من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

(وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)

قالوا : بأن لوطا (ع) طالبهم بزواج البنات من أمته وهن بناته بالأبوة الروحية والرسالية ، كما قالوا : بأنه عرض عليهم بناته ليتزوجوا منهن ، وكان ذلك العرض السخي من أجل نهيهم عن المنكر ، باي وسيلة ممكنة.

(فَاتَّقُوا اللهَ)

وهكذا أمرهم بتقوى الله ، وترك العادة السيئة ، بعد ان أوضح لهم الطريق السوي لإشباع الشهوة الجنسية ، وطالبهم لوط برعاية الشرف.

(وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)

فان لم يكن لكم دين فلا أقل من التمسك بالعرف الذي ينكر طبيعيا اغتصاب الضيوف.

(أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)

[٧٩] وكان جواب قومه بالغا في الميوعة والرعونة.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ)

أي فيما يتصل بقضية البنات ، لا بد أن نتزوجهن والزواج حق نعمل به ونمشي على هداه ، أما الآن فنحن نريد تلك اللذة التي لا توجب علينا تكاليف ومسئوليات.

(وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ)

١٠١

ربما كان قوم لوط قد استصعبوا قوانين الزواج على أنفسهم ، مما دفعهم إلى إشباع الغريزة بالشذوذ ، وربما كان لوط يدعوهم الى التخفيف من قيود الزواج مما قد يدل عليه قوله عليه السلام : (هؤلاء بناتي) وقولهم : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ).

[٨٠] وقطع لوط أمله منهم ، واستبد به اليأس من كل شيء ، وقال بكلمات تتفجر أسى.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ)

تمنى لو كانت لديه قوة قادرة على مواجهتهم ، أو كانت لديه عشيرة تمنعه منهم.

أليس الصبح بقريب :

[٨١] هكذا اشتدت الازمة وضاقت عليه المشكلة ، وعندها ترجى رحمة الله ، وهكذا أظهر الضيوف الذين حاول الجاهليون الاعتداء الخلقي عليهم ، أظهروا واقعهم وبيّنوا أنهم ملائكة الله.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)

وجاءت الأوامر متلاحقة صارمة :

ألف : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)

بعد أن يسدل الليل ستاره ويذهب ردح منه وتهجع العيون ، وتأوي النفوس الى مضاجعها.

باء : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ)

لا ينظر الى ما وراءه ليعرف كيف سيكون حال قومه ، بل يبقى منفصلا عنهم

١٠٢

نفسيا لكي لا يشاركهم العذاب ، ولذلك أصاب امرأة لوط ما أصابهم من العذاب بسبب انتمائها النفسي والقلبي إليهم.

ثم جاء الأمر الالهي الصارم على لسان الملائكة.

(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)

[٨٢] ماذا صنع الله بقوم لوط؟

لم يفعل بهم إلّا ما فعلوه بأنفسهم. انهم غيروا سنن الله ، وحولوها عن وضعها العادي فاذا بهم يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، فقلب الله مدينتهم على رؤوسهم تنكيلا.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها)

وانهم لم يقبلوا وصايا الله ، ومواعظ الأنبياء التي تستمطر الرحمة ، فاذا بهم يتعرضون لعذاب الله الشديد يمطر عليهم من السماء بدل البركات.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)

ربما يكون معناه الحمم المتلاحقة وكأنها منضودة بما يشبه حجارة البراكين المتفجرة ، والله أعلم.

[٨٣] وقد قدر الله تلك الحجارة لمثل هذه الطائفة المنحرفة ، وكأنها قد وضعت عليها علائم خاصة تقول هذه لهؤلاء.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)

١٠٣

سورة هود

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)

١٠٤

شعيب : أوفوا المكيال والميزان

هدى من الآيات :

في سياق حديث القرآن الكريم عن الشعوب الضالة. يذكرنا بمصير مدين قوم شعيب الذين ابتلوا بالفساد الاقتصادي ، فأخذوا ينقصون المكيال والميزان فنهاهم شعيب عن ذلك بعد ان أمرهم بعبادة الله واتباع مناهجه في الحياة الاقتصادية ، وحذّرهم من أن الرفاه قد يزول بسبب ظلمهم ، ويحيط بهم عذاب الله ، كما نهاهم عن الفساد وأمرهم بالقسط ، وذكرهم بأن عليهم الانتفاع بهدى الله ورسالته وذلك خير لهم. وأكدّ بأنه ليس سوى مبلّغ للرسالة ، وليس وكيلا عنهم. بيد انهم رفضوا قبول دعوته بالرغم من قبولهم لشخصه ، فبعد ان اعترفوا بأنه صاحب دين والتزام بالشعائر ، وأنه حليم رشيد لم يقبلوا بأن يتدخل في شؤونهم ويأمرهم بترك عبادة ما كان يعبده آباؤهم ، أو تحديد حريتهم في أمور الاقتصاد.

بينات من الآيات :

[٨٤] في طرف الجزيرة العربية كانت مساكن مدين تلك القبيلة التي وسّع

١٠٥

عليها الله الرزق فبطروا ، وأخذ بعضهم يظلم بعضا ، ويحاول البعض الانقاص من البعض. وان يفسد ما في الأرض.

فجاء شعيب رسولا من قبل الله إليهم وأمرهم بعبادة الله ، وتنفيذ تعاليم السماء ، ونهاهم عن عبادة ذواتهم ، أو عبادة الثروة الزائلة ، كما نهاهم عن الانقاص في المكيال والميزان لأنه نوع من الظلم والعلاقة الفاسدة بين أبناء البشر والتي سوف تؤدي الى زوال الخير ، وحذرهم من يوم يحيط بهم عذابه فلن يجدوا مفرا منه.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)

ربما كانت مدين كغيرهم من الشعوب الجاهلية ، تدّعي الايمان بالله ظاهرا ، ولكنهم لا يطبقون واقعا رسالة الله. فلذلك أمرهم شعيب بعبادة الله وتحكيم سيادته التشريعية على واقعهم الاجتماعي ، دون أن يكتفوا بترداد اسمه سبحانه ، بينما يتخذون آلهة أخرى للعبادة ، كالكهنة والطغاة والاشراف وأصحاب المال.

(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ)

أي إني أجد حياتكم المادية مرفهة ، ولكن هذه الحياة قد تزول في أية لحظة بسبب الظلم الاجتماعي الذي تمارسونه.

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ)

عوامل الانهيار :

[٨٥] وأمرهم شعيب بأن يوقفوا رحلة الانهيار التي بدأت في حضارتهم المزدهرة عبر ثلاث ثغرات هامة وجدت فيهم وهي :

١٠٦

أولا : الاستهانة بالمقاييس الاقتصادية التي كانت موضع ثقة الجميع كالمكيال والميزان فاذا بخسوا فيهما فان النظام الاجتماعي ذاته يصبح مهددا بالزوال. إذ ان النظام يقوم على أساس الثقة والتوافق الاجتماعي عليه ، ولا ثقة ولا توافق مع الاحتيال على المقاييس والقيم التي يجب ان تكون ثابتة ومعتمد عليها.

ثانيا : تبديل العلاقة الاجتماعية السابقة التي كانت تعتمد على احترام حقوق الآخرين ، والتنافس البنّاء من أجل الحصول على خيرات الأرض بتعاون الجميع وثقتهم ببعضهم ، ولكنهم بدّلوا ذلك بعلاقة الصراع ومحاولة كلّ فرد أو كلّ جبهة أو جماعة السطو على حقوق الآخرين ، مما يهدد محور المجتمع ، وأساس المدنية.

ثالثا : تبديل علاقة الإنسان بالطبيعة من علاقة الإصلاح والتعمير والبناء ، والانتفاع المعقول الى علاقة الإفساد والهدم ، والإسراف في الانتفاع أو الشذوذ فيه.

هكذا جاءت رسالة الله لأهل مدين على يد شعيب في لحظة التحول. حيث كانوا أحوج شيء الى الهداية. فقال لهم شعيب (ع) :

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ)

أي احترموا المكيال والميزان ، وليكن كيلكم ووزنكم بالعدل التام.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)

سواء كانت مادية أو معنوية ، وليكن همّكم أداء حقوق الآخرين واحترامهم ، والاعتراف بمنزلتهم وكرامتهم دون أي نقص في ذلك.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)

١٠٧

توجيه المستقبل :

[٨٦] وأضاف شعيب (ع) في توجيهه لقومه الجاهليين توجيها هاما يعتبر ضمانا لاستمرار الحضارة وحفظا لها من أسباب التدهور والزوال ، وهو التسامي عن جاذبية المادة ، والتحليق في سماء الايمان ، والاعتقاد العملي بالمستقبل ، وبالتالي التسلح برؤية بعيدة فقال :

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

ما هي بقيت الله؟

انه رضوانه وثوابه.

والسؤال هو : كيف يمكن لقوم مثل قوم شعيب الحصول على الباقيات الصالحات؟ إلا بترك الموبقات التي ذكرت في الآية السابقة ، ثم العمل في سبيل الله بالطعام المساكين ، وأداء حقوق الفقراء ، وبناء المساجد والمرابط ، والإنفاق من أجل بناء السدود والقنوات والطرق و. و. ، وكلما هو في سبيل الله. أليس كذلك؟!

والعمل بكل ذلك يوجب استمرار الحضارة في الازدهار للمستقبل ، وعدم الإسراف في استهلاك المكاسب الآن ، وكل حضارة تقوم بالازدهار في بداية تكونها ولكنها تتوقف عن الازدهار ، ثم تبالغ في الاستهلاك انها تنتهي وتزول ، أما إذا استمرت الحضارة في العمل للمستقبل ، وفي إيجاد علاقة ايجابية وبناءه مع الناس ومع الطبيعة ، فانها سوف تبقى وتستمر ، لذلك اعتبرنا هذا الأمر الالهي الذي أظهره شعيب ضمانا لاستمرار الحضارة. وتشير بعض الآيات القرآنية الاخرى الى هذه الحقيقة مثل قوله سبحانه.

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ

١٠٨

أَمَلاً) (١)

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) .. الى قوله .. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (٢)

ثم قال شعيب :

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)

أي لا تفتروا : بأنّ القائد قادر على منع العذاب عنكم من دون أن تفعلوا شيئا صالحا ، أو تغيروا ما بأنفسكم ، بل عليكم أنتم المسؤولية أولا وأخيرا ، وربما أشارت الآية الى حالة حضارية اعترت قوم شعيب كتلك التي تعتري الشعوب المتخلفة فيلقون كل المسؤولية على قياداتهم.

[٨٧] ولكن قوم شعيب ظلوا على وضعهم الفاسد وعيّروا شعيبا.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا)

وكأن عبادة الأصنام تحولت عندهم الى دين مقدس لأنه من عمل الآباء ، ولا يجوز ان يعارضها شخص مؤمن كشعيب ، وكما عبادة الأصنام كذلك سائر الأنظمة كالملكية الفردية المطلقة.

(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا)

ونكسب المال بطريقة مشروعة أو غير مشروعة ، سواء نظلم الناس أو بالبخس

__________________

(١). ٤٦ / الكهف

(٢). ١٤ / آل عمران

١٠٩

عنهم ، وأن نصرف المال في أي وجه نشاء صلاحا كان أم فسادا.

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)

ولست بشاب طائش يخالف تقاليد الآباء أو لا يعترف بحقوق أصحاب المال ومزاياهم ، ويبدو من حديث قوم شعيب أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا حتى رأوا المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، وأصبح الفساد دينا مقدّسا عندهم وليس فقط سلوكا شاذّا ، لذلك لم تنفعهم نصيحة شعيب (ع).

١١٠

سورة هود

قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ

____________________

٩١ [نفقه] : الفقه فهم الكلام على ما تضمنه من المعنى ، وقد صار علما لضرب من علوم الدين وهو علم بمدلول الدلائل السمعيّة ، وأصول الدين علم بمدلول الدلائل العقلية.

[رهطك] : الرهط عشيرة الرجل وقومه ، وأصله الشد.

[لرجمناك] : الرجم الرمي بالحجارة.

١١١

يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)

____________________

٩٢ [ظهريا] : الظهري جعل الشيء وراء الظهر حتى ينساه ، ويقال لكل من لا يعبأ بأمر قد جعل فلان هذا الأمر بظهره.

٩٣ [وارتقبوا] : وانتظروا.

١١٢

شعيب : لا يجرمّنكم شقاقي

هدى من الآيات :

لقد انتهى الدرس السابق في الوقت الذي كان قوم شعيب يجادلونه في خرافاتهم وأصنامهم ، أما شعيب فهو لا يزال يقاوم ضلالتهم ويحتج عليهم.

أولا : بأنه قد هداه الله ، وجعله على بينة واضحة.

ثانيا : إن حياته الشخصية على خير وجه.

ثالثا : إنه أول من يتبع مناهج ربه التي يأمرهم بها.

رابعا : إن هدفه هو إصلاح الوضع الفاسد بكل ما أوتي من مقدرة.

خامسا : انه لا يهمه الفشل ، كما لا يستبد به اليأس لأنه يرى ان توفيقه من الله ، وان عليه لا على نفسه أو على الناس توكله واعتماده ومعاده ، وحذرهم من ان عنادهم ضده ، وتحديهم له قد يوقعهم في ذات المهلكة التي وقعت فيها الشعوب

١١٣

الضالة سابقا ، مثل قوم نوح وقوم صالح وقوم لوط القريبين منهم زمانا أو مكانا أو كلاهما.

ثم أمرهم شعيب مرة اخرى بالاستغفار والتوبة الى الله فانه رحيم ودود ، ولكنهم حين لم يجدوا جوابا قالوا له : لا نفهم كثيرا مما تقول ، وان مقياسنا في تقيم كلامك ليس ذات الكلام بل ذات الشخص المتحدث ، وإنا لنراك ضعيفا فينا ، ولولا وجود أصحاب لك وعشيرة. إذا لرجمناك ، فقال لهم : هل ان عشيرتي أعز عندكم من الله خالقكم وخالقي المحيط بكم ، والذي تركتم مناهجه.

ثم تحداهم وقال لهم : اعملوا ما شئتم أما أنا سأعمل وسوف تعلمون من يأتيه عذاب الخزي ، وهل أنا كاذب أم أنتم ، وانتظروا اني معكم رقيب وشاهد ، وجاء امر الله فأنجى الله شعيبا والمؤمنين معه برحمة منه بينما اخذتهم الصيحة فأصبحوا جاثمين في ديارهم كما لو لم يقيموا هناك ، فابعدهم الله ولعنهم كما ابعد ثمود من قبلهم.

بينات من الآيات :

شخصية الرسول :

[٨٨] يظل الأسلوب الرسالي. هو ذلك الأسلوب الذي ينير القلوب ، ويتحدث الى الوجدان بعد ان يرفع عنه الصدأ ، ويكشف عنه الحجب ، وهكذا فعل شعيب حيث بدأ من نفسه ووضع امام قومه واقعا جديدا هو سلوكه :

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)

ماذا لو أكشف سلامة رؤيتي ، وصواب طريقي ، وانني على بينة واضحة أعطاها الله لي. أفلا يكون من الخطأ عدم التفكر في ذلك أساسا ورده رأسا؟!

١١٤

(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً)

فأخلاقه الفاضلة ، وسلوكه الحسن ، وإرادته الصلبة ، وصحته الجسدية ، وتكامله المعنوي بالاضافة الى رسالات الله التي لا يشك أحد في انها نعمة كبري. كل أولئك شواهد على ان سبيله مستقيم.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ)

فانا أول من يطبق الرسالة كدليل على صدقي ، وقناعتي بها ، وعدم تكلفي فيها.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)

فبالرغم من اختلاف الناس في مفهوم الصلاح والفساد في بعض الأبعاد التفصيلية ، فأن أكثر الناس يعلمون ان تقريب القلوب ، وتأليف التقوى ، والوفاء بالمكيال والميزان ، والاهتمام بالمحرومين والمستضعفين ، كل ذلك صلاح ، وان الرسول يقوم شخصيا بفعل الصلاح ، ويضرب بذلك مثلا على حقيقة رسالته.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)

ان نسبة نجاح خطط الرسل تفوق كل النسب ، مما يكشف عن عامل غيبي غير معروف للنجاح ، وهو توفيق الله وسلامة الرؤية الرسالية ، وهذا بدوره دليل على صدق الرسالة ، كما ان وضع الخطط التي تعتمد على الغيب وتأخذ الغيب كعامل هام في معادلة الخطة ، دليل آخر على صدق الرسالة وهذا هو التوكل ، والرسول رجل غيبي ليس في تصرفاته وانما أيضا في انابته الى الله ، وضراعته الدائمة ، وصلاته الكثيرة ، ورشده وحمله ، وكان شعيب (ع) من أكثر الأنبياء إنابة الى الله حتى قالوا : إن كريمته قد ابيضت من كثرة البكاء خشية من الله ، وشكرا له.

١١٥

إرهاصات العذاب :

[٨٩] وحذّر شعيب قومه من العناد. ومخالفة الرسالة لمجرد تحدي شعيب ، وحاول أن يفهمهم بضرورة التفريق بين الفكرة وبين قائلها ، فلو كانت سلوكيات الداعية أو اساليبه الاعلامية تثير فيهم الغضب ، فلا يجوز ان يظلموا أنفسهم بمخالفة الفكرة الصحيحة ، لأن ذلك سوف يسبب لهم متاعب كبيرة.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي)

اى لا تدعوكم مخالفتي الى التورط في المشكلة.

(أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)

[٩٠] ثم أمرهم شعيب بإصلاح أنفسهم والاستغفار من ذنوبهم لكي لا تكون الذنوب السابقة سببا لمعاداة الرسالة ، ومخالفة أوامر الله.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)

إذ قد يسبب تعود البشر على الأفعال القبيحة ، وظنه بأن الله قد تركه ، وبالتالي يأسه من روح الله ، قد يسبب استرساله في الكفر تبريرا لأعماله الفاسدة من هنا دعا شعيب قومه الى مخالفة العادة ، ورجاء رحمة الله.

[٩١] وجاء دور قوم شعيب يردّون حجج شعيب فانظر ماذا قالوا؟ وكيف انهم قد انطلقوا في رفض الرسالة. من قاعدة الجهل والعناد ، والتمسك بالماديات ، والغرور بما لديهم من قوة!

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ

١١٦

لَرَجَمْناكَ)

اي لولا عشيرتك لقتلناك شر قتله.

(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)

[٩٢] وسفه شعيب أولئك الأغبياء الذين يعاندون ربهم ويخشون رهط شعيب.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

فأنى تعملون فلا تخرجون من اطار قدرة الله ، وحدود مملكته سبحانه.

[٩٣] وجاءت مرحلة التحدي الفاصلة حيث نابذهم شعيب العداء ، وأمرهم بأن يعملوا على حالهم. بينما يعمل هو بما أمره الله والكل ينتظر ما يحمله المستقبل من مفاجات.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)

وهكذا جاء دور انتظار الفرج من قبل شعيب ، بعد الجهاد وتوفير عوامل النصر الظاهرة ، وانتظار الفرج يعتبر من أفضل الأعمال. ففي الحديث النبوي :

«أفضل اعمال أمتي انتظار الفرج»

[٩٤] وكل آت قريب ، فجاءت العاقبة تكشف الحقيقة المظلومة لتنتقم من المعاندين.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ

١١٧

ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ)

[٩٥] وكأن أحدا لم يكن في هذه الديار.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)

١١٨

سورة هود

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ

____________________

٩٨ [يقدم] : يقال قدمت القوم أقدمهم قدما ، إذا مشيت أمامهم واتبعوك.

[الورد المورود] : الورد ورود الماء الذي يورد ، وأصل الورد الاشراف على الدخول وليس بالدخول ، أي بئس الماء الذي يردونه عطاشا لإحياء نفوسهم ، تلك النار التي يردونها.

٩٩ [الرفد المرفود] : العطاء المعطى لهم.

١٠٠ [قائم] : باق وان أهلك أهله.

[حصيد] : الحصيد بمعنى المحصود ، والحصد قطع الزرع من الأصل ، وحصيد قد حصد وعفى أثره.

١١٩

شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)

____________________

١٠١ [تتبيب] : من تبت يده أي خسرت.

١٢٠