من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ

هدى من الآيات :

يبدو ان السياق القرآني يشرع منذ هذا الدرس في سرد قصص الرسل في إنذارهم الشديد لقومهم ، الذين كانوا يرفضون قبول الرسالة فيأخذهم الله بعذاب شديد ، وذلك لعدة اهداف منها تذكرة الناس بأن هذا القرآن واحد من النذر ، وأن من يعرض عنه يصاب بما أصاب أولئك ، (وتشير الى ذلك الآية الاولى من هذا الدرس).

ومنها تثبيت قلب الرسول والمؤمنين برسالته لكي يستقيموا كما أمروا ، ولا يركنوا الى الظالمين. جاء في الآية العشرين بعد المأة من هذه السورة : «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ».

ان عاقبة المؤمنين الصالحين الذين اطمأنوا الى ربهم هي الجنة خالدين فيها ، لأنهم أصحاب سمع وابصار ، بينما الكفار كالأعمى والأصم لا يهتدون سبيلا.

٤١

وقصة نوح مع قومه تكشف هذا الفرق بين الفريقين .. المؤمنين والكفار. حين أرسله الله إلى قومه لينذرهم لا يعبدوا الا الله ، وحذرهم انه في غير هذه سوف ينزل عليهم عذاب يوم أليم ، فقال الملأ الذين كفروا من قومه : أنك واحد مثلنا ، وان الذين اتبعوك هم من الطبقات السفلى من مجتمعنا ، وانه لا فضل لكم بالرسالة بل نظنكم كاذبين ، فحذرهم نوح (ع) مرة اخرى قائلا : ماذا لو كنت صادقا ، وان عندي بينة من ربي وأنا مهتد بها الى الصراط السوي ، وآتاني رحمة من عنده ، بينما أنتم لا ترون الطريق السوي ، أو يمكن ان ألزمكم به وأنتم له كارهون؟!

وفي الدروس القادمة يتلو علينا القرآن سائر فصول القصة.

بينات من الآيات :

هل يستوي الفريقان؟

[٢٣] حين يكون الايمان مستقرا في القلب ، مستويا على عرش النفس ، فأن المؤمن يشعر بالاطمئنان والسكينة والرضا ، فلا يعمل الا من أجل الله ، وبهدف تحقيق مرضاته سبحانه ، وجزاؤه عند ربه الخلود في جنات الله الواسعة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ)

الإخبات : الطمأنينة ، وأصله الاستواء من الخبت ، وهو الأرض المستوية الواسعة فكأن الإخبات خشوع مستمر على استواء فيه.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

[٢٤] الفريقان المؤمن المخبت والكافر ، نموذجان مختلفان يعرف واقعهما بالمقارنة بينهما فهذا كما البصير السميع الذي يسير وفق عقله وهدى الوحي ، بينما يتخبط الثاني كما الأعمى والأصم.

٤٢

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)

والمسألة ليست بحاجة الى المزيد من البحث ، بل هي حقيقة واضحة معروفة لمن يلتفت إليها.

شيخ الأنبياء وقومه :

[٢٥] ويضرب القرآن أمثالا عديدة يقارن فيها بين الفريقين ، وعاقبة كل واحد منهما ، كما يبين من خلال هذه الأمثال ـ حقائق أخرى تمّت التذكرة بها في بداية السورة ـ.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)

الملاحظ بالتدبر في هذه الآية ان نوحا أرسل الى قوم كان منهم ، وكان ذلك أبلغ في بيان الرسالة لهم ، وابعد عن العصبية ، كما أن أهم بنود دعوته كان الإنذار ، وهو أبلغ أثرا في النفوس باعتبارها قد فطرت على الدفاع عن الذات ، وابعاد كل مكروه محتمل ، والإنسان مفطور على الدفاع عن ذاته أكثر مما هو مفطور على جلب المنفعة لها.

[٢٦] وخلاصة دعوة نوح وهدف رسالته كانت عبادة الله وحده ، ونبذ الشركاء ، وحين ينبذ الشركاء تسقط السلطة السياسية ، والمنهاج الاقتصادي والثقافي ، والسلطة الاجتماعية وكل ما يقوم على أساس عبادة الأوثان والشركاء.

(أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)

ان مجرد الخوف من ذلك اليوم الذي ينشر فيه العذاب حتى يصبح اليوم ذاته أليما. حيث ان كل لحظاته تصبح ميعادا للعذاب ، أقول : ان مجرد الخوف من ذلك

٤٣

اليوم يكفي البشر دافعا نحو الايمان بحثا عن الخلاص.

[٢٧] اما جواب قومه فقد كان متوغلا في التحجر والمادية والطبقية.

فأولا : زعموا بأن صاحب الرسالة يجب ان يكون من غير البشر ، وكأن البشر هو المخلوق العاجز عن حمل الرسالة ، وهذا نوع سخيف من التحجر الجاهلي.

وثانيا : قاسوا الرسالة بمن يحملها أو من يبادر بالايمان بها ، ولم ينظروا إليها ذاتها باعتبارها قيم فاضلة ، ودعوة الى العدالة والهدى ، وهذا نوع من المادية وتشييء القيم.

ثالثا : نظروا الى تابعي الرسالة من المستضعفين نظرة ازدراء بسبب تكبرهم وطبقيتهم.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ)

الملأ هم الاشراف وعلية القوم ، ولأنهم كفروا بالرسالة شأنهم شأن أغلب الذين هم من طبقتهم كذلك يعتبرون فاسدين ، وكان من الصعب عليهم الخضوع لمن هو مثلهم ، دليلا على انحطاط نفوسهم ، وانعدام الثقة فيها ، فنعتوا المؤمنين بأنهم من الطبقة الدنيا ، وأنه من ينظر إليهم يعرف منهم هذ النعت (بادي الرأي).

(وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ)

غافلين عن ان الرسالة ذاتها فضل كبير.

(بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)

٤٤

وكان هذا الفريق يتبعون الخيال والظنون ، ويرمون الأفكار الجديدة التي تخالف مصالحهم بأنها كذب. انطلاقا من عنجهيتهم وتكبرهم.

[٢٨] وأجاب نوح (ع) على شبهاتهم :

أولا : بأنه على بينة من ربه ، فهو بالرغم من بشريته فأنه يملك ما لا يملكون وهو الهدى ، والحجة من ربه عليه.

ثانيا : ان المال الذي يفقده يعوض بما يؤتيه الله من رحمته الواسعة ، التي هي أهم من المال. إذ ان الثروة لا تحل كل المشاكل بعكس رحمة الله التي تقضي على أكثر الصعاب.

وثالثا : ان ظنهم الفاسد بكذبه (ع) ، آت من عماهم ، وعدم تفكرهم الجدي ، وفي هذه الحالة لا يجبرهم نوح على الرسالة ، وهذا الكلام قد يكون ردا على قولهم :

(وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ)

حيث كانوا يزعمون : ان الرسول كالملك ، يجب ان يملك قوة مادية قاهرة تفرض على الناس خطّا معيّنا ، بينما الرسول جاء من أجل الهداية التي لا تتأتي من دون الإختيار والحرية.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ)

اي خفيت هذه البينة ، وربما البينة هي الصراط السوي أو الحجة الواضحة.

(أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)

٤٥

سورة هود

وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)

____________________

٣١ [تزدري] : الازدراء الاحتقار ، يقال زريت عليه إذا عبته.

٤٦

وما أنا بطارد الذين آمنوا

هدى من الآيات :

قوم نوح كما المستكبرين في كل عصر ردوا رسالة الله بسبب الظنون والشبهات ، وشرع نوح في هذا الدرس ببيان واقع الرسالة ورد الشبهات والظنون الباطلة ، فلقد زعم أولئك الجاهلون بأن نوحا يريد أن يتسلط عليهم ، أو يغني على حسابهم ، وأزال نوح عليه السلام ، تخوفهم وقال : انه لا يريد منهم مالا ، ولكنه في الوقت ذاته لا يجعل المال مقياسا لتقييم الناس ، فيطرد المؤمنين لأنهم فقراء ، بل يقول : ان حسابهم على الله ، وانهم سيلاقون ربهم ، أما قوم نوح فقد كانوا يجهلون ، ويتخذون القيم الزائفة مقياسا لتقسيم الناس ، وهذا تقسيم باطل لا يرضى به الله ، والذي يطرد المؤمنين اعتمادا على مثل هذه القيم ، بعيد عن رحمة الله ، وغير منصور أيضا.

ثم ردّ نوح (ع) شبهة اخرى حيث بيّن أنه ليس برجل خارق يملك خزائن الله ، أو يعلم الغيب ، وأنه خلق من نور كالملائكة.

ثم عاد وأكدّ عليه السّلام على انه لن يطرد المؤمنين الذين يقلل من شأنهم قومه

٤٧

لان الله أعلم بما في أنفسهم ، فان كانوا صادقين وافاهم أجلهم وأعطاهم الخير ، فكيف يطردهم نوح فيصبح ظالما لهم.

بينات من الآيات : الرسول وأولياء الرسالة :

[٢٩] لان الملاء من قوم نوح ، وكذلك الملأ المستكبرين من كل قوم يستغلون الناس ، ويستثمرون طاقاتهم ، فلا يسعهم النظر الى الاحداث إلّا من خلال واقعهم الطبقي ، لذلك يتهمون الرسل بأنهم إنما يريدون الثروة من وراء دعوتهم ، وينفي الرسل بكل قوة هذه التهمة ليفصلوا بين دعوتهم الاصلاحية وبين دعوات الملأ التي تهدف المزيد من استغلال المستضعفين.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ)

فنوح ـ شأنه شأن كل البشر ـ يطلب أجرا ويعمل لهدف ، ولكنه لا يطلبه من الناس بل من الله ، وبذلك أثبت نوح ـ مرة اخرى ـ الطابع الغيبي لرسالته.

ولأن نوحا (ع) لا يريد الانتفاع بعلمه ليصبح رقما جديدا في قائمة الملأ يتقاسم معهم المكاسب الآتية من ظلم الناس واستغلالهم ، كما كان يفعل علماء السوء. لذلك فهو يقف الى جانب المظلومين ويقول بصراحة :

(وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا)

وقد يكون للطبقة السفلى التي تهرع الى الايمان بعض السلبيات المترسبة فيهم بسبب الجاهلية ، أو بسبب تعرضهم للظلم ، فرسالة السماء ليست مسئولة عن سلبياتهم ، وعدم طردهم لا يعني أبدا أن رسول الله يزكيهم تماما ، بل إن حسابهم عند الله.

٤٨

(إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)

بيد أن الملأ من قوم نوح لم يزالوا على ضلالتهم التي تقسّم الناس على أساس المال أو الدم.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)

[٣٠] الطبقة الدنيا التي بادرت بالايمان دخلت حصن الله ، والله يحمي الذين يتحصنون به ، ولو أراد أحد طردهم ، وأراد الله نصرهم فان ارادة الله هي الغالبة ، ولا يملك من يطردهم قوة يرد بها غضب الله عليه.

(وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ)

وفي هذه الآية دليل على أن احتفاظ رسول الله بالمؤمنين من الطبقات الدنيا ليست بهدف الانتصار بهم أو تكثير العدد حول نفسه ، بل لأنهم مؤمنون ، والله يحب المؤمنين.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ)

فالمسألة بحاجة الى تذكرة ، ولفت نظر حتى يعرف الإنسان أن الأمور بيد الله ، وأن ربّنا لا ينظر الى الغنى والجاه بل الى الايمان والعمل الصالح.

إني بشر مثلكم :

[٣١] وعاد نوح عليه السلام يبين أبعاد رسالته التي هي أيضا أبعاد رسالة كل رسول وكلّ مصلح يتبع خط الرسل.

فأولا : إن الرسول يدعو الناس الى الله والى الحق الذي تعرفه فطرتهم ، وهذا هو

٤٩

رأسماله ، ولا يدعوهم الى نفسه باعتباره صاحب ثروة طائلة.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ)

بل خزائن الله موجودة في ذات الإنسان ، وفي الأرض التي أعطى الله البشر القدرة على تسخيرها بالايمان والعمل الصالح.

فالفكرة المتخلفة التي تنتظر من صاحب الرسالة (تفجير الأرض بالينابيع ، واستخراج كنوز الحياة ، وتقديمها لهم بلا عمل) انها فكرة خاطئة.

ثانيا : إن الرسول لا يدّعي الغيب إلّا بقدر ما يوحي إليه ربّه عبر رسالته ، ولذلك فهو لا يعد الناس بالرفاه ، وانه مثلا يأخذ بأيديهم ويدلّهم على معادن الذهب والفضة.

(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)

ثالثا : انه لا يدعى امتلاكه لقوة قاهرة ، باعتباره من عنصر الملائكة.

(وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)

رابعا : انه لا يتعالى على الناس.

(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً)

بل ان الخير والشر هما من الإنسان نفسه ، من عمله النابع عن نية صالحة ، ولا يعرف ذلك إلّا الله.

(اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)

٥٠

سورة هود

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)

____________________

٣٦ [تبتئس] : الابتئاس حزن في استكانة.

٥١

وما أنتم بمعجزين

هدى من الآيات :

وظلّ نوح عليه السّلام يسعى جاهدا حتى أتعب قومه ، وقالوا : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) وطالبه قومه بانهاء مرحلة الكلام والبدء بتنفيذ ما يوعدهم به. غافلين عن أن نوح ليس إلّا رسولا ومبلغا عن ربه ، وحين يشاء الله عذابهم لا يقدرون على الفرار من حكومته وسلطانه ، ومهمة التبليغ التي يقوم بها نوح تختلف عن الهداية. فالله هو الهادي المضل ، وإذا شاء إبقاء قوم على الضلالة بسبب كفرهم بنعمة الرسالة ، فان الرسول لا يقدر على هدايتهم ، وهكذا فان رسالات الله ليست من صنع الأنبياء وانما هي من وحي الله ، وإذا كان الرسول هو الذي افترى الرسالة كذبا على الله فانه يتحمل مسئولية عمله ، أمّا إذا كانت صادقة فهو لا يتحمل مسئولية كفر قومه به بل هو برىء منهم.

أوحى الله الى نوح أن مدّة تبليغه قد انتهت. إذ أن قومه لن يؤمنوا أكثر من هذا بعد اليوم ، فلا يحزن بما يفعلون ، وبدأت مرحلة الاعداد ليوم العذاب. إذ أمر الله

٥٢

رسوله بصنع الفلك ولا يخاطب ربه حول الظالمين من قومه ، فيحاول الشفاعة لهم لأنهم مغرقون لا محالة ، وكان نوح عليه السّلام يصنع الفلك ، ويمر عليه المستكبرون من قومه فيسخرون منه ، ولكنه كان يقول لهم : لنا يوم نسخر منكم كما تسخرون بنا اليوم ، وفي ذلك اليوم ستعرفون : ان عذاب الخزي سيكون من نصيبكم.

بينات من الآيات :

(لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) :

[٣٢] من أبرز الصفات الرسالية التي كان الأنبياء العظام يتمتعون بها هي الاستقامة والاستمرار في الدعوة دون كلل.

فنوح عليه السلام أتعب قومه من كثرة جداله معهم. حتى طالبوه بما وعدهم من العذاب ، وزعموا ان نزول العذاب بهم أفضل من هذه الدعوة التي تلاحقهم في كل وقت وفي كل مكان.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

لقد دعا نوح قومه ليلا ونهارا. سرا وجهارا ، ولبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما يدق مسامعهم بكلماته البليغة ، وإنذاره الشديد حتى سئموا منه ولم يسأم وهكذا ينبغي ان يكون الرساليون على مرّ العصور الاستقامة على الدعوة أنى كانت الفترة طويلة.

[٣٣] ولم يترك نوح كلامهم الآخر من دون جواب. بل نبّههم مرة اخرى الى أنّ الله وليس هو يأتيهم بالعذاب ، وأنهم لا يقدرون آنئذ على الفرار.

(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)

٥٣

وهذه سمة ثانية وهامة في رسالات السماء حيث أن الأنبياء (عليهم السّلام) لا يدعون لأنفسهم شيئا. ويذكرون الناس بان دورهم فقط دور المبلغ ، وأن الأمر بيد الله.

[٣٤] وتأكيدا لهذه الحقيقة ذكّر نوح قومه بأن النصيحة لا تنفع إلّا بإذن الله. إذ الهدى والضلالة انما هي بأمر الله وإذنه ، وإذا كفر أحد بنعمة العقل. فان ربنا قد يسلبها منه فلا يستفيد من النصيحة.

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

في المفردات : الغيّ : جهل من اعتقاد فاسد وذلك أن الجهل قد يكون في الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا ولا فاسدا ، وقد يكون في اعتقاد شيء فاسد ، وهذا النحو الثاني يقال له : غيّ ، وقد يكون هذا الغي يشير الى ان الله تعالى قد يسلب من البشر نعمة العقل. فيعتقد بالباطل حقا.

[٣٥] هكذا رسالات الله جميعا ، التي أنزلت على نوح والتي أنزلت على محمد (ص) سبيلها واحد ، فهي من الله. والرسول يعلم مدى الخيانة التي يرتكبها من يفتري على الله ، ولكن جريمة من لا يهتدي بالرسالة ليست بسيطة هي الاخرى ، وليس من السهل ان يسترسل الفرد ولا يستمع لرسول الرسالة بمجرد احتمال كذبه لأنها جريمة كبيرة أيضا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)

جاء في تفسير مجمع البيان : «قيل انه يعني بذلك محمدا (ص). والمراد أيؤمن كفار (قوم) محمد بما أخبرهم به محمد (ص) من نبأ قوم نوح ، أم يقولون : افتراه محمد

٥٤

من تلقاء نفسه ، وقيل : يعني نوحا ، وانه يقول على الله الكذب». (١)

بيد انه يمكن ان يفسر القرآن على أكثر من وجه فيكون المراد ليس فقط رسالة محمد (ص) وانما رسالة نوح أيضا.

[٣٦] ولم يترك نوح عليه السلام الجدال مع قومه الا بعد أن اوحى اليه ربه انه يستحيل ايمان قومه بعد الآن ، وان عليه الا يحزن عليهم ، والا يعيش حالة البؤس بسبب أفعالهم.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)

ان رسل الله عليهم السلام يتمحصون حول الله ، ويصحبون شعلة من الحركة والاندفاع من أجل تبليغ رسالة الله. حتى يكادوا يهلكون أنفسهم حزنا بسبب عدم إيمان الناس ، وجاء في القرآن : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) وجاء : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٣) وهذا نوح عليه السلام يبلغ حالة البؤس والاستكانة بسبب ما يفعله ، ولكن الله ينهاه عن ذلك. ويأمره بمتابعة دربه.

انهم مغرقون :

[٣٧] وتبدأ رحلة الجزاء التي بدأت بصنع السفينة.

__________________

(١) المجمع ج ٦ ، ٥ ص ١٥٨.

(٢) طه / ١.

(٣) الكهف / ٦.

٥٥

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)

كان نوح عليه السلام لا يقوم بخطوة الا حسب المنهاج الذي رسمه له ربه. تحت مظلة واقية من حماية ربه.

(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)

ولم تزل في قلب نوح بقية أمل تدعوه الى التضرع الى الله ليمنع عن قومه العذاب في آخر لحظة. ولكن على الرسول ـ بعد أن ييأس من إيمان قومه ـ ألّا يشفق عليهم لأنهم يستحقون العذاب.

[٣٨] وأخذ نوح يصنع الفلك في الفلاة القاحلة استجابة لأمر الله وإيمانا بأن وعد الله حق ، وكان ذلك أبسط دليل على انه لا يتّبع هواه ، ولا يقول على الله كذبا. لأنه لو كان كذلك فما الذي دعاه الى صنع الفلك في الصحراء؟!

ان أنبياء الله عليهم السلام يقومون بأعمال يحسبها الناس من حولها نوعا من الجنون ، لأنها لا تتناسب ومعلومات وأفكار العصر ، ولا مع ما يجري حولهم من أحداث أو يتوقع من احتمالات. هذا بذاته دليل واضح على انهم يتبعون الوحي ، وقد لا يعرف النبي لماذا يأمر بعمل ما للشهادة على مدى خلوصهم في الله ، وتجردهم لرسالته الغيبية.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ)

إن استهزاء الناس بنوح عليه السلام شاهد على انه كان رسولا لا يتبع المألوف والشائع في ظروفه ، بل كان يتحداها بسبب إيمانه بالغيب.

(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ)

٥٦

[٣٩] وانذرهم نوح بالعاقبة السوأى التي تنتظرهم.

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ)

ويفضحه في الدنيا عبر التاريخ.

(وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)

دائم في الآخرة.

٥٧

سورة هود

حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا

____________________

٤٠ [وفار] : الفور الغليان ، وأصله الارتفاع.

[التنور] : تنور الخبز المعروف.

٤١ [مرساها] : الارساء إمساك السفينة بما تقف عليه.

٤٣ [سآوي] : من آوى يأوي إذا اتخذ مأوى ومحلا ، أي سأرجع الى مأوى.

[يعصمني] : يمنعني.

٥٨

الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)

____________________

٤٤ [أقلعي] : الإقلاع إذهاب الشيء من أصله حتى لا يرى له أثر ، يقال أقلعت السماء إذا ذهب مطرها حتى لا يبقى شيء منه ، وأقلع عن الأمر إذا تركه رأسا.

[الجودي] : اسم جبل.

٥٩

بعدا للقوم الظالمين

هدى من الآيات :

بقي نوح ينتظر أمر الله. مستعدا لتنفيذ واجباته حتى إذا جاء أمر الله ، وتفجر التنور (الذي كان في بيت عجوز حسبما جاء في بعض الأحاديث) أوحى الله الى نوح أن يركب السفينة ، ويحمل فيها معه من كل زوجين اثنين من سائر ما خلق الله ، ويحمل معه أيضا أهله إلّا الكفار منهم وهما زوجته وابنه اللذان اغرقا أيضا ، ويحمل معه كل المؤمنين الذين كان عددهم قليلا ، وتوكل نوح على الله مطمئنا بأن حركة السفينة ووقوفها بإذن الله ورعايته ، وتلاحقت أمواج الطوفان كأنها جبال. وصاح نوح بابنه الذي جلس في ناحية ، ودعاه الى الركوب معه وان يترك الكفار ، ولكنه زعم بان الطوفان فيضان عادي وان صعود الجبل ينجيه منه ، ولكن نوح حذّره من انه لا عاص اليوم من أمر الله إلا من رحم الله ، وقبل ان ينتهي الحوار جاء الموج وأغرق ابن نوح.

وجاء صوت غيبي يصدر الأوامر الحاسمة للأرض بان تبتلع الماء ، وللسماء بأن

٦٠