال لهم بعد ما اخبروه :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً)

اي ان أهواء كم زينت لكم فكرة آمنتم بها انطلاقا من الهوى لا العقل لماذا؟

أولا : ان اخوة يوسف (ع) كذبوا أول مرة وكانت تهمة الكذب أقرب إليهم

٢٥١

لسوء سابقتهم في الخيانة.

ثانيا : ان اتهام السرقة الى أخيهم بمجرد وجود السقاية في وعائه ، كان نابعا من استصغارهم له ، وعدائهم الدفين له ولأخيهم يوسف.

ثالثا : ان تذليل أخيهم والتعصب لأنفسهم في مواجهته كان هو السبب لسرقته لو انه ارتكبها.

ولكن يعقوب (ع) تسلح بالصبر الجميل لمعالجة سوء أخلاق ابنائه ، وعنصريتهم المقيتة حتى ضد أخيهم الأصغر سنا منهم.

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)

اي عندي صبر جميل استعيض به عن مكركم ، وما تسوله لكم أنفسكم ، فلا أجزع لشدة البلاء ، فافقد رشدي وقوة احتمالي ، ولا أتردد في أن البلاء سيزول بأذن الله ، ولا أنطوي على نفسي بسبب المصيبة واترك العمل انتظارا لزوال المصيبة بذاتها أو بطريقة غيبية ، وبالتالي أضيف عامل الزمن (الصبر) الى سائر عوامل النجاح حسن التدبير ـ السعي ـ التوكل حتى ينصرني ربي ، ويدل على معنى الجمال في الصبر السياق القادم. يقول ربنا على لسان يعقوب :

(عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

[٨٤] وترك أبناءه موقتا ، ولكنه اثار فيهم عواطف الأبناء لوالدهم العجوز وقد أنهكته المصائب فابيضت عيناه حزنا ..

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ)

يبدو ان استمرار الكآبة افقد يعقوب قدرته على الرؤية. فتحول سواد عينه الى

٢٥٢

بياض شأنه شأن كبار السن ، ولا يجب ان يكون ذلك بسبب البكاء وحده. إذ ان الحزن المكبوت الذي يكظمه صاحبه قد يكون أشد أثرا على البشر من البكاء لذلك قال ربنا.

(فَهُوَ كَظِيمٌ)

اي يحفظ نفسه من آثار الحزن التي تظهر عليه ، ومنها فقد توازنه بأبعاد ابنائه عن نفسه والإسراع في عقابهم دون انتظار تربيتهم وهدايتهم.

تأثير البكاء على القلب القاسي :

[٨٥] يبدو ان قلب أبناءه القاسي بدأ الآن يلين لوالدهم الحزين فجاءوا اليه يواسونه ويطلبون منه التقليل من الحزن للإبقاء على صحته لكي لا يكون فاسد الجسم أو هالكا.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)

اي اننا نقسم عليك بالله الا تستمر على ذكر يوسف فتعجل مرضك أو موتك.

(حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)

الحرض المشرف على الهلاك.

[٨٦] ولكنه قال : كلا ان عاقبتي ليست الهلاك أو المرض بل سوف أبلغ هدفي لان اعتمادي على الله ، ولاني اعلم عن تعبير رؤيا ولدي يوسف. اني سوف أراه ذا شأن كبير. وهذا الأمل يحدوني الى الضراعة الى الله لتعجيل الفرج علي.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)

٢٥٣

البث هو ما ظهر من الحزن.

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

بث روح الأمل :

[٨٧] ثم دعاهم الى السعي بلا يأس ، وأمرهم بالتحرك والتفتيش عن يوسف وأخيه لمعرفته ان البلاء يرفع عند شدته.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا)

اي استفيدوا من احساسكم ولا تعتمدوا على نظر يأتكم التي قد يداخلها اليأس فتبدو لكم الحقائق أساطير ، ولا تعتمدوا على أقوال الناس التي قد لا تكون صحيحة ، وهذا امر صريح منه بضرورة الاعتماد على العلم خصوصا الحاصل من التجربة الحسية.

(مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ)

ان آفة التحسس والتفتيش عن الحقيقة هي اليأس والاعتقاد بقصر عقل الإنسان عن المعرفة وروح الله. ذلك الإلهام المفاجئ الذي يغمر قلب الباحث فيهتدي الى الحق.

ان العلم نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء ، وهو روح الله في هذا المجال ولكن لا يقذفه الا بعد ان يكون الفرد صالحا والذي لا يتحسس ولا يفتش بأحساسه عن الحقيقة لا يقذف الله نورها في قلبه.

(إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)

فالذين يكفرون بالله ويسترون نعمه عليهم. هم الذين ييأسون من روح الله.

٢٥٤

بين يدي يوسف :

[٨٨] وقام اخوة يوسف (ع) بشد الرحال الى مصر يحدوهم أمل جديد لانهاء مشكلة والدهم ، وقد بلغت الضراء بالنسبة إليهم حدا لا يطاق ، فدخلوا على يوسف في حالة يرثى لها إذ جاؤوا ببضاعة قليلة رديئة لا تساوي قدرا يذكر من الطعام ، وطلبوا منه ان يتقبلها منهم على أساس انها كاملة صالحة فيعطيهم من الطعام ما يعوض ضرهم. كما طلبوا منه ان يتصدق عليهم بإطلاق سراح أخيهم. طلبا لجزاء الله الذي أعده للمتصدقين.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ)

أصل الكلمة الدفع قليلا قليلا. وسميت البضاعة اليسيرة والناقصة بالمزجاة.

(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)

الصدقة أصلها من تصديق وعد الله.

[٨٩] لقد تحطم غرور اخوة يوسف (ع) على صخرة الواقع فها هم يجأرون الى عزيز مصر لكي يرحمهم ، ويطلبون منه التصدق عليهم ـ والجوع ـ ومشكلة والدهم ، وهاجس الذنب يقض مضاجعهم ، وكان الوقت إذا مناسبا ليكشف يوسف عن لغز القصة. فبادرهم بسؤال مفاجئ.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)

ففي أيام جهلكم وصغر سنكم وكبر غروركم. القيتم يوسف أخاكم البريء في غيابت الجب. واستصغرتم أخاكم الثاني ، ثم تركتموه عبدا عند الغرباء بعد ان أثبتم عليه تهمة السرقة واتهمتم أخاه يوسف بها ، والآن تطالبونني بالتصدق

٢٥٥

وتزعمون ان الله يجزي المتصدقين؟ الآن عرفتم هذه الحقيقة. أم لأنها في مصلحتكم توسلتم بها؟

وحل اللغز :

[٩٠] كان واضحا ان تقريع العزيز لم يكن عبثا ، وانما كان يتناسب مع شعورهم الداخلي لأن مشاكلهم انما هي بسبب ما فعلوه بأخيهم يوسف .. وهنا أدركهم روح الله الذي طلبوه بإرشاد والدهم يعقوب ـ فعرفوا ـ بلغته الذكية ان الذي يخاطبهم هو يوسف ذاته.

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)

قالوا بلحن السؤال المليء بالتعجب والشوق الى الجواب.

(قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا)

ولم ينسى يوسف ان يذكرهم بعبرة الحياة ويقول :

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

اي ان من يقاوم ضغوط الشهوات ، ويقاوم الحسد والحقد ، ويبقى مستقيما على تقواه. صابرا على المكاره التي تصيبه بسبب التقوى .. فان الله يجزيه بقدر إحسانه الى الآخرين ، والقرآن يؤكد في سورة يوسف على قيمة الإحسان لأهميتها في الملك ، وفي الحصول على مغانم الدنيا.

لحظات الاعتراف :

[٩١] فاعترفوا بذنبهم ، وبأن الله حين فضله عليهم فانما بعلمه وحكمته البالغة.

٢٥٦

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ)

إن خطأهم الأساسي كان في مقاومة سنة الله التي لا يزيدها رفض الناس لها الا عجلة.

[٩٢] اما يوسف (ع) الذي عرف عاقبة الغرور بالقوة ، وكيف ان اخوته قد أسكرهم خمر العصبية فقاموا بجريمة منكرة وحطموا مستقبلهم ، اما يوسف عرف ان زكاة النصر هي العفو فقد تسلح بقيمة الإحسان التي رفعته الى هذا المقام بإذن الله. وعفا عنهم بل وأعطاهم الأمل بأن يعفو عنهم الله لكي لا يلاحقهم شبح الجريمة فتتعقد أنفسهم ، وتسوء أخلاقهم فيقوموا بجرائم اخرى ..

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)

اي لا توبيخ ولا تقريع.

(يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)

[٩٣] ثم أمرهم بأخذ قميصه الى والده يعقوب. وهو ذلك القميص الذي تضوع بعبق جسده ذا النكهة الخاصة التي لا بد لأبيه الواله من معرفته بسبب تركز احاسيسه في لحظة المصاب وتذكره كل شيء من يوسف .. بسبب استمرار حضور يوسف في مخيلته رغم مرور أربعين سنة على فراقه.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)

ان الحزن البالغ الذي ذهب بنور عين الشيخ الواله .. يتبدل فجأة الى سرور بالغ فتنشط خلايا جسده جميعا ، ويعود بصيرا بأذن الله.

٢٥٧

سورة يوسف

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ

____________________

٩٤ [فصلت] : الفصل أصله القطع ، وفصلت العير بمعنى انفصلت من المدينة نحو الشام.

[تفنّدون] : التفنيد تضعيف الرأي والفند ضعف الرأي.

٢٥٨

مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)

____________________

١٠٠ [نزغ] : أفسد وحرش.

٢٥٩

من الرؤيا الى الحقيقة

هدى من الآيات :

وتحركت من مصر قافلة البشر تحمل قميص يوسف (ع). فقال يعقوب (ع) وهو جالس بين بعض أبنائه إني لأشتمّ ريح يوسف. بالرغم من انكم تضّعفون رأيي. فأنكروا عليه ذلك ونسبوه الى الابتعاد عن الحقيقة بسبب حبه العميق لولده. بيد ان البشير ما لبث حتى وصل والقى قميص يوسف على وجهه فأعاد الله عليه به عينيه. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ) نهاية مشكلتي ، وتعبير رؤيا ابني وأنتم لا تعلمون فسقط في أيديهم وطلبوا أباهم ان يستغفر لهم الله من ذنوبهم واعترفوا بخطئهم ، فقال يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وارتحلوا جميعا الى مصر فدخلوا على يوسف عزيز مصر حيث استقبلهم بحفاوة ـ (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) وجعل أبويه فوق العرش بينما خرّ الناس سجد الله امام عرشه ، وقال يوسف : هذا تأويل رؤياي. من قبل ـ لقد جعلها الله واقعا حقا ، ثم فصل قصته لهم وكيف انه سجن فأحسن الله به وأخرجه من السجن ، وكيف بالتالي جاء بأهله من الصحراء بعد ان فرق الشيطان بكيده بينه وبين اخوته.

٢٦٠