من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

من بعضهم.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)

فخلودهم لا يجعلهم آلهة ، لأنه خلود قائم على اذن ربهم ، والله وعد بذلك فلن يخلف الميعاد.

(تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)

كلمة طيبة وكلمة خبيثة :

[٢٤] لماذا تشتد الريح بما كسبه الكافرون؟

لأنه لا يعتمد على أساس راسخ الجذور.

حين تكون عقيدة الفرد قائمة على أساس العلم ، وتكون إرادته ضمانه لتلك العقيدة ضد ضغوط الهوى والمجتمع ، حينها يكون قول الفتى ثابتا على الحق ، لا يغيره إرهاب أو ترغيب أو عسر أو حرج ، فانه يكون مثل الشجرة المفيدة التي ضربت بجذورها في تخوم الأرض ، وانتشرت فروعها في عرض السماء.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ)

[٢٥] ولأن العقيدة الثابتة ، قوية الجذور ، ويتعهدها الفرد بكل طاقاته ، فهي ستكون كثيرة الثمار من أعمال صالحة ، وأقوال طيبة ، وسلوك حسن.

(تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ)

٤٠١

كلّ وقت.

(بِإِذْنِ رَبِّها)

بالتوكل على الله.

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

فعن طريق تشبيه الشؤون البشرية بالطبيعة المخلوقة قد يصل العقل الى كنه الحقائق.

وسواء كانت هذه الشجرة نخلة أو شجرة وهمية أو شجرة مجهولة أو حتى كان المراد بها الشجرة الطيبة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته الطاهرين كما جاء في روايات كثيرة ، فان الهدف معرفة الأمر الحاسم لثبات العقيدة الصادقة في طيب عطاء الفرد وكثرته.

[٢٦] أما الكلمة الخبيثة التي تعني تلك النفس التي لا تعتمد على أصل العقيدة الراسخة ، فان مثلها كمثل شجرة خبيثة ليس لها قرار في الأرض ، ولا ثمر.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ)

الكلمة في القرآن تشير الى محتواها وليس لفظها ، كما ان كلمة الله (كن فيكون) اشارة الى إرادته العليا ، وعيسى كان تجسيدا لكلمة (كن فيكون) لذلك سمي بكلمة الله.

فالكلمة الخبيثة : هي الفكرة الخبيثة الباطلة ، التي تعبر عنها الكلمة وهي كما يشير اليه السياق القادم ـ ان يجعل لله أندادا ليضلوا عن سبيل الله ـ.

٤٠٢

(كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)

وتشبه هذه الشجرة التجمعات القبلية أو الحزبية الضالة ، كبني أمية في التاريخ ومثل حزب البعث اليوم.

القول الثابت :

[٢٧] الكلمة الطيبة : هي كلمة التوحيد التي يثبّت الله عليها المؤمنين ويجعلهم في حصنه حتى لا تزلزلهم عواطف الشهوات ، ولا تزيلهم عواصف الضغوط ، فلا ترغيب الأغنياء المترفهين ، ولا إرهاب المستكبرة قادر على ان يزحزحهم عن مواقفهم الثابتة في الدفاع عن حقوقهم وعن كرامتهم.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)

ذلك جاء في الحديث :

«كلمة لا اله الّا الله حصني ، فمن دخل حصني أمن من عذابي»

وجاء في الدعاء :

«بسم الله كلمة المعتصمين وأمان المتحرزين»

ان النفس البشرية خلقت من ضعف ، وان الشيطان ، ودواعي الهوى ، ومشاكل الحياة قد تتراكم ضغوطها عليها ، ولو لا الأيمان بالله ، وتذكر انه الرقيب الشاهد عليها ، والثقة بوعده وبنصره ، والتوكل على قوته في مواجهة بطش الطغاة ، وكيد الماكرين إذا لانهارت النفس. لذلك يكرر المؤمنون هذا الدعاء : «اللهم أعني على نفسي بما تعين الصالحين على أنفسهم».

٤٠٣

أما الظالم الذي يعتدي على حقوق الآخرين ، ويبني ضرورات حياته وعيشه على البغي فان بقايا النور في قلبه تسلب منه وكلما توغل في سبيل السعي كلما كانت توبته عنه أبعد ، وكانت نفسه أميل الى الفساد.

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)

٤٠٤

سورة إبراهيم

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢)

____________________

٢٨ [أحلوا] : الإحلال وضع الشيء في محل اما بمجاورة ان كان من قبيل الأجسام ، أو بمداخلة ان كان من قبيل الاعراض.

[البوار] : الهلاك.

٣١ [خلال] : الخلال جمع خلة ، وخاللته أي صادقته.

٤٠٥

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)

____________________

٣٣ [دائبين] : الدؤوب مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه.

[اجنبني] : ابعدني.

٤٠٦

الشكر بين الصلاة والزكاة

هدى من الآيات :

وكما ان ربنا ، يثبّت الذين آمنوا بما آمنوا ، فان ضلالة الظالمين تبدو منهم ، الا ترى كيف أنهم يبدلون نعمة التوحيد ونعمة الرسالة وسائر النعم الإلهية المعنوية والمادية الى نقمة بسبب كفرهم بها ، وترك شكرها ، وهم يقودون قومهم الى دار الهلاك ، في جهنم حين يحترقون بنارها ، ويستقرون منها مكانا سيئا وهم يبدلون النعمة كفرا حين يفتشون عن أنداد لهم من سلطات جور وعلماء سوء ، فيضلون بهم الناس عن الله ، وان مصيرهم الى النار.

ان شكر نعمة التوحيد هو الصلاة لله لتوثيق عرى الايمان ، والإنفاق على المحرومين في السر والعلانية ، والخوف من الحساب في يوم القيامة حيث لا بيع فيه ولا خلال.

ولماذا لا نشكر ربنا وهو الذي خلق السماوات والأرض ، وانزل من السماء ماء فاخرج به هذه الثمرات المتنوعة رزقا مباركا لنا ، كما سخر الرياح لتحمل الفلك في

٤٠٧

البحر ، وسخر الأنهار ، وأكثر من هذا سخر الشمس والقمر يعملان باستمرار ، وسخر النور والظلام ، وآلاف بل ملايين النعم التي لا نحصيها لو أنا أردنا تعدادها ، كل ذلك من أجل رفاهنا وتكاملنا ، وان الإنسان لظلوم يطغى في الأرض ، ويكفر بنعم الله ، ولذلك يكون مثله .. مثل شجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، كما جاء في الدرس السابق.

بينات من الآيات :

وأحلوا قومهم دار البوار :

[٢٨] الغاية من نعم الله على البشر أن تنعكس في حياتهم المادية شكرا في صورة الوصول بها الى اهدافها ، وفي حياتهم المعنوية تكاملا وهدى وخلقا رفيعا ، بينما ترى بعض كبراء الكفر يسعون في الأرض فسادا ، فبدل ان يطعموا الطعام يتلفونه ، وبدل ان يطعموا منه البائس والفقير يتخذونه وسيلة لاستعباد الناس وتذليلهم ، وبدل ان تبعث النعمة في أنفسهم الرضا والسكينة يزدادون بها طغيانا وحرصا وإسرافا ، وبالتالي قلقا وتوترا ، وهكذا يبدلون نعمة الله الى كفر.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً)

أظهر امثلة نعمة الله هي نعمة الرسالة التي كفروا بها ، ولا يزال الكبراء وأشياعهم من خدمة الكفر يكفرون بهذه النعمة ولا يشكرون.

ولكن هذه النعمة ليست الوحيدة التي لا يشكرونها بل هناك نعم اخرى كذلك يتخذونها وسيلة للكفر ، مثل نعمة السلطة والرفاه والسلامة والأمن.

وهؤلاء يجعلون قومهم في منزل الهلاك بسبب كفرهم بالنعم ، فيقودون الضعفاء في حرب ضد أصحاب الرسالة.

٤٠٨

(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ)

ان الهزيمة ستكون من نصيب كبراء الكفار ، ولكنهم يسحبون وراءهم جيشا من المستضعفين ، ويذيقونهم مرارة الهزيمة.

[٢٩] هذا في الدنيا أما في الآخرة ، فان مصيرهم جميعا ..

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)

[٣٠] ولكي يدعموا سلطاتهم الطاغوتية على الناس ، ولكي يواجهوا منطق الحق بباطل مزخرف ، فإنهم يدعون الناس الى الأصنام الباطلة ، مرة يرفعون راية العنصرية والعصبية العشائرية ، ومرة ينعقون باسم آبائهم الأولين ، وقد يهتفون باسم الأرض أو اللغة أو الوطن ، أو باسم الأمن والرفاه ، كل ذلك ليصرفوا الناس عن التوحيد الذي هو أسمى قيمة معنوية للإنسان.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ)

وهدفهم من كل ذلك التمتع الساذج بلذائذ هذه الدنيا الدنيّة ، ولكن الى متى تدوم لهم النعم؟ انها لا تدوم إلّا الى أجل قريب.

(قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)

الشكر الحقيقي :

[٣١] أما المؤمنون بالرسالة فإنهم يشكرون هذه النعمة.

أولا : بإقامة الصلاة وتنمية روح الأيمان بالله ، لكي يزدادوا ثباتا واستقامة.

ثانيا : بالإنفاق الذي هو بدوره يزيد النعم.

٤٠٩

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ)

فانفاق العلم بتعليمه ، وإنفاق الجاه ببذله ، وإنفاق القوة بالتعاون مع البؤساء ، كل ذلك يزيد النعم ، وليكن الإنفاق سرا لضمان الإخلاص ، وعلانية لتحدي الكفار.

(سِرًّا وَعَلانِيَةً)

وليكن لانفاق بإخلاص تام ، وخشية من النار.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)

فلا تستطيع ان تبدل بما عندك شيئا ، كما لا تنفك الشفاعة من قبل الأخلّاء والأصدقاء.

توالي النعم :

[٣٢] لماذا نكفر بالنعم؟ ولماذا لا نؤمن بالله ، ونشكره؟ وهل كنا في غنى عن رحمته؟!

ان أعظم النعم هي نعمة الخلقة الاولى ، ثم نعمة تسخير السماوات والأرض لنا بحيث نقدر على الاستفادة منها ، ولو كانت ممتنعتان عنا ، أو كنا عاجزين عن الانتفاع منهما بجهل أو بضعف فمن الذي كان يسخرهما لنا؟

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ)

انظر الى الطبيعة المخلوقة نظرا جديدا وعبريا ، فهل ترى غير نعم الله تحيط بك ..

٤١٠

لماذا لا يهز ضميرك منظر المطر يهبط لك من السماء نعماء ورحمة ، من الذي رفع ملايين الأطنان من مياه البحر بعد تصفيتها بالتبخير ، ومزجها بأكسجين الفضاء ، وبنتروجين الرعود ، ونشره في كل جهة ، من الذي جعل في الأرض الأملاح والخصوبة والبذور لتتحول الأمطار فيها الى ثمرات مختلفة؟!

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)

أو تزعم ان السفن تبحر في البحار بأمرك ، فلو ان الرياح ركدت أو ان الأمواج تصاعدت ، فهل جرت السفن حيث تشتهي.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ)

[٣٣] والشمس التي هي أكبر من أرضنا بكثير ، والقمر الذي هو أصغر من أرضنا كل يجري في فلك ونظام بحيث ينفع الحياة فوق كوكبنا بضوئها وبجاذبيتهما وطريقة دورانهما ، من الذي سخرهما أفلا نشكره؟!

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

فعند ما يعم الظلام الارجاء تخلد الى النوم براحة نفسية ، وعند ما ينبعث ضياء النهار ، تنبعث حيوية وهمة.

[٣٤] وبالرغم من ان طموحات البشر لا تتحقق عادة جميعها ، ولكن هناك تناسب بين هذه الطموحات وبين عطاء الله سبحانه ، فبقدر أملك في الله ، وسؤالك منه ينشر عليك نعمه.

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ)

ففي ضيق الشدائد ، وعند المدلهمات تجد فرج الله وروحه «(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ

٤١١

إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)» وعند ما تتعب سفينة أمالك ترسو على شاطئ رحمة الله الذي يقول لك : «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ». وهناك تجد تحقيق آمالك وتخاطب ربك قائلا : «الهي طموح الآمال قد خابت الّا لديك ومعاكف الهمم قد تعطلت الّا عليك ومذاهب العقول قد سمت الا إليك فأنت الرجاء وإليك الملتجأ» (١)

وأي نعمة تحصيها عددا ، أجل لو كانت الأشجار أقلاما ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)

ان كل خلية في بلايين الخلايا التي تشكل جسمي نعمة كبري يعجز القلم عن الاحاطة بها ، ـ فأي نعمة تحصيها ـ وكيف ، ولكن أنت ترى الإنسان كيف يظلم نفسه بالكفر بنعم الله.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

فأكثر الناس يظلمون أنفسهم والآخرين بالنعم فيتخذون من نعمة اللسان وسيلة التشهير والبهتان ، ومن نعمة اليد البطش والاعتداء ، ومن نعمة المال البخل والترف والاستعلاء ، ومن نعمة القوة الاستكبار والقهر والديكتاتورية ، وهكذا يكفرون بنعم الله ، ولا يحققون بها اهدافها النبيلة ولو فعلوا لكان ذلك شكرا عمليا منهم.

__________________

(١) من أدعية ليلة الجمعة مفاتيح الجنان قسم أعمال ليلة الجمعة.

٤١٢

سورة إبراهيم

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨)

____________________

٣٧ [بواد] : الوادي سفح الجبل العظيم ، ومنها قيل للأنهار والعظام أودية لان حافاتها كالجبال لها ، ومنه الدية لأنه مال عظيم يحتمل في امر عظيم.

٤١٣

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)

٤١٤

إبراهيم أسوة في الشكر

والدعوة الصالحة

هدى من الآيات :

لقد أعلن ربنا ان من يشكره يزيده عطاء ، ومن يكفر به فان عذابه لشديد ، وفي هذا الدرس يضرب مثلا للإنسان الشاكر الذي لا يشق له غبار وهو إبراهيم (ع) بينما الدرس التالي يذكّر بمصير الكافرين.

وقد وعد ربنا ان ينصر رسله بسبب خوفهم من ربهم ، وهذا إبراهيم يرفع الى الله يد الضراعة ليجعل مكة بلدا آمنا ، ظاهرا بحرمته ، وباطنا بنظافته عن الأصنام التي أضللن كثيرا من الناس حتى فقدت الكثرة العددية شرعيتها ، وبقي المقياس هو الحق ، واتباع الرسل ، فمن تبع إبراهيم فهو من إبراهيم ، أما من عصاه فان رحمة الله فقط وليس انتماؤه النسبي الى إبراهيم سوف ينقذه بإذن الله.

وبعد ان استعرض إبراهيم طاعته لله ، حين اسكن بعض ذريته في صحراء الحجاز حيث لا زرع ولا ضرع ، دعا ربه بان يوفقهم لأداء الصلاة على وجهها ، وان

٤١٥

يجعلهم قبلة القلوب ، وان يرزقهم من الثمرات ، كل ذلك بهدف ان يشكروا ربهم ، فيستخدموا النعم لراحة الجسد ، وأمواج الروح ، وأن يجعلوا الله الشاهد عليهم لأنه يعلم ما يخفون وما يظهرون ، ولا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء.

وقد استجاب له ذلك ، أو ليس هو الذي رزقه على الكبر إسماعيل وإسحاق ، فانه إذا سميع الدعاء ، ولكي يكون شاكرا فعليه ان يقيم الصلاة ، وان يدعو لأولاده بذلك ، وان يستغفر الله لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ، حتى تكون آصرته الإيمانية وليس الأسرية أقوى شيء ، وان يخشى الحساب.

هذا إبراهيم قدوة الشاكرين ، أفلا نكون مثله؟

بينات من الآيات :

الاستقلال الفكري :

[٣٥] طيلة اربع وستين قرنا لا أقل كانت مكة بلدا آمنا بدعاء ذلك الشيخ الذي تجرد عن ذاته ، وعن علاقاته النسبية ، وترك فلذة كبده إسماعيل وأمه في تلك الأرض القاحلة بهدف اقامة بيت لله ، يظلله السلام أمام هجمات الشياطين المادية والثقافية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)

وهل كان ينفع السلام العسكري لو تم غزو أبناء إبراهيم ثقافيا واجتماعيا ، واقتصاديا وسياسيا ، لو كنت تزعم بأنك أقل شأنا من الأوربي وان له حق السيادة عليك ، أو زعمت بان عائلة (آل فلان) هم أصحاب الملك والحكم عليك ، دون ان يكون له حق اختيارهم أو رفضهم ، أو زعمت ان الماركسية وأربابها هي أفضل لك

٤١٦

من عبادة الله ، فهل ينفعك الاستقلال العسكري شيئا.

ان أسوء أنواع العبودية لا ريب هي السيطرة العسكرية وهي ما دعا إبراهيم ربه ان يأمن أهل مكة منها ، وقد استجاب له ربه دعاءه ، وابرز مظاهره ذلك هلاك أصحاب الفيل ، حيث حمى ربنا البلد الحرام من الاحتلال العسكري ، وهو ما يسمّيه بالطاغوت.

ولكن أصنام العبودية الثقافية ، أو التبعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أخفى خطرا ، ولم يستجب فيها ربنا دعاء إبراهيم ، إذ يتنافى وما قدر الله من حرية البشر في الدنيا.

[٣٦] ولأن أقوى اسلحة الجبت ، وعبادة الأصنام هو الاحساس القوي عند الفرد بضرورة التوافق الاجتماعي ، فان إبراهيم (عليه السّلام) أكد ان الأصنام قد أضللن كثيرا من الناس ، لكي يعرف الإنسان ان اتباع الناس يعني الضلالة في الأغلب فيتحصن ضد غرور الكثرة.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)

ان الأصنام تتجسد في قوى اجتماعية ثقافية ، أو اجتماعية وسياسية ، وربما لذلك نسب الضلالة إليهن ، وجاءت بصيغة الجمع فلم يقل أضلت بينما كان ذلك الأنسب الى غير ذوي العقول ، لو كانت الأصنام هذه الأحجار والأخشاب المعبودة.

ومن جهة ثانية : لأن قريشا خدعوا ضمائرهم حين استسلموا لضغوط الأصنام ، وبرروا موقفهم المتخاذل من التوحيد بأنهم أولاد إبراهيم فلا ضير عليهم ، كما فعلت بنوا إسرائيل مثل ذلك ، لذلك أكد إبراهيم (ع) براءته منهم.

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

٤١٧

ربما لم يقل إبراهيم ومن عصاني فان عذابك شديد لكي يتجنب الذاتية في تعبيره فلا يضمن تعبيره انه هو سبب العذاب.

دعوة إبراهيم لأبنائه :

[٣٧] إبراهيم رجل الرسالة ، الذي قضى عمره يجاهد من أجل التوحيد ، فلم يستجب له الا قليل ، فرزقه الله أولياء يرثون دعوته ، بعد ان بلغ من الكبر عتيا ، وها هو يؤمر ان يسكن بعض ذريته في صحراء قاحلة فيستجيب لربه شاكرا ، وهدفه من الذرية لم يكن سوى أن يحملوا مشعل التوحيد من بعده ، ولذلك يطلب من ربه بالنسبة الى ذريته أمرين :

أولا : ان تهوي إليهم أفئدة من الناس ، وبسبب حب الناس لهم يستمعون الى تعاليم ربهم.

ثانيا : ان يكفيهم الله أمور الدنيا ، فيرزقهم من الثمرات حتى لا ينشغلوا بطلب الدنيا عن تبليغ الرسالة.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)

وترك بأمر الله هاجر وابنها الرضيع إسماعيل في أرض مكة ، وكانت قفرا ذلك اليوم بسبب جذبها.

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)

وهذا يدل على ان هدف الحج الى الكعبة ليس فقط الطواف حول الأحجار المرصوصة الى بعضها تخشعا لله ، بل وأيضا التمحور حول أوليائها ، الذين هم ورثة إبراهيم ، وحملة مشعل الرسالة ، وهم أئمة الهدى ، والعلماء بالله ، الأمناء على حلاله

٤١٨

وحرامه ، وهم بالتالي القيادة الرسالية التي هي امتداد لقيادة الرسل عليهم صلوات الله.

(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)

يشكرون حج الناس ، ورزق الله بخدمة الحاج ، وتوجيههم وعدم التسليم لضغوط الغزاة الثقافيين.

كيف نشكر الله؟

[٣٨] وينبغي ان يكون الشكر مخلصا لله ، فلا تتجرد خدمة الحجاج عن دعوتهم لي الله ، ولا يجعل سقاية الحاج وعمارة المسجد وسيلة المفاخرة والتعالي ، وبالتالي لا تصبح طقوس الحج قشورا فارغة ، بل وسيلة للزلفى الى الله والانابة اليه سبحانه.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)

[٣٩] وعاد إبراهيم يذكر نعمة الذرية ، ربما لان أهل مكة في عهد النبي (ص) كلهم من ذرية إسماعيل الذي هو استجابة دعاء إبراهيم ، فلما ذا يكفرون بنعمة الله ولماذا ينسون أصولهم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)

فلو شكرنا ربنا ودعوناه لاستجاب دعاءنا كما استجاب لأبينا إبراهيم عليه السلام.

٤١٩

[٤٠] وإبراهيم (عليه السّلام) ذاته كان مقيم الصلاة ، ومجده كان بالصلاة فلا نجعل نحن أبناءه انتمائنا اليه نسبيا مجدا من دون اتباع تعاليم السماء ، وهو يريد ان نكون مثله.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ)

[٤١] وإبراهيم عليه السّلام كان منتميا بذاته الى تجمع ايماني أكبر ، ولا بد ان نتخذ ذلك التجمع محورا لتحركنا لا الانتماء الى نسبه ، ودعاءه للمؤمنين جميعا.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)

وهكذا ضرب الله لنا مثلا من واقع إبراهيم ، كيف شكر الله على نعمائه ، ودعائه بتحقيق طلباته ، فشكره الله واستجاب له ، وكذلك يستجيب للمؤمنين.

٤٢٠