من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

سورة هود

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)

٢١

الإنسان بين اليأس والفخر

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يذكرنا الله بما فطر عليه البشر قبل التربية والتزكية من صفات جاهلية. إنه يتعرض لليأس والكفر بالنعم إذا فقد نعمة.

اما إذا أصاب نعمة بعد شدة ، يزعم ان هذه الحالة ستبقى عنده ، فينغمس في غمرات الفرح والفخر ، اما الصابرون الذين يقيمون الأحداث كلها السابقة والقادمة والحاضرة تقييما سليما فحالتهم مختلفة ، فهم ليسوا بحيث تفقدهم النعمة أو الشدة توازنهم ولذلك فلهم مغفرة وأجر كبير.

والرسول ينبغي ان يجسد أعلى الصفات الحسنة ومنها الاستقامة ، فلا ينبغي له ان يهتز للمواقف الجاهلية التي تنبع من هذه النفسية الضيقة الأفق ، التي تطالبه بكنز ينزل عليه ، أو ملك يساعده ، أو ما يقولونه : ان الرسول قد افترى الرسالة ، بينما يتحداهم القرآن بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات بمستوى القرآن في علمه وبلاغته ، ويقارنوها مع القرآن ، ويشهدوا على ذلك بمن شاؤوا ان كانوا صادقين في اتهام

٢٢

القرآن بأنه مفترى.

ولكنهم لا يستجيبون حتما لهذا التحدي ولا بد ان نعلم ان الذي انزل انما انزل بعلم الله وهو صنيعة ذلك العلم المحيط بكل شيء ، وعلينا أن نسلم للقرآن بكل جوانحنا وجوارحنا.

ويبدو ان هذا الدرس تمهيد لبيان حقيقة الرسالة وقصص استقامة الرسول ضد خرافات الجاهلية.

بينات من الآيات :

بين النعماء والضراء :

[٩] ما دامت النعمة من الله ، فزوالها عن البشر لفترة أو وجودها عنده في وقت آخر ليس دليلا على بقائها أو زوالها الى الأبد ، إذ ان تلك القدرة التي منحت النعمة أو إزالتها انما الحكمة بالغة ، والله قادر على ان يعيدها وفق تلك الحكمة ومع توافر شروطها ، لذلك لا ينبغي ان يحيط اليأس بالبشر عند افتقاد النعم ، ولا يجوز ان يكفروا بسائر النعم التي أسبغها الله عليهم ، ويلبسوا نظارة سوداء يبصرون الحياة من خلالها ، فلا يرون شيئا الا ملبّسا بالسواد.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ)

[١٠] وعند النعماء وهي حالة هبوط النعمة التي لو جاءت بعد الشدة والضراء لكانت اعمق أثرا في النفس ولذلك قد تفقد توازن الإنسان ، ويحسب ان الصعاب قد ودعته الى الأبد ، فيستبد به الفرح والسرور البالغ ، ولا يرى اي نقص أو عجز في ذاته ، بل يظل يركز نظره حول تلك النعمة ويفتخر بها.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ

٢٣

فَخُورٌ)

[١١] وسواء الكفر ونكران النعم ، أو الفخر والغفلة عن النواقص فانها من صفات الإنسان قبل ان تزكيه الرسالات السماوية ، التي تبين له ان النعمة إذا جاءت فهي محكومة بشروطها وأهدافها ، والحكم التي ورائها ، وكذلك النقمة ، وان على الإنسان الا ييأس مع زوال النعمة التي هي (رحمة الله) ولم تكن جزءا من ذات البشر. لأن هذه النعمة قد تعود اليه هي أو أحسن منها ، ثم لأن هناك نعما اخرى أعظم منها لا تزال قائمة عنده فباليأس والكفر سوف تزول ـ لا سمح الله ـ تلك النعم أيضا ، فلا يخرجك الفرح عن طورك وتفتخر بالنعمة ، فان هناك نواقص كثيرة لا تزال تحيط بك ، وعليك ان تعمل من أجل إصلاحها جميعا وهكذا تجد المؤمنين صابرين يقيمون الاحداث جميعا ، فيبصرون في أيام شدّتهم أيام رخائهم المنتظرة ، ويتذكرون ايامهم الماضية ، ويعلمون ان الحياة في تغيّر دائم ، وان سبب التغير المباشر وغير المباشر هم أنفسهم فعليهم إذا ان يعملوا صالحا في أيام الشدة لكي لا تدوم ، وفي أيام الرخاء لكي لا تزول ، ولكي يبلغوا درجات أعلى منه.

(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)

يغفر الله ذنوبهم فترتفع أسباب الشدة.

(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)

بسبب أعمالهم الصالحة فهم في تقدم مستمر.

انما أنت نذير :

[١٢] لأن رسالات السماء جاءت لتزكية البشر ، فيجب ان يستقيم الرسول (ص) في إبلاغها حتى ولو عارضت أهواء الناس ، وليس لهم ان يتركوا بعض

٢٤

الرسالة تنازلا لرغبة الناس أو خشية من غضبهم لأنهم آنئذ لا يقدرون على تحقيق هدف الرسالة وهو إصلاح ما فسد من الناس ، ولقد رأينا في الآيات السابقة كيف ان الإنسان بطبعه جاهل وعجول لولا التربية الايمانية إذا على الرسول الاستقامة في إصلاحه حتى يخرج من هذه النفسية الجاهلية.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ)

كلا عليك ان تبقى صابرا امام ضغط أهوائهم ودعاياتهم التي منها.

(أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ)

انهم لا ينتظرون قليلا حتى يروا ان تطبيق الرسالة كفيل بأن يفتح لهم أبواب الرحمة ، وأكثر بكثير من مجرد كنز ينزل على الرسول ، وأن انتصارات الرسول (ص) أكبر من مجرد نزول ملك معه ، لان (روح القدس) وهو أعظم ملك يهبط معه ، ولا يفقهون هذه الحقيقة.

ان عملهم وليس اي شيء أخر يضمن مستقبلهم ، وانما دور الرسول هو التذكرة والتوجيه.

(إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

فهو الذي يوفر الحياة السعيدة بقدرته لمن يعمل بالرسالة ، ويسلبها ممن يكفر بها.

فأتوا بعشر سور مثله :

[١٣] ولا يسع الجاهليون الا انكار الرسالة واتهام الرسول (ص) بأنه قد افتراه كذبا على الله تعالى ، والقرآن يتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثل القرآن افتراء على الله كذبا إن كانوا صادقين.

٢٥

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

[١٤] ولكنهم فاشلون حتما في ذلك لأن القرآن جاء بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء ، فيه قيم خالصة من شرك الجاهلية ومن عصبياتهم ، وقيم إنسانية سامية تتجاوز اطار القبيلة والعشيرة والقوم والأرض واللغة والدم ، وسائر ما ابتلى به البشر منذ هبوطه إلى الأرض وحتى اليوم ، وكل الكتاب والشعراء والمفكرين كانوا خاضعين لهذه القيم الا الرسل والمخلصون من المؤمنين ، كما ان القرآن حمل الى الناس برامج لكل حقول الحياة مما عجزت ادمغة الفلاسفة وفقهاء القانون والسياسة والاقتصاد عن ان تبلغ جزء منه في مطابقتها لأنظمة الحياة ، وسنن الطبيعة ، وفي تناسقها ومتانة علاقاتها بطبيعة البشر ، ودوافعه ودواعيه ونقاط ضعفه و.. و.. فهل يقدر البشر على مثله؟!

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ)

وان الإله الذي يجب ان يطاع ، وتتبع مناهجه ورسالاته هو الله تعالى وعلى البشر ان يسلم نفسه لله.

(وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

٢٦

سورة هود

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)

____________________

١٥ (لا يُبْخَسُونَ) : البخس نقصان الحق.

٢٧

الإنسان بين الدنيا والآخرة

هدى من الآيات :

من الشبهات التي تحوم حول قلوب الكفار ضد الرسالة ، ما يرونه من تقدم ظاهر في معيشتهم في الدنيا ، والله يذكرنا في هذا الدرس بأن للعمل جزاءه ، فمن عمل للآخرة فان جزاءه يوفر اليه هناك وفي الدنيا يعطى له نصيب منه ، ومن عمل للدنيا فأن كل جزائه يعطى له في الدنيا دون ان يبخس منه شيء ، ولكن ذلك يعني في المقابل أن جزاءهم في الآخرة هو النار ، لأن ما عملوه في الدنيا من خير قد أحبط وبطل ، فلم يبق الا أعمالهم السيئة ومسئولياتهم التي لم يقوموا بها.

بينات من الآيات :

(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) :

[١٥] كثيرا ما يخدع البسطاء من الناس ما يرونه من ازدهار وتقدم للكفار والمنافقين سواء لمجتمعاتهم أو لأفرادهم ، ويزعمون أنه لو كانت الرسالة صحيحة وانها على حق ، وأعداؤها على باطل إذا لم يتقدم أعداء الرسالة في الدنيا؟ وينسى

٢٨

هذا الفريق الساذج من الناس حقيقتين :

الأولى : ان دار الدنيا دار ابتلاء واختبار ، وان الله لم يقدر الجزاء العاجل فيها لحكمة ابتلاء الناس بما يفعلون ، واختبار وعيهم وعقلهم وإرادتهم وحسن أو سوء اختيارهم ، ولو عجل ربنا في عقاب الكافرين أو ثواب المؤمنين ، لانعدمت فرصة ابتلائهم ، وكما جاء في الحديث عن الامام علي (ع) في موضوع الأنبياء انه.

«لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك تمد نحوه أعناق الرّجال ، وتشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق في الإعتبار وأبعد لهم في الاستكبار ، ولأمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، فكانت النيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة» (١)

الحقيقة الثانية : ان طبيعة عمل الكفار صلاح ظاهره وفساد باطنه ، فهو كشجرة مسوسة أو بناء أنيق يكاد يتهدم بسبب تزلزل قواعده. وكل جزاء يرتبط بظاهر العمل ، وصورته الخارجية ، فانه يعجل لهم دون نقيصة ، بينما يبقى الجزاء الحقيقي الباقي لأولئك الذين يصلحون واقع عملهم.

فالشجرة المسوسة تعطيك البهجة والظل ، ولكنها لا تعطيك الثمر ، وهكذا العمل الذي يفقد عنصر الايمان والصدق مثل الذي يرائي الناس في أعماله ، يكسب بعض الشهرة عندهم ، ولكن الصلاة التي يقيمها رياء لا تعرج بنفسه في سماء الفضيلة والتقوى ، وكذلك المجتمع الكافر الذي يعمل من أجل الرفاه فقط فان حياته المادية العاجلة سوف تتحسن ظاهرا ، ولفترة محدودة إذ ان الذنوب والمعاصي ، وظلم بعضهم لبعض ، وظلمهم لسائر المجتمعات كل ذلك يصبح كالسوسة التي تنخر في أعماقهم

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٩٢ ص ٢٩٢.

٢٩

حتى ينهار بناؤهم الأنيق ، ويكون مصيرهم مصير عاد وثمود وأصحاب الرّس وأصحاب الايكة ، الذين انهارت حضاراتهم التي اغتروا بها ، وزعموا انها خالدة.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ)

[١٦] ولكن مثل هذا الفريق مثل الشاب الذي يستنفذ كل طاقاته في أيام صحته وفراغه وقوته ، فاذا حل بساحة الشيب لم يجد شيئا ينفعه .. أمواله صرفت ، طاقاته استنفذت ، وامكاناته أنفقت ، كذلك المجتمع الذي يفكر في لحظته لا يفكر في القيم ولا في المجتمعات الثانية ، ولا في مستقبله انه لا حظ له في الآخرة ، بل إن اعماله السابقة تبطل لأنها لم تكن قائمة منذ البدء على أساس ثابت.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

لقد بنوا حضارتهم على قاعدة الاعتداء والظلم والفساد ، فهي على شفا جرف هار. تنهار بهم في نار جهنم.

٣٠

سورة هود

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ

____________________

١٧ [مرية] : شكّ.

١٨ [الاشهاد] : جمع شاهد.

١٩ [عوجا] : العوج العدول عن طريق الصواب.

٢٠ [معجزين] : الاعجاز الامتناع عن المراد بما لا يمكن معه إيقاعه.

٣١

لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)

٣٢

الخسارة عاقبة الكفار

هدى من الآيات :

هناك فريقان في الناس لو قارنا بينهما لعرفنا إلى أي واحد منهما ينبغي الانتماء.

أولا : المؤمنون الذين هم على طريق هدى بينة لهم ربهم ، ويقودهم شاهد من الله هو الرسول والامام ، وهم على خط تاريخي ذي تجربة غنية ، حيث موسى الشاهد جاء بكتاب بين إمام ورحمة.

ثانيا : الكافرون الذين تشتتوا أحزابا مختلفين ، والنار موعدهم ومصيرهم فهل يبقى شك في ان الحق هو الذي يؤمن به المؤمنون ، بيد أن أكثر الناس لا يؤمنون!

وبينما المؤمنون هم على بينة من ربهم ، ترى الكافرين يفترون على الله الكذب ظلما لأنفسهم ، وغدا يعرضون على ربهم ليشهد عليهم الشهداء ويميزوهم ، ويقولوا : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) ، وهؤلاء هم الظالمون ، الا لعنة الله على

٣٣

الظالمين.

ومن صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ، ويريدونه منحرفة مثل مجتمعهم الزائغ ونفوسهم المعقدة ، ويكفرون بالآخرة ، ولكن اين يهربون ، وهل يقدرون على الخلاص من عذاب الله ، وهل هناك من ينصرهم ويمنع عنهم جزاء ربهم؟ كلا .. بل يضاعف لهم العذاب بقدر قدراتهم السمعية والبصرية التي لم يستفيدوا منها للهداية ، والواقع أنهم خسروا أنفسهم ، وما خوّلهم ربهم من طاقات وامكانات ، واما مفترياتهم وأكاذيبهم فقد تبخرت ولا بد بالتالي ان يكونوا هم الأخسرين في يوم القيامة لأنهم لا شيء يملكون. اللهم الا جبالا من الذنوب!

بينات من الآيات :

ومنهم من يؤمن به ومنهم من يكفر :

[١٧] اي الناس أفضل حياة ، وأرقى هدى النموذج الايماني أم الكافر؟

قبل ان تختار طريقا انظر الى مجمل حياة الذين سلكوه ، فهناك المؤمن الذي يسير في طريق واضح المعالم بين الجوانب ، اقام الله الحجة عليه ، فهو واثق من طريقة ، عالم به ..

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)

وهناك شاهد قد اكتملت شخصيته الايمانية بوحي الله وهو الرسول أو الامام يتبعه ، يشهد له بصحة طريقه ، ويديره ويوجهه حتى لا يضل ولا يغوى ، وهذا الشاهد هو من عند الله ، مبارك بالله ، مؤيد بنصره ، مسدد بنوره.

(وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ)

وأكثر من هذا ان هذا الخط قديم قدم الإنسان وقد جربته البشرية عبر العصور ،

٣٤

وكان أروع مثال للفلاح.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً)

فكتاب موسى كما القرآن كان بينة وطريقا سويا لا عوج فيه لمن أراد ان يسير عليه ، وموسى شخصيا كان ذلك الشاهد الالهي على قومه السائرين على نهج الرسالة ، وبالتالي كان كتاب موسى إماما ورحمة ، فهو من جهة هدى واستقامة وعلم وعرفان ومن جهة ثانية حياة وسعادة ورفاه.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)

فأولئك الذين هم على بينة من الله يؤمنون بالله وكتابه ، وهذا هو نموذجهم ، وهناك نموذج أخر هو نموذج الأحزاب المتفرقين في الدنيا المجتمعين في النار.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)

فامامك أحد النموذجين ، وعليك ان تتجاوز الشك بعقلك وأرادتك وتؤمن به لأنه الحق.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)

وعليك الا تعبأ بهذه الأكثرية الضالة التي لا تؤمن بالله ، بل تبعد الشك عن نفسك وتؤمن به وتثق بعقلك.

[١٨] الله هو ذي العرش الذي يبتغي كل الناس السبيل اليه والاتصال بهداه ، ولكن بعض الناس يسيرون في الطريق الصحيح فيبلغون مرادهم ، والبعض تضلهم الأهواء ، فيفترون على الله الكذب ، ويدعون كذبا انهم على سبيل الله ، ولكن كم سيكون ذنب هؤلاء كبيرا وظلمهم لأنفسهم وللناس عظيما. إذ انهم يحرمون الناس

٣٥

وأنفسهم من نور هدى ربهم؟!

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)

صفاة ادعياء الدين :

[١٩] ما هو الأثر السلبي للتشريع البشري الخاطئ وللثقافة المادية الكافرة ، أو للافتراء على الله؟

إنه يتلخص في ثلاثة :

أولا : منع الناس عن السير في سبيل الله الذي يهدي اليه العقل والفطرة ، ويذكر به الوحي.

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

فلو لا الثقافات المنحرفة ، التي ينسبها ادعياء الدين الى الله زورا وبهتانا ، إذا لاهتدى الناس بالتذكرة.

ثانيا : طرح سبل منحرفة للناس والادعاء بأنها هي سبيل الله.

(وَيَبْغُونَها عِوَجاً)

ثالثا : تحديد نظر الإنسان في الدنيا ، وقتل طموحه الروحي ، وتطلعه الفطري الى الآخرة.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)

٣٦

ويبدو ان هذه الصفات الثلاث هي أيضا سمات ادعياء الدين الظاهرة التي يعرفون بها ، فهؤلاء يمنعون الخير ، ويجعلون من أنفسهم حجر عثرة عن تقدم الناس ورفاههم ، ويعقدون الأمور ، ويبغّضون الرسالة الى الناس ، كما انهم لا يذكّرون الناس جديا باليوم الآخر.

[٢٠] ولكن اين يهرب هؤلاء الخونة بدين الله وهل يقدرون الخروج عن سلطان الله؟ وهل هناك من ينصرهم من دون الله؟ كلا .. بل ان عذابهم مضاعف بسبب عملهم وقولهم الفاسد الذي انحرف به الناس.

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ)

علماء السوء وادعياء الدين يحتالون على الدين وكأنهم يفرون من احكام الله ، ومن فطرتهم وعلمهم ، فهل يقدرون على الهرب أيضا من عذاب الله؟!

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ)

ان هؤلاء يغيرون الدين طمعا في استمالة الناس ، وجمع المزيد من الاتباع ، ولكن هل ينفعهم هؤلاء شيئا؟ كلا بل ان إغواءهم للناس يسبب تحمل أوزارهم مضافة الى أوزار الذين أضلوهم.

(يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ)

لقد فسرت هذه الكلمة الاخيرة على وجهين :

أحدهما : ان معنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ، وبما كانوا يستطيعون الأبصار فلا يبصرون عنادا ، وبتعبير آخر : لأنهم كانوا قادرين على السمع والأبصار بما وهب الله لهم من نعمة العلم والقرب من

٣٧

مصادر الهداية فلم ينتفعوا بهما.

والثاني : انه لاستثقالهم استماع ايات الله ، وكراهتهم تذكرها وتفهمهما. جروا مجرى من لا يستطيع السمع والأبصار.

[٢١] وهل ربح هؤلاء شيئا ، وهل يسمى الذين يخسرون مستقبلهم ومجمل فرصهم رابحين حتى لو اكتسبوا بضع دراهم أو مجموعة أنصار؟!

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

من الأراجيف التي جمعوا حولها الناس غرورا ، فلا بقيت تلك الأفكار الباطلة التي زينت لهم ولا أولئك المغرورين بها.

[٢٢] انهم لا بد أن يكونوا الأخسر من الناس لأنهم لم ينتفعوا بمواهبهم ، وعوضا من ان يكونوا في مقام الأنبياء والصديقين بعلمهم وهداهم ، ويؤجرون مرتين. مرة بعملهم الصالح ، ومرة بما اهتدى الناس بهم. أصبحوا يعذبون عذابا مضاعفا بعملهم الفاسد ، وبإضلالهم الناس (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١)

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)

أصل الجرم القطع ، ولا جرم تقديره لا قطع قاطع عن ذا ، فهذه هي نهايتهم التي اختاروها لأنفسهم.

وكلمة اخيرة : ـ حين نقارن هذه الآيات بالآية الثالثة عشرة نستفيد مقياسا

__________________

(١) النحل / ٢٥.

٣٨

مبينا للتمييز بين صاحب الرسالة الحق الذي لا يتنازل قيد أنملة عن رسالته برغم ضيق صدره ، وازدياد الضغوط عليه ، وبين الذي يضل الناس عن الحق طمعا في ولائهم أو رغبة في هدايا السلاطين.

٣٩

سورة هود

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)

____________________

٢٧ [أراذلنا] : الرذل الخسيس والحقير من كل شيء والجمع أرذل ويجمع على أراذل.

٤٠