من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ)

يسومونكم : أي يذيقونكم.

(وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)

أي أعظم امتحان لكم ، وأصل البلاء هو إظهار الخفي ، وفي الظروف الصعبة يستخرج البشر كنوز طاقاته ، ويفجر مواهبه الفكرية والجسدية.

لئن شكرتم ولئن كفرتم :

[٧] وتذكّر النعمة ومن أنعم بها ، أحد ابرز أنواع الشكر ، ومن عرف ان واهب النعمة هو الله ، فسعى في مرضاته لكي لا يسلبها عنه زاده ، وهكذا أعلن ربنا ان الشكر يزيد النعمة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)

الزمان سيجري لمصلحة الشاكرين ، لأنهم يحتفظون بالعوامل التي أدت بهم الى النعمة من التوكل على الله ، والسعي السليم والوحدة ، وادخار الثروة ، والاقتصاد في الاستهلاك ، والعدالة في التوزيع.

وإنّ هذا لهو الشكر العملي الواجب بعد الانتصار كما جاء في آية كريمة : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) وبالطبع سيكون تناسي النعمة ، وترك الخصائص الفكرية والسلوكية التي رافقتها أو استوهبتها ، هو الكفر بالنعمة الذي يسبب في زوالها.

(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ)

٣٨١

[٨] وقد يمن العاملون على ربهم أنهم يسعون في مرضاته ، وقد يزعمون أنهم لو تركوا ربهم لضارّوه سبحانه.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)

كفرا نظريا أو عمليا بترك الشكر ، أو العودة الى جاهليتكم السوداء ، فلن تضروا الله شيئا.

(فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)

وغنى ربنا ليس بسرقة ، أو بابتزاز حق ، أو لأجل الفساد ـ سبحانه ـ كما هو غنى بعض الأغنياء ، بل غناه حميد لأنه منه ومن أجل خير العالمين ، وهكذا ينبغي ان يكون الأغنياء.

وهكذا سعى موسى من أجل إخراج قومه من الظلمات الى النور قبل الانتصار على فرعون وبعده ، أما قبل فعن طريق قيادة نضال قومه ، وأما بعده فبرفع معنوياتهم ، وتزكية نفوسهم لكي لا يفسدوا أو يبطروا بالنصر فيعود إليهم الظلام ، أو يبتلوا بظلام جديد.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) :

[٩] وهكذا سعى الأنبياء السابقون على موسى .. كم كان عددهم .. لا يعلمهم الا الله ، ولكن قصصهم واحدة ، وقد جرت ضمن الفصول التالية :

ألف : جاؤا بالبينات الواضحة.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)

٣٨٢

لقد وفر الله للبشر نور العقل وهو يكفيه حجة بأدنى تذكرة. بيد ان ربنا أتم حجته عليهم بالحجج الواضحة التي لا ينكرها الّا المعاندون.

باء : أما الناس فقد ردوا أيديهم ووضعوها في أفواههم اشارة الى ضرورة السكوت ، كما يفعل من لا يريد الكلام فيجعل يده على فمه ليقول للآخر : افعل هكذا واسكت ، وهؤلاء لم يكتفوا بطلب السكوت من الأنبياء بل أشاروا الى ذلك بأيديهم أيضا توغلا في العناد ، وليبقى عملهم شاهدا على أنهم أساسا لم يستمعوا الى القول فكيف بقوله.

(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ)

قال بعضهم : إن الناس ردوا أيدي الرسل الى أفواه الرسل لإسكاتهم أو ردوا أيديهم هم الى أفواه الرسل لإسكاتهم.

(وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ)

وكفرهم سبق شكهم. لأنهم قرّروا الكفر عنادا ، ثم ارتابوا بعدئذ ، كما جاء في الحديث :

«لا تجعلوا علمكم جهلا ، ويقينكم شكا. إذا علمتم فاعملوا ، وإذا أيقنتم فاقدموا»

(وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)

[١٠] جيم : أما الرسل فقد ربطوا بين رسالتهم وبين الذي اوحى بها وهو الله ، وبدأوا من نقطة البداية قائلين : أفي الله شك؟! فمن إذا خالق السماوات والأرض وفاتقهما بعد ان كانتا رتقا؟!

٣٨٣

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

وذا أنتفي الشك في الله ، فان كل شك وريب آخر في الرسالة سيكون باطلا ، لأنه هو الذي بعث بالرسل ، وأظهر على أيديهم المعاجز.

دال : وبعد ان عالجوا المشكلة العقلية عندهم بتذكرتهم بفاطر السموات والأرض وبأنه لا شك فيه لأنه وجداني. بعدئذ أخذوا يعالجون السبب الحقيقي لكفرهم وهو مشكلتهم النفسية ، وأثاروا فيهم حبهم لأنفسهم فقالوا : ربكم يدعوكم برسالاته لمصلحتكم.

(يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)

ولنا ان نتساءل : لماذا لا يغفر ربنا كل الذنوب؟

أولا : ان بعض الذنوب يأتي بها العبد تكبرا وعنادا ، ففي الحديث :

«قد يرى الله عبده على ذنب فيقول له : افعل ما شئت فاني لا أغفر لك أبدا»

ثانيا : ان بقاء بعض الذنوب سيف مسلط على غرور البشر ، وأمنه من كيد الله ، وعجبه بذاته لكي يبقيه أبدا بين الخوف والرجاء.

(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)

ذلك لان دعوة الأنبياء ليست من أجل إخلاد البشر في نعم الدنيا التي لا تبقى ، وهم لا يبقون لها ، بل من أجل توفير الفرصة له ليستمر الى آخر اجله المحدد له سلفا ، والا تنزل عليه الكوارث فتبيده قبل حلول أجله.

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)

٣٨٤

وكيف نقبل بولايتكم علينا أم كيف يخصكم الله بالرسالة من دوننا ، وكان من ضعف ثقتهم بأنفسهم كبشر انهم لم يصدقوا أنفسهم ان يبعث الله إليهم بشرا رسولا.

هاء : ثم قالوا إنّ تعاليمكم مخالفة لتقاليدنا التي ورثناها من آبائنا وتعودنا عليها.

(تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا)

واو : فطالبوهم بحجة أقوى من مجرد التذكرة ، بحجة مادية مثل احياء الموتى وتفجير ينابيع الأرض ذهبا ، والعروج الى السماء ، ليضطروا الى الايمان ، ولم يكتفوا بهدى عقولهم ، ولم يقاوموا ضغط التقاليد بإرادة التحرر منها لذلك قالوا :

(فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)

[١١] زاء : واعترف الرسل بأنهم بشر ، لا يتميزون عن غيرهم سوى الوحي الذي هو مضاف الى شخصياتهم ، وليس جزء منها.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)

وهذا التأكيد القرآني جزء من دعوة الرسل ، ودليل صدق على انهم لم يجعلوا الافتراء على الله وسيلة للمكاسب المادية ، ولا يريدون ذلك ولا يسمح لهم ربهم بذلك أبدا.

(وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)

بالرسالة ، ويقدر ما يمن الله يصبح الرسول عظيما ، لذلك لا يملك الرسول قدرة الإيتاء بالآيات الجديدة حسب رغباته.

٣٨٥

(وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

والأهم من ذلك اننا نعتمد على الله في تبليغ الرسالة وحتى دعوتنا لكم ليست بقوانا الذاتية ، ولا بحسب قدراتنا الخاصة عند ما نقوم على أمر ، بل بقوة الله وقدرته المطلقة.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

[١٢] التوكل على الله عند الأنبياء والمؤمنين بهم أصدق شاهد على انهم من قبل الله لماذا؟ لما يلي :

أولا : حب الذات والحفاظ على المصالح ، فطرة بشرية راسخة في اعماق ذات كل إنسان ، ولا يمكن لأحد الّا لمجنون ان يعرض نفسه للخطر ، لمجموعة أوهام وخرافات لا تؤمن بها يمكن ان تكذب لتحصل على مصلحة أما ان تكذب لتحصل على صفعة ، فمستحيل الا إذا كنت مجنونا.

ثانيا : يختلف الفرد الذي يتحرك في الناس بقدراته الذاتية عمن هو مدعوم من قبل قوة أخرى. فسلوك الموظف أو الشرطي أو الجاسوس أو المنتمي الى حزب قوي يختلف كثيرا عن سلوك الفرد العادي. والرسل عليهم السلام كانوا يقدمون بلا حساب على المخاطر وهم واثقون بالنصر. أو ليس هذا دليل على أنهم قد بلغوا الحقيقة. ولذلك ربطوا بين التوكل الظاهر في ابعاد حياتهم ، وبين الهدى الذي رزقهم الله إياه ، فهم عرفوا الحق ولذلك ضحّوا من أجله.

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا)

وكانوا يتحملون الصعاب في طريق رسالتهم كدليل على انهم واثقون من طريقهم.

٣٨٦

(وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)

من شاء ان يعتمد على شيء فليعتمد على الله الذي لا يخيّب أمل من توكل عليه ، فهو إذا حقيق بان يتوكّل عليه المتوكلون.

٣٨٧

سورة إبراهيم

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)

____________________

١٥ [واستفتحوا] : الاستفتاح طلب الفتح بالنصر.

١٦ [صديد] : الصديد القيح يسيل من الجرح ، وانما سمي صديدا لأنه يصد حتى لا يسيل.

١٧ [يتجرعه] : التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار.

[يسيغه] : الاساغة اجراء الشراب في الحلق ، يقال ساغ الشيء وأسغته انا.

٣٨٨

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)

____________________

١٨ [اشتدت] : الاشتداد الاسراع بالحركة على عظم القوة.

[عاصف] : شديد الريح ، والعصف شدة الريح.

٣٨٩

وخاب كل جبّار عنيد

هدى من الآيات :

تطور الصراع ، وتجسد عناد الكفار في إرهاب أهوج ، وهددوا رسلهم بالإخراج ، إذا لم يخضعوا لباطلهم ، وأعلمهم ربهم ان الفريق الظالم هو الهالك ، وان الفريق الآخر سوف يسكن الأرض موعدا بنصر الله له بسبب خوفه من الله ومن وعيده.

وكانت محاولات الكفار للفتح تبوء بالفشل ، لأنهم تجبروا في الأرض ، وعلوا فيها بغير حق ، كما وقفوا ضد الحق.

وفي الآخرة ، تنتظرهم جهنم التي تسقي نازلها بماء هو القيح ، يشر به جرعة جرعة دون ان يقدر على اساغته ، وابتلاعه بينما تحيط به أسباب الموت ، لو كان في تلك الدار شيء أسمه الموت ، بل يستمر معه عذاب غليظ متكاثف موجة بعد موجة.

أما أعمالهم فهي كالرماد حين تهب عليها ريح شديدة العصف ، أنهم لا يقدرون على الحصول مما كسبوا على شيء .. أو ليس هذا ضلالا بعيدا؟!

٣٩٠

نعم .. لان خلقة السماوات والأرض قائمة على أساس الحق ، والضلالة باطلة ولذلك فهي لا مكان لها في الكون.

ثم أنّ الله هو المهيمن على السماوات والأرض ، فان يشأ يذهب بهم ويأت بخلق جديد. دون ان يكون ذلك عليه عزيزا. أجل ولذلك لا معنى للتجبر والعناد.

بينات من الآيات :

(لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) :

[١٣] تطور الصراع الى التهديد المباشر للرسل.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا)

أي في ديننا الذين نميل اليه ، وهكذا أظهروا طبيعتهم الارهابية ، وعبادتهم للقوة مقام الحق.

وحين لا ينفع القول الحق ويعاند الكافر ، يستخدم أصحاب الحق القوة لردع الباطل ، ولأن الرسل لا يعتمدون على قواهم الذاتية في مواجهة عناد الكفار ، بعد ان صبروا على أذاهم بل على ربهم. لذلك لم يتركهم ربهم طويلا. بل أوحى إليهم بكل وضوح أنه سيهلك بالتأكيد الظالمين.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)

وهذه سنة الله مع الرسل والرساليين جميعا ، أنه يتركهم يواجهون عدوهم بصبرهم وإرادتهم حتى يجربهم ، ولكن إذا حانت ساعة المواجهة الجدية ، فان نصره يهبط عليهم بردا وسلاما.

[١٤] وبشرهم الله بأنه مع هلاك الظالمين ينزل الرفاه والرحمة لهم.

٣٩١

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ)

ولكن ليس جميع الناس يثقون بالكلام الذي فيه إنذار وبشارة ، بل فقط الذين يخشون ربهم ، ويتذكرون مقامه ، ومقامتهم أمامه للشهادة.

ولا يستمر النصر الا باستمرار أسبابه ، وهو الخوف من مقام الله وسمو جلاله ، والخشية من وعيده وإنذاره.

(ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)

[١٥] وبثمن الخضوع التام لله ، دفع الله إليهم هدية النصر ، كما ان أعداءهم خابت ظنونهم وآمالهم وذهبت جهودهم سدى بسبب عنادهم ، وكلما طلبوا الفتح أملا وعملا.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)

التجبر طلب علو المنزلة بما ليس له غاية في الوصف ، وإذا وصف العبد بأنه جبار كان ذما ، لأنه طلب للعلو لا لهدف بل للتعالي ، ولإشباع نهم الاستعلاء بحق أو بغير حق ، وهذا هو معنى العنيد ، وهو الامتناع عن الحق باستمرار.

[١٦] والله يقابل عناد هؤلاء بجهنم تلهب أكبادهم عطشا ، ولا يسقون الّا بماء كالقيح الذي يصدر من الجروح المتعفنة.

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ)

وقد يكون هذا القيح هو لعاب ألسنتهم المعاندة ، التي لا تنطق الا بالباطل.

[١٧] وهم يشربون الجرعة بعد الجرعة دون ان يجري ذلك في مريئهم بسهولة ، ولكنهم يحاولون ذلك بسبب عطشهم الملتهب.

٣٩٢

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ)

ذلك أن الموت ينعدم في الدار الآخرة.

(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)

أي امامه عذاب كثيف.

المنهج الالهي حصن الحضارة :

[١٨] وأعمال هؤلاء تذهب عبثا ، لأنها لا تجري مع سنن الله في الأرض ، كمثل الذي يحث الخطى بعد أن ضل الطريق وتاه في الصحراء ، فهل يبلغ هدفه؟!

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ)

اي يوم اشتدت الرياح فيه عصفا ، منذ بدايته الى نهايته ، ان الرماد ينبث في الفضاء بسبب عدم استقراره على أساس ثابت ، وعدم وجوده في حصن منيع ، كذلك العمل الذي لا ينبعث من أرض الأيمان الصادق ، ولا يحصّنه المنهاج السماوي.

(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ)

بالرغم من ان أساس الكون قائم على ان للإنسان ما سعى ، ولكن السعي الذي يتبع الهوى ، ويخضع لضغط الطبيعة ، ولشهوات الناس يكون كالرماد الذي تشتد به الريح لتجد كل جزء منه في اتجاه بينما السعي الذي يستقيم في الخط الصاعد ، يستمر.

(ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)

الذي لا ينفعه الكسب ، وهو أفضل ثمرات العمر.

٣٩٣

[١٩] والسؤال : لماذا لا تقدّر عدالة الله ، مكاسب هذا الفريق من البشر؟ ذلك لأن الله قد بنى السماء والأرض على أساس سنن وانظمة ومناهج وسبل سماها جميعا بالحق ، فمن عرفها وسخّرها قدر على ما أكتسب ، ومن تحداها بهواه وبضلالته لم يقدر على شيء مما كسب.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ)

كل شيء خاضع لسنة ونظام لا يمكن تجاوزه ولا تسخيره الّا عبر ذلك النظام ، ومن الأنظمة ما هو واضح كالجاذبية وقوانين الفيزياء والكيمياء والاجتماع ، ومن الحق ما هو غامض ويذكر به الشرع مثل آثار الصلاة والزكاة والإرث وما أشبه.

وأنك لا بد ان تخضع لهذه الانظمة ، وتأتي الحياة من بابها لتسخرها .. أليس كذلك ، فانك لا تسخر الحياة بالتجبر والعناد ، وباتباع اهوائك المتغيرة ، وبالخضوع لضغوط الشهوات.

انك محكوم في هذا الكون ، وليس بحاكم ولا بد ان تعترف بهذه الحقيقة ، وأبرز شواهد حاكمية الله عليك أنه إذا شاء أذهبك وجاء بخلق جديد. أيّ حاكم أنت الذي لا تملك نفسك؟! فلما ذا العناد ، ولماذا التجبر؟!

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)

[٢٠] ويفعل ذلك كله دون ان تقدر على شيء.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)

ليس بصعب .. فأنت لو تجبرت سوف تصبح أهون هالك لا يسأل عنك أحد ، ولا تتعب من يهلكك بشيء سبحانه.

٣٩٤

سورة إبراهيم

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا

____________________

٢١ [برزوا] : البروز خروج الشيء عما كان ملتبسا به الى حيث يقع عليه الحس ، يقال برز للقتال إذا ظهر له.

[تبعا] : التبع جمع تابع كالغيب جمع غائب.

[مغنون] : اغنى عنه اي دفع عنه فأغناه ، اي نفي الحاجة عنه بما فيه كفايته.

[اجزعنا] : الجزع انزعاج النفس بورود ما يغم ونقيضه الصبر.

[محيص] : منجى ومهرب.

٣٩٥

بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)

____________________

٢٢ [بمصرخكم] : الاصراخ الاغاثة بإجابة الصارخ ، ويقال استصرخني فلان فاصرخته اي استغاث بي فأغثته.

٢٦ [اجتثّت] : الاجتثاث اقتلاع الشيء من أصله ، يقال جثه واجتثه والجثة أخذت منه.

٣٩٦

فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ

هدى من الآيات :

ذكّرنا الدرس الذي مضى بان أعمال الكفار كالرماد تبذه الريح العاصفة ، ولا يحصلون مما كسبوا على شيء ، وفي هذا الدرس يذكّرنا سبب ذلك ، كما يبين ما يعاكسه من ثبات عمل المؤمنين. ونتساءل كيف ولماذا؟

ان الكفار يعتمدون على الطاغوت والجبت ، وهما غير مهتدين ولا واثقين من أنفسهما ، فالطاغوت المتمثل في المستكبرين يتبرءون يوم القيام عمن اتبعهم ، وإذا سألوهم أنا كنا تبعا لكم فهل أنتم تحملون عنا شيئا من العذاب؟ أجابوا : كلا .. لأننا ضالون مثلكم ، وثانيا .. لأننا بدورنا لا ندفع العذاب عن أنفسنا ، أما الجبت المتجسد في الشيطان فانه يأتي يوم القيامة ، ويشمت بمن أتبعه ويقول لهم : ان الله وعدكم حقا ووعدتكم باطلا ، ولم أكن أستطيع اجباركم على اتباعي أنما أنتم استجبتم لي بحريتكم ، فاللوم عليكم وليس عليّ ، ثم يقول لهم : لا أنتم تنقذوني من العذاب ولا أنا أنقذكم ، وأني الآن أتبرئ من شرككم ، وأعلن ان الظالمين لهم

٣٩٧

عذاب أليم بعكس وعودي السابقة.

هكذا خابت ظنونهم .. أما المؤمنون فإنهم أدخلوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن الله ، وهم يسلّمون على بعضهم بعكس ما يجري في جهنم من صراع ، فسبب ثبات أعمال المؤمنين ان الله يثبتها ، ومثلها مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأكلها دائم ، بينما الكلمة الخبيثة والعقيدة الفاسدة مثلها مثل شجرة خبيثة ليس لها أصل ولا قرار ، وهكذا يحصن الله أعمال المؤمنين بالعقيدة الصالحة والثواب ، بينما يضل الظالمين ، وهو قاهر فوق عباده يفعل ما يشاء دون أن يسأل عما يفعل وهم يسألون.

بينات من الآيات :

حوار الضعفاء مع الذين استكبروا :

[٢١] حين يتبع الإنسان الحق يكون الله ضامنا لعمله ، أما حين يتبع إنسانا مستكبرا تجبّر عليه زورا وبهتانا ، فما الذي يضمن عمله ، يوم يأتي المستكبر هو والمستضعف ليقفان أمام الله في صف واحد.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)

أيّ للأقوياء ممن استكبروا ، واعتبروا أنفسهم أكبر من الناس.

(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)

فهل هم ضامنون لعملهم؟ وهنا ليس فقط يعترف المستكبرون بضلالتهم ، بل وبان استكبارهم كان غلطة العمر بالنسبة إليهم.

(قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ

٣٩٨

مَحِيصٍ)

فلا مجال للزحزحة عن عذاب الله.

[٢٢] أما الشيطان الذي هو النداء الداخلي الذي يوسوس للقلب ، فيتبعه الإنسان ، وهو الذي دلّى أبانا آدم بغرور فأخرجه من الجنة ، وهو بالتالي إبليس الذي تمرد على الله واستكبر ، وعزم على خداع البشر ، انه هو الآخر اخلف وعده ، وكان من قبل يزعم انه قوي ، وانه سوف يغيث الذين يتبعونه ، فها هو يشمت بمن يتبعه.

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ)

الذي له من العقل والعلم على صدقه شواهد وحجج.

(وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)

ووعود الشيطان أماني وأحلام تتناسب وشهوات الفرد ، وهي تشبه التبريرات الثقافية التي ترتاح إليها النفوس الكسولة والأمم المتخلفة مثل انتظار المستقبل بلا سعي يصنعه ، وإلقاء المسؤولية على عاتق الزمن ، أو لا أقل على كاهل الآخرين أموات أو أحياء.

(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)

إن جذر التبريرات التي يلقيها الشيطان الرجيم في فؤاد الإنسان هو اشعاره بأنه مكره على أفعاله ، وان قضاء حتميا يفرض عليه هذا العمل أو ذاك وذلك بتهويل الأشياء والأحداث والأشخاص عنده ، وتصغير نفسه أمامها وتحجيم دور الإرادة

٣٩٩

عنده ، مثلا يقول له : ان تغير سيرة الآباء مستحيل ، أو ان تغيير الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أمر لا نقدر عليه ، أو ان مخالفة هذا الأمير وذلك المستكبر غير ممكنة ، أو يقول له : كيف تقوم الحطبة وقد عملت فيها السنون ما عملت ، وكيف تغير الزمان وقد أفسده السلطان ، وما أنت وماذا عسى أن تفعل.

وفي يوم القيامة يعترف الشيطان ، بأنه كان خادعا في قوله هذا ، وان ارادة الإنسان هي التي تصنع واقعه ، وانه لا حول ولا قوة له ، فلا يغيث ولا يغاث.

(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ)

فلا أنا أغيثكم ولا أنتم.

(إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)

وحقيقة الإشراك هو ان تعتقد ان أحدا أو شيئا غير الله إله لا يغلب. كلا .. بل كل شيء خاضع لله ، ولمن يتوكل.

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

إذا كان جذر التبريرات سلب ارادة البشر ، وتهويل ما دونه في عينه ، فان العنوان الظاهر لكل التبريرات هو سلب مسئولية الفرد عن جرائمه ، لذلك أكد الشيطان في يوم القيامة ان للظالمين عذابا أليما ، فهم لا يستطيعون ان يهربوا من مسئولياتهم أبدا.

وادخل الذين آمنوا الجنات :

[٢٣] أما المؤمنون فان ربهم ضمن لهم جزاء أعمالهم الصالحة ، وقد صدقوا وعد بعضهم ، فتراهم يحبون بعضهم بسلام بعكس أولئك الذين تنابزوا بالألقاب وتبرؤوا

٤٠٠