من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)

٣٤١

لله الأمر جميعا

هدى من الآيات :

ضمن آيات هذا الدرس يذكرنا القرآن الحكيم بأن الهدى والضلالة من عنده إذا أرادها الإنسان لنفسه ، وان الرسالة المحمدية هي امتداد طبيعي لرسالات الأنبياء السابقين ومكمّلة لها ومهيمنة عليها جميعا ، وأن سنن الله واحده تطبق على سائر الأمم في سائر الأجيال ، فكما انطبقت على تلك الأمم هذه السنن كذلك تنطبق على هذه الامة.

ويذكرنا السياق بأن أساس كفر الكفّار ليس برسالة الرسول ، بل بالرحمن ، ثم بما يتفرع منه من رسالات الرحمن ، فعلى الرسول أن يتوكل على الله لو كذّبوه ، ولو أن الله استجاب لهم بطلبهم المزيد من الآيات لما زادهم ذلك الّا عنادا واستكبارا ، ثم هل هناك آية أكبر من هذا القرآن الذي لو كان من المقدر ان يسير الجبال ويكلم الموتى لكان به وأكبر دليل على ذلك أن كثيرا من القوارع نزلت على من قبلهم أو قريبا منهم فلم يتّعظوا ، ولو أنهم يريدون الهداية بالآيات لاهتدوا بتلك القوارع

٣٤٢

واتّعظوا بها ، فهذه الأمم أعطيت مهلة كما أعطوا هم مثلها ، فعاجلهم الله بالعقاب لما اختاروا الكفر على الأيمان.

وبعد ذلك يسأل : هل إن الله هو القائم على كل نفس بما كسبت من خير أو شرّ أم الشركاء؟! وهل الشركاء هم الذين ينبئون الله ويوحون اليه؟!

ان مكرهم السيئات ، وتزيين ذلك في نفوسهم ، والصدّ عن سبيل الله كان السبب الرئيسي في إضلال الله لهم ، ومن يضلّ الله فلن تجد له هاديا مرشدا ، وأما نهاية هؤلاء فاما عذاب الدنيا والآخرة ، أو عذاب في الآخرة ، وأما نهاية المؤمنين فأحسن منهم مقاما وأفضل نديّا.

بينات من الآيات :

(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) :

[٣٠] (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ)

ان الله أرسل الرسول الى أمة سبقتها أمم جرت عليها السنن الإلهية كما ستجري على امة الرسول (ص) أيضا ، وهذه الآية توضح الامتداد الطبيعي للبشرية ، وأن في البشرية خطّا متكاملا ، وأن الأمم مهما اختلف زمانها ومكانها عن امة الرسول فهناك جامع مشترك بين سائر الأمم ، وهي كما سبق ذكره محكومة بسنن واحدة تجري على الكل.

(لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)

الهدف من رسالة الرسول ان يكون معبّرا عن حقيقة الرسالة ، وان الرسول مهما تحمل من الجهد فهو مجرد تال لما نزل عليه ، اي أن الرسول ليس صانعا للوحي ، وانما يؤدي دور المرآة إذ يعكس الرسالة الى أمته.

٣٤٣

(وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ)

جذر كفرهم انما هو بالرحمن وليس بك ، وقد جاء في الدر المنثور عن ابن جريح في قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) قال : لما كاتب رسول (ص) قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : لا نكتب الرحمن ، وما ندري ما الرحمن؟! وما نكتب الا باسمك اللهم (!) فانزل الله ، (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ).

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

هذا هو الرحمن الذي يكفرون به ، لا اله غيره ، رب الأرباب ، لا ندّ له ولا نظير.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)

في دعوتي إليكم مع تكذيبكم بي.

(وَإِلَيْهِ مَتابِ)

اليه بخوعي وانابتي.

حقيقة القرآن :

[٣١] (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى)

لما واجههم الرسول بعد طلبهم الآيات بالقرآن ، وأكّد على انه المعجزة الكبرى تعللوا بأن هذا القرآن المعجزة لو سيّرت به الجبال من حولنا (حول مكة) حتى نستطيع أن نزرع ، أو قطعت به الأرض كما كان سليمان يرسل الرياح فيقطّع بها

٣٤٤

الأرض ، أو كلم به الموتى ، كما كان موسى وعيسى لكانوا يؤمنون به ، ولكن لو أنزل الله مثل هذه الآيات ، أكانوا يؤمنون بها؟! ولكن قصدهم التعجيز وتحدي الرسالة ، فلن يرسل الله مثل هذه الآيات ، وهذا القرآن له القدرة على هذه الأشياء لو عرف الإنسان كيف يستغله ، وقد قال الله سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً)

ان الله يستطيع ان ينزل هذا القرآن ، وقد أنزله فعلا.

جواب «لو» في الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ) محذوف وتقديره أحد هذين المعنيين :

أولا : لما أفادهم.

ثانيا : لكان هذا القرآن.

وحسب نظري ان كلا الجوابين صحيحان ، فلو كان القرآن كذلك لم ينفعهم كون القرآن تسير به الجبال وتقطّع به الأرض ويكلّم به الموتى ، وثانيا : ان القرآن كذلك ، وقد استطاع (كما أسلفنا) المؤمنون حقا الذين استوعبوا حقائق القرآن ان يستفيدوا منه هذه الفوائد.

اليأس من الإصلاح :

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)

منع الله الآيات عنهم ليس سببا لضلالتهم ، بل لأن الله لم يهدهم ، فان الله لا يهدي الّا من ينيب.

٣٤٥

واليأس هنا له معاني ، فمن معانيه العلم ، اي (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) وهي لغة هوازن ، وقال بعضهم : ان اليأس معناه القنوط وشرّب معنى العلم فيكون المعنى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ، وقال بعضهم ان هناك باء محذوفة فيكون تقدير الكلام (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً).

وفي الحقيقة فان هناك جامعا مشتركا لهذه الحقائق الثلاث ـ فمن جهة يجب أن ييأسوا من اهتداء هؤلاء ، ويعلموا بأن هؤلاء لن يهتدوا ، وبالتالي يجب أن يعلموا بأن الله لو يشاء لهدى الناس جميعا ، فالمعنى واحد.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ)

«ولا يزال» تفيد الاستمرارية ، وربما تعبر هذه الكلمة عن تضمين معنى السنّة الدائمة ، وثانيا : ان الإنسان هو الذي يصنع مصيره بنفسه ، فالعذاب هو نتيجة ما اقترفت اليدان من الذنوب ، والقارعة هي الكارثة.

فهذه الكوارث الالهية تصب ولا تزال تصب على رؤوس الكافرين.

(أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ)

فمكة مثلا لم تكن تصاب بالحروب أو بالزلازل ، بل تنزل هذه المصائب فيما حولها ، ولكن لم يتعظ الكافرون.

(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ)

هذه القوارع ما هي الا إرهاصات يصبّها الله عاجلا على الكافرين ، اما القارعة الحقيقية فهي في الآخرة (الْقارِعَةُ* مَا الْقارِعَةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ* يَوْمَ يَكُونُ

٣٤٦

النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (١ ـ ٥ / القارعة)

(إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ان الله لن يخلف موعده مع الكفار بأن يأخذهم في ذلك اليوم حيث لا يستقدمون عنه ساعة ولا يستأخرون.

(فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) :

[٣٢] يسترسل القرآن في الفكرة التي بدأها في بداية هذا الدرس بتكذيب الأمم رسلها ، وان موقف الأمم عبرة لمن ألقى السمع ، وموقف الرسل عبرة للرسول ، فيقول الله سبحانه :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)

كما ان إرسال الرسل سنة ، فكذلك تكذيب الأمم سنة أيضا ، وليس التكذيب هو الأسلوب الوحيد للمواجهة ، بل هناك أسلوب آخر يعتمده الكفار ضد الرسل وهو أشدّ أثرا بنفسية الرسل الا وهو أسلوب الاستهزاء ، وأسلوب الاستهزاء مجموع نوعين من أساليب الكفار ، فلا يكون الاستهزاء الا بالتكذيب ، ومن ثم بالسخرية والاستخفاف ، وهناك في زماننا الكثير ممن تركوا رسالتهم لأن الناس واجهوهم.

والامهال والاملاء هو من حكمة الله الماضية على عبيده العاصين جاء في الحديث :

«كم من مستدرج بالإحسان اليه ، ومغرور بالستر عليه ، ومفتون بحسن القول فيه وما ابتلى الله أحدا بمثل الاملاء له» (١)

__________________

(١) بح ٧٣ ص ٣٨٣ رقم ٨

٣٤٧

وقد قال الله : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٨٣ / الأعراف)

(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)

اي كيف كان عقابي لهم؟! وهذا تعبير عن الشدة في الأخذ ، وهذه النتيجة السيئة لمن يكذب بالرسل ويستصغر شأنهم.

[٣٣] (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ)

القائم على كل نفس : الحافظ لها ، وقيل معناه : انه قائم على كل نفس بالرزق ، وربما ما بعدها يحددها.

(بِما كَسَبَتْ)

بما عملت ، فحكم نفسك ليس بيدك ، ولا تستطيع نفسك ان تفلت من زمام التقدير ، فان الله لو تركها لحظة لانتهت ، ولما بقي لها من الوجود شيء ، والله لا يعصى عن غلبة ، وأنت إن أعطيت التخيير في الطاعة أو المعصية ، فأنت مسير من قبل الله ، وأكبر دليل على ذلك روحك وقلبك وسائر أعضاء جسمك التي تعمل ولو حدها ولا تدخلّ لك في ايقافها أو عملها.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ)

أبعد ان أراهم الله الآيات في القيمومة على أنفسهم يشركون بالله سبحانه؟! وكيف يشركون به وقد أراهم من عظيم الخلقة ، ودقيق الصنعة.

(قُلْ سَمُّوهُمْ)

اي اذكروهم ، ولعلّ ذكر الاسم هنا ليس ذكر الاسم الذي يتسمون به ، بل

٣٤٨

يعني اذكروا صفاتهم ، ومعلوم ان كل شيء يعكس اسما من أسماء الله. فالسماء تجل لاسم العلو والعظمة ، والشمس تجلّ لاسم الحكمة والقدرة ، فقد يكون قصد الله : اخبروني عن تجليات اسمائهم في مصنوعاتهم.

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ)

اي بما لا يعلم له من شركاء ، وعدم العلم هنا ليس معناه ان الله غير عالم ، بل عالم ولكن لا يعلم أن له شريكا ، فليس له شريك أبدا.

(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ)

الشركاء هي مجرد ألفاظ تسمى من غير واقع ، فكلمة جلالة الملك ليس معنى ذلك ان الملك صار جليلا ، بل رضاه بهذا الاسم يعكس ذلّته.

تغير المقاييس الفطرية :

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ)

المكر هنا اقتراف العمل السيء والمكر هو الفساد ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) (١٢٣ / الانعام)

ولكن من الذي زيّن المكر لهم؟

ان الشيطان هو الذي يزيّن لهم مكرهم كما قال : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣ / الانعام)

وفي آية أخرى ينسب الله لنفسه التزيين : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) (٤ / النمل)

٣٤٩

ولا منافاة فعند ما يغضب الله على إنسان يكله الى الشيطان أو الى قرناء السوء فيكون تزيين الله لهم بأن يجعل لهم مزينين كما قال : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (٢٥ / فصلت)

إذا فليحذر الإنسان ان يزيّن له سوء عمله فيراه حسنا ، وعند ما يخضع للمزينين كالطواغيت مثلا فان مقاييسه الفطرية تتبدل وتصبح مقاييس عكسية فالسوء عنده حسن ، والحسن عنده سيء.

(وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ)

ليسوا هم الذين صدوا أنفسهم عن السبيل ، كما أنهم ليسوا هم الذين زينوا لأنفسهم المكر انما الشيطان.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)

ابتلوا هؤلاء بثلاث :

١ ـ زيّن لهم مكرهم.

٢ ـ صدّوا عن السبيل.

٣ ـ إضلال الله لهم.

نهايتان :

[٣٤] (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)

على الإنسان ان يستدل بعذاب الدنيا على عذاب الآخرة مع ضرب هذا الرقم

٣٥٠

بالملايين ، وان عذاب الدنيا يختلف شكلا عن عذاب الآخرة ، فقد يكون عذابهم في الدنيا نفسيا أو عذابا جسديا ، وقد يكون كلاهما.

[٣٥] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

هذه صفتها ..

(أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها)

أهل الجنة يأكلون أبدا.

(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا)

هذه نتيجة تقواهم.

(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)

هذه معادلة ، فالكفر والتقوى يساويان تماما النار والجنة.

٣٥١

سورة الرعد

وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)

٣٥٢

حكما عربيا

هدى من الآيات :

مواقف الناس من الكتاب ثلاثة. فاما مؤمن به كلّه ، أو مؤمن به في حدود مصلحته ، أو كافر به ، وبمناسبة الحديث عن أصناف الناس واتجاهاتهم من الكتاب يحدثنا الله عن : ان القرآن عربي ، وعروبة القرآن ليس تعصبا بربريا للعربية فالقرآن عربي إلّا أنه يخالف كل السخافات العربية ، والقرآن أيضا لا يتنازل عن قيمه مجارات للثقافة العربية الشائعة آنذاك.

بينات من الآيات :

الايمان المصلحي :

سبق الحديث في الدرس السابق ، ان سبب الكفر بالرسالة هو الكفر بالرحمن ، فيعني ذلك أن المؤمنين الصادقين بالقرآن يؤمنون بالرحمن وبالتالي فهم يطبقونه لأنه يجسد ارادة الله وهداه.

٣٥٣

[٣٦] (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

تجسد هذه الآية الحالة النفسية التي تعتري المؤمنين من أهل الكتاب لدى نزول القرآن ، لان نزول القرآن انتصار لهم ، وتجسيد لارادتهم ، ويقول الله عنهم : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) ٨٣ / المائدة.

(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ)

والأحزاب هم اليهود والمشركون ممّن تحزبوا على رسول الله (ص) وقد قال الله سبحانه : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ٨٢ / المائدة.

الأحزاب هو جمع حزب ، ولا يسمي الله المؤمنين مهما كانوا أو اختلفوا إلا حزبا واحدا لأنهم تجمعهم الأهداف والمنطلقات فهم متحدون في كل شيء ، اما الأحزاب (الجمع) فتطلق للأحزاب التي تعادي الرسالة التي تختلف فيما بينها في كل شيء الا معاداة الرسالة ، وعند ما يقول الله (إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ) فقد ذكر الله الصفة البارزة التي تجمع أحزاب الشيطان بأنها على اختلاف مشاربها تتفق على قاسم مشترك وهو اتباع الشيطان ، مثل الشرق والغرب يختلفون في كل شيء الا في استغلال العالم ونهب ثرواته.

هذه الأحزاب تحاول احتواء الرسالة. تفضل الحل الوسط بعد معرفتها بصدق الرسالة ، وهي تأخذ من القرآن ما يحفظ لها مصالحها ، ويدعم امتيازاتهم.

(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ)

٣٥٤

انما يؤمن بالكتاب حقا من يؤمن بالله ، فهناك تلازم بين الايمان بالكتاب والايمان بالتوحيد.

(إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)

اليه دعوتي ان ضاقت بي المسالك ، واليه مآبي ورجوعي في جميع أموري ومعادي.

الحقائق القرآنية في مواجهة الأهواء :

[٣٧] (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا)

الحكم هو القضاء ، والعربي : بمعنى الاعراب ، والاعراب هو الإفصاح ، وليس معنى قولنا : ان القرآن عربي انه يوافق العرب في اعتقاداتهم.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)

اللغة عربية ولكن المحتوى إلهي ، والعربية لغة وليست مشرّعة ، أما التشريع الالهي فهو علم ، والعلم هو معرفة الحقائق وكشفها ، والأهواء شهوة عاجلة.

(ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ)

الله ولي الذين آمنوا كما قال وأن الكافرين لا مولى لهم ، فلئن اتبع الرسول أهواء قومه سيفقد ولاية الله ومن ثم لا ينصره ، وعند ما يتخلى الرسول عن العلم إلى الهوى. آنئذ يعذّبه الله ولا يجد له من دونه واقيا ، فاذا خالفك الناس سينصرك الله ، وإذا خالفت الله متبعا أهواء الناس سيخذلك الله ولا تجد من دونه نصيرا.

٣٥٥

حياة الرسل وقدراتهم :

[٣٨] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً)

ان الأنبياء بشر ، تطرأ عليهم نفس العوامل التي تطرأ على البشر ، فهم يتزوّجون وينجبون ، فليس الأنبياء ممن يتعالون على جنسهم.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

إن الرسول لا يملك بذاته أمر الآيات ، بل إن الله يظهرها متى شاء على يد نبيّه من دون ان يؤثّر فيها.

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ)

كل شيء محدود بأجل.

٣٥٦

سورة الرعد

يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

____________________

٤١ [معقّب] التعقيب رد الشيء بعد فصله ، ومنه عقب العقاب على صيده إذا ردّ الكرور عليه بعد فصله عنه.

٣٥٧

الحتم والممكن يمحو الله ما يشاء

هدى من الآيات :

في هذا الدرس الأخير من سورة الرعد يذكرنا السياق القرآني بأن الأمور بيد الله وان إرادته مطلقة تتجاوز التقدير والسنن وانه يمحو ما يشاء ويثبت ، وثانيا : انه ليس على الرسول الّا البلاغ وان على الله الحساب ، فان شاء نزّل العذاب على أولئك الكافرين وان شاء اخّره.

الله مهيمن على الكون فهو الذي ينقص الأرض من أطرافها ، وحكمه حكم حتم لا ينقضه أحد ، وهو سريع الحساب ، وإن الله لم يعص عن غلبه ، والذين مكروا السيئات يمكر الله بهم وهو خير الماكرين ، وغدا حين يحشر الكفار سيعلمون لمن عقبى الدار ، أما الذين يقولون بأن الرسول ليس مرسلا فان الله يرد عليهم عن لسان نبيه (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

بينات من الآيات :

[٣٩] جوهر رسالات الله يتلخص في ربوبية الله ، وهذه السورة تعمق هذه

٣٥٨

الفكرة ، وهذه الفكرة تشكل الفرق بين رسل الله وفلاسفة البشر ، فرسل الله بشّروا بهذه الفكرة ، أما ما توصل اليه عقل هذا الإنسان العاجز ، ان لهذا الكون خالقا خلقه ثم تركه يسير بالسنن ، كمن يخلق ساعة الكترونية ويتركها تسير ضمن قوانين محددة ، وقد صاغ أحد فلاسفة البشر الملحدين هذه الفكرة!!

وعموما فان فلاسفة البشر ينبئنا عن إله ميت لا ولاية له ولا دعوة ، بينما رسالات الله تنبؤنا عن إله حيّ قديم لم يزل ولا يزال ، وتوجد هناك صلتان نستطيع ان نتصل مع الله بهما.

أولا : الدعاء :

باستطاعتك ان تتصل بالله عبر الدعاء ، وان باستطاعتك ان تغير ما كتب عليك بسببه ، فبالدعاء أنت قادر على تغيير الطبيعة ، وتغيير القضاء المحتوم عليك.

ثانيا : صلة العمل الصالح :

فلسفة البشر تقول ان الله قد كتب على الكون مقدراته ، وانه لا ينفع شيء امام هذا التقدير ، وهذه فلسفة القدرية الذين آمنوا بالحتميات ، فصار عندهم كل شيء محتوم .. إذا عملك الصالح لن ينفع أمام التقدير المحتّم ، أما نحن فلا نؤمن بالحتميات (السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية) نرى ان من الممكن تغيير كل حتمية ، فصحيح أنّ هناك قوانين وسننا ، ولكن الإنسان يعلو بإيمانه وعمله الصالح على هذه الانظمة والسنن ان الله أكبر من القوانين والسنن انه هو صاحب المشيئة المطلقة ، ولا شيء محتم عليه ، فهو يمحو ما يشاء ويثبت ، والإنسان الذي يتصل بالله يتصل بهذه المشيئة المطلقة التي لا حتمية عندها ، أما إذا قلنا بأن القلم قد جفّ ، وأن الأجل قد انتهى وأن القدر قد كتب في الكتاب إذا فلا معنى للدعاء والعمل الصالح. قال تعالى :

٣٥٩

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ)

إذا كنت في قائمة الأشقياء فباستطاعتك أن تكون من السعداء إذا اتصل قلبك بالله ذي الطول ، قال الله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (١٨٦ / البقرة)

وقال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٦٠ / غافر)

فهو الذي أمرنا بالدعاء وضمن لنا الاجابة.

(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)

الكتاب لفظ يؤدي الى معنيين : المعنى الاول : هو اللوح المحفوظ ، والمعنى الثاني : هو أم الكتاب ، فأم الكتاب انعكاس لعلم الله بما كان وبما يكون ، فالله عالم محيط علما بكل شيء ، قبل وبعد أن يكون ، وعلم الله ليس علم الكشف ، بل انه يتعدى الى المسببات والمؤثرات ، لأنه صانعها ، فعلم الله بالمسبب لا ينفي علمه بالسبب فأنا أعلم ان الصخرة تسقط من علّ ، فعلمي بالسقوط يسمى كشفا ، ولكن لا يعني ذلك أني أنا المؤثر في السقوط ، فالمؤثر في السقوط هي الجاذبية.

تكشف هذه الآية فكرة البداء ، وتعتبر هذه الفكرة قطب الرحى في الحكمة الاسلامية وهي أكثر الأفكار تقدمية وحضارية ، وأكثر الأفكار تربية للبشر ، فالذي يعلم ان الأقدار بيد الله يكون أكثر تحركا ، جاء في الأحاديث :

١ ـ عن ابن مردوية وابن عساكر ـ من أكبر علماء السنة ـ عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله عن هذه الآية ، فقال :

«لأقرّن عينيك ولأقرّن عين أمتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها يحول

٣٦٠