من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

(وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ)

إذا زال الزبد بقي الجوهر ، والباطل لا يستطيع أن يغطي الحق أبد الآبدين ، فالباطل سريع الزوال ، لأنه ضد الطبيعة ، وان الباطل لا يمتلك مؤهلات الوجود ليستمر.

[١٨] (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)

هذه العبرة من الأمثال : فالذين استجابوا لرسالة ربهم المتمثلة في المطر ، وساحت أودية قلوبهم ، استجابوا بالإيمان فان لهم الحسنى جنات تجري من تحتها الأنهار ، والذين لم يستجيبوا لرسالة الله لو أن عندهم ما في الأرض ومثله معهم من الزبد لما منع عنهم سوء الحساب وجهنم. نعوذ بالله منها.

٣٢١

سورة الرعد

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)

٣٢٢

المؤمنون .. صفات وتقييم

هدى من الآيات :

ضمن سياق سورة الرعد التي تسوقنا الى الايمان بالله من خلال آياته ، يذكرنا الرب بصفات المؤمنين السلوكية ، وصفاتهم النفسية ، ومن أبرز صفات المؤمنين الملتزمين

الوفاء بعهد الله سبحانه الذي عاهد الله به الإنسان في عالم الذر ، والانتماء الى جبهة الرسالة ، ومعاداة غيرها ، وخشية الله في كل حال ، والخوف من سوء الحساب ، والصبر عند الشدائد احتسابا لوجه الله ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في السر والعلن ، والخلق الرفيع ، ومواجهة الانحراف والفساد في المجتمع.

وأخيرا فمن تجسدت فيه هذه الصفات هل هناك جزاء له أحسن من الجنة التي تجري من تحتها الأنهار ، والملائكة يدخلون عليه من كل باب يرحبون به.

٣٢٣

بينات من الآيات :

(أُولُوا الْأَلْبابِ) :

[١٩] (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى)

هناك موقفان من القران :

الموقف الأول : هو الموقف المعترف بالحق الكامل المتجسد في القرآن.

الموقف الآخر : هو المتعامي عن القرآن الحق ، فالقرآن حق به يبصر قوم ويعمى آخرون ، والقرآن لا يتأثر بعمى قوم أو إبصار آخرين ، لأن القرآن حق ثابت ، ونحن الذين نتطور بالقرآن والسؤال من الذي يهديه الله الى القرآن؟ الجواب :

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)

لماذا خصّ من يستفيد من القرآن بأصحاب العقول لأنه لا يعرف القرآن ولا يستفيد منه الا من نمّى عقله وأخضع سلوكه لعقله. وتجاوز هواه وشهواته ، وجدير بالقرآن ان يفهمه مثل هؤلاء الرجال وهم أولوا العقول.

ما هي صفات اولى الألباب وأصحاب العقول الذين ضبطوا أنفسهم ضمن أطار العقل.

الصفة الاولى :

[٢٠] (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ)

عهد الله على الإنسان في عالم الذر عند ما قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ

٣٢٤

الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (١٧٢ ـ ١٧٣ / الأعراف)

وجاء في القرآن قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦٠ ـ ٦١ / يس)

عهد الله هو طاعته وتجنب معصيته ، فبعد الالتزام بعهد الله سبحانه على الإنسان بالطاعة ، تأتي بقية الصفات.

الصفة الثانية :

(وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ)

الوثاق هو الرباط ، والميثاق : عقد مؤكد بيمين أو عهد ، وموثق الله هو ما أخذه على جميع البشر أن يعبدوه ويوحدّوه ، وقد جاء في الروايات ان موثق الله هو موالاة أوليائه ، وقد أخذ الله على كل الناس موثقا فقد أخذ موثقا عاما كما قال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) (٧ / المائدة)

وأخذ على بني إسرائيل موثقا آخر كما قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٨٣ / البقرة)

وقد أخذ الله على النبيين ميثاقا أيضا : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١ / آل عمران)

٣٢٥

ولموثق الله معنيان أولا : طاعة الله كما قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كما سبق ، ثانيا : تجنب معصية الله والافتراء عليه : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) (١٦٩ / الأعراف)

الصفة الثالثة :

[٢١] (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)

ما أمر الله به أن يوصل هو الرحم ، وقد جاء في الحديث عن زين العابدين (ع) أنه قال لابنه الباقر (ع):

يا بني إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فاني وجدته ملعونا في كتاب الله عزّ وجل في ثلاث مواضع قال في البقرة : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١)

ـ والحديث طويل ـ.

وقد تظافرت النصوص بحيث لا تقبل الشك لكثرتها وتواترها : ان ما امر الله به ان يوصل هم أهل البيت ، ولكن لا يعني ان الآيات لا تنطبق على كل رحم كما جاء في الحديث عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبدالله (ع):

(الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)

فقال :

«نزلت في رحم آل محمد صلّى الله عليه وآله ، وقد يكون في قرابتك ، ثم قال :

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ـ ج ١ ـ ص ٤٥

٣٢٦

فلا تكونن ممّن يقول للشيء أنه في شيء واحد» (١)

الصفة الرابعة :

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)

خشية الله هي الضمان الحقيقي من الانحراف كما قال : «ولا تخشوهم واخشوني» والخشية من الله هي الخوف من أن يصب علينا عذابه ، ويأخذنا على حين غرّة ، وقبل أن نبادر بالأعمال.

الصفة الخامسة :

(وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ)

يبدوا أن الفرق بين الخشية والخوف ، ان الخوف أقل من الخشية كما قال العلامة الطباطبائي (٢) في الميزان : والظاهر ان الفرق بين الخشية والخوف ، ان الخشية تأثر القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه ، والخوف هو التأثر عملا بمعنى الاقدام على تهيئة ما يتّقى به المحذور وان لم يتأثر به القلب ، ولذا قال سبحانه في أنبيائه : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (٣) فنفى عنهم الخشية عن غيره ، وقد اثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧ / طه)

وقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (٥٨ / الأنفال)

وسوء الحساب هو : ان لا تقبل حسناتهم ، بل يؤخذون بسيئاتهم ، وقد جاء في

__________________

(١) تفسير الميزان ـ ج ١١ ـ ص ٣٤٩

(٢) تفسير الميزان ـ ج ١١ ـ ص ٣٤٣

(٣). (٣٩ / الأحزاب)

٣٢٧

معنى سوء الحساب أنه : هو الاستقصاء والمداقة ، وسمي سوء الحساب لهوله وشدته كما جاء في الحديث :

«ما من عبد انصبته للحساب الا هلك»

أن المؤمن يخاف من إحصاء سيئاته فلا تغفر ، وتعد حسناته فلا تقبل.

الصفة السادسة :

[٢٢] (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)

فاذا أنت أوكلت أمرك لله سبحانه فستجد أن الله يعينك على ما صبرت عليه ، وما أجمل الصبر إذا كان الله وراءه ، ولكن لماذا الصبر ابتغاء وجه الله؟

لان الله سبحانه هو الذي يبتلى الإنسان. اما ليختبره كما قال : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ما فِي قُلُوبِكُمْ» أو يبتليهم بما كسبت أيديهم لينقيهم ويصفيهم من الذنوب ، فاذا صبرت واحتسبت فأجرك على الله. فهذا يدل على صدق الايمان كما ، يدل على رضى الإنسان بقضاء الله وقدره.

الصفة السابعة :

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ)

القيام بالصلاة غير أداء الصلاة ، وإقامة الصلاة مشروطة بالعزم والاهتمام بسائر شروط ومواصفات الصلاة.

الصفة الثامنة :

(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)

٣٢٨

الإنفاق بالسر ضد الرياء ، والإنفاق في العلن تحدّ لمن لا يريد منك الإنفاق ، أو تشجيعا للإنفاق.

الصفة التاسعة :

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)

معاملتهم مع الناس ليس معاملة البغض والعداوة ، بل معاملة العطاء ، فهم لا يصعّدون الصراع مع الناس ، بل يحاولون احتواء البغضاء بالحلول الهادئة ، والدرء هو التحصين أي يتحصنون بالحسنة من مضاعفات السيئة وهذا معنى آخر تحمله الآية ، وقد ورد في الحديث : ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل :

«إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها»

(لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)؟

(أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)

ما هي عقبى الدار؟

[٢٣] (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)

ايمانهم يتعدى حدود إنقاذهم لأنفسهم وحدهم الى الآباء والأزواج والأبناء ، فايمان المرء نجاة لذويه ، وهذا أفضل جزاء لهم ، فمع فرحهم بالجنة تقرّ أعينهم برؤية ذويهم يلتحقون بهم.

وقد ورد في الأحاديث :

«ان المؤمن يشفّع في مثل ربيعة ومضر»

٣٢٩

[٢٤] (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)

هذا من أفضل الجزاء الذي ساقه الله للصابرين على البأساء والضراء ، والصابرين على الطاعة لوجه الله ، والصابرين عن ممارسة الباطل.

٣٣٠

سورة الرعد

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ

____________________

٢٧ [أناب] الإنابة الرجوع الى الحق بالتوبة ، انتاب فلان القوم أتاهم مرة بعد مرة.

٣٣١

(٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)

____________________

٢٩ [متاب] المتاب التوبة.

[سيّرت] التسيير تصيير الشيء بحيث يسير.

[قطّعت] التقطيع تكثير القطع ، والقطع تفصيل المتصل.

٣٣٢

الكافرون .. صفات وتقييم

هدى من الآيات :

حدّثنا الدرس السابق في سورة الرعد عن صفات المؤمنين ، أمّا في هذا الدرس فيحدثنا عن نقيضهم (الكفار) ، وصفاتهم بعكس صفات المؤمنين.

عند ما يسود المجتمع .. اي مجتمع ثقة متبادلة بين أبنائه فان تفاعل هذا المجتمع مع بعضه يجري كمجرى الدم في العروق السليمة ، وكلما ازداد التفاعل والتكامل بين أعضاء المجتمع كلما كان أقرب الى الحضارة ، والحضارة هي : حضور الإنسان عند الإنسان ، وسيادة العدالة والثّقة المتبادلة ، أما إذا انعدمت هذه الشروط في الحضارة فانها ستضمحل ويحل محلها التخلف حتى وان ظهرت على السطح صور حضارية ، فليست الحضارة هي التقدم التكنولوجي ، ولكن الحضارة ما سبق ذكره.

وكلما كانت الصلة بين أبناء المجتمع أمتن. كلّما كانت رحمه الله إليهم أقرب. وأما إذا قطعوا الصلة التي أمر الله بها. فان لعنة الله المتمثلة في الحرمان والعذاب تنزل بهم. ولهم سوء الدار.

٣٣٣

والرزق من الله. كما أن منعه بيد الله ، وأكبر من رزق الدنيا. هو نعيم الآخرة بينما الكفار يفرحون بما في الدنيا وما في الدنيا غير متاع.

ويطالب الكفار أبدا بآية. وكان النقص في الآيات. كلّا. انما النقص في أنفسهم إذا الله يضل من يشاء ، بسبب سوء إختياره ويهدي اليه من أناب اليه.

ومن هم المنيبون انهم المؤمنون حقا وهم الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله. بلى إن ذكر الله فعلا يعطي سكينة النفس واطمئنان القلب.

إن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم حياة طيبة في الدنيا. ولهم حسن مآب في الآخرة.

بينات من الآيات :

صفات الكفار :

١ / نقض العهد :

[٢٥] (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)

من ابرز صفات الكفار نقض عهد الله ، ومن ينقض عهد الله فهو لا يحترم نفسه ، ومن لا يحترم نفسه لا يحترم الآخرين ، وأخيرا فهو يتحدى الله ويخالف أمره ، وعند ما ينقض الإنسان عهده فان ذلك لا يجعل حياته مرسومة ضمن خطة بعيدة المدى ، بل تكون أعماله مجرّد ردود أفعال لا أكثر أو بمعنى آخر انعكاس لظروف متغيرة ، والعهد عهدان : عهد مع الله اخذه الله على الإنسان في عالم الذر ، والعهد الثاني : عهد مع الآخرين أشهد الله عليه ، فنقضك عهدك مع الله كفر ، ونقضك عهدك مع الناس لؤم.

٣٣٤

٢ / قطع الرحم :

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)

يقطعون أرحامهم أو رحم أهل بيت الوحي كما سبق ذكره.

٣ / الفساد في الأرض :

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)

بنشر الفساد ، وهناك معنى آخر نستوحيه : انهم يفسدون بيئة الأرض ، وهذه حالة الكفار فهم ينتقمون من الطبيعة ، وما الاسلحة الاستراتيجية والميكروبية الّا دليل على نشر الدمار كما ان تلويث البيئة الطبيعية دليل نشر الفساد.

(أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ)

اللعنة الطرد والابعاد عن رحمة الله في الدنيا.

(وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)

بالاضافة الى طردهم من رحمه الله في الدنيا ، إذ يعيشون القلق ، فلهم سوء الدار.

ملاحظتان :

الملاحظة الاولى : ان الصفات الحسنة كما الصفات السيئة أخوات ، فالصفة الحسنة تجر وراءها صفات أخرى حسنة مثلها ، كما ورد في معنى الحديث :

«إذا رأيت من أخيك اكرومة حسنة فانتظر مثيلاتها»

وهكذا الصفات السيئة.

٣٣٥

اما لماذا ذلك؟ فلان الصفة الحسنة مصدرها نفسية حسنة وهذه النفسية الحسنة تعطي بدورها صفات حسنة اخرى ، والعكس صحيح ، فلذلك فان الله يسوق الصفات الحسنة مع بعضها ، والصفات السيئة مع بعضها.

الملاحظة الثانية : ان للإنسان أربع علاقات :

١ ـ علاقته مع ربه.

٢ ـ علاقته مع نفسه.

٣ ـ علاقته مع الناس.

٤ ـ علاقته مع الطبيعة.

وعلاقة الكافر بهذه الأصناف مقطوعة أو هي علاقات سلبية ، فعلاقته مع ربه مقطوعة ، كما قال : (وَالَّذِينَ ... وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). وعلاقته مع نفسه مقطوعة إذ أنه لا يحترمها وعلاقته مع الناس كذلك كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ ... وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وعلاقته مع الطبيعة سلبية كما قال : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) :

[٢٦] (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)

ان الله يوسّع الرزق على من يشاء من عباده برحمته ويضيق عمن يشاء بحكمته.

وقد يشاء الإنسان الدنيا فيبسط الله الرزق له ، كما قال : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥ / آل عمران)

٣٣٦

وقد يبسط الله الرزق للإنسان بعد ابتلائه ليأخذه على حين غرة كما قال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ* فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٢ ـ ٤٤ / الانعام)

اما نعم الله على الإنسان فبالاضافة الى ما سبق ربما تكون عذابا كما جاء في الحديث :

«ان العبد ليحرم الرزق لذنب أذنبه»

وربما يكون امتحانا وأخيرا إذا قتر عليك الرزق فلا تيأس من روح الله ، كما لا تعجب بما أتاك الله فقد يسلبه منك.

وانّ من حكمة الله سبحانه أيضا انه يهيء الدنيا للكافر ليلهو عن الحق ، ويبتعد عن الرسالة ، فالدنيا كما جاء سجن المؤمن وجنة الكافر.

(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا)

الفرح هو حالة الإشباع النفسي ، مثل الطفل تشبع نفسه بمجرد حصوله على لعبة يريدها فبعض الناس تكون نفوسهم ضيقة تشبع بمجرد ان تواتيها الدنيا ، فالإنسان الذي تشبع نفسه يغفل عن مسئوليته ، ولا يجد للالتزام داعيا.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ)

المتاع هي الكماليات مما ليس ضروريا ، حيث يمكن الاستغناء عنها أو الاستعاضة بغيرها إذا اهترأت .. بلى إن الحياة مزرعة الآخرة ، هنا عمل بلا حساب ،

٣٣٧

وهناك حساب بلا عمل.

ان الذي يعلم بأنه محتاج الى الله يجب عليه أن يرتبط معه.

يحكى ان ملكا كان يخوض حربا ضروسا ، فنذر نذرا : ان هو انتصر ليزيدن في أجر الجند ، فبعد ان انتصر قدّر المبلغ فوجده كبيرا ، فأراد أن يخلف نذره ، فاستقرّ رأيه أخيرا ان يحتكم لدى أول من يدخل عليه ، فبينما هو جالس في مجلسه إذ دخل عليه اعرابي فاحتكم اليه ، فقال له الاعرابي : ان كنت ترى انك لن تحتاج الى ربك فلا تف بنذرك معه ، وان كنت ترى انك ستحتاج اليه فأوف بنذرك معه ، فرأى الملك انه محتاج الى الله في كل لحظة ، فوفى نذره.

كيف يطمئن القلب :

[٢٧] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)

الإنسان الذي يريد النظر يكفيه البصيص من النور ، اما الذي لا يريد ان يبصر فضوء الشمس لا يكفيه.

(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ)

يريد الإنسان الهداية فيهديه الله ، ويريد الضلالة فيمد الله له في ضلالته وهذا واضح من الاسم الموصول مّن الذي يطلق للعاقل.

[٢٨] (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ)

الاطمئنان : السكون والاستقرار.

والقلب المطمئن هو نفسه النفس المطمئنة كما قال سبحانه في آخر سورة

٣٣٨

الفجر : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) وذكر الله هو مطلق توجه الإنسان لله.

(أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)

في زحمة الحياة ومع تراكم الأعمال ، ومع جو الارهاق والعمل ، وأثناء القلق النفسي الذي يعصف بالكثيرين تركن النفس وتطمئن لذكر الله ، وحري بنا ان نعالج مشاكلنا النفسية بذكر الله لأنه أنجح علاج يمكن ان يستفيد منه الإنسان وخاصة في هذا الزمن ، زمن التيارات والصراعات التي يغذّيها الاستعمار شرقه وغربه.

[٢٩] (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)

في الدرس السابق بعد ذكر صفات المؤمنين ذكر مصيرهم بقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

اما الآن فيذكر مصيرهم بأن لهم طوبى وحسن مآب. ولعلّ المراد من الطوبى الحياة الأعظم طيبا.

وهذا يدلل لنا بأن للمؤمنين في الجنة في كل يوم صنف جديد من النعيم ، فلا هم يملون ، ولا الله يقترّ عليهم.

٣٣٩

سورة الرعد

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)

____________________

٣٢ [فأمليت] الإملاء التأخير.

٣٤٠