من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

ان الإحسان الى الناس يتضاعف بإذن الله ليعود إليك في يوم قريب أو بعيد.

[٥٧] وجزاء المؤمن في الدنيا شاهد على جزائه الأوفى في الآخرة ، وان الله سبحانه لا يخلف وعده معه.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)

وهكذا نستوحي من هذه الآيات ان أسباب التقدم الغيبية هي التقوى والايمان والإحسان بيد ان الإحسان أشد وأسرع أثرا في أمور الدنيا.

وجاء في حديث مأثور عن الامام الرضا (ع):

«واقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة ، فكبسه في الخزائن ، فلما مضت تلك السنون ، وأقبلت المجدبة اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلا صار في مملكة يوسف ، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبقى بمصر وما حولها حلي ولا جواهر ، الا صار في مملكته ، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية ، الا صارت في مملكته ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر عبد ولا امة الا صار في مملكته ، وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار الا صار في مملكته ، وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة الا صار في مملكته ، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر الا صار عبد يوسف ، فملك احرارهم وعبيدهم وأموالهم ، وقال الناس ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا».

ثم قال يوسف للملك : «ايها الملك ما ترى فيما خوّلني ربي من ملك مصر

٢٢١

وأهلها؟! اشر علينا برأيك فاني لم أصلحهم لأفسدهم ، ولم انجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم ، ولكن الله أنجاهم على يدي قال له الملك الرأي رأيك.

قال يوسف : اني اشهد الله وأشهدك ـ ايها الملك ـ اني قد أعتقت أهل مصر كلهم ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك ايها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على الا تسير الا بسيرتي ولا تحكم الا بحكمي.

قال له الملك ان ذلك لزيني وفخري ألّا أسير إلّا بسيرتك ، ولا أحكم الا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ، ولقد جعلته سلطانا عزيزا لا يرام ، وانا اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وانك رسوله ، فأقم على ما وليتك ، فانك لدينا مكين أمين». (١)

وجاء في خبر :

«ان يوسف (ع) كان لا يمتلئ شبعا من الطعام في تلك الأيام المجدبة فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض ، فقال (ع) : أخاف ان أشبع فأنسى الجياع»

__________________

(١) نور الثقلين ج ٤٣٥٢

٢٢٢

سورة يوسف

وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ

____________________

٥٩ [جهزهم بجهازهم] : اجهاز البيت متاعه ، وجهزت فلانا هيأت جهاز سفره.

٦١ [سنراود عنه أباه] : نصرفه عن رأيه.

٦٢ [بضاعتهم] : ثمن ما اشتروه من الطعام.

[رحالهم] : الرحال جمع وهي الاوعية ، ومفردها رحل ، وأصله الشيء المعد للرحيل من وعاء المتاع ومركب البعير.

٢٢٣

قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)

____________________

٦٣ [نكتل] : يقال كلت فلانا أي أعطيته الشيء كيلا واكتلت عليه أخذت منه.

٦٤ [آمنكم] : الأمن اطمئنان القلب الى سلامة الأمر.

٦٦ [ونمير] : الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد الى بلد ، ويقال مرتهم أميرهم ميرا إذا أتيتهم بالميرة.

[موثقا] : عهدا مؤكدا باليمين.

٢٢٤

فتنة اخوة يوسف

هدى من الآيات :

ومضت السنون الاربعة عشر السمان فالعجاف ، وجاء عام الاغاثة ، وضاعت الحياة بأهل فلسطين وسعى اخوة يوسف الى مصر ـ فيمن سعى ـ للحصول على نصيبهم من المؤونة لقاء ما عندهم من سلع أو نقود.

فلما وردوا مصر دخلوا على أخيهم ، فعرفهم يوسف دون أن يعرفوه ، وأمر بأن يهيأ لهم نصيبهم ثم قال لهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ، أفلا تجدوني اني أوفي الكيل وأحسن الضيافة ، وإلا فلا أعطيكم نصيبه ولا أقربكم الى نفسي ، قالوا سنحاول ذلك مع أبيه ، وقبل أن يرحلوا أمر يوسف بأن يجعل السلعة التي جاؤوا بها في رحالهم لعلهم يعرفونها ، فيعودون الى مصر دون أن يمنعهم قلة الزاد أو خشية الجفاف ، فلما عاد اخوة يوسف قالوا لأبيهم ان الكيل قد منع منا حتى تبعث معنا أخانا نكتل له ، وانا له لحافظون ، وعاد يعقوب يذكرهم بمصير أخيهم يوسف بعد أربعين عاما ، وقال هل آمنكم عليه كما آمنتكم على أخيه يوسف من قبل؟! ثم

٢٢٥

قرر أن يتوكل على الله بعد أن عرف من أبنائه التوبة والصدق ، فقال : الله خير من يحفظ وهو أرحم الراحمين.

ثم حين فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم قد ردت إليهم ، فقالوا لأبيهم ماذا نطلب لقد ردّت إلينا بضاعتنا ، وانا نسعى من أجل الحصول على الطعام لأهلنا ، بالاضافة الى كيل نأخذه لاخينا وهو كيل يسير بالنسبة لحاجتنا الماسة ، قال أبوهم : كلا .. لن أرسله معكم حتى تأتوني بوثيقة وعهد من الله بإعادته اليّ إلّا إذا لم تقدروا على ذلك ، فلمّا أعطوه الموثق قال يعقوب : الله على ما نقول وكيل.

وهكذا بعد اليمين المكرّر أذن الشيخ لابنه العزيزة بالرحيل مع اخوته طلبا للمايرة.

بينات من الآيات :

بعد أربعين عاما مرت على قصة الجب :

[٥٨] أربعون عاما مرّ على قصة الجب ، ويوسف ذلك الغلام المتوهج جمالا واناقة قد أصبح اليوم رجلا عركته المآسي والويلات ، وجلس على أريكة الملك بملابسه الزاهية. كل ذلك مع هيبة السلطنة منعت اخوته من معرفته ، أما يوسف فقد عرفهم بسرعة لأنهم كانوا رجالا حين تركهم.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)

قبل أربعين عاما نبذ هؤلاء أخاهم يوسف منكرين له ، فقطعوا رحمهم ، بينما هو وصل رحمه ، وكانت عاقبة الأمر هو ان يجازيه الله بالملك والمعرفة ويجازيهم بالحاجة والجهل.

[٥٩] وبعد أن أعدّ لهم ما جاؤوا من أجله من طعام ، استدرجهم يوسف بحديثه

٢٢٦

حتى اعترفوا له أنّ لهم أخا من أبيهم ، ومن زوجة ثانية لأبيهم لا يصاحبهم ، فطلب منهم أن يأتوا به ، وقال : اني لا أريد ظلمه أو ظلمكم ، ولكني أريد الخير لكم. أفلا ترون اني أوفي الكيل وأحسن الضيافة؟!

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)

ويبدو من هذه الآية ان يوسف أعطى لأخوته مقدارا من الطعام ومنع عنهم مقدارا.

[٦٠] وبعد أن رغّبهم في عطائه الجزيل. هددهم أنه لو لم يأتوا بأخيهم فانه سوف يمنع عنهم الكيل.

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ)

أي في المستقبل.

[٦١] اخوة يوسف الذين اذهلتهم المفاجأة وعدوه بتنفيذ أمره ، ومحاولة اقناع والده بالأذن له بالمجيء.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)

[٦٢] ولكن يوسف لم يرض بأن يأخذ منهم أموالهم التي جاؤوا بها لأخذ الميرة ، بل أمر غلمانه بأن يجعلوا بضاعتهم في أمتعتهم لكي يعرفوا أنها لهم ، ولكي يكون لديهم دافع للمجيء الى مصر مرة اخرى.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

٢٢٧

إذا عرفوا بضاعتهم عرفوا ان الملك رحيم بهم ، فلا يخشون ظلمه فيعودون اليه.

[٦٣] وقطعوا تلك المسافة الطويلة قافلين الى أبيهم ، فلما تلقاهم أبوهم قالوا له ان ملك مصر منع عنا الكيل فلم يعطنا كل حصتنا من الطعام ، وطالبنا بإحضار أخينا من أبينا ، فأرسله معنا لكي نأخذ نصيبنا وانا سوف نحفظه.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)

[٦٤] وأعاد يعقوب عليهم قصتهم مع يوسف ، وكيف فرّطوا فيه.

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ)

فأنتم لا تحفظون عهدكم ، ولكن لا آمنكم عليه ، بل اترك الأمر الى الله ، واجعله حافظا له فهو أفضل حافظ ، وخير راحم لعباده.

(فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)

[٦٥] وكانت المفاجأة عند ما فتحوا أمتعتهم ليجدوا فيها بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام ، فآنئذ ازدادوا إلحاحا على أبيهم بالسماح لأخيهم بالسفر معهم.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي)

أي ماذا ننتظر أكثر من هذا ، لقد أوفي الكيل ، وردت البضاعة إلينا.

(هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا)

ثم شرعوا في تشجيع أبيهم على الأذن لأخيهم بالسفر معهم.

٢٢٨

(وَنَمِيرُ أَهْلَنا)

أي نأتي بالطعام لهم.

(وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ)

حيث ان كل واحد كان يكال له بقدر حمل بعير.

(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)

أي ميسور الحصول. حيث باستطاعتنا جلبه بسهولة.

[٦٦] ولان قلب يعقوب ، لكنه طلب منهم تعهدا أكيدا بإعادة أخيهم اليه.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ)

أي تتعهدون لي بذلك تعهدا دينيا ..

(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ)

تردونه عليّ إلّا عند ما تغلبون على أمركم ، فلا تقدرون على ذلك ففعلوا ، فاذن يعقوب لهم باصطحاب ابنه الذي تسلى به عن يوسف.

(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)

فالله وكيل بيني وبينكم على هذا الأمر.

ان الله ابتلى يعقوب مرة بغياب يوسف فصبر ، وابتلاه هذه المرة بغياب ابنه بنيامين شقيق يوسف فصبر أيضا بالرغم من التجربة السابقة التي كانت عنده من أبنائه اخوة يوسف الذين رموا به في غيابت الجب ، وهكذا تجاوز يعقوب حساسيته

٢٢٩

النفسية لما رأى ضرورة عقلانية لبعث ابنه العزيز عليه مع اخوته ، وهكذا جعل الله ذلك وسيلة لانهاء محنته الطويلة.

ومن جهة اخرى يبتلي الله اخوة يوسف مرة ثانية بذات المشكلة السابقة تقريبا ليجرب مدى صدقهم في ادعاء التوبة ، ولكي يجزيهم بسوء أعمالهم السابقة.

٢٣٠

سورة يوسف

وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا

____________________

٦٩ [آوى] : يقال آوى منزله ، يأوي أويا إذا صار إليه.

[تبتئس] : الابتئاس الاغتمام واجتلاب البؤس والحزن.

٧٠ [السقاية] : الإناء التي يسقى منها وهو من السقي ، وقيل السقاية والصواع واحد.

٢٣١

الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)

____________________

[العير] : القافلة.

٧٢ [زعيم] : كفيل والزعيم أيضا القائم بأمر القوم وهو الرئيس.

٢٣٢

انّي أنا أخوك

هدى من الآيات :

وبعد ان أخذ يعقوب موثقه من أبنائه بعث معهم أخاهم ، وأوصاهم بألا يدخلوا في مصر من باب واحد ليمنع عنهم الشر لو كان قد خطط ضدهم به ، وأكد ان هذا الاجراء لا يقاوم قضاء الله ، وان الحكم لله ، وينبغي ان يتوكل عليه المتوكلون ، فذهبوا ولما وصلوا مصر دخلوا حسبما أمرهم أبوهم ـ اي من أبواب شتى ـ ولكن البلاء قد قدر لهم. نعم استطاع يعقوب بذلك ان يمتحن عمليا مدى طاعتهم بالغيب له.

فلما دخلوا عليه اقترب يوسف (ع) الى أخيه من امه وكشف له السرّ ، وأمره بألا يحزن بما كانوا يعملون من الأذى به ، ولما جهزهم جعل الكيل في امتعة أخيه من امه ، ثم نادى منادى الدولة : أيتها العير انكم لسارقون ، وكانت تلك مفاجأة ثانية بالنسبة إليهم. حيث أسرعوا الى المنادي ، وقالوا له : ماذا تفقدون؟ قالوا نفقد كيل الملك وحددوا جائزة لمن كشف عن السارق وهي حمل العير ، وأكد يوسف (ع) على انه

٢٣٣

كفيل بإعطاء ذلك الكيل لأهميته عند الناس في سني المجاعة. قال اخوة يوسف وهم يحلفون بالله لم نأت لكي نفسد في الأرض أو نسرق ، فسألهم : ماذا لو وجد الكيل عند واحد منكم ، وما هو جزاؤه؟ قالوا ان السارق سوف يكون شخصيا جزاء جريمته ، وبإمكان السلطة ان تأخذه عبدا لما اقترفه ، وهكذا تأمرنا قوانين بلادنا ، وهكذا تم ليوسف ما أراد حيث وجد مبررا لإبقاء أخيه عنده.

بينات من الآيات :

قاعدة امنية :

[٦٧] قبل ان يرحل أبناؤه عنه أوصاهم يعقوب بألا يدخلوا مصر من باب واحد بل من أبواب شتى.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ)

والسؤال لماذا؟

هل خشي عليهم من العين الحاسدة. حيث انهم كانوا ذوي هيئة وجمال ، وكانوا مجموعة اخوة من أب واحد متحدين ، أم أراد ان يجرب مدى طاعتهم له وهم بعيدون عنه ، أم انه خشي عليهم من السلطة التي طلبتهم باصطحاب أخيهم؟

يبدو من السياق ان الاحتمال الأخير أقرب الى ذلك لأن يعقوب أكد لهم ان مثل هذا الاجراء لا يحفظهم عن الله ، وان قدرة الله محيطة بهم ، وبسلطات مصر ، وعلى الإنسان ان يتحذر من مكر أعدائه ، ولكن دون ان يترك التوكل على الله الذي يعطيه الشجاعة والتواضع والسعي الدائم الأفضل قال يعقوب :

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)

٢٣٤

أي ان تدبير الأمور في الحياة بيد الله سبحانه.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)

اي ليس من الصحيح ان يعتمد أحد على ذكائه أو حذره وخططه بل على الله.

[٦٨] وهكذا انفصل اخوة يوسف عن بلدهم ، ودخلوا مصر من أبواب متفرقة مثلما أمرهم أبوهم ، وكانت خطة ملك مصر أسبق من خطة والدهم ، فلقد خطط يوسف للإبقاء على واحد منهم من أجل استدراجهم الى مصر ، وهكذا غلب التوكل الحذر.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها)

تلك الحاجة هي امتحانهم ، أو دفع الحسد عنهم ، أو المحافظة عليهم والاطمئنان على سلامتهم.

وبالرغم من ان التوكل يغلب الحذر ، فأن على البشر الا يترك الحذر ، وهكذا يمدح الله يعقوب على الانتفاع بعلمه ووصيته لأبنائه بأخذ الحيطة بالرغم من ان ذلك لم ينفعهم شيئا بعد ان هيئت أسباب بقائهم بمصر.

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

لقد كان يعقوب عالما استفاد من علمه الذي علمه ربه ، ولكن أكثر الناس لا يستفيدون من علم الله ، فلا يعلمون شيئا.

لقاء الأخوين :

[٦٩] ودخلوا على يوسف فقرب أخاه بنيامين ، وأسر إليه بأنه هو يوسف صاحب

٢٣٥

الجب ، لكي لا يحزن للخطة التي سوف يطبقها عليه.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

لقد كانت آثار الحزن بادية على بنيامين ليس فقط لما فعلوا بشقيقه يوسف من قبل ، انما أيضا بما كانوا يعملون به من التمييز. فطمأنه يوسف ودعاه الى ترك الحزن.

[٧٠] ولأجل الإبقاء على أخيه جعل الكيل الذي يكتال به والذي سماه القرآن مره بالسقاية لأنه كان يسقى به ، ومرة بالصواع لأن الكيل كان بقدر صاع ، جعله في امتعة أخيه.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)

اي أيتها القافلة انكم لسارقون.

[٧١] وكانت دهشتهم بالغة من هذه التهمة الكبيرة ، لذلك اجتمعوا اليه وهم يسألون عما فقد.

(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ)

[٧٢] (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)

فبكفالتي سيحصل الذي يدلنا على مكان الكيل على حمل بعير من الطعام.

[٧٣] فتبرأ أخوة يوسف من هذه التهمة ، وحلفوا بالله : أنهم لم يهدفوا الفساد في الأرض والسرقة حين جاؤوا الى مصر. انما جاؤوا لطلب الميرة كما تدل على ذلك

٢٣٦

شواهد حالهم ، أما أحوالهم السابقة فلم تكن لهم سوابق السرقة.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ)

يقال : ان اخوة يوسف أعادوا اليه ما وجدوه في رحالهم. زعما منهم بأنه قد وضع خطأ ، وانهم حينما دخلوا مصر سدّوا أفواه دوابهم لكي لا تأكل من زرع الناس احتياطا على دينهم وكل ذلك دفعهم الى الاعتقاد بان ملك مصر وملائه على يقين بصلاحهم ، وبراءتهم عن تهمة السرقة.

عقاب السرقة :

[٧٤] وقبل ان يستخرج يوسف الصاع من رحل أخيه بنيامين. سأل اخوته عن جزاء السارق في دينهم ، وكان هذا أسلوبا جديدا في الحكم ان يعترف المجرم بحكم الجريمة لو ثبتت عليه : ـ

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ)

[٧٥] كان ولا يزال جزاء السرقة مختلفا عند الشعوب باختلاف الظروف المعيشية ، ولأن السرقة خرق للنظام الاقتصادي القائم وللقوانين الاجتماعية الحاكمة ، فلا بد ان يكون عقابها متناسبا مع ذلك النظام وتلك القوانين ، وفي مصر حيث الرخاء كانت السرقة خروجا على العرف الاجتماعي وجزاؤها الضرب والسجن ، بينما في فلسطين ذلك اليوم حيث القحط كانوا يستعبدون السارق بقدر سرقته لأن السرقة كانت بهدف أخذ حقوق الناس ولدوافع اقتصادية.

لذلك تجدهم يحددون جزاء السارق حسب بلدهم.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ)

٢٣٧

اي فان السارق بذاته سوف يصبح جزاء سرقته.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)

وتمت ليوسف خطته التي استهدفت الإبقاء على أخيه عنده.

٢٣٨

سورة يوسف

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ

____________________

٧٧ [فأسرها] : كتمها.

٨٠ [خلصوا نجيّا] : انفردوا للتناجي والتشاور والمناجاة ، المشاورة والاختفاء في الكلام.

٢٣٩

تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢)

____________________

[فلن أبرح] : لن أفارق.

٢٤٠