من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

سورة الحجر

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)

____________________

١٠ [شيع] : الشيع الفرق وكل فرقة شيعه وأصله من المشايعة وهي المتابعة.

١٢ [نسلكه] : ندخله.

١٣ [خلت] : مضت ١٤ [يعرجون] : العروج الصعود ١٥ [سكرت أبصارنا] : غشيت ومعنى الكلمة انقطاع الشيء عن سننه الجاري ومنه السكر في الشراب انما هو ان ينقع عما هو عليه من المصافي حال الصحو.

٤٤١

وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)

____________________

١٦] : [بروجا] : البروج أصله الظهور ومنه البرج من بروج السماء وبرج الحصن ويقال تبرجت المرأة إذا ظهرت زينتها.

[استرق السمع] : إذا تسمع مستخفيا ، والسرقة عبارة عن أخذ الشيء خفيه.

٤٤٢

هكذا يحفظ الله رسالته

هدى من الآيات :

الفكر لا يسلم من كيد البشر. إذ ان الإنسان الذي ينحرف يسعى لتبرير انحرافه ، ولكي لا يكتشف الفكر الصائب انحرافه يحرّف الكفر ذاته بالتأويل والتفسير ، والله أرسل القرآن مقياسا للبشر ، وتعهد من ان يحفظه من كيد التحريف ، وبالرغم من ان الله أرسل من قبل الرسول رسلا في مختلف فرق الناس الأولين فإنهم كانوا يستهزؤن بالرسل ، ويحرفون رسالاتهم ، وسوف يحفظ الله القرآن ويسلكه في قلوب المجرمين ليبقى حجة بالغة عليهم لا يقدرون على تحريفه وهم لا يؤمنون به ، وسنة الله جرت على أمثالهم ثم أخذهم بشدة ، وليس عدم ايمانهم بسبب نقص في الحجة بل في أنفسهم ، فلو ان ربنا فتح بابا في السماء فأخذوا يصعدون فيه ، إذا قالوا لقد سترت أبصارنا عن الحقيقة وسحرنا ، ومن لا يستضيء بالشمس هل تنفعه الشمعة! ان آيات الله في الكون أكبر من الصعود الى السماء فها هي السماوات ذاتها ، وما فيها من بروج. جعلت بحيث تشع جمالا وبهجة ، كما أنها

٤٤٣

متينة تتحدى الشياطين. الا بعض من حاول استراق السمع ، فجاءه شهاب مبين ، فهل نفعتهم الآيات هذه؟!

بينات من الآيات :

كيف حفظ الله كتابه :

[٩] كل الرسالات السماوية تعرضت للتحريف من قبل المبطلين ، والقرآن بدوره سوف يتعرض لمثل هذه المحاولات ، التي سوف تتجه في اتجاهين.

ألف : محاولة تغيير النص القرآني ، وتبديل كلمة بأخرى.

باء : تغيير معاني القرآن ، وتفسيرها بما يتناسب ومصالح المحرّفين وأهوائهم ، ولان كل كتاب ينسخه كتاب الا القرآن الذي جاء خاتمة للرسالات ، فان الله قد وعد ان يحافظ عليه لكي يتهيأ للأجيال القادمة فرصة للهداية يقول ربنا :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)

وهو القرآن الذي يثير في البشر دفائن عقله التي عفا عليها غبار النسيان.

(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)

أما ألفاظ القرآن ، فقد حفظها الله بنصر الأمة ، ودخول الناس أفواجا في دين الله ، وإقبال الناس على كتاب الله ، بحيث لم يبق مجال لتحريف ألفاظه.

وأما معاني القرآن فقد قيّض الله سبحانه لهذه الأمة أئمة هدى وعلماء ربانيين حفظوا معالم الدين عن الاندراس ، وأصبحوا بأفعالهم وأقوالهم تفسيرا صحيحا لنصوص القرآن ، ولا يزال العلماء الربانيون والشباب المجاهدون ماضين قدما على

٤٤٤

نهج أولئك السلف الصالح في نفي شبهات الضالين وتحريف المبطلين.

الرسالات ومهمة الوحدة :

[١٠] ولقد أرسل الله في الأمم السابقة على اختلاف فرقهم رسلا فلم تكن بدعة رسالة محمد صلّى الله عليه وآله ، كما لم تكن بدعة مخالفة الناس لها ، واستهزائهم بها ، ولكن الله سيحفظ هذه الرسالة بالرغم منهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ)

وقد تكون الشيع اشارة الى الفرق ، «وهي جمع كلمة شيعة وهم الاتباع» للتذكير بان كل رسالة ، كانت تهدف فيما تهدف ، توحيد الفرق المختلفة التي انقسمت على نفسها بعد الرسالة السابقة.

[١١] وواجه الناس رسلهم بأسوأ طريقة ، حيث استهزؤا بهم.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

[١٢] ولكن مع ذلك فان ربنا يتم حجته على الناس ، ويدخل الذكر في قلوب المجرمين. سواء آمنوا به أم لا لكي لا يقولوا كنا ناسين ، أو لم نكن نعرف الحقيقة.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)

[١٣] وهذا لا يدل على إجبار المجرمين على القبول به ، بل انهم لا يزالون على اختيارهم كبشر ، وعلى عاداتهم الإجرامية.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ)

وهذه سنة الله ان من يرتكب الجريمة لا يوفق عادة للأيمان.

٤٤٥

(وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)

دليل الله في السماء :

[١٤] عدم ايمان هؤلاء لا يدل أبدا على نقص في الأدلة ، وبالتالي ينبغي الا نجعل ايمان المجرمين مقياسا لقبول فكرة الرسالة ، والديل انه لو فتح الله عليهم طريقا يصعدون عبره في السماء لما آمنوا لأن عقولهم في أكنّة من الشهوات.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ)

اي استمروا يصعدون دون ان يكون الأمر مجرد لحظات يشتبهون فيها بأنهم يحلمون مثلا.

[١٥] (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا)

تتوهم العين برؤية باب السماء والصعود فيه ، بسبب نشوة أو حجاب ، ثم يكتشفون ان جسدهم يحس أيضا بوضع الصعود ، هنالك يقولون :

(بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)

[١٦] العروج في السماء ليس أكبر آية لربنا بل أكبر منه هذه السماء التي جعل الله فيها منازل وأجرام ، وأسبغ عليها من الجلال والجمال ما يبهر العقول والعيون.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ)

فخالق السماء هو خالق الأرض والإنسان وما فيه من غرائز ، وهو الذي خلق الأحساس بجمال النجوم في السماء.

٤٤٦

[١٧] وبالإضافة الى الجمال الباهر في السماء فقد حفظها الله من كل شيطان رجيم ، فالجن الذين يوهمون البشر بأنهم على علم بما يجري في السماء ، وأنهم يعلمون الغيب أنهم يكذبون.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)

حيث أنه يرجم باللعنة وبالشهاب المبين.

[١٨] نعم يغامر بعض الشياطين فيقتربون من بعض المواقع للحصول على بعض الأخبار ، فيأتيهم الشهاب المبين ليردعهم ليعودوا خائبين.

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ)

وهكذا نسف القرآن أساس عبادة الشياطين ، واتباع الكهنة والمنجمين الذين يكذبون حتى ولو صدقوا. كما ان القرآن لم ينف وجود بعض المعلومات المتناثرة ، ولكنها غير موثوق بها. من هنا فوجود بعض المعلومات لا يدل على سلامة المصدر ، دائما إذ ان هدف الشياطين من إعطاء المعلومات السليمة هو تضليل البشر في القضايا العامة. تماما مثل وسائل أعلام الطاغوت التي تنقل عشرين خبرا صحيحا لتدس خبرا هاما باطلا.

٤٤٧

سورة الحجر

وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)

____________________

٢٢ [لواقح] : اللواقح الرياح التي تلقح السحاب حتى يحمل الماء يقال لقحت الناقة إذا حملت والقحها الفحل ، ومفردها لاقحة.

٤٤٨

قدرة الله وحكمته ينبوع العطاء

هدى من الآيات :

كيف امتدت الأرض دون ان تهتز بفعل حركتها ، ومن جعل فيها الجبال التي رست بسفينة الأرض ، وكيف أنبت الله فيها من المعادن والنباتات ، الموزونة ، وجعل الله للإنسان في الأرض ما يعيش عليه ، كما جعل لسائر الأحياء ما يرزقها دون ان يكون للإنسان أثر فعّال فيه.

ولكل نعمة ينبوع تفيض منه ، وينابيع النعم عند الله ، ولكنه لا ينزل منها الا بقدر تقتضيه حكمته البالغة مثلا ينبوع المطر الذي جاء من بخار البحار وعواصف الرياح التي تلقحها وتحملها حتى تسقي الناس ، ثم تبقى تحت الأرض في خزائن يملكها الله.

والحياة بيد الله ، وخزائن الحياة عنده ، والموت بيد الله وأسباب الموت عنده والوارث بعد الموت هو الله.

٤٤٩

والعلم بمفاتيح الغيب ينبوع من خزائن القدرة ، فربنا الذي يحيط علمه بالسلف والخلف ، واليه مصير الناس جميعا.

هكذا : تتصل شؤون البشر بمشيئة الله. ابتداء من أمه الأرض ـ الى معيشته فيها ـ الى ماء السماء ، واليه المصير. أو ليس الأفضل التسليم له؟

بينات من الآيات :

دليل الله في الأرض :

[١٩] أحب البشر أرضه ، التي نبت فيها ، وارتضع من خيراتها ، ودب عليها ، ومن أجل الدفاع عن بضعة أشبار منها أرخص دمه. أو لا يعلم ان الأرض هذه خلقها الله ، ومدها من تحته من بعد ان كانت كتلة ملتهبة ، ثم قرّر الجبال فيها ، ووضعها حيث تحافظ على توازنها على أدق نظام ، وهو الذي أحاط علما بوزن الجبال.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ)

الرواسي ، الثوابت وواحدها راسية والمراسي ما يثبت به (١).

(وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)

الوزن أدق من الكيل ، وكل شيء له وزنه الخاص ليس فقط كمجموع بل كما نعلم ان كل مادة كيمياوية تتركب من ترتيب نسب معينة من المواد الاخرى. لا تزيد ولا تنقص بحيث لو زادت أو نقصت لأصبحت مادة أخرى تختلف بل تتناقض

__________________

(١) مجمع البيان ٣٣٢ ج ٥ ـ ٦.

٤٥٠

خصائصها وميزاتها مع المادة السابقة.

[٢٠] وجعل الله ، للإنسان معايشة في الأرض ، فعلمه كيف يعيش ، وخلق أنواع الصيد في البر والبحر ، وعلمه كيف يصيد ويزرع ، وأودع في الأرض كنوز الخير يستخرجها البشر بالزراعة ، وعلمه كيف يحول مواد الأرض بحيث يستفيد منها ، كما أنه وفر لكل حي رزقا يناسبه هل يرزق البشر بعض أنواع الهوام والحشرات والدواب والطيور ، والأسماك.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ)

معايش جمع معيشة وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة (١).

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ)

وقد تفسر الآية : بان ربنا قد ضمن رزق من لا يملك حولا مثل المرضى والمقعدين. و. و.

[٢١] وبالرغم من ان الإنسان يسعى من أجل رزقه ، فهو مثلا : يحرث الأرض ويطلب الصيد ، ولكن هذا السعي ليس سوى وسيلة لاستدرار رحمة الله. ذلك لأن خزائن الله مليئة بالرزق ، وتنتظر أوامر الله التي لا تأتي الا بحكمة ، ومتى تقتضي الحكمة؟ عند ما يسعى البشر.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)

فلو أعطى الله البشر من دون سعي لشجعه على الكسل والترف ، وإذا أنزل عليه

__________________

(١) المصدر

٤٥١

أكثر من حاجته طغى في الأرض.

[٢٢] ومن خزائن رحمة الله بركات السماء ، فالرياح تهب بسبب حركة الشمس ، فتلقح السحب. تجمعها ، وتربط السالب والموجب فيها ، وتجعلها مهيأة للمطر.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ)

أنما ربنا الذي يخزن بقية المياه في خزائن جوف الجبال.

قدرة الله وحكمته :

[٢٣] والموت والحياة بأمر الله ، ولو لا الحياة هل كانت اموال الإنسان تنفعه شيئا؟!

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ)

فالأموال تعود بالتالي الى الله.

[٢٤] وهكذا ينبغي الّا نعبد الأرض وما فيها ولا معايشنا ، بل نعبد الله ربنا لا سيما وربنا يحيط علما بالبشر الخلف والسلف.

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ)

[٢٥] وأنه سوف يحاكم الجميع بعد ان يحشرهم اليه ، وهو حكيم لا يجازيهم الا بما كسبوا ، عليم بما فعلوا.

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

٤٥٢

سورة الحجر

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١)

____________________

٢٦ [صلصال] : الصلصال الطين اليابس يسمع له عند النقر صلصلة والصلصلة هي القعقعة ويقال لصوت الحديد ولصوت الرعد صلصلة وهي صوت شديد متردد في الهواء وصلّ يصل إذا صوت.

[حمأ] : الحمأ جمع حمأة وهو الطين المتغير الى السواد.

[مسنون] : من سننت الماء على وجهه اي جببته وقيل المتغير.

٢٧ [الجان] : مفرد جنان وهو أبو الجن (إبليس).

[السموم] : الريح الحارة أخذ من دخولها بلطفها في مسام البدن.

٤٥٣

قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)

____________________

٣٦ [فانظرني] : أمهلني في الدنيا ولا تمتني.

٣٩ [اغويتني] : الإغواء الدعاء الى الغي والضلال.

[لأزينن] : التزيين جعل الشيء متقبلا في النفس وإغواء الشيطان تزيينه الباطل حتى يدخل صاحبه فيه.

٤٥٤

كيف

يتحدى المؤمن غواية الشيطان

هدى من الآيات :

الأرض التي تحتضننا خليقة الله ، فما ذا عن الإنسان فوق الأرض ، وما هي قصته التي لا تنتهي؟

لقد كان ترابا فجعل طينا ، وبقي حتى تسنّه ، ثم أصبح صلصالا كالفخار يابسا يخلق منه البشر ، وقبلئذ خلق الجان من نار أوجدتها الرياح السامة.

وبدأت القصة حيث قال الله للملائكة ـ وكان بينهم بعض الجان ـ وهو إبليس : أني خالق بشرا من طين يابس متخذ حمأ مسنون ، وأمرهم بان يسجدوا له متى ما أصبح سويا متكاملا ، وعند ما يبعث فيه من الروح التي خلقها ، فاذا بهم يسجدون جميعا ، ويأبى إبليس ، ويسأله الرب : لماذا لم تكن من الساجدين؟ فيجيب : أو لست قد خلقتني من نار ومثلي لا يسجد لبشر مخلوق من صلصال قد أتخذ من هذا الحمأ المتغير ، فيخرجه الله من ساحة قربة ويرجمه بلعنته ، ويطرده الى ان

٤٥٥

يأتي يوم الدين فيحاسب. بيد انه يطلب الامهال الى يوم البعث ، فيعطيه الرب مهلة معيّنة لا يعرف مداها ، ويتوعد بني آدم : بان يزين لهم في الأرض وان يغيرهم أجمعين ، ولكنه يعرف ان هناك عبادا لله قد أخصهم ربهم لنفسه بسبب عبادتهم له وتسليمهم لأوامره ، ويؤكد ربنا ان هناك صراطا مستقيما يتعهده الله ويسير عليه عباد الله الذين لا سلطان لإبليس عليهم. انما سلطانه على من يتبعه وهم الغاوون الذين سيكون مصيرهم جهنم التي لها سبعة أبواب. كل فريق منهم يدخل من باب بينما المتقون في جنات وعيون يدخلونها وهم سالمون آمنون. لا يعيش في قلوبهم غل وهم اخوان يجلسون على سرر متقابلين. لا يعتريهم تعب لا يخشون من إخراج. تلك هي قصة الإنسان فوق الأرض فهل نعرف مغزاها؟

بينات من الآيات :

مراحل الخلق :

المرحلة الاولى :

[٢٦] كيف خلق الله الإنسان الأول؟

ان ربنا أحسن الخالقين قد يخلق شيئا بقوله كن فيكون (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقد يخلقه وفق السنن والأنظمة ، وقد خلق جسد الإنسان بهذه الطريقة حسبما تشير اليه تكاملية خلقه وضمير الجمع في «خلقنا» أما روحه فقد نفخها فيه بقدرته المطلقة وبصورة مباشرة حسبما توحي اليه اية (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وضمير المفرد في قوله هنا : ونفخت فيه من روحي.

وهكذا تدرج الإنسان من تراب ، ثم الى طين لازب والى حمأ مسنون والى صلصال كالفخار ، والى ان سواه ربنا إنسانا فنفخ فيه من روحه.

٤٥٦

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)

الصلصال : الطين الجاف ، الحماة ، والحمأ : طين أسود منسق ، والمسنون : المتغير.

يبدو ان ربنا أجرى على التراب ماء فتفاعل معه فأصبح طينا لازبا ، ثم تفاعل معه فأصبح متعفنا ، ثم نمت الحياة فيه بفعل التفاعل وخلق فيه الحياة فأصبح مستويا ، ثم نفخ الله فيه روح العقل والإرادة ، فاستحق سجود الملائكة.

قال صاحب مجمع البيان : وأصل آدم ترابا ، وذلك قوله : «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ» ثم جعل التراب طينا ، وذلك قوله : «وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ثم ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى وذلك قوله : «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ثم ترك حتى جف وذلك قوله : «مِنْ صَلْصالٍ» فهذه الأقوال لا تناقض فيها. إذ هي أخبار عن حالاته المختلفة (١)

الطبائع البشرية :

ويبدو ان لكل أصل من أصول البشر رواسب في خلقته ، فلأنه من تراب يحن الى الأرض ، ويحب العمارة فيها ، وينبغي ان يكون خاضعا لله ، ساجدا عليها ، لا يرى أحد انه أفضل من غيره بطبعة لأن طبعهم جميعا هو التراب.

ولأنه من طين لازب فهو ابن الشهوات والأهواء ، ولكنه يتصلب على شيء بسبب كونه من صلصال ، وتلك جميعا طبائع البشر المادية ، أما الروح فلها خصائص أخرى.

[٢٧] قبل ان يخلق الله البشر خلق عدوه ـ الجان ـ الذي يقابل الأنس ، ذكر هنا بلفظة جان للدلالة على طبيعته كما نقول الإنسان ، ونشير الى طبيعته دون

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ـ ٦ / الصفحة ٣٣٥

٤٥٧

ملاحظة أفراده.

كيف خلق الجان ، يبدو ان ريحا تحمل السموم بسبب حرارتها ، وقد عصفت فاوجدت نارا فخلق الله منها الجان.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ)

[٢٨] وأما كيف أصبح الجان عدو الإنسان فلذلك قصة أخرى بدأت مع اخبار الله ملائكته : انه سوف يخلق بشرا.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)

وعرف الملائكة طبيعة هذا الخلق كما جاء في سورة البقرة. انه ما دام من الطين فلا بد ان يفسد في الأرض.

المرحلة الثانية :

[٢٩] ولكن الله انبأهم ان له طبيعة اخرى يستحق بها السجود والخضوع تلك هي روحه الإلهية.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)

ويبدو ان التسوية هي تكامل جميع الأعضاء ، وتعادل الغرائز وهذه مرحلة تسبق مرحلة بث الروح.

[٣٠] أما الملائكة التي هي الأرواح المطيعة لربها ، المكلفة بتسيير الخليقة حسبما يأمرها جبارها ، فانها سجدت لآدم لمكان الروح التي نفخت فيه من الله.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)

٤٥٨

وكما استوحينا من آية في سورة البقرة : ان الملائكة ترمز الى قوى الطبيعة التي سخرت للبشر ، بينما بقيت قوة في الطبيعة هذه هي قوة نفسه الموكل بها إبليس.

[٣١] لذلك لم ينضم إبليس إلى مجموعة الساجدين متعمدا وعن سبق إصرار.

(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)

[٣٢] لم يرضى الرب بذلك ، بل نهره قائلا :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)

فقوى الشر ليست ضمن برنامج السماء ، ولا هي مقضية من قبل الرب على البشر إنما هي شذوذ عن سنة الله ، وتمرد مؤقت لإرادته ، ولذلك ينبغي الا يستسلم لها البشر ولا يعترف بشرعيتها ، ويناضل ضدها أبدا حتى ينتصر عليها بإذن الله.

[٣٣] وتعليل إبليس كان أسوء من عمله. إذ زعم انه أفضل من آدم ، وأخطأ مرتين :

مرة حين أعتقد ان ابن النار أفضل من ابن التراب ، واعتقد ان افضلية المخلوق هي بأصله ، لا بعلمه وبفوائده.

والمرة الثانية ، حين تمرد على أوامر الله ، اعتمادا على هذا الزعم ، فحتى لو كان أفضل من آدم ـ جدلا ـ فان سجوده بأمر الله ليس سجودا لآدم ـ في الواقع ـ بل لمن أمره وهو الله. ان طاعتك مثلا للنبي أو الامام ليست طاعة له في الواقع بل لله ، وإن تسليمك لأوامر قيادتك الإلهية ليس تسليما لبشر ، بل لمن أمرك بذلك.

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)

ونستوحي من هذه الآية : ان طينة الإنسان لم تكن مقدسة تستدعي السجود من

٤٥٩

قبل الملائكة بل ان كرامته من الله ، وبقدر طاعته لله لان طينته كانت من طين يابس متخذ من طين متعفن ، وقد نفرت منه بعض قوى الطبيعة لزعمها أنها أفضل منها.

[٣٤] ولأن التمرد على الله ، ومخالفة الحق شذوذ في برنامج الحياة وليس جزء مقدرا منه ، أو جانبا مقضيا ، فقد طرد ربنا إبليس من مقام الارادة والتوجيه ، وأبعده أيضا عن مقام الطبيعة المأمورة ، ورجمه باللعنة فهبط إبليس بذلك ثلاث درجات :

الاولى : حين قال له الله :

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها)

أي من مقام الملائكة حسبما يهدي اليه السياق ، وقالوا من الجنة أو من السماء أو من الأرض ، ولان مقام الملائكة هو مقام الأمر حيث أنهم ينفذون أوامر الله على الطبيعة فهم وسائط امره عز وجل فلذلك كان إخراج إبليس من ذلك المقام الذي هو السماء بالنسبة إلينا ، «السماء مصدر الأمر في القرآن» اللعنة الاولى.

الثانية : حيث اسقطه الرب عن مقام سائر ما في الطبيعة مما استسلمت لأوامر الله طوعا فأصبح رجيما وقال له الله :

(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)

ونستوحي من الآية ـ مرة ثانية ـ ان العصيان شذوذ في الطبيعة لا قاعدة.

[٣٥] الثالثة : حين كتب عليه الرب اللعنة فأصبحت الطبيعة ضده وقال تعالى.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ)

٤٦٠