من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

الإطار العام للسورة

لماذا سميت السورة بسورة الرعد؟

سميت السورة بسورة الرعد لوجود آية محورية فيها تنبئ عن الخط العام للسورة التي توصلنا الى الايمان والهداية عبر آياته الكونية ، فالرعد حالة طبيعية ، له مسبباته وأهدافه ، على ان الرعد ليس آية كونية فقط ، وانما من الممكن ان يكون آية لنا يدلّنا على الله وقوته ورزقه للعباد.

وبالرغم من ان الرعد يخيفنا صوته عند سماعه ، الا أن الله ينبهنا الى قضية مهمة وهي : ان الرعد آية من آياته ، كما ان السماوات والأرض آيات له ، فليست الطبيعة هي المعبود الذي يجب ان نعبده ، وانما هي خلق من خلق الله ، سخرها إلينا لنستفيد منها فليست الطبيعة هي الحاكمة. هذا إذا علمنا ان الرعد والسماوات والأرض تسبّح الله من خيفته.

لقد كانت الطبيعة منذ القدم ربّا يعبدها بعض الناس لمّا رأوا عظمتها ، فهناك

٢٨١

من عبد الشمس وهناك من عبد القمر أو النجم أو .. أو .. ولا زال الحاضر يشهد على مخلفات الماضي. فمثلا كلمة اطلس تدل على إله الأرض ، وكذلك ابوالو على إله السماء.

فاذا عبدت الله فانه يعبّد لك كل شيء.

«عبدي اطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون ، وتقول للشيء كن فيكون»

«فلا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّا»

إما إذا لم تعبد الله فانك لن تكون سيدا على الطبيعة بل ستكون الطبيعة سيدة عليك ، يسلطها الله عليك متى جحدت وكذّبت.

إذا فالهدف من آيات الله سبحانه في الطبيعة ليس ذاتها ، وانما الهدف من آيات الله في الطبيعة هي تعميق روح الايمان بالله في قلب الإنسان ، وزرع اليقين في قلبه ، فمسيرة الطبيعة هي تلخيص لحياة الإنسان ، فمثلا يقول العلماء : ان الطبيعة الى زوال ، وانها في تناقص مستمر ، أفلا يدل ذلك على ان أعمارنا كذلك ، وإذا لم نصدق بأن أعمارنا ستنتهي عند حد معيّن لوجود موانع نفسية تمنع هذا التصديق. الا يعني ذلك أنه لا بد أن تنتهي أعمارنا عند أفول الشمس والأرض والقمر الى الأبد. هذا إذا تصورنا ان أعمارنا بقدر عمر الشمس والقمر.

٢٨٢

سورة الرعد مدنية وهي

ثلاث واربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)

____________________

٢ [عمد] جمع عماد وهي الدعائم.

٢٨٣

أسماء الله وتجلياتها

بينات من الآيات :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لماذا تتكرر البسملة في كل سورة؟

تتكرر البسملة في كل سورة لتعطي معنى جديدا ينسجم مع الإطار العام للسورة ، فبسملة الحمد يختلف تأويلها عنها في سورة الشورى ، ويختلف عنهما في سورة الذاريات وهكذا.

وهكذا فانّ بسملة هذه السورة تنسجم مع السورة ، حيث انّ السورة تتحدث عن الهدى عن طريق آيات الله في الطبيعة ، والرعد هو نموذج عن آيات الله في الطبيعة ، وهي جميعا تجل لأسماء الله التي تدل على القدرة والسلطان والعظمة فباسم الله ذا الهيمنة والعظمة والملكوت والقدرة ، والرحمة الشاملة والرحمة الدائمة نبدأ :

٢٨٤

آفاق القرآن :

[١] [المر]

الرموز في بداية السورة تشير الى أحد معنيين :

انها رموز بين الله وبين عباده المخلصين ، أو انها اشارة الى القرآن ذاته أو كلاهما ، فنحن قد نقول كلاما نقصد به معنى واحدا ولكن الأديب قد يقول كلاما يقصد به معنيين ، ولكن رب العزة قد يوحي بكلام يقصد به سبعين معنى ، وكذلك جاء في الحديث :

«كتاب الله على أربعة أشياء : على العبارة والاشارة واللطائف والحقائق ، فالعبارة للعوام ، والاشارة للخواص واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء» (١)

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ)

لا بد أن تعرف ان الذي أنزل إليك هو الحق ـ كل الحق ـ.

لم يقل الله «والذي انزل إليك من ربك حق» بل قال : الحق ـ فالالف واللام تعطي معنى الاستغراق ـ اي لا يوجد حق في غير القرآن.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)

يكرر الله سبحانه في كثير من الآيات هذا المعنى : ان القليل من العباد الشكور ، والقليل من العباد المؤمنون ، وان تتبع أكثر من في الأرض يضلوك وهكذا ..

__________________

(١) ـ البحار ـ ج ٩٢ ـ ص ١٠٣

٢٨٥

لماذا؟

يتكرر هذا المعنى كثيرا في القرآن لان الإنسان بطبيعته الضعيفة ، وانعدام ثقته بنفسه لا يتبع عقله دائما ، بل يتبع الناس ويقول : حشر مع الناس عيد ، فلكي يجعلنا القرآن ننظر الى آفاق السماوات والأرض بلا حجاب يبعدنا عن الضغوط الاجتماعية التي تكبل عقل الإنسان إذا في البدء اقطع العلاقة التبعيّة لكي تكوّن شخصية مستقلة ثم فكر في ذلك لأنّ مفتاح العقل التحرر.

حقائق كونية :

[٢] (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)

جاء في الحديث في تفسير على بن إبراهيم القمي في حديث طويل عن الامام الرضا (ع) عن هذه الآية : قال : فثم عمد ولكن لا ترونها (١) والله اعلم ما هذه العمد.

كل تصورنا حتى الآن عن هذه العمد ، أنها ربما تكون تعادل قوى الطرد والجذب بين الكواكب والنجوم فمثلا : ان قوة الطرد الناشئة من دوران الأرض حول الشمس تساوي بالضبط قوة الجذب للشمس ، فعلى ذلك تبقى الأرض ملايين السنين في مدار واحد ، اما لو تغيرت احدى هاتين القوتين لحدث ما لم يكن في الحسبان فلو زادت قوة الطرد لانفلتت الأرض الى المجهول في خط مستقيم ، ولو زادت قوة جذب الشمس للأرض لالتصقت الأرض بالشمس لأنها ستضطر في النهاية لأن تسير في مسار حلزوني ، ولنشبه هذا المثال بما يلي :

أنت تمسك بطرف حبل في يدك والطرف الآخر للحبل مشدود به قطعة حجر ..

__________________

(١) ـ تفسير نور الثقلين ـ ج ٢ ـ ص ٤٨١

٢٨٦

حاول أن تدير الحجر ، ماذا يحدث ان الحجر يريد الانفلات ، فلا الحجر ينفلت ، ولا هو يلتصق بيدك ، لأن كلا القوتين متساويتين ، ولكن هب أنك تركت طرف الحبل الذي بيدك ، انك تجد الحجر ينفلت ، وهب انك أثناء تدويرك للحجر تلف الحبل بيدك ستجد بعد قليل ان الحجر قد التصق بيدك.

ربما هذا التفسير يكون تفسيرا للعمد ـ والله أعلم :

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

ان الله سبحانه لم يخلق الحياة كساعة ميكانيكيّة تجري لحالها ، بل أنه خلقها ، ثم استوى على العرش يدبر أمرها ، فحتى حركتك أنت انما هي بإرادة ، فكيف بالسموات والأرض ، فالله وراء كل شيء يجري في الكون ومدبره.

هناك أحاديث عن العرش تصوّر بأنه مخلوق ، والواقع ان عقلي يقف عند هذه الأحاديث تلك التي تصفه أنه فوق الكون وأكبر منه ، وأنه على الماء ، وهذا معنى العقل : ان تقف عند حدودك ، ولا تقف بما لا تعلم. كما قال الرسول صلّى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر :

«يا أبا ذر : إذا سئلت عن علم لا تعلمه ، فقل : لا أعلمه ، تنجي من تبعته ولا تقف بما لا علم لك به تنج من عذاب الله يوم القيامة» (١)

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)

ان الله سخر الشمس والقمر لأهداف معلومة والى وقت معلوم لذلك لا نتطرق الى هذه الأهداف ، ولكن الذي يهمنا شيئان :

__________________

(١) ـ بحار الأنوار ـ ج ٧٧ ـ ص ٧٨

٢٨٧

الشيء الاول : ان الشمس والقمر لفظان يدلان على العموم مما كان من جنسهما ، وهذا يعنى حتى الأرض ، وربما أن الله سبحانه ذكر هذين الاثنين للاشارة الى أبناء الأرض.

ولا يمكن تحديد ذلك الوقت بالدقة الّا أن عمر الشمس والقمر يقدر بأعمار الكواكب والنجوم ، وعلى كل حال ، ان شمسنا هذه أصبحت كهلة بالنسبة الى بعض الشموس الاخرى.

يقول أحد العلماء أن (النجم) يمر من مرحلة الى أخرى عملا بقوانين التطور الطبيعي ، ولأنه كان يتطور فانه يهرم ، وقد يستغرب القارئ قولنا : ان النجم يهرم ، فمنذ ان كانت البشرية لم يسمع أحد بأن النجم القطبي ينازع ، أو أن قلب العقرب يلفظ أنفاسه! ومع ذلك فان هذا ما يحدث في الواقع ، فكل نجم إذ يلمع يشع طاقة ، كأي كائن حي خلال حياته ، وإذا أفلح بطريقة ما في تجديد طاقته فان هذه الطاقة تنضب أخيرا ، ويكون هذا النضوب سريعا بقدر ما يفرط به ، ويأتي وقت لا محالة ـ تنفذ فيه جميع وسائله ـ.

فاذا نظرنا الى الشمس نلاحظ انها شتت في الفضاء بشكل اشعاعات كهروطيسية مختلفة طاقة تبلغ (٠٠٠ و ٣٨٠) مليار مليار كيلوواط ، وهذا ما يكفي لحمل مياه المحيطات كلها على الغليان في ثانية واحدة ، وتعجز مخيلتنا عن تصور أرقام بهذا المقدار ، ولكنها تحملنا على الاعتقاد بأن هذا التبذير لن يمكّن الشمس من ان تعمّر طويلا ، ولو كانت مؤلفة من الفحم الصافي لكانت قد تحولت منذ زمان طويل الى رماد ، ولكن ما يغذي الشمس بالطاقة ليس وقودا كيميائيا عاديا ، وهي تدين باشعاعها لتفاعل زخمي حراري دائم ، كما هو معلوم.

بقي كلمة وهي ان هذه الآية تشير الى ان الزمن جزء من الطبيعة.

٢٨٨

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ)

ان الله يفصل الآيات لنا ، ويقصها علينا ، ولكن ما هو الهدف؟

(لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)

اليقين هو أعلى درجات الايمان.

٢٨٩

سورة الرعد

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)

____________________

٣ [رواسي] جبال ثوابت.

[يغشي الليل النهار] يلبس ظلمة الليل ضياء النهار.

٤ [صنوان] جمع صنو وهو المثل ، وصنوان نخلات يجمعها أصل واحد.

٢٩٠

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)

____________________

٥ [الأغلال] الغلّ طوق تشد به اليد الى العنق.

٦ [خلت] مضت [المثلات] العقوبات ومفردها مثلة.

٢٩١

عظمة الله تتجلى في الطبيعة

هدى من الآيات :

السياق القرآني يذكرنا بطبيعة الاختلاف الموجود في الكون ، وأن في هذا الاختلاف دلالة واضحة على قدرة ربّنا سبحانه.

ان ما في هذه الحياة يدل على أن الله رب كل شيء ، وما من إله غيره ، كما أنّ توحيد الله يتجلى في الاختلاف الموجود في الكون.

لقد مدّ الله الأرض وجعل فيها رواسي شامخات لتحفظها من الميلان والتحرك ، وخلق فيها من كل شيء زوجين اثنين ، وأولج النهار في الليل ، والليل في النهار الا يدعونا ذلك الى البحث عمّن ينظم هذا الكون ، والا يدلّنا ذلك على وحدة المنظّم ، فلو كان المنظم أكثر من واحد هل حدث مثل هذا التناسق العجيب في الكون؟!

وكما ان في كلّية الحياة عبرة ، فان في تفاصيل الحياة عبرة اخرى ، فمثلا طبيعة الأرض الواحدة ، واختلافها برغم تجاورها الا تقودنا الى رحاب الأيمان بالله ، فهذه

٢٩٢

الأشجار تتفاضل على بعضها في الأكل ، بعضها مفردة وبعضها أزواج .. علما بأن هذه الأشجار تشرب من ماء واحدة وتنمو في أرض واحدة.

ان هذه الآيات كفيلة بتنبيه الغافلين ذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ولكن بالرغم من كثرة هذه الآيات وانتشارها في أرجاء الكون ، يبقى الإنسان يرتاب في قدرة ربه على احيائه بعد مماته.

ان خلق الأشياء وابتداعها من العدم أصعب من إعادة بنائها ، ومن جهة ثانية انهم انما أنكروا البعث لأنهم كفروا بربهم ، فلم يعرفوه حق معرفته.

إنّ هؤلاء وضعوا غل الشهوات على افئدتهم فلم يستطيعوا أن يفكروا بحرّية ، ولذلك تراهم يوم القيامة ، نزلاء النار خالدين فيها أبدا ، وهؤلاء الذين كفروا بربّهم لم تكن الحياة في صالحهم لأنهم كانوا ولا زالوا يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ، ولو لا أنّ رحمة الله سبقت غضبه بأن يمهل الإنسان إذا لأخذهم بعذاب بئيس.

وهم عند ما يطالبون الرسول بالآيات لا يعلمون بأن الرسول ليس سوى منذر لا يملك ان يأتي بآية إلا بإذن الله ، ثم انهم حين كفروا بما عندهم من الآيات ، فمن يضمن ايمانهم بآيات جديدة لو جاءتهم ، أليس هناك احتمال كبير بأن يكفروا بها كما كفروا بما قبلها؟!

إذن فالمشكلة عند الإنسان هي المنهجية في التفكير ، ولو صحّت هذه المنهجية لاستطاع أن يفكر تفكيرا سليما من دون حجاب يمنعه من الوصول الى المعرفة ، والمعرفة تعطيه الحكمة التي قال عنها الله : «مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» ، والقرآن الكريم عبر آياته يهدف إصلاح منهجية الإنسان في التفكير بعد ان يبصّره بالقوى الضاغطة عليه ، كما أنه يصوّر لنا الطبيعة من جديد حتى يلفتنا إليها وكأننا لم نرها من قبل.

٢٩٣

بينات من الآيات :

(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) :

[٣] (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ)

لا بد من ربط جزئيات الحياة بمحور واحد لكي لا تستقطب جزئيات الحياة كل اهتمامنا وتصرفنا عن الهدف ، وعند ما لا نربط هذه الجزئيات بالمحور الاساسي نرى الفروق والاختلاف ، بينما حين ننظر إليها معا نهتدي الى المدبّر الواحد وهو الله الذي يدّبر هذه الجزئيات ويوجهها.

ما الذي نرى حولنا ضمن هذا الإطار العام.

نرى الأرض وهي كتلة كبيرة تسبح في الكون مدّها الله سبحانه على طول البصر ، ولم يجعل استدارتها شديدة لتسهيل البناء عليها والزرع ، ولا منافاة بين استدارة الأرض وامتدادها ، فالأرض مستديرة ، ولكنك مهما نظرت إليها من أي جهة فستجدها ممدودة والامتداد هذا دليل آخر على الاستدارة ، فأنت مهما سرت في خط مستقيم تجد الأرض ممدودة الى أن تعود الى مكانك.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً)

لم يترك الله سبحانه الأرض تميد بمن فيها ، بل ثبتها بالجبال ، أليست الجبال تدل على المدبر؟! وعند ما نذكر الجبال لا بد أن نذكر الأنهار لأن الأنهار صنيعة الجبال ، كما جاء في توحيد المفضل عن الامام الصادق (ع):

«انظر يا مفضل الى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها ، والمنافع فيها كثيرة ، فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها لمن يحتاج اليه ، ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون

٢٩٤

الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام»(١)

يقول علماء الجيولوجيا : ان الأرض تعتمد على شبكة قوية ومنظمة من الصخور المتصلة مع بعضها داخل القشرة الارضية والتي تكون نتوءات أو مرتفعات بعض الأحيان ، ولو لا هذه الشبكة داخل وخارج الأرض لتناثرت الأرض يمينا وشمالا مع دوران الأرض ، ولما صار للأرض شكلا معينا ، فالجبال والشبكة الداخلية لها كالهيكل العظمي للأرض يحفظ شكلها.

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)

ما علاقة الأرض بالجبال ، وما علاقة الأنهار بالجبال ، وما علاقة النبات بالأنهار.

هذه أشياء مختلفة لكن كل واحد يخدم الآخر ، ألا يدل ذلك على وحدة الصانع ، وأن الأشياء مهما اختلفت فهناك رابط دقيق يربط بين عناصر الكون.

فالنبات له دلالة كبيرة إذ لم يخلق من النبات جنسا واحدا ، بل من كل نوع من النبات جنسين ذكر وأنثى ليتم التناسل والتكاثر ، الا تكمن حكمة الله في ذلك؟!

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ)

وهذا الاختلاف دليل آخر على وحدانية الله سبحانه ، واما لماذا قال بأن الليل هو الذي يغشى النهار ، فلأن الأصل في الحياة هو الليل ، فتأتي الشمس لتبدد هذا الظلام بعضا من الوقت ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فانّ الّليل والنهار لهما

__________________

(١) بحار الأنوار ـ ج ٣ ـ ص ١٢٧

٢٩٥

فوائد جمة لا يدركها الا العاقلون ، والامام الصادق (ع) يفصل ذلك للمفضل بقوله :

«فكر يا مفضل في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق ، فصار منتهى كل واحد منهما ـ إذا امتدّ ـ الى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك ، أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة؟ الم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان أو نبات.!؟ اما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر طول هذه المدة ، ولا الإنسان يفتر عن العمل والحركة ، وكان ذلك سيهلكها أجمع ، ويؤديها الى التلف ، وأما النبات فكان يطول عليه حرّ النهار ووهج الشمس حتى يجف ويحترق ، كذلك الليل لو أمتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعا ، وتخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن ويفسد كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس» (١)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

ان آيات الله في الكون مبثوثة ، وروحك عطشى الى معرفة الحقيقة ، ولكن الحقيقة لن تأتي إليك إلا حين تذهب إليها أنت ، فأنت بحاجة الى إعمال ذهنك وتفكيرك كي تفهم وتتعظ من هذه الآيات ، والتفكير يعتمد على تحريك العقل واثارة دفائنه ، وربط الأشياء ببعضها ، وربطها كلها بخالقها ومدبرها.

(لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) :

[٤] (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ)

أن الأرض تحتوي على قطع متجاورة يختلف بعضها عن بعض ، فبعضها ارض

__________________

(١) بحار الأنوار ـ ج ٣ ـ ص ١١٨

٢٩٦

سبخة ، وبعضها أرض زراعية ، وبعضها صخرية .. وهكذا .. وقد جاء في الحديث عن العياشي :

«يعني هذه الأرض الطبيعة مجاورة بهذه الأرض المالحة وليست منها ، كما يجاور القوم القوم وليسوا منهم» (١).

(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ)

كما ان اختلاف الأرض المتجاورة آية لله تدل عليه ، فالجنان والخمائل الغنّاء من الأعناب والزروع المختلفة والنخيل آيات أخرى ، والعجيب أن بعض هذه النخيل اثنتين تخرج من أصل واحد ، والأعجب هو اختلاف ثمار الأشجار علما بأنها تستقي من ماء واحد ، وتستمد الغذاء من ارض واحدة ، وأن الشجرة تنبت نوعا واحدا مهما وضعتها في تربة مختلفة أو في جو مختلف.

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)

لم يقل : «انها تتفاضل على بعضها» وانما قال «ونفضّل» أي ان الله هو الذي أعطى لكل ثمرة خاصية في الطعم واللون والشكل والمنفعة ، وما اختلاف الطعم الّا دلالة على اختلاف المواد والفوائد ، وما اختلاف المواد والفوائد الا دليل على حكمة ربانية ، فجسمك يحتاج الى نسبة معينة من الحديد ، لذلك تجدها في بعض الخضروات ، وكذلك بالنسبة أنواع الفيتامين والسكريات وغيرها .. علما بأن مقدار ما يحتاجه جسمك موجود في فاكهة معينة أو ليس هذا دليل على وجود تدبير موحد بين حاجة الجسم ونسبة هذه الحاجة في هذه الثمرة ، ثم أليس يدل على أن رب الثمرة وخالقها هو خالقك؟

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ / ٢٠٣

٢٩٧

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)

العقل هو الاستيعاب ، وقد أكد عليه هنا بينما في المرة السابقة قال : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» فهاتان الآيتان تقودنا الى فكرة وهي : أن التفكير بداية العقل والعقل هو طريقة الهداية.

لماذا الكفر بالبعث؟

[٥] (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

إذا كنت تعجب من شيء فهناك شيء أعجب وهو قول الكفار بإنكار البعث بعد الموت ، ولكن هل ان الموت نهاية كل شيء؟

في الحقيقة ان العقل يقضي بأن يكون هناك يوم يحاسب فيه كل إنسان ، ويرجع ليقف امام ظالم فينتصف منه ، أو ينتصف هو منه إذا كان ظالما له ، والإنسان الذي يرى عظمة الكون كيف ينكر البعث ، أليس ذلك دليل على عدم استيعابه لحقائق الكون؟ أو ليس من العبث أن يعيش الإنسان خبالا مضلا ويترك؟ ولكن هل من المستحيل على خالق هذا الكون ان يعيده كما كان؟! إنّ انكار البعث في الحقيقة هو انكار للمسؤولية ، وجحد للأمر المفترض اتباعه ومن هنا فان إنكار الحقيقة الواضحة يسمى كفرا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ)

قد يقول البعض : اننا نؤمن بالله ولكن لا نؤمن بالبعث ، والحقيقة ان الكفر بالبعث ينسحب على سائر الأشياء ، فالكفر بالبعث كفر بالله بدرجة أولى ، لأنه إنكار لقدرة الله وعدله ، وهل يكون المنكر لصفات الله كلا أو بعضا الا كافرا؟

(وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ)

٢٩٨

يظهر من النصوص أنّ : «الجزاء من جنس العمل» فلأنهم غلوّا أعناقهم في الدنيا بأغلال المصلحية والأفكار البعيدة وأو صدوا أبواب فكرهم كان جزاؤهم في الآخرة ان يغلوا كما غلوّا أنفسهم.

(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

هذه هي النهاية المثلى لمن يكفر بالآخرة ، وما جزاء من يتهرب من المسؤولية في الدنيا الا أن يسجن في الآخرة ، وما جزاء من يرفض الأمر الواقع ، الا أن يقع في واقع النار!!

وقد سماهم الله أصحاب النار. أي بينهم وبين النار صداقة لا يفترقان ، وقد سماهم الله أصحاب النار في الدنيا ، لأن النار نتيجة حتمية لهم ، والنار وفيّة لأصحابها.

سنة الله وموقف الكفار :

[٦] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)

أليس من الحمق أن يفضل الإنسان السيئة على الحسنة ، هل لأن الحسنة لا تعجبه فيتمنّى العذاب ، ولكنهم في الحقيقة نسوا ما حل بمن قبلهم قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب الرس .. وغيرهم.

(وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ)

ان رحمة الله سبقت غضبه ، فهذه بشارة الله للمذنبين بأن يتوب عليهم إن هم تابوا إذ ان ، مشكلة أغلب الناس أنهم عند ما يرون أنفسهم في الفساد ييأسون من رحمة الله ، ويجزمون بأن الله لا يغفر لهم فيبقون على ما هم عليه.

٢٩٩

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)

ان الله رحيم بعباده ويقبل التوبة عنهم ، ولكنه شديد العقاب لمن استمر في ظلمه ، فمغفرته تقف في حدود الحياة اليومية ، ولكن إذا عثى الإنسان في الظلم فان جهنم هي المثوى والمصير.

في مجمع البيان : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم :

«لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولو لا وعيد الله وعقابه لاتّكل كل أحد» (١)

الاستخلاف :

[٧] (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)

هؤلاء لا يكفيهم ما عندهم من الآيات ، بل يريدون المزيد ، ولكن الله يصف الرسول بقوله :

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ)

هذه حدودك أيها الرسول ، فليس من مسئوليتك ان تأتي بالآيات ..

(وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)

هذه الآية نزلت في رسول الله وعلي بن أبي طالب (ع) إذ هو الهادي لأمة محمد (ص) بعده ، وقد بلغت الروايات في هذا المجال حد الاستفاضة ومنها ما جاء

__________________

(١) تفسير الصافي ـ ج ٣ ـ ص ٥٨

٣٠٠