من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

في دعاء الندبة في حق علي (ع):

«إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد»

وقد جاء في تفسير العياشي ، قال أمير المؤمنين عليه السّلام :

«فينا نزلت هذه الآية» (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)

فقال رسول الله (ص) :

«انا المنذر وأنت الهادي يا علي ، فهنا الهادي والنجاة والسعادة الى يوم القيامة» (١)

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ـ ج ٢ ـ ص ٤٨٤

٣٠١

سورة الرعد

اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)

____________________

٨ [تغيض] الغيض ذهاب المائع في جهة العمق ، وغاضت المياه نقصت وغيّضته نقصته.

١٠ [سارب] السارب الساري الجاري بسرعة ، والسرب الماء السائل من المزادة.

٣٠٢

لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)

____________________

١١ [معقبات] المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه ، وأصل التعقيب أن يكون الشيء عقيب آخر ، والمعقب الطالب دينه مرة بعد مرة ، ومنه العقاب لأنه يستحق عقاب الجرم.

١٣ [الصواعق] جمع صاعق وهي نار تسقط من السماء.

[المحال] الأخذ بالقوة.

٣٠٣

ينابيع الايمان وعوامل الشرك

هدى من الآيات :

يذكرنا السياق القرآني في سورة الرعد بآيات الله في الكون ، ويوجهنا الى النظر «العبري» إليها لكي نصل من خلالها الى معرفة الله سبحانه ، لأن الغاية التي خلق الله من أجلها هذا الكون هي معرفته في الدرجة الأولى ، وآيات الله في الطبيعة أقرب ما تكون الى الإنسان وتصوره ، لأن الإنسان تراب ويحنّ الى أصله ، وكل شيء في الكون تجسيد لاسمائه سبحانه ، وينحرف الإنسان إذا ما اتبع عقله في كشف حقائق الكون.

وهذا الدرس يذكر ببعض صفات الله ، ويذكر الإنسان بهذه الحقائق التي يغفل عنها وينساها دائما فالله سبحانه يعلم ما تحمل الإناث في بطونهن من ذكر أو أنثى ـ ليس ذلك فحسب ـ بل يعلم تفاصيل حياة الجنين وما يحمل من صفات وراثية. وغيرها وعلم الأجنة هو أحد العلوم الخمسة التي لا يعلمها غيره ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ

٣٠٤

ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤ / لقمان)

وعلم الله لا يقف عند حدود الأجنة ، بل هو يعلم كل مكنون من القول وكل ظاهر منه ، وكل من سار بالليل أو سرب في النهار ، وعلم الله ليس الشهود وحده أو الغيب وحده ، بل علمه محيط بهما معا ، فعلمه بالغيب كعلمه بالشهادة ، وكيف لا وهو مع كل شيء ، وأقرب الى كل شيء من أي شيء ، وهو معنا أينما كنا ، وأقرب إلينا من حبل الوتين ، فسبحان الله الكبير المتعال : أكبر من التصور ، متعال عن مجانسة الخلق.

ومن آياته ان جعل مع كل نفس ملائكة تحفظها من الأخطار ، فاذا جاء أجلها خلّوا بينها وبين الأجل .. الا يدل ذلك على رحمة ربنا ، وأنّه أرحم بنا منّا ، وأنّه كيف نحفظ أنفسنا ونحن لا نستطيع ان ندفع عنها ضرا أو نجلب لها نفعا ، ولو قلنا بأننا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا حال غفلتنا وانشغالنا ، إذا فالإنسان ليس سيد نفسه ، بل الله سيده على نفسه ، وان له الولاية المطلقة ، ولكن الله سبحانه مع حفظه للإنسان يسمح بمرور العذاب والبلاء بمقدار ما تستحق كل نفس (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

ومن آيات الله ان يرافق السحب الثقال البروق والرعود خوفا من عقابه ورجاء لرحمته ، فهذا الرعد الذي يسبح بحمده يهز ضمائرنا ، ويذكرنا بعظمة الجبار ، وسرّ عظمة الرعد أنه خاضع لله ، مسبح بحمده ، وليس الرعد وحده هو الذي يسبح بحمده ، بل أن الملائكة التي تقوم بأمر الرعد والسحاب تسبح كذلك خشية منه .. (هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ).

أبعد هذه الآيات يكفر الإنسان بالله ويشرك به غيره؟! إن هو آمن بالله وفّقه للخيرات ، وان أشرك به لم يوفق للخيرات ولن يصل الى غاية حميدة فسوف يبقى في

٣٠٥

عطش ، ولن ترويه الآلهة الاخرى ، ودلالة اخرى على علم الله ومقدرته أنه يستجيب لمن يؤمن به ، لأنه في موقع العلم بالمسألة وموقع القدرة على الاجابة ، اما الآلهة الأخرى فهم أعجز من ان يحيطوا علما بما تكن نفس البشر ، وأعجز من أن يستطيعوا تلبية مطالبه.

بينات من الآيات :

علم الله :

[٨] لو عرف الإنسان أن ربه محيط به علما لاطمأن الى رحمته ، ولخشي عذابه لأنه آنئذ يشعر بأن الله يحيط بسكناته وحركاته .. سرّه وجهره ، ولاستقامت سيرته وسلوكه ، والآيات القرآنية تذكرنا بهذه البصيرة المرة بعد الأخرى ، وذلك بسبب غيابها عنا ، وعدم حضورها في تصورنا ، وغيابها عنا كان السبب المباشر لانحرافاتنا وعلم الله بالإنسان شامل فمنذ ان كان جنينا يعلم تفاصيل حياته.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ)

ان علم الله أحاط بالجنين هل هو ذكر أم أنثى ، وهل سيعيش شقيّا أم سعيدا ، ويعلم أثناء الحمل وعند الولادة ما سيحمله الجنين من صفات كما انه دبر أمر الإنسان جنينا فأطعمه وسقاه.

جاء في توحيد المفضل عن الامام الصادق (ع):

«اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى مثله يمكن ان يكون بالإهمال ..؟ أفرأيت لو لم يجر اليه ذلك الدم وهو في الرحم ، ألم يكن سيذوي ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء؟!»

وفي موضع آخر قال المفضل : فقلت : صف نشوء الأبدان ونموها حالا بعد حال

٣٠٦

حتى تبلغ التمام والكمال ، قال عليه السّلام :

«أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ، ولا تناله يد ، ويدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه ، وصلاح الأحشاء والجوارح والعوامل الى ما في تركيب أعضائه من العظام واللحم والشحم والعصب والمخ والعروق والغضاريف ، فاذا خرج الى العالم تراه كيف ينمو بجميع أعضائه وهو ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص الى أن يبلغ أشدّه ..» (١)

وعلم الله محيط بما تحمل الإناث من الأجنة «وما تغيض» أي ما تفيض وتسقط مما لم يكتمل خلقه ، «وما تزداد» سواء كانت الزيادة في العدد أو الزيادة في الأعضاء.

جاء في تفسير العياش عن الامام الصادق (ع):

«ما تحمل أنثى : الذكر والأنثى ، وما تغيض الأرحام : ما كان من دون التسعة وهو غيض ، وما تزداد : ما رأت الدم في حال حملها ازداد به عن التسعة أشهر».

«ما تغيض : ما لم يكن حملا ، وما تزداد : الذكر والأنثى جميعا» (٢)

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)

لكل شيء في هذا الكون حدّ محدود ، وقدر مكتوب فنحن لا نعرف هذه الأقدار لذلك ننسب الأشياء الى الكبر والصغر ، والطول والقصر ، ولكن لو تعمقنا لعلمنا ان

__________________

(١) بحار الأنوار ـ ج ٣ ـ ص ١١٧ ـ ١١٩

(٢) تفسير الصافي ـ ج ٣ ـ ص ٥٩

٣٠٧

الحرارة في جسم الإنسان بقدر معيّن ، وان للجبال قدرا وأوزانا معينة ، بل لكل معدن قدر معين في الكثافة والكتلة والوزن ، وحتى الهواء والضياء له وزن ومقدار.

مظاهر علم الله :

[٩] (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)

الغيب عنده كما الشهود ، كلاهما يتساوى عنده في الظهور.

(الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ)

انه أكبر من ان يوصف وانما يتفاضل الأشياء بالكبر ويقاس ببعضها إذا كانت من جنس واحد وليس الله من جنس الأشياء بل انه الخالق وهي مخلوقات لذلك جاء في الحديث : ان رجلا كبّر عند الامام الصادق (ع) فسأله (ع):

«الله أكبر من أي شيء؟

فقال (الرجل) : من كل شيء ، فقال عليه السّلام :

حدّدته!

فقال الرجل : كيف أقول؟ قال :

قل : الله أكبر من أن يوصف»

وفي حديث : ان الامام بعد ما سأل الرجل عن أن الله أكبر من أي شيء؟ وقال له : أنه أكبر من كل شيء. أجابه الامام فقال :

«وكان ثمّة شيء فيكون أكبر منه!!!

٣٠٨

فقال : وما هو؟ فقال :

أكبر من ان يوصف» (١)

والمتعال : مهيمن على كل شيء ومتعال عليه ، وأنه لا يماثل شيء ولا شيء يماثله.

[١٠] (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ)

كما الغيب والشهادة عنده سواء كذلك المكتوم من القول والمجهور به ، وكذلك هو محيط علما بمن يكمن في الليل ساريا بظلامه ، ومن يتحرك نهارا ساربا في ضوءه.

(حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) :

[١١] (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)

أي ملائكة يتعاقبون بعضهم بعد بعض ليحفظوا الإنسان من الوقوع في الاخطار ، ولكن إذا كانت الملائكة تحفظنا من الوقوع في الأخطار فلما ذا نموت ، ولماذا تصيبنا المخاطر كل لحظة؟

اما لماذا نموت فان أجل الإنسان إذا جاء لا تمنع الملائكة منه ، بل انها سوف تخلي بين الإنسان وبين حتفه ، اما لماذا نتعرض للمشاكل كل لحظة ، فهذا ما ستجيب عليه نهاية الآية :

__________________

(١) تفسير الصافي ـ ج ٣ ـ ص ٢٢٨

٣٠٩

ولنا ان نتساءل : ما علاقة الإنسان بالملائكة حتى يحفظوه؟

أولا : الملائكة عباد مكرمون لله ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ثانيا : ان لكل شيء في الحياة ملكا موكلا به ، فللسحاب ملك موكل به وللرعد ملك موكل به ، وللبحر ملك موكل به ـ وهكذا .. يكون للإنسان ملك موكل به ، لأنه جزء من الطبيعة.

ثالثا : ان الله عند ما أسجد ملائكته لآدم فان ذلك دلالة على سجود الطبيعة وتسخيرها له وهكذا سخر الله الملائكة لخدمة الإنسان.

إذا لنرجع الى نهاية الآية ونقول : ان الإنسان هو الذي يصنع واقعه بنفسه ، ولا نشك ان للتصرفات والسلوك الانساني دخلا في صنع الظروف المؤثرة فيه ، فباستطاعتك ان تغيّر نفسك ، وإذا غيرت نفسك فانك آنئذ تغيّر ما حولك.

وهكذا الظروف التي تمر بها الأمة الاسلامية ، وما مرت به بالأمس انما كان بسبب نفسي ، فاذا لا يجب ان نلقي اللوم على الحكام وحدهم ، بل يجب ان نراجع حساباتنا ، ونمارس النقد الذاتي الصريح بحق أنفسنا .. وهذا هو العلاج الأمثل لذلك قال ربنا :

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)

ان الله هو المهيمن الواحد ان شاء أعطى ، وان شاء محق النعم ، ولكن الله سبحانه لن يصيب قرية بالسوء وأهلها مصلحون ، فاذا دبّر الله لأي قوم سوء ، فانما ذلك بما كسبت أيديهم ، وحين يصب الله السوء على قوم فليس هناك من يحول بينه وبين إرادته.

٣١٠

آيات القدرة والهيمنة في السماء :

[١٢] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً)

خوفا من الصواعق ، وطمعا لما تنبئ به من المطر. والخيرات.

(وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ)

السحاب المثقل بالأمطار.

جاء في حديث طويل في جدال للإمام الصادق مع ملحد في التوحيد يشتهر باسم توحيد الاهليليجية :

«ثم نظرت العين الى العظيم من الآيات من السحاب المسخر بين السماء والأرض بمنزلة الدخان ، لا جسد له يلمس بشيء من الأرض والجبال ، يتخلل الشجر فلا يحرك منها شيئا ولا يهصر منها غصنا ، ولا يعلق منها بشيء ، يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته ، مع ما فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللامعة ، والرعد والثلج ما لا تبلغ الأوهام صفته ، ولا تهتدي القلوب الى كنه عجائبه ، فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه ، ويلتحم بعد تزايله ، تفرّقه الرياح من الجهات كلها الى حيث تسوقه بإذن الله ربها ، يسفل مرة ، ويعلو اخرى ، متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور ، يمرّ على الاراضي الكثيرة ، والبلدان المتنائية ، لا تنقص منه نقطة حتى ينتهى الى ما لا يحصى منه الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة ، وسيلا بعد سيل ، متتابع على رسله حتى ينقع البرك ، وتمتلئ الفجاج ، وتمتلئ الاودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها ، مصمخة الآذان لدويها وهديرها ، فتحيي بها الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد ان كانت مغبرة ، ومعشبة بعد ان كانت مجدبة ، قد كسيت ألوانا من نبات عشب ناضرة

٣١١

زاهرة ، مزيّنة ، معاشا للناس والانعام فاذا أفرغ الغمام ماءه أقلع وتفرق وذهب حيث لا يعاين ولا يدري اين توارى» (١)

[١٣] (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)

التسبيح هو التنزيه ، فهذا الرعد بقوته يخضع الى الله سبحانه ، ومن تخضع له القوة أليس بقوي؟!

(وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)

هذه الملائكة هي المهيمنة على الطبيعة ، آية سلطان هيمنة الله علينا تسبح بحمد الله خوفا منه لبعض المعرفة بالله وقد ورد في الدعاء في الصحيفة السجادية عن الامام علي بن الحسين عليهما السلام في دعائه للملائكة والسلام لهم :

«وعلى الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك ، وأهل الامانة على رسالاتك ، والذين لا تدخلهم سأمة من دؤوب ، ولا إعياء من لغوب ولا فتور ، ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات ، ويقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ، الخشع الأبصار فلا يرمون النظر إليك ، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك ، المستهترون بذكر آلائك ، والمتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك ، والذين يقولون إذا نظروا الى جهنم تزفر على أهل معصيتك ، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، فصل عليهم» (٢)

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ)

__________________

(١) بحار الأنوار ـ ج ٣ ـ ص ١٦٣

(٢) الصحيفة السجادية ـ ص ٤٦

٣١٢

الصاعقة آية من آيات القدرة يرسلها الله على من يشاء من عبيده العاصين.

(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ)

ابعد هذه القدرة والهيمنة يجادلون في الله؟ بلى ان الله شديد القوّة والمكر ، سيصيبهم بما كسبوا قارعة أو يحل قريبا من دارهم البوار.

الايمان بالله ومتاهات الشرك :

[١٤] (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ)

أي اليه ترجع دعوة الحق ، فالعبادة الصحيحة ترفع الى الله سبحانه ويستجيب لها.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ)

هذا هو حال من يعبد غيره ، انه لن يصل الى نتيجة ما ، فهو يعبد غيره لعلّه يصل الى مراده ، ولكنه لن يصل ، وسيبقى عطشانا أبدا ، لأنه رام الارتواء من غيره وقد جاء في تفسير (علي بن إبراهيم) عن الامام الباقر (ع):

«فهذا مثل اضربة للذين يعبدون الأصنام والذين يعبدون آلهة من دون الله ، فلا يستجيبون لهم بشيء ولا ينفعهم الا كباسط كفّيه الى الماء ليتناوله من بعيد ولا يناله» (١)

(وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ـ ج ٣ ـ ص ٤٦١

٣١٣

سورة الرعد

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)

____________________

١٥ [وظلالهم] الظلال جمع الظل وهو ستر الشخص ما بإزائه ، والظل الظليل هو ستر الشمس اللازم.

٣١٤

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)

____________________

١٧ [أودية] الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ومنه اشتقاق الدّية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل.

٣١٥

هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ

هدى من الآيات :

في سياق سورة الرعد التي تدلنا على الله من خلال كائناته ، يذكرنا هذا الدرس بأن كلّ شيء خاضع لله من ملائكته وسائر خلقه طوعا أو كرها ، وليست الأشياء وحدها خاضعة لله. بل حتى ظلالها وانعكاسها خاضع له سبحانه ، وإذا تساءلت من الذي يدبر أمر السماوات والأرض؟ لجاءك الجواب : بأنه الله سبحانه ، إذا فلما ذا يتّخذ الإنسان وليا من دونه؟! وهل هناك إله يملك النفع والضر سواه؟ كلا ..

إن الفرق بين من يؤمن بالله وبين من لا يؤمن به كالفرق بين البصير والأعمى ، والنور والظلمات ، والمؤمن عند ما يتصل بالله يتحول من لا شيء الى شيء ، ولأن الله مهيمن على كل شيء وخالق كلّ شيء وبه تقوم الأشياء فانه كلما كان الايمان أعمق كلما كان الإنسان أكبر.

إن الله سبحانه رازق كلّ شيء فمثل رسالته كمثل غيث ممطر من السماء على

٣١٦

الأرض فتستقبلها الأودية ليروي الزرع والضرع ، ويجعل الأرض مخضرّة ، ويزيل شوائب الحياة «الزبد» ولكن الإنسان بدل أن يهتم بالماء نجده يهتم بهذا الزبد الطافح عليه ، ألّا يدل ذلك على قصر النظر؟! فليس النفع في الزبد ولكن النفع في الماء ، والزبد هو الشيء الظاهر ، والإنسان لا يبحث غالبا عن الظّاهر ، وهو عادة يحبّ المظاهر ، فالزّبد يمثل متع الحياة الدنيا وليست الحياة الدنيا بأفضل من الزبد ، بل هي والزبد سواء.

بينات من الآيات :

الخضوع بين الطوع والإكراه :

[١٥] (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)

«من» اسم موصول للعاقل ويبدو ان المراد منه هنا مطلق الأشياء. وذلك لأنّ ما نسب إليها هو فعل العقلاء فلله يسجد من في السماوات والأرض من الكائنات كالحيوان والإنسان ، وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله ، انما تسجد لله خاضعة له بإرادتها فان لم تسجد لله طوعا أسجدها الله له كرها ، والسجود بالنسبة للمكرهين تعبير عن الخضوع لأمره ، فهذا الإنسان محكوم بقوانين وضعها الله له في كل جوانب حياته ، وبعد مماته.

(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)

الغدو صباحا مع شروق الشمس ، والآصال مساء عند غروب الشمس ، وهذا تعبير عن حركة الأرض حول الشمس ، والغدو والآصال هو بداية ونهاية نشوء الظل ، فالظل يبتدئ طويلا فيأخذ بالقصر حتى منتصف النهار ، حيث ينعدم ويبدأ في الطول ، حتى ينعدم نور الشمس ، فهو يبتدئ طويلا ، وينتهي طويلا ، وينعدم فيما بينهما. وهكذا تخضع الظلال لحركة الشمس المسخرة بدورها لله

٣١٧

سبحانه. أفلا يدلنا ذلك على سجود الطبيعة لله.

[١٦] (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ)

ليس العجب في الظل بل في منشأ الظل ، فكما قلنا : إن منشأ الظلّ هو دوران الأرض حول الشمس ، إذا فالعجب كلّ العجب في هذين الخلقين السماوات والأرض ، من ربهما ومسيرهما؟ بالطبع هو الله وحده.

(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ)

إذا كان الله بهذه القوة والهيمنة ، إذا فلما ذا نتخذ غيره وليّا لا يملك من هذه القوة والهيمنة شيئا ، بل لا يملك قوة ذاته ، ولا هيمنة على قواه.

(لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)

هذه الأصنام الحجرية أو البشرية لا تملك النفع لنفسها ، ولا دفع الضر عنها ، فهل هي قادرة على إعطائك النفع أو دفع الضر عنك؟!

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ)

المشكلة ليست في الحقائق من حولك ، إنما المشكلة في أعيننا ، فالعين مدخولة ، أما الحقائق فموجودة ، والعمى والبصر الحقيقيان ليسا في العين ، بل في القلب كما قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

(أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)

الظلمات كما جاء في الخبر هي الكفر ، والنور هو الإيمان.

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ

٣١٨

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)

لا يستطيع أيّ إنسان مهما كان أن يدّعي أنّ هناك خالقا غير الله لهذا الكون ، فإذا لم يعترف بالله مثلا فلن يقول : إن الكون خلق نفسه ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ٦١ / العنكبوت.

(وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)

قد يكون الواحد قهّارا وقد لا يكون ، ولكن الله واحد وقهار .. واحد تدل على ذلك آياته ، وقهّار غالب على كلّ شيء بقدرته وإرادته ، أما عصيان البشر له فليس انحسارا لقهره ، بل لأنّه يمهل الكافرين ليزدادوا إثما مع إثمهم ، وإنما عجلة الله وانتقامه السريع هو الانحسار الحقيقي لقهر الله فكما ورد في الدعاء : [إنّما يعجل من يخاف الفوت ، وإنما يحتاج الى الظلم الضعيف].

فأما الزبد فيذهب جفاء :

[١٧] (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها)

أيّ ان الأودية تسيل بقدر قطر المطر ، وهذه الآية تلمح الى أن المطر له مقادير معينة يقدرها الله حسب طاعة أو معصية العباد ، كما في قصة أصحاب الأحقاف (قوم هود) لما كفروا قطع الله عنهم المطر سبع سنوات ، وبعد أن جاءهم أهلكهم ، وقد قال تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

(فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً)

يقال : حمل للحامل بإرادته أو كان راضيا ، أما احتمل أيّ حمّل قسرا ، كما يقال للضيف الثقيل : احتملت الضيف ، أو كما يقال : احتمل الأذى ، فالسيل

٣١٩

يحتمل الزبد ، وكأن الزبد غير مرغوب فيه ، والزبد هو المخلفات والأوساخ يجرفها السيل معه ، وقال صاحب المجمع : الاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له ، ويقال : علا صوته على فلان فاحتمله ولم يغضب ، والزبد وضر الغليان ، وهو خبث الغليان ، ومنه زبد القدر وزبد السيل ، ورابيا : مرتفعا يتزايد باستمرار تدفق السيول عليه.

(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ)

كما أن ما يجرفه السيل زبد ، فكذلك المعادن التي تصهر بالنار لتصنع منها الحلي هي زبد أيضا ، وهذه إشارة بأن صناعة الحلي تعتمد على الصهر بدرجات حرارية كبيرة ، وسبب أن متع الحياة زبد أنها تشغل الإنسان بالظاهر ، وتدعه ينسى هدفية الحياة ، ويتصور أن هدفيّة الحياة هو ما يحصل من هذه المتع.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ)

إذا فمتع الحياة مثل الزبد ، وهذا هو الباطل ، أما الحق فعادة ما يغفل عنه ، ذلك لأنّ الحق ليس الذي يستهويك ، انما الحق هو الذي يكمن خلف المباهج ، فلا تغرنك المباهج بل ابحث خلفها عن الحقيقة الناصعة.

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً)

أيّ ان الزبد يتلاشى ويضيع هدرا ، قال الراغب في مفرداته : جفاء : وهو ما يرمي به الوادي أو القدر من الغثاء الى جوانبه ، يقال : أجفأت القدر زبدها : ألقته إجفاء ، وأجفأت الأرض : صارت كالجفاء في ذهاب خيرها. (١)

__________________

(١) مفردات ألفاظ القرآن ـ ص ٩٢.

٣٢٠