من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

سورة إبراهيم

وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ

____________________

٤٣ [وأفئدتهم هواء] : متجوفة لا تعي شيئا للخوف والفزع شبهها بهواء الجو.

٤٤ [ما لكم من زوال] : ليس لكم من انتقال من دار الدنيا الى دار الآخرة.

٤٢١

اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

____________________

٤٨ [وبرزوا لله] : البروز الظهور.

٤٩ [مقرّنين] : مجتمعين.

[الأصفاد] : جمع الصفد وهو الغل الذي يقرن به اليد الى العنق.

٥٠ [سرابيلهم] : السربال القميص.

٤٢٢

وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ

هدى من الآيات :

الذين يشكرون الله ، فيستخدمون نعمه في سبيل خيرهم ، يكون مصيرهم الفلاح مثل إبراهيم (ع) بينما الذين يتخذون من النعم وسيلة للبطش والظلم فان الأجل الذي حدد لاختبارهم سوف ينقضي والله ليس بغافل عنهم ولا عن أعمالهم ، انما يؤخرهم ليوم القيامة حيث تشخص منه الأبصار ، وتتركز الى موضع الخطر لشدته ، يسرعون الى الداعي ويرفعون رؤوسهم هلعا ، لا يملكون التحكم بأعينهم ، بينما تذهب قلوبهم الى حيث شاءت دون ان يتحكموا في افكارهم ، وسيتمنى الظالمون يوم العذاب لو يؤخرهم ربهم الى أجل قريب حتى يستجيبوا دعوة الحق ، ويتبعوا الرسل ، ويتساءل القرآن : أو لم تكونوا قد حلفتم انه لا زوال لكم ، وقد سكنتم في منازل الهالكين من اسلافكم الظالمين. وقد رأيتم ماذا فعل الله بهم من عذاب ، وقد نبهكم الله الى هذا المصير عن طريق بيان القصص الرشيدة ، وبالرغم من ان الظالمين يخططون لأنفسهم لكي يحصنوها ضد الهلاك ، الا ان الله يحيط بمكرهم وان كانت محكمة بحيث تستطيع إرادته ازالة الجبال.

٤٢٣

وكما يهلك الله الظالمين كذلك يورث الرسل أرضهم بوعده ، فلا تظن ان ربك يخلف وعده لأنه عزيز ذو انتقام ، وفي يوم القيامة تتحول الأرض غير الأرض حتى تحسبها غير هذه الأرض ، كما تتغير السماوات ، ووقفوا جميعا امام الله الواحد الذي يقهر عبادة بسلطانه ، وهنالك ترى المجرمين مقرّنين في الأغلال ، يلبسون ثيابا من القطران التي يطلى بها جسم الإبل ، بينما تشوي وجوههم النار ، وهنالك تتجسد المسؤولية حيث تلقي كل نفس جزاء أعمالها التي اكتسبتها والتي ضبطها الله بسرعة في الحساب ، هذا نذير بليغ للناس لكي يعلموا انما الله اله واحد ، ولكي يتذكر أولوا الألباب.

بينات من الآيات :

(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) :

[٤٢] قد يرقى الى قلب البشر الشك ، في هلاك الظالمين بعد ان يزداد ظلمهم وتعديهم ، فيظن المظلومون ان الله غافل عنهم ، ولا يدري ان بعض الظالمين يؤجل حسابهم الى يوم القيامة ، فلا يظنوا أو لا يظن المظلوم ان التأخير علامة الإهمال.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ)

اي يوم القيامة حيث العذاب الشديد.

[٤٣] وترى الظالمين يسرعون للفرار من الخطر وحيث يأمرهم الزاجر ، وهم رافعوا رؤوسهم خوفا وهلعا ، ولا يتحكمون في حركة أعينهم ، كما ان قلوبهم فارغة من التفكير في أي شيء سوى في مصدر الخطر.

[مهطعين]

٤٢٤

الإهطاع الإسراع.

(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ)

الإقناع طأطأة الرأس.

(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)

أقسام الظالمين في العذاب :

[٤٤] يبدو أنه ينقسم الظالمون الى قسمين : من يؤخذ فقط في الآخرة ، وهم الذين لا يقاومهم المظلومون ، ومنهم من يعذبهم الله في الدنيا وفي الآخرة ، وهم الذين تنذرهم هذه الآية.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)

ودور الرسول هو قطع هذه الحجة ، فلا ضير لو لم ينتفعوا من الإنذار.

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)

[٤٥] ولكن كيف اطمأنت نفوسكم الى الدنيا ، وأنتم ورثتموها من غيركم ، ولو لا هلاككم لما ملكتم بيوتهم ، أو لا تسألون أنفسكم لماذا هلك أولئك!؟ أو ليس بسبب الظلم الذي اقترفوه؟! فهلّا اعتبرتم.

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ)

وهذا المنذر هو من تلك الأمثال.

٤٢٥

المكر الخاسر :

[٤٦] قد يظن الظالمون أنهم لو كانوا أفضل خطة من السابقين لاستطاعوا ان يحموا أنفسهم من جزاء ظلمهم ، ولكن هيهات .. كل الظالمين مكروا مكرا ، ولكن المكر كان بالتالي في حدود سلطان الله ، وفي إطار هيمنته ، فهو الذي زودهم بعقل وإرادة وقوة حتى خططوا لأنفسهم ، ومتى ما يشاء يسلب منهم وعيهم ، فيتحول مكرهم عليهم.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ)

أي توسلوا بكل وسيلة ممكنة للحفاظ على أنفسهم.

(وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ)

فالأمور بيد الله حقا ، وليس بيد العبد ، اختيار ما يريد ، وربنا لا يعصى عن غلبة ، بل بقوته التي منحها لعباده يعصيه الكفار.

وقد يكون مكر البشر قادرا على ازالة الجبال ولكن الأمر بالتالي بيد الله الذي زود الإنسان العقل والعلم.

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ)

تزعم الجاهلية الحديثة التي اخترقت الفضاء بادئة عصر الملوك ، وغارت في أعماق المحيطات ، وفلقت الذرة ، ودكت الجبال تزعم انها تستطيع الفرار من عقوبة ظلمها للمحرومين والمستضعفين ـ ولكن هيهات ـ ان الذي زود البشر اليوم بهذه الطاقات قادر أن يسلبها منهم متى ما يشاء.

إن كل جيل من الظالمين كان يحسب انه قد بلغ القمة في تسخير الطبيعة ، ولكن

٤٢٦

بعد حلول أجله أحاط به مكره ، وهلك في الأكثر بذات القوة التي زعم انها تحميه ، فأغرق الله فرعون ، وابتلعت الأرض قارون وكنوزه ، ودكّت حصون عاد ذات الصخور التي اعتمدت عليها.

[٤٧] كما انه قد يزعم الظالمون ان الله يتجاوز عن ظلمهم ، بسبب أو بآخر ـ ولكن هيهات ـ وقد وعد ربك رسله بان يأخذ أعداءهم بعزته ، وإذا كانت صفة الرحمة والغفران أبرز أسماء الله ، فان اسم العزيز المنتقم من أسمائه الحسنى أيضا ، وانه سوف ينفّذ هذا الاسم عليهم بسبب وعده للرسل ، فلا يغرقوا في الرجاء الساذج ، ويتوغلوا في ظلم العباد.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)

[٤٨] ويبقى سؤال : إذا لماذا لا ينتقم الرب من الظالمين على كثرة ظلمهم؟ أجل انه أخّر انتقامه ليوم القيامة.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ)

فلأن البحار تتبخر ، ولأن الجبال تتد كدك ، ولان الأرض تصبح قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، فان الأرض تبدو وكأنها غير تلك التي نعرفها ، كما انه يتغير لون السماوات ، وتجتمع أجرامها الى بعضها ، حيث تجمع الشمس والقمر ، وتتناثر نجومها ، وتكون السماوات غير هذه التي نراها ، وهنالك يظهر الظالمون امام محكمة الله.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)

هنالك يتجلى اسم العزيز ذو الانتقام ، فهل من مهرب؟

٤٢٧

[٤٩] اما المجرمون فيؤتى بهم على رؤس الأشهاد وقد صفدّوا بالأغلال الموضوعة على أيديهم ، حيث يسلكون في سلسلة طولها سبعون ذراعا.

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ)

بعضهم ملتصق بالبعض مغلولين ـ والعياذ بالله ـ.

[٥٠] وقد البسوا من مادة القطران سرابيل ، حيث تحيط بهم مادة لزجة سوداء نتنة تشبه القار ـ يطلى بها الإبل ـ فتصبح كالثوب للقسم الأسفل من أجسادهم ، بينما القسم الأعلى منها ، يحيط به النار فتصبح كالحجاب.

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)

دعنا نتصورهم في مادة سائلة يحترق نصف جسدهم في المادة ونصفه في لهيبها ، أو ليس الله عزيزا ذا انتقام.

[٥١] وهكذا لا يدع الله أية نفس حتى يجزيها بما كسبت وهو سريع الحساب ، حيث يحيط حسابه بكل صغيرة وكبيرة دون أن يعزب عنه مثقال ذرة.

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)

وهكذا لا ينام أحد على حرير التبرير ، ويمني نفسه بالخلاص من ذنوبه الا بالتوبة والعمل الصالح.

[٥٢] وإذا كان عذاب الله شديدا فانه حكيم لم يدع العباد من دون ان ينذرهم بكلام واضح عميق الأثر بلغ قلوبهم وهداهم الى الله الواحد الذي لا يشارك ألوهيته شيء أو شخص ، فلا أمل في شفاعة الأصنام ، ولكي يتذكر من شاء النجاة وهم أصحاب العقول الذين يستفيدون من عقولهم.

٤٢٨

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)

اللهم فاجعلنا منهم.

٤٢٩
٤٣٠

سورة الحجر

٤٣١
٤٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

أحاديث في فضل السورة :

عن الرسول الأكرم (ص) قال :

«من قرأ سورة إبراهيم والحجر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها»

(م البيان ـ ص ٣٠١ ـ ج ٦ ـ ٠ ـ ٠)

وعن الامام الحسين (ع) قال :

«من قرأ سورة إبراهيم والحجر في ركعتين جميعا في كل جمعة لم يصبه فقر ولا جنون ولا بلوى»

(م البيان ـ ص ٣٠١ ـ ج ٦ ـ ٠)

٤٣٣
٤٣٤

الإطار العام

قصة الحجر تحدثنا عن أرض ثمود الذين كذبوا المرسلين وأعرضوا عن آيات الله ، واعتمدوا على بيوتهم المنحوتة من الصخور فلم تغن عنهم شيئا ، بل اهلكهم الله وبقيت قصتهم عبرة لنا الّا نعتمد على الصخور والأشياء بل على القيم!

نظرة عامة الى السورة توحي إلينا ، بان اطار هذه السورة ينسف ما يعتمد عليه البشر من أفكار تبريرية هي من وحي الشيطان الذي أقسم ان يغوي بني آدم بكل وسيلة ممكنة ، كما تنسف السورة اعتماد الإنسان على الطبيعة ، وتهدينا الى الركن الأشد ، وهو الله الذي يحفظ القرآن من التزوير ، والتحريف ويحفظ البشر من الأخطار ، ويحفظ السماوات والأرض.

وتؤكد السورة على أجل الإنسان الذي لا يمكن اختراقه أو تجاوزه للدلالة على ان شؤون البشر ليست بيده.

٤٣٥

سورة الحجر مكية

وهي تسع وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)

٤٣٦

الأمل الذي لم يسعده العمل

هدى من الآيات :

هذا الكتاب الذي نحن بين يديه يقرء ويفهم بوضوح يندرنا عن يوم يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين أما اليوم فان الأمل يلهيهم عن الحق ، وعن الخطر المستقبلي وسوف يعلمون أن افكارهم لم تكن سوى أماني كاذبة.

والله سبحانه تفضل على البشر حيث أرسل إليهم كتابا يبدد ظلام الأمل ، كما أعطاهم فرصة كافية للهداية ، وجعل لهم أجلا معلوما ، لا يسبقونه ولا يستأخرون عنه.

ولكن ذات الأفكار التبريرية حجبت هؤلاء عن كتابهم فقالوا للرسول الذي كان يهبط عليه ما يذكرهم بصورة تدريجية حسب حاجاتهم أنك لمجنون ، وطالبوه بان ينزل عليهم الملائكة. أولا يعلمون ان الله لا ينزل الملائكة الا بحكمة وعندها ينتهي أجلهم حيث لا تزيد مهلتهم ، وها هو التاريخ يشهد على ذلك.

٤٣٧

بينات من الآيات :

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، بعلم الله بقوته ، وبرحمته الواسعة ، أنزل قرأنا ، يشار اليه بألفاظ ولكنها علامات واضحة تهدينا الى الحق.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)

الأمل الوثيري :

[٢] الأمل الذي يسوّف به الفرد عمل الخير ، وينام على سريره الوثير قد يتحول الى ندامة ، فمن يعيش على «لو» يموت ب «يا ليت» ، ومن يركب حصان الأمنية يقتحم به وادي الحسرة.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)

ويكفي ان نظن ظنا أننا سنندم يوما على فعلنا ، يكفي ذلك موعظة لنا تهز مشاعرنا من الأعماق لأن الندامة لا تنفع وقد قال شاعرهم :

ليت وهل ينفع شيئا ليت

ليت شابا بوع (١) فاشتريت

[٣] سوف يعلم الكفار يوم يقضي أجلهم ان أملهم يلهيهم ، وان هدفهم كان مجرد التمتع بزينة الحياة الدنيا ، وان الأمل كان مسكنا لوخز ضمائرهم ، وحجابا لوهج عقولهم.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

__________________

(١) بوع : اي بيع من باع

٤٣٨

سنة العذاب :

[٤] ان ساعة الندامة شديدة الوطئ حتى علينا ونحن نتصورها ، كيف هي حالة من يضيع فرصته الوحيدة وقد تثير في أنفسنا الشفقة ، ولكن الله يقول : لقد وفرنا كافة الوسائل الكفيلة لهدايتهم فعاندوا.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ)

[٥] ولكن الفرصة ليست أزلية وإذا انتهت فلن تعاد.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)

ويلاحظ في هذه الامة.

أولا : أن الامة وليس الفرد قد حدد لها الأجل ، وذلك لأن الإفراد هم اتباع تجمع بر وفاجر. يتفاعلون معه في خيرهم وشرهم لذلك فان أجل كل مجموعة ينتهي في وقت واحد.

ثانيا : ان تقديم الأجل كما تأخيره غير ممكن الا أن يشاء الله ، والسبب أن ربنا لا يأخذ أحدا قبل ان يكمل له فرصته ويتم الحجة عليه تماما.

التبرير منطق التقهقر :

[٦] ويبرر الكافر بكفره عناده بالهجوم ضد من يحمل تلك الفكرة السليمة ، وهكذا الكفار اتهموا الرسول بالجنون.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)

أنهم كانوا يتهربون من ذكرهم ، ويخافون من الهداية على متعتهم الزائلة ،

٤٣٩

فبالرغم من اعترافهم بأنه صاحب ذكر يريد بلورة عقولهم وتزكية نفوسهم اتهموه بالجنون لأنه كان يضحي بكل راحته ومتعته من أجل مصلحتهم ، ولا يريد مصلحة لنفسه ، فاي تهمة يمكن الصاقها به غير الجنون ـ طبعا ـ حسب ثقافتهم المتوغلة في المادية ، وحسب تفسيرهم للعقل وهو الحصول على أكثر ما يمكن من المكاسب ينبغي ان يكون المضحي من أجل الهدف ومن دون اية مصلحة ذاتية ان يكون مجنونا.

أما الجنون بمعنى انعدام العقل فانه ينعكس على تصرفات الفرد ـ في أكله وشربه ـ في سلمه وحربه ـ في أرادته لأصدقائه ـ ومقاومته لأعدائه ـ وهل كان الرسول مجنونا بهذا المقياس ، وهل الرساليون السائرون على نهجه مجانين بهذا المقياس؟ أم بمقياس الماديين السادرين في متع الدنيا الرخيصة؟!

[٧] ولكي يبرروا كفرهم طالبوا الرسول بأمر تصوروه محالا وقالوا :

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

وهكذا كل فرد لا يريد ان يؤمن بفكرة أو يقوم بعمل يتعلل ببعض العلل.

[٨] ولكن الا يعلمون ان نزول الملائكة ، يعني كشف الغيب امام عين البشر ، والله جعل الدنيا دار اختبار لعقل البشر وإرادته ، وهل يختار الحق على الشهوات ، ويكتشف الحق بين الشبهات أم يخضع لشهواته ويستسلم لها ، وحين يشاء بعث الملائكة وكشف الغيب فانه ينهي فترة الاختيار ، وبعدها لا تعطي فرصة أخرى للأمة.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ)

فعند هبوط الملائكة لا يهمل الناس ، وكل من يموت قد يشاهد الملائكة ويؤمن بها ولكن من دون فائدة.

٤٤٠