من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

تكف عن المطر. وغاص الماء وانتهت القضية الحاسمة ووقفت السفينة فوق جبل. وابعد القوم الظالمون.

بينات من الآيات :

وما آمن معه إلّا قليل :

[٤٠] ان تلك اللحظة التي كان أبناء الرسالة يتوعدون بها ، وكان الكفار يستهزئون بها قد حانت اليوم وأصبحت الحقيقة التي أنذرت بها الرسالة واقعا لا مهرب منه ، فلقد أصدر ربنا امره ، وفار الماء من التنور الذي يبقى عادة بعيدا عن الماء ، وامر الله رسوله نوحا بان يحمل معه في السفينة من كل حي زوجين اثنين ، وان يحمل أهله الذين لم تسبق عليهم كلمة العذاب بسبب كفرهم كزوجته وابنه ، وان يحمل معه الذين آمنوا وهم قليلون.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)

في الحديث المأثور عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السّلام قال :

«كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دير قبلة ميمنة مسجد الكوفة قال : قلت فكيف بدأ خروج الماء من ذلك التنور ، قال : نعم ان الله أحب ان يري قوم نوح آية آية ، ثم ان الله سبحانه أرسل عليهم المطر يفيض فيضا ، وفاض الفرات فيضا ، وفاضت العيون كلها فيضا فغرقهم الله وأنجى نوحا ومن معه في السفينة ، فقلت : فكم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء فخرجوا منها؟ فقال : لبث نوح في السفينة سبعة أيام ولياليها». (١)

__________________

(١) بح بح ١١ ص ٣٣٣ رقم ٥٦.

٦١

[٤١] وحين ركب نوح وقومه الصالحون السفينة تجلت عندهم روح الايمان الخالص ، وتوكلوا على ربهم متذكرين اسمي الغفران والرحمة ـ لله ـ فبمغفرته يحط ذنوبهم وبرحمته ينزل عليهم بركاته وفضله.

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)

فكل شيء في الكون موجود بالله وقائم بالله ، ويتحرك أو ينمو أو ينطق باسم الله. بيد ان هناك حوادث يتجلى فيها التدبير المباشر لله تعالى أكثر ، مثل سفينة نوح التي صنعها بأمر الله دون أن يعرف منذ البدء ابعاد العملية ، ولا يعرف أين تجري السفينة ، واين تقف وفي أية فترة ، انما توكل على الله فيها ، لعلمه انها في اطار تدبير الله وهيمنته المطلقة على الكون.

(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

بعدا للقوم الظالمين :

[٤٢] وبين لحظة واخرى تحولت الصحاري الى بحار مواجة ، وتلاطمت الأمواج الهائلة وكأنها جبال متحركة ، ولاحظ نوح ابنه واقفا في معزل عن الناس فناداه ليركب معه ، وربما أخذته شفقة الأبوة أو رحمة النبوة ، ولكن الابن السيء الحظ رفض لانعدام توكله على الله ، ولاعتماده على المادة الجاهلية ، بسبب تعلقه السابق بها ، وقال سوف ألتجئ الى جبل يحفظني من الطوفان.

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)

كان ابن نوح ويقال ان اسمه كنعان ، من جملة الذين اعتزلوا المعركة الساخنة بين الحق والباطل ، وأراد الا يتدخل في القضايا الرسالية ، شأنه شأن الكثير من الجبناء الذين لا يملكون شجاعة الاقدام في سبيل الله. بيد ان مثل هؤلاء سوف

٦٢

يكونون مع الكفار لان الايمان وحده هو الذي ينقذ البشر.

[٤٣] (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)

[٤٤] بين عشية وضحاها تبدل وجه الأرض وهلك القوم الظالمون ، وإذا بهاتف الحق ينادي : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) ، فعادت مياه الأرض التي تفجرت ينابيع الى مخازنها تحت الأرض ، وتقشعت السحب التي كانت تسيل ماء بأمر ربها ، فأقلعت عن الانهمار وغاض ماء الأرض ، وتحولت بقية المياه الى الأنهار والبحار كما جاء في حديث ، وانتهت القصة كلها ، حيث استقرت السفينة على أرض مرتفعة .. وخلت الأرض من الظالمين الذي لعنوا وطردوا منها بقدرة الجبار.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي)

أي توقفي قال البعض أن الماء الذي سال من السماء بقي فوق الأرض لان الله قال للأرض ابلعي ماءك ، ولم يطلق بالقول الماء ، بيد ان هذا القائل ينسى ان كل المياه في الواقع من الأرض.

(وَغِيضَ الْماءُ)

وهبط الماء أو رسب في الأرض.

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ)

لقد نفذ أمر الله بهلاك الظالمين ، ونجاة المؤمنين ، وتحقيق الجزاء لكلا الفريقين في عاجل الدنيا.

(وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

٦٣

سورة هود

وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)

٦٤

إنّ العاقبة للمتقين

هدى من الآيات :

وقبل هبوط نوح (ع) الى الأرض تساءل عما انتهى اليه مصير ابنه الغريق وذلك بسبب جاذبية الشفقة التي أودعها الله في قلب كل أب ، ولو كان الأب شيخ المرسلين ، تلك الجاذبية التي جعلت سيدنا نوحا يدعور به في ابنه ولكن الله وعظه وذكره بان المقياس عنده العمل الصالح وليس الانتساب الى هذا أو ذلك ، وهكذا عرف نوح ان سبب انحراف البشر ليس فقط وجود بيئة فاسدة أو تسلط الظالمين ، إذ قد يكون السبب كامنا في نفسه فدعا ربه بان يغفر له وان يرحمه فيعصمه من الزيغ ومن دون رحمة الله ومغفرته يكون البشر خاسرا. وهكذا الحال بالنسبة الى الذين كانوا مع نوح في السفينة ، والذين اهبطهم الله الأرض ، بسلام وبركات ولكن عوامل الانحراف نزلت معهم أيضا ، فبعضهم انحرف مع هذه العوامل وبعضهم صمد أمامها واعتصم بهدى الله.

وفي نهاية قصة نوح يذكرنا القرآن بالعبرة فيها وهي الصبر والتقوى فان العاقبة

٦٥

للمتقين ولكنها بحاجة الى الصبر والاستقامة.

بينات من الآيات :

التسليم لقضاء الله :

[٤٥] في بعض الأحاديث المروية : «ان الشيطان دخل سفينة نوح متسللا» والواقع ان الحكمة في خلق البشر هي ابتلاؤه ، ووجود الشيطان جزء من معادلة الامتحان ، وانحراف البشر ليس دائما لوجود ضغوط خارجية عليه ، بل ان الهوى والشهوة ، والانجذاب الى مظاهر الحياة الذي أودعه الله في كيان كل شخص هو الآخر جزء من معادلة الامتحان وحكمة الحياة.

وهكذا نجد آدم عليه السلام ـ أبا البشر ـ أول من ارتكب الخطأ بدافع الملك والخلود ، قبل أن تدركه رحمة الله وتعصمه من الزلل.

ونجد نوحا وقد خرج من محنة الصراع منتصرا على الجبت الداخلي والطاغوت الخارجي ، ولكنه لا يزال بحاجة الى مغفرة الله ورحمته. يحتاج الى رحمة الله حتى يعصمه من تكرار الزلل ، وهكذا دعا نوح ربه بلباقة ان يفي بوعده بانقاذ أهله ، ولكن الله أجابه بصراحة : انه ليس من أهلك لان رابطتك الحقيقية هي مع الذين يعملون الصالحات ، وهذا الابن لا يملك مقياس العمل الصالح.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)

[٤٦] (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)

ربما توحي هذه الآية بضرورة الرضا الكامل بالاقدار التي لا يعرف المرء

٦٦

حكمتها ، والتسليم المطلق للأوامر التي لا يفهم البشر فلسفتها.

[٤٧] ان درجة تسليم الأنبياء عليهم السلام لله ولأوامره وأقداره تصل الى القمة ، بسبب تأديب ربنا لرسله الكرام ، ولذلك نجد نوحا عليه السلام يستعين بعصمة ربه لكي لا يسأل ربه ما ليس له به علم ، ولا يقترح عليه ما لا يعلم انه في صالحه وصالح رسالته وأمته.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)

ان مغفرة الله ضرورة حياتية للبشر لتزيل آثار الذنوب والسقطات التي يتعرض لها الإنسان أبدا ... فمن دونها تتراكم هذه الآثار حتى ترسي على قلبه ، وتحجب عقله ، كما أن رحمة الله ضرورة اخرى لاستمرار بقاء الإنسان نظيفا ، ولكي لا يدعوه الضعف والعجز الى ارتكاب المعاصي ، وقد جاء في الدعاء : «اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ...» ، فرحمة الله هي التي تعصم البشر من الذنوب ، لا فرق بين الرسل وغيرهم.

[٤٨] وهبط نوح بأمر الله يحمل معه هديتين الى الأرض السلام والبركة ، ويعني السلام المحافظة على النعمة القائمة والموجودة فعلا ، وبالتالي رفع الضرر الذي يهدد بزوال النعم ، بينما تعني البركة زيادة النعم والتقدم في حقول الحياة.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ)

والسلام والبركة هما من الله بسبب رسالته. لذلك يسلبان عمن لا يعرف قيمة الرسالة فينحرف عنها ، لذلك خصص القرآن أمما دون أخرى للسلام والأمن قائلا :

(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)

٦٧

وذلك بسبب ان هذا النوع الثاني من الأمم ينحرفون عن الرسالة ، ويبدلون دين الله.

وربما توحي هذه الآية بأن سنة الحياة الأولية هي السلام والبركة لولا انحراف البشر فيها.

خلاصة القصة :

[٤٩] تلك كانت قصة نوح وقومه ، والعبرة التي نستفيدها منها اثنتان.

أولا : ان هذه الرسالة امتداد لتلك الرسالة حيث لم يكن أحد من قوم الرسول محمد (ص) عالما بقصة نوح ، أو لا أقل بتلك التفاصيل الدقيقة التي تسجل حتى الحالات النفسية ، والأسباب الاجتماعية ، والعوامل الطبيعية التي ساهمت في صنع وقائع القصة ، فجاء ذكرها جميعا شاهدا على صدق رسالة النبي محمد (ص).

ثانيا : ان كل رسالة تتعرض لتحديات جاهلية ، وعلى حاملها أو حملتها التسلح بالتقوى ، والصبر انتظارا للعاقبة.

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا)

فحتى رسول الله لم يكن محيطا بعلم ما جرى لنوح ، مما يدل على ان ما لديه من علم ، انما هو من عند الله ، لا من عبقريته وذكائه.

(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)

والواقع ان صبر نوح عليه السلام كان طويلا وشاقا وكان بالتالي ذا أثر حاسم في هلاك أعدائه.

٦٨

سورة هود

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ

____________________

٥٢ [مدرارا] : المدرار الكثير التتابع على قدر الحاجة اليه دون الزائد المفسد المضر.

٥٤ [اعتراك] : من قولهم عراه يعروه إذا اصابه.

٦٩

رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)

٧٠

هود : إنّي توكلت على الله

هدى من الآيات :

وجاء هود مرسلا من عند الله الى قوم عاد ، ودعا قومه بذات النبرة الايمانية التي وجدناها عند سلفه الصالح نوح عليه السلام.

١ / أمرهم بعبادة الله حيث لا إله ولا معبود سواه ، وبين ان عبادتهم للطغاة أو الأصنام افتراء وضلالة.

٢ / وبين لهم انه لا يطالبهم بأجر ، وأن أجره ، على الله الذي فطره أفلا يعقلون فيعرفوا الفرق بين الرسول الصادق ، وبين أولئك الطغاة والكهنة المفترين الذين يهدفون السلطة والاستكبار في الأرض!

٣ / وطالبهم بإصلاح أنفسهم ، والعودة الى تعاليم الله لتزداد نعم الله عليهم ، وليزدادوا قوة الى قوتهم الحالية ، وفي غير هذه الحالة فهم يصبحون مجرمين مخالفين لله ولرسالته ، ويستحقون العذاب.

٧١

ولكن قوم هود ردّوا دعواته الثلاث ، فقالوا : انك لا تملك بيّنة كافية على صدق رسالتك ، واننا لن نترك آلهتنا ، واننا لن نعطي أزمّة أمورنا بيدك ، بالرغم من أنك لا تطالب بأجر ، وزعموا أن كلامه نوع من الجنون الذي مسّه بسبب غضب الآلهة عليه ، فميّز هود نفسه عن قومه وتبرأ من شركهم ، وأشهد الله على ذلك ، وتوكل على ربه ، وتحداهم جميعا ، وأمرهم بألا يمهلوه بل يكيدون له ليعرف مدى ضعف كيدهم ، لأنه يعتمد على الله الذي يملك كل دابة ويدبر أمورها ، وهو على صراط مستقيم ... يدعو اليه ويجريه بقوته ، وبين لهم هود أنه قد انهى مسئوليته ببلاغ الرسالة ، وأن الله سوف يبدلهم بغيرهم دون أن يضرّوه شيئا ، وأن الله على كلّ شيء حفيظ.

بينات من الآيات :

رسالة هود وأبعادها :

[٥٠] أرسل ربنا الى عاد واحدا منهم يسميه ربنا بأخيهم لكي يكون أقرب الى قبول الرسالة ، وأوضح بيانا ، فأمرهم بعبادة الله ونبذ الشركاء. وفضح منذ اللحظة الاولى كذب ودجل الشركاء من دون الله. شأنه شأن سائر الرسل التي لا تهادن في دين الله أبدا.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ)

اي انكم تفترون على الله الكذب ، بادعائكم ان هذه الآلهة تمثل الله في الأرض ، وربما تدل هذه الآية على أن انحراف البشر الاساسي يكون عادة في تبديل جوهر الدين لا إطاراته الخارجية ، فيفسر ذات النص الديني (الأمر بعبادة الله ، ونبذ الشركاء بمفهوم متناقض ليصبح داعيا الى عبادة الشركاء افتراء على الله ، مثلا :

٧٢

يفسر قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) بان معناه اطاعة كل حاكم ظالم متجبر بمجرد تسلطه على الناس الذي يناقض تماما فكرة التوحيد واطاعة الله هكذا حدث عند المسلمين اما عند عاد فقد حدث شبه ذلك ، حيث أطاعوا الشركاء باسم انهم مستخلفون من قبل الله ، وأطاعوا الأصنام باسم أنها شفعاء عند الله.

[٥١] وإذا كانت الكهنة سدنة معابد الأصنام ، وعلماء السوء المحيطون ببلاط المستكبرين يبيعون علمهم على من يشتري ، ويستطيلون على الضعفاء ، فان هودا عليه السلام لم يطالبهم بأي أجر ، وكفى ذلك شاهدا ودليلا على صدق رسالته ، فلما ذا إذا كان يعرض نفسه لكل تلك الصعاب ، ان لم يكن صادقا ، وهو لا يطالب الناس بأجر ولا يهدف الوصول الى غاية خاصة؟!

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ)

[٥٢] وطالب هود قومه أن يصلحوا أنفسهم بطلب المغفرة من الله تعالى ، و ٧ ظهار الندم من الذنوب السابقة ، وبعدئذ العودة الى تعاليم السماء وتطبيقها.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)

فاذا فعلوا ذلك فان الله سوف يفتح لهم أبواب رحمته بانزال قطر السماء بغزارة ، واعطائهم المزيد من القوة والمنعة.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ)

وفي غير هذه الحالة يعتبرون مجرمين خارجين عن القانون ويستحقون العذاب.

(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)

٧٣

[٥٣] ورفض قوم هود رسالة الله ، وادعوا انهم لم يقتنعوا بأدلته وحججه ، ولكن كذبا إذ أن دافعهم الاصلي في رفضهم لها كان تمسكهم الأعمى بالتقاليد وعبادتهم للآلهة التي رفضوا تركها اعتمادا على كلام هود ، وربما كان هناك سبب آخر لرفضهم للرسالة. هو استنكافهم عن التسليم لهود. ويوحى الى ذلك تعابيرهم التي كرر فيها (الخطاب) ونسبت الرسالة الى شخص هود ، بينما لم يكن هود سوى رسول حامل للرسالة. تدبروا في الآية :

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)

وقد زعموا أن ايمانهم ، إنما هو للرسول وفي منفعته ، بينما كان الواقع غير ذلك تماما.

[٥٤] ولكي يبرروا جهلهم بواقع الرسالة ، ويغطوا على نقاط الضعف في كلامهم نسبوا الرسالة الى حالة مجهولة غيبية ، اعترت الرسول ـ مما لا يعرف أبعادها ـ.

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ)

وهكذا اعترفوا ضمنيا بخطإ أقوالهم السابقة ، وزعمهم بأن هودا إنما يدعوهم لنفسه. وهنا عرف هود ان العصبية العمياء تحيط بقلوب هؤلاء القوم فيرفضون الحق بلا تفكر لذلك.

(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

وبدأت مرحلة جديدة من الصراع هي مرحلة المواجهة الساخنة حيث أعلن هود براءته من أفكارهم. وانفصاله عن مجتمعهم الفاسد.

٧٤

المواجهة الساخنة :

[٥٥] وأعلن هود عن استعداده للمواجهة الآن ومن دون مهلة ، وتحدّاهم لو عندهم كيد فليكيدوه به.

(مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)

فما دام الكيد من دون الله ، وبعيد عن الاستعانة بالله فهو فاشل لا محالة.

[٥٦] هل كان يملك هود قوة يعتمد عليها في مواجهته مع جميع قومه؟ بلى قوة الله الذي آمن به وحمل رسالته ، وهذا أكبر شاهد على صدق دعوته.

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها)

أي ما من حي يدب فوق الأرض إلا وربنا سبحانه يملك توجيهه كمن يأخذ بمقدم رأس أحد يوجهه انّى شاء ، ولكن الله لا يسير الكون عبثا أو لعبا ، وانما يسيّره بعدالة وعبر صراط مستقيم.

(إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

فكما يسير الله كل ما في الكون في طريق مستقيم ، فانه سبحانه يسير الذين يتوكلون عليه عبر ذلك الصراط الأقرب الى الهدف.

[٥٧] وانذرهم هود حين لم ينفعهم التبشير وقال : إذا توليتم عن قبول الرسالة.

فقد أديت مهمتي وهي إبلاغ الرسالة ، وان الله سوف يهلككم ويأتي بآخرين مكانكم دون أن تقدروا على إلحاق الأذى بي.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا

٧٥

تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)

فهو يحفظ الأشياء بهيمنته عليها وتسلطه ، فاذا تركه هلك ، لان بقاءه مستمد من الله سبحانه وتعالى.

٧٦

سورة هود

وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

٧٧

الا بعدا لعاد

هدى من الآيات :

وكذب قوم هود برسولهم وجاء أمر الله بنجاة المؤمنين من عذاب غليظ ، وإهلاك الباقين ولم يبق منهم سوى العبرة ، فها هي عاد جحدوا بآيات ربهم ، وعصوا رسله ، وأطاعوا امر الجبارين المتكبرين الجاحدين. فلحقتهم اللعنة والبعد عن رحمة الله في الدنيا والآخرة. كل ذلك بسبب كفرهم بالله وبرسالاته ورسوله.

بينات من الآيات :

(أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) :

[٥٨] وانتظر هود والذين آمنوا امر ربهم لأنهم منذ البدء توكلوا عليه ـ سبحانه ـ ولم يعتمدوا في دعوتهم على أنفسهم أو على قبيلتهم أو اية قوة مادية اخرى ، وبعد ان أعطيت لعاد فرصة كافية ليهتدي من يهتدي منهم بوعي ، ويضل من ضل بحجة. بعدئذ جاء أمر الله تعالى الذي هو فوق العادات والسنن المعروفة

٧٨

للناس ، والدليل على ان العذاب الذي أخذ عادا كان خرقا للقوانين الطبيعة المعروفة ، ان العذاب لم يشمل المؤمنين والكافرين الذين كانوا متواجدين في مكان واحد ، بل أخذ الكفار وحدهم بينما العذاب الطبيعي كالوباء والزلزال والمجاعة لا يميز المؤمن من الكافر.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)

هو ذلك العذاب الثقيل المتراكم الذي أخذ الكفار.

[٥٩] لماذا عذّب الله عادا بذلك العذاب الغليظ؟ لأنّهم بعد ان عرفوا آيات الله جحدوا بها ، وبعد ان عرفوا رسولهم الذي أرسل إليهم للطاعة عصوه ، واتبعوا امر كل جبار عنيد يتصف باستخدام العنف ضد الناس. فهو ديكتاتور مستبد برأيه ، لا يحكم بالشورى ولا يتبع الهدى.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)

[٦٠] ولانحرافهم الفكري ولانحرافهم السياسي والاجتماعي لحقتهم لعنة الأبد ، وأبعدوا عن رحمة الله فعذبوا في الدنيا والآخرة. كل ذلك لكفرهم بالله وبرسول الله هود.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)

٧٩

سورة هود

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤)

____________________

٦٢ [مرجوا] : رجى وترجى أي أمّل.

٦٣ [تخسير] : خسران.

٨٠