من هدى القرآن - ج ٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-08-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٦

رؤيا تبشر بالمستقبل

هدى من الآيات :

ما هي أحسن القصص التي تثير العقل ، وترفع حجاب الغفلة والتي بشرت بها آيات الدرس السابق؟

ها هي قصة يوسف واحدة من أحسن القصص وهي أطول قصّة قرآنية ذكرت جملة واحدة عن قصّ يوسف رؤياه على والده يعقوب (ع) كيف رأى في المنام أحد عشر كوكبا ، والشمس والقمر يسجدون له جميعا ، ففسره والده رأسا بان الله سوف يصطفي يوسفا من بين إخوته ليكون وارثا لرسالة الله التي أتاها الله من قبل ـ إبراهيم وإسحاق ـ وليكون فاتحا لعهد جديد في حياة الأسرة بفضل نعم الله التامة عليه ، وليكون عالما بعواقب الأمور وبالوحي ، ولكم حذّر يعقوب يوسف عليهما السلام من نقل رؤياه لأخوته من قبل ان يفسرها له لأن الشيطان عدو مبين للإنسان ، فيدفع اخوته ضده بخطط السوء.

ان حسد اخوة يوسف كان سابقا لرؤياه. لذلك جلسوا يتآمرون ضد سلامته

١٦١

وقالوا : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث يحب أخانا الأصغر يوسف بينما يتركنا نحن الكبار المتحدين مع بعضنا ، فلا بد إذا من التخلص من يوسف بقتله أو نفيه عن هذه الأرض ليبقى لهم وجه أبيهم خالصا دون منافسة يوسف ، وحنّ قلب واحد منهم ، ونصحهم بألا يقتلوه بل يرموا به إذا أرادوا به شرّا في غيابت الجب لتلتقطه بعض القوافل السيارة في ذلك الطريق.

بينات من الآيات :

الرؤيا بصيرة المستقبل :

[٤] كان يوسف الثاني عشر من أبناء يعقوب (إسرائيل) وهو حفيد إبراهيم الخليل ، وأبن إسحاق ، وكان بالرغم من صغر سنه الأكفاء بين أخوته ، ولذلك أختاره الله ليكون وريث الرسالة إذ ان.

«اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»

وقام ذات صباح مسرعا الى أبيه يقصّ عليه خبر رؤياه العجيبة. وهو آنئذ غلام مراهق مضى من عمره أثنى عشر ربيعا.

ماذا رأى؟ رأى أحد عشر كوكبا كما رأى الشمس والقمر ، ثم كانت دهشته كبيرة حين رآهم كأنهم يسجدون له.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)

[٥] أول نصيحة قدّمها يعقوب لابنه وقبل ان يفسر رؤياه هي التحذر من أخوته الّا يحسدوه.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً)

١٦٢

أي يدبروا لك سوء ، والسبب أن نوازع الشر موجودة لدى البشر ، والشيطان يدغدغ هذه النوازع ليثيرها.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

ولان يوسف الأخ الأصغر لأخوته ، ولأنه من أم أخرى يقال ان أسمها (راهيل) وقد توفيت ، وكان يحن عليه أبوه لتعويضه عن الحنان الأمّي المفقود فكان الجو مهيا لتنامي الحسد فيهم. لذلك حذر ، منهم يعقوب.

وجاء في حديث ان تظاهر يعقوب بحب يوسف كان السبب في إثارة أخوته عليه ، بينما المفروض ان يخفي الأب شدة حبه لأحد أولاده عن أنظار الآخرين لكي لا يحسدوه وربما كان في تظاهر يعقوب في حبه لابنه يوسف احترامه للخصال الكريمة التي كانت عنده ، وذلك بهدف تشجيع الآخرين على التحلي بها.

على العموم كان يعقوب يعرف مدى حسد أخوة يوسف تجاه أخيهم النّابة ويتحذر من اثارة الحسد.

[٦] ثم فسر يعقوب رؤيا يوسف ، وبيّن أنها تدل :

أولا : على ان الله سوف يصطفى يوسف ، ويرزقه علما بعواقب الأمور التي سماها بتأويل الأحاديث. أي معرفة ما يئول اليه الأحاديث ـ وكيفية جريانها.

ثانيا : أنه سوف يتم نعمته عليه بنصرته على أعداءه كما فعل بآبائه الصالحين.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

١٦٣

يعلم ما يخفيه الناس وما يظهرونه من نيّة وعمل. فيؤتيهم بصلاح نيّاتهم وأعمالهم. لذلك فهو قد اجتبى يوسف بحق ، وبقية القصة تدل على ذلك.

[٧] لقد كان في قصص يوسف. وقصص أخوته الذين كادوا له في البدء ثم تابوا وأصلحوا ـ كان للناس ـ فيها آيات تهديهم الى طبيعة الإنسان في كبوته أمام الشهوات ، ثم تعرضه للآلام ، وأخيرا توبته وإصلاح نفسه ، ولكن هذه العبرة ليست لكل الناس بل للسائلين منهم الذين يبحثون عن الحقيقة لإحساسهم بمدى الحاجة إليها.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ)

فما هي تلك الآيات؟ سوف نجد نوعين من العبر التاريخية في قصة يوسف وأخوته.

الأولى : ان العاقبة للمتقين ، وهذا النوع يتبيّن لنا في نهاية القصة فقط.

الثانية : آيات تكشف نفسيّة البشر ، وطبيعة القوى المتناقضة في ذاته ، وكيف يعين الله عباده في الأوقات الحرجة ، وما أشبه من العبر التي تستوحى من اللحظات الحساسة في القصة. لذلك علينا أن نلاحظ في تدبرنا لقصة يوسف هذين النوعين من الآيات المفيدة للسائلين.

المؤامرة :

[٨] جلس أخوة يوسف يتآمرون وقالوا : ان يوسف وأخاه من أمه أحب الى قلب أبينا منا ، بينما نحن أكثر عددا منهم ، وينبغي ان نكون نحن الوارثين لأمجاد أبينا ، فأبونا إذا في ضلال مبين.

١٦٤

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

قال بعض المفسرين ما يلي : أي في ذهاب عن طريق الصواب الذي هو العدل بيننا في المحبة ، وقيل معناه : أنه في خطأ من الرأي في أمور الأولاد والتدبير الدنيوي ، ونحن أقوم بأمور مواشيه وأمواله وسائر أعماله ، ولم يريدوا به الضلال عن الدين لأنهم لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا ، وذلك خلاف الإجماع (١)

ويبدو ان الضلال المقصود انما هو الضلال عن الطريق القويم في معاملة أبنائه.

[٩] وإذا كان الأب في ضلال فلا بد أن يعارضوه ويقاطعوه ، ولكنهم كادوا ليوسف ـ أخيهم البريء ـ وتآمروا على أن يقتلوه ، أو ينفوه في ارض بعيدة يموت فيها.

والسبب : ان منطلقهم الفكري كان (العنصرية) التي اوحت إليهم بأنهم ما داموا عصبة فهم أفضل من غيرهم ، وهذا هو منطق القوة الذي يتكلم به كل الطغاة ، وإذا كان اخوة يوسف يقيّمون أنفسهم وفق المقاييس الرسالية لعرفوا بأن صفات يوسف الرسالية أحسن من صفاتهم ، فهو أحقّ بحب والدهم منهم لذلك قالوا :

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)

ان اخوة يوسف حاولوا الجمع بين الدين والدنيا ، بين الحق والباطل ، فمن جهة أثارهم حسدهم ونظرتهم العنصرية الى أنفسهم. نحو قتل أخيهم البريء ، ومن جهة

__________________

(١) مجمع البيان الجزء الخامس / ص ٢١٢

١٦٥

ثانية فكروا في أن يصبحوا صالحين في يوم من الأيام.

[١٠] وأدرك أحدهم حنان الأخوة.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)

غيابت الجب شبه طاق فوق ماء البئر ، ويقال : ان قائل هذا القول هو (لاوي) من أخوة يوسف ، ويقال : انه كبيرهم الذي رفض مواجهة أبيه عند ما أخذ أخاهم منهم عند ما اتهمه يوسف بالسرقة خدعة ، وهكذا انصرفوا عن قتل يوسف. واجمعوا على أن يجعلوه قريبا من البئر في الصحراء ليأخذه بعض المارة لقيطا.

وهؤلاء اخوة يوسف الذين تآمروا عليه حرموا النبوة ، بالرغم من توبتهم أخيرا ، وأنهم الأسباط الذين انحدرت من نسلهم الأنبياء ذلك لان النبوة لا تعطى لمثل هؤلاء الذين يقومون بمعاصي كبيرة في حياتهم ، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.

١٦٦

سورة يوسف

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)

____________________

١١ [لا تأمنّا] : لا تثق بنا.

١٦٧

مؤامرة الحاسدين

هدى من الآيات :

واحكموا الخطة ، وجاؤوا الى أبيهم ليلا طالبين منه أن يبعث معهم يوسف في الصباح ليتمشوا وليلعبوا ، وتساءلوا لماذا لا يؤمّنهم على يوسف أو ليسا أخوته وهم له ناصحون؟! فقال يعقوب ان غياب يوسف يثير حزني ، كما يثير خوفي من الحاق ضرر به. كأن يأكله الذئب حين تغفلون عنه ، ولكنهم أصروا على طلبهم ، وتعهدوا بألّا يغفلوا عنه. كيف وهم جماعة؟! ان ذلك فقدان لعزّهم وكرامتهم ولعصبتهم ، فلما ذهبوا به الى الصحراء أجمعوا أمرهم على ان يجعلوه في طرف البئر من داخلها وجاءه الوحي يخبره بأنه سوف يتغلب عليهم ويذكرهم بهذا اليوم في الوقت الذي لا يشعرون.

وتأخروا في العودة حتّى جن الليل. وتصايحوا بالبكاء وادّعوا لأبيهم أنهم راحوا يتسابقون وتركوا يوسف يحرس متاعهم ، فلما عادوا وجدوا الذئب قد أكل أخاهم وجاؤوا بقميص يوسف عليه دم كذب ، ولكن الدم كشف كذب أحدوثتهم ، فقال

١٦٨

يعقوب لهم كلا .. ان ذلك أمر سوّلته لكم شهواتكم فانني أصبر صبرا لا جزع فيه ، ولا خروج عن القيم ، وأستعين بربي في دفع المكارة.

بينات من الآيات :

[١١] جاء اخوة يوسف الى أبيهم وطرحوا عليه سؤالا محرجا.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ)

يبدو ان يعقوب كان يخفي عنهم علمه بحسدهم ليوسف لكي لا يسبب ذلك إعطاء شرعية لهذا الحسد ، ولكن كان يباشر أمور ابنه الصغير بنفسه ، ولا يدعها عند إخوته ـ ومن هنا كان السؤال محرجا ـ إذ أدّعى أخوة يوسف ان قلوبهم صافية تجاه أخيهم!

وعلى نبي الله الذي جاء رحمة لعباده ألّا يقول لمن القى اليه السلام لست مسلما. لهذا رد عليهم يعقوب بلطف ، ولم يقل أنه لا يثق بهم ـ وهو لم يكن يثق بهم فعلا ـ.

[١٢] ثم بعد ان هيؤوا الجو طالبوا أباهم بأن يثبت لهم عن حسن ظنه بهم ، ويبعث بيوسف معهم في اليوم الثاني ليفرّجوا عن همهم ، ويتمشوا في الصحراء وليلعبوا.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)

ثم أكدوا له أنهم سوف يتولون حراسته وحفظه.

(وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)

[١٣] فبرّر يعقوب عليه السلام إبقاء يوسف عنده لأنه شيخ كبير ، يستأنس

١٦٩

بيوسف ، ويحزن لغيابه عنه ، كما قال : بأنه يخشى عليه من الذئب ، وبين لهم أنه قد يحدث ذلك وهم عنه غافلون ، فلا يمكنهم الوفاء بوعدهم لعدم قدرتهم على ذلك.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ)

جاء في الحديث ان اخوة يوسف لم يخططوا لأبعاد المؤامرة جميعا ، بيد أن يعقوب عليه السلام أعطاهم بأقواله تبريرا لفعلهم ، فعرفوا أن المنطقة يرتادها الذئاب ، وأن بامكانهم ادعاء الغفلة ـ وهكذا ـ مما يدل على ضرورة التحذر في الحديث مع الكاذب.

[١٤] عادوا وأكدوا بشرفهم وبعصبتهم انهم سوف يحافظون على يوسف ، وقالوا كيف نسمح لأنفسنا ان يتلطخ شرفنا بهذا العار ، فلا نستطيع ان نحافظ على أخينا الصغير من الذئب انها خسارة لسمعتنا الغالية.

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ)

[١٥] فذهبوا بيوسف وأجمعت إرادتهم وعزائمهم على أمر واحد هو جعله في داخل البئر. دون ان يلقوه في مائها ليغرق ، بل ليلتقطه بعض السيارة ـ كما أوصاهم أخوه لاوي ـ.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ)

هناك أدركته رحمة ربه حيث جاءه الوحي يبشره بأنه منصور ، وانه سيأتي يوم بعيد تكون الأيام قد أنست هؤلاء فعلتهم القبيحة ، فيخبرهم يوسف بهذا الأمر الفضيع وهم لا يشعرون.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

١٧٠

وبالرغم من ان محنة يوسف قد ابتدأت منذ تلك اللحظة إلّا ان يد الغيب هرعت اليه لتكون بديلا عن حماية اخوته الخائنين به ، وهكذا تشتد الأمور لتنفرج بإذن الله ، ويأتي بعد العسر يسر من فضل الله.

جا في الحديث عن الامام الصادق (ع) قال :

«لما القى اخوة يوسف في الجب نزل عليه جبرائيل فقال له : يا غلام! من طرحك هنا فقال : اخوتي لأبي لمنزلتي من أبي حسدوني ، ولذلك في الجب طرحوني ، فقال : أتحب أن تخرج من هذا الجب؟

قال : ذلك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فقال له : جبرائيل : فان اله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك : قل : اللهم إنّي اسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، أن تصلّي على محمد وآل محمّد ، وان تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ، وترزقني من حيث احتسب ومن حيث لا احتسب فجعل الله له من الجب يومئذ فرجا ومخرجا ، ومن كيد المرأة مخرجا ، وآتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب» (١)

[١٦] ولنترك يوسف تحوطه يد الرحمة الالهية ، وتربيّه في غيابت الجب ، ويأتي أحد اخوته بطعام له ، ولنعد الى البيت حيث نجد يعقوب ينتظر بفارغ الصبر عودة ابنه الحبيب ، ويتأخر إخوة يوسف أكثر من العادة ، فلما أسدل الليل ستارة جاؤوا الى أبيهم لعل ظلام الليل يغطي بكاءهم الكاذب.

__________________

(١) مجمع البيان ص ٢١٧ ـ ج ٥

١٧١

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ)

[١٧] وقبل ان يسألهم يعقوب عن يوسف الذي لم يجده بينهم بادروه بالكلام.

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)

ولكن بسبب كذبهم وعدم ايمانهم بما يقولون بدرت منهم كلمة أظهرت ما اخفوه فقالوا :

(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)

ولو كانوا صادقين فعلا لكانت الشواهد الواقعية هي التي تكشف عن صدق حديثهم ، ولم يكونوا بحاجة الى هذا الكلام.

[١٨] وذبحوا ذبيحة لطخوا قميص يوسف بدمه ، ناسين أن دم البشر يختلف عن دم الحيوان حتى بعد تخثره ، والخبير يميزه بسهولة ، كما أنّهم نسوا تمزيق قميص يوسف مما عرف ان العملية كذب باعتبار الذئب لا يخلع ثوب ضحيته ثم يأكله.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً)

وجاء في الحديث :

«ان يعقوب قال حينما رأى القميص : لقد أكلك ذئب رحيم ، أكل لحمك ولم يشقّ قميصك» (١)

وجاء في حديث آخر :

__________________

(١) المصدر

١٧٢

«تنبّه يعقوب على أنّ الذئب لو أكله لمزق قميصه ، لذلك لما ذكرهم بذلك قالوا : بل قتله اللصوص ، فقال : فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم الى قميصه أحوج منهم الى قتله» (١)

من هنا عرف يعقوب ان كيد اخوة يوسف قد أحاط به ، فقال :

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)

اي أصبر صبرا جميلا بالاستعانة بالله فيما اصابني من خيانة ابنائي بي وبأخيهم ، وكذبهم عليّ وتآمرهم ضدي.

__________________

(١) المصدر

١٧٣

سورة يوسف

وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ

____________________

١٩ [واردهم] : الوارد الذي يتقدم الرفقة الى الماء ليستقي.

[وأسروه] : أخفوه ، ويقال : أسررت الى فلان حديثا أي أفضيت اليه خفية ، وكنّي عن النكاح بالاسرار لأنه يخفى ، وسرّة البطن ما يبقى بعد القطع وذلك لاستتارها بعكس البطن.

[بضاعة] : البضاعة المال الوافر يقتنى للتجارة ، والأصل في الكلمة الجملة من اللحم تبضع أي تقطع ، وبضعة فابتعض وتبعّض كقولك قطعته فانقطع وتقطع.

٢٠ [بخس] : البخس النقص من الحق ، يقال بخسة في الكيل أو الوزن إذا نقصه من حقه فيهما.

٢١ [أكرمي] : الإكرام إعطاء المراد على جهة الإعظام.

[مثواه] : الثواه الاقامة ، والمثوى موضع الاقامة.

١٧٤

مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)

____________________

٢٣ [وغلقت] : التغليق أطباق الباب بما يعسر فتحه ، وانما عدّد ذلك لتكثير الاغلاق أو المبالغة في الايثاق.

[هيت لك] : أقبل وبادر.

١٧٥

يوسف يتحدى الفساد

هدى من الآيات :

وبقي يوسف في الجب حتى جاءت قافلة تسير في ذلك الطريق. فبعثوا واحدا منهم يجلب لهم الماء ، فأدلى دلوه في البئر ، ولما ثقل الدلو بسبب تعلق يوسف به استبشر خيرا به ، وزعم بأنه بضاعة حباها الله له ولكنه أسر بها لكي لا يكتشف انّه غلام حرّ والله عليم بعملهم.

ولكي لا يفتضح أمره بادر ببيعه بثمن بخس ودراهم معدودة ، وكان الجميع يحذرون من شرائه لعدم معرفة واقع أمره ، وجاؤوا به الى مصر حيث اشتراه عزيز مصر الذي قال لزوجته اكرمي مثوى هذا الغلام واحترميه ، فلربما ينفعنا في حياتنا الاجتماعية ، أو نتخذه ولدا في حياتنا الشخصية ، وتلك كانت من إرهاصات يوسف حيث مكنّه الله في الأرض ابتداء من بيت ملك مصر بما أعطاه الله من علم بعواقب الأمور ، بينما أكثر الناس لا يعلمون.

وبلغ يوسف مرحلة البلوغ ، فآتاه الله النبوة والعلم بسبب إحسانه السابق ،

١٧٦

وحين بلغ مبلغ الرجال طلبت منه صاحبة البيت الفاحشة ، وهيأت وسائلها بغلق الأبواب. وتهيئة فرص الفاحشة ولكنه أبى بشدة واستعاذ بالله من الشيطان ، وقال بأن الله الذي رباني وأحسن مثواي لا أعصيه وان الظالمين لا يفلحون.

بينات من الآيات :

فأرسلوا واردهم :

[١٩] كم بقي يوسف في الجب؟

ثلاثة أيام أم أكثر ، وماذا كان طعامه؟ هل كان يأتيه أحد اخوته بطعامه أم كان يكتفي بالماء ، أم ان جبرائيل كان ينزل عليه الطعام لا ندري بالضبط! انما المهم ان الله سبحانه هيأ أسباب نجاة يوسف وتأديب اخوته ، فجاءت قافلة سيارة ربما كانت تجارية ، فأرسلوا واحدا منهم يرد الماء قبل الآخرين على عادة القوافل ، خشية مفاجأة غير سارة ، فلما أرسل دلوه في البئر تعلق به يوسف ، فنظر فاذا هو بغلام ما أجمله فاستبشر به خيرا.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ)

لقد كان يوسف في غاية الحسن حتى جاء في الحديث عن النبي (ص): أعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس. (١)

ولم يبد الوارد للسيارة انه قد التقطه من البئر لكي لا يجري عليه حكم اللقيط بل اتخذه بضاعة وكتم الحقيقة عن رفاقه ، بيد أن الله يعلم أنّ يوسف ليس عبدا ، وهو يحافظ على حريته ..

__________________

(١) ميزان الحكمة ص ٤٢٨ رقم ١٩٣١٧

١٧٧

(وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ)

[٢٠] باعوا يوسف بثمن قليل ، دراهم معدودة لقلتها ، وانما يعدّ الشيء القليل ، وزهدوا فيه بالرغم من حسنه المفرط ، وربما السبب محاولة التخلص منه مخافة ان يفضحهم ، ويبيّن انه ليس بعبد فيخسرون حتى هذا الثمن القليل.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)

كانت ملامح العبد وصفاته النفسية تختلف عن ملامح يوسف الذي كان كما يقول الرسول فيما روي عنه : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم». (١)

لذلك زهد فيه الناس ، ولكن لننظر عاقبة هذا الغلام الذي ينبذه اخوته في البئر ويزهد فيه السيارة ، كيف يصبح سيدا ورئيسا.

التمكين :

[٢١] جاؤوا بيوسف الى مصر حيث اشتراه سيد مصر ومليكهم ليكون مساعده في شؤونه ، أو من ولده وولي عهده.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ)

أي اجعلي مكانته كريمة وسامية عندك ، فلا تستخدميه كأيّ عبد آخر ، بل حاولي أن تربيه وتكلفيه الأعمال الهامة.

(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)

__________________

(١) بح ١٢ ص ٢١٨

١٧٨

وهكذا أصبح الغلام الطريد الذي زهدوا فيه ابنا لعزيز مصر ، وهكذا مكنّه الله في الأرض ماديا ، أما معنويا فسوف يعلمه من تأويل الأحاديث حتى يعرف عواقب الأمور ، وسنن الحياة وأنظمة الكون.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

يزعم الناس أن حوادث الزمان تجري على غير هدى ، ولا يعلمون ان وراء ما يسمى بالصدف ارادة حكيمة ، ووراء ما يسمى بالانظمة والسنن الطبيعية تدبير رشيد من الله سبحانه ، وهكذا يشاء تدبير الله أن يزهد في يوسف قوم فيشتريه عزيز مصر ، كما يشاء تدبيره الّا يقتل بل يوضع في غيابت الجب ، وأن تكون أول قافلة تجارية تمر من هناك متجهة الى مصر ، وهكذا تتلاحق ما يسمى بالصدف ، والاتّفاقات حتى يصبح يوسف سيد مصر.

[٢٢] شبّ يوسف وبلغ سنّ الرشد ، وأتاه الله النبوة والعلم بسبب إحسانه.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ)

يبدو لي ان بلوغ الأشد هو بلوغه سن الرشد.

(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً)

الحكم هي السلطة الالهية التي تتجسد في النبوة ، بينما العلم هو فقه الأحكام الشرعية وما يتصل بها من متغيرات الحياة.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

فلان يوسف أحسن الى الناس وتحمل الصعاب من أجلهم ، فالله بعثه رسولا

١٧٩

إليهم لان أهم صفة يحتاجها الرسول بعد الطهارة والصدق هي حب الناس ، والإحسان إليهم.

[٢٣] طلبت امرأة العزيز من يوسف الفاحشة ، وهيأت وسائلها بتزيين نفسها ، وسدّ الأبواب ، ودعته الى نفسها صراحة.

[وراودته]

المراودة : المطالبة بأمر بالرفق واللين ليعمل به.

ان امرأة العزيز لم تكتف بافساح المجال امام يوسف كما هو شأن المرأة بالنسبة الى الرجل ، بل طالبته بأنواع الدلال والغنج والخضوع بالقول والزينة ، واستخدمت في ذلك سلطتها عليه باعتبارها سيدة البيت الذي يعمل يوسف فيه ، لذلك قال ربنا عنها :

(الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ)

أي طلبت منه أمرا صادرا عن نفس يوسف ، وبتعبير آخر : طلبت منه الانتفاع بنفس يوسف لا بخدمته كما كان المفروض في مثل حاله.

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ)

أي تعال فالفرصة مهيأة لك.

ولكن يوسف رفض بشدة وبلا تردد.

(قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ)

ان الله هو الذي أكرم على يوسف بالجمال والعافية ، وهو الذي هيأ له المكانة

١٨٠